الولادة والطفولة

 

أطلَّ على الدنيا في شهر بهمن من عام 1337هــ.ش [1958م] بمدينة بهبهان وسط أسرة متدينة ملتزمة، ولم يكن يومها من يتنبأ بالعظمة الروحية لذلك الوليد الضعيف التي ستتحقق بعد 22 عاماً، وإن لاحت عليه منذ البداية معالم التكامل الفكري والثقافي وتجلّت عليه عبر سلوكه الرصين داخل العائلة واندفاعه نحو الأمور الدينية والالتزام بها في غضون السنين 10ــ12 من عمره.  

 

الدراسة

 

ابتدأ من المناداة للصلاة في مسجد المحلّة، ولم يَحُد عن خط الإسلام واقتفاء أثر العلماء الملتزمين حتى آخر حياته. وكان لذكائه الوقاد وموهبته المتعالية السبب في أن يطوي الصفين الخامس والسادس من دراسته الابتدائية ــ حسب النظام القديم ــ في غضون سنةٍ واحدةٍ في إحدى مدارس بهبهان ثم اختار فرع الرياضيات لمواصلة دراسته الثانوية.

 

وبعد إنهائه للدراسة الثانوية وأدائه الامتحان العام قُبل في فرع الهندسة الكيمياوية بجامعة الأهواز، بيد أن هذا الفرع لم يلبي طموحه حيث قال: يجب أن أتسنم عملاً يتسنى لي به خدمة هذا الشعب المستضعف حقاً، ولهذا فقد عاود الدراسة الثانوية بعامها الأخير وحصل على الشهادة الثانوية في فرع العلوم الطبيعية، وبعد مشاركته هذه المرة في الامتحان العام قبل في فرع العلوم الطبيعية بجامعة الأهواز.

 

وبالإضافة إلى الدراسة بالوسع اعتبار "مجيد" من أكثر طلاب الثانوية نشاطاً في شتى المجالات الرياضية، السياسية، الدينية والاجتماعية.  

 

النشاط السياسي والديني

 

في عام 1354هــ.ش [1976م] تصاعدت نشاطاته داخل الجامعة واتخذت علاقاته طابعاً تنظيمياً وتصدى لدورٍ حيوي في قيادة الجهاد الطلابي في جامعة الأهواز وخارج الوسط الجامعي أيضاً، وأثناء العامين 1355 و1356 حيث كان جهاد الشعب الإيراني المسلم يقترب من ذروته كان "ره" من العناصر القيادية للتظاهرات المناهضة للنظام، وخلال تلك الفترة وطَّد علاقته بالأخوة في جماعة "المنصورون"، وكانت نشاطات هذه الجماعة في بهبهان عبارة عن: توعية الجماهير، تنظيم الإخوة من أبناء حزب الله، تنفيذ العمليات العسكرية ضد أزلام نظام الشاه ... الخ. وفي بداية تشكيل هذه الجماعة انضم لجناحها العسكري وتولى قيادة بعض العمليات العسكرية وقتذاك، وحتى قبيل انتصار الثورة الإسلامية بادر لتنظيم فرق الدوريات للمحافظة على أمن المدينة ونواميس أبناء الشعب والتصدي لما يُحتمل أن يقوم به مرتزقة الشاه، وبالتنسيق مع سائر الإخوة قدَّم مشروعاً لتأسيس تعاونيات الإمام بغية توفير ما يحتاجه أبناء الشعب.

 

لقد كان الشهيد بقائي شديد الحرص على إصالة الحركات الثورية، وكان يساهم بكل فعالية في كافة الميادين خلال مرحلة الثورة، ويعرّي مؤامرات أعداء الإسلام لاسيما المنافقين بذكاءٍ خاصٍ ويبادر لإجهاضها.  

 

دور الشهيد بعد انتصار الثورة الإسلامية

 

عمل الشهيد بقائي بعد انتصار الثورة الإسلامية في محكمة الثورة بالأهواز، وكان له دوراً باهراً في إحباط المؤامرة الأمريكية المتمثلة بالجبهة العربستانية في خوزستان، إذ بجهوده وتضحياته لحقت ضربات فادحة وقاتلة بهذه الزمرة العميلة.

 

وقد واصل عمله العسكري بعد انتصار الثورة، فكان أن انطلق به عبر التواجد في اللجان الثورية والشرطة، فقام بتدابير واسعة لغرض القبض على عملاء النظام البهلوي الذي تواروا يومذاك. وإلى جانب هذه النشاطات كان "ره" يعتقد بحاجة المجتمع بعد انتصار الثورة للأنشطة الثقافية، من هنا فقد بادر لتأسيس مركز نشر الثقافة الإسلامية في مدينة بهبهان حيث كانت أنشطة هذا المركز مؤثرة للغاية في المجالات التثقيفية والتبليغية على مستوى المدينة.

 

ونظراً لمراسه وذوقه في الأعمال الإعلامية فقد باشر مهمته في إعداد الملصقات، أشرطة المحاضرات، الأفلام، أشرطة الفيديو، الرسم والخط وإقامة معرضٍ يصوّر جرائم نظام الشاه والوثائق عن السافاك في مدينة بهبهان. ولقد كان مصمماً وخطاطاً بارعاً فكان يدوِّن بخطه الرائع أحاديث أهل بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام) وينصبها على جدران المدينة.

 

وبعد فترة من انتصار الثورة الإسلامية توجه إلى الجامعة. وحينما أصدر الإمام "ره" مرسوماً بتشكيل جهاد البناء في خرداد من عام 1358هــ.ش [1979م] انضم إلى جهاد البناء في مدينة بهبهان وبقي يعمل فيه مدة من الزمن، وحتى بداية اندلاع الحرب المفروضة كان قد ارتبط بكافة المؤسسات الثورية تقريباً، فكان عاملاً في المحافظة على روح الأمل والحيوية والنشاط بحضوره الفاعل وإبداعه للحلول الناجعة.

 

وقبل اندلاع الحرب المفروضة التحق بحرس الثورة الإسلامية بتوجيه من القائد محسن رضائي القائد العام لقوات حرس الثورة الإسلامية السابق، فباشر عمله في قسم العلاقات العامة ــ الإعلام والإصدارات ــ بحرس الثورة في مدينة أميدية. ولدى تأسيس مكتب التنسيق والتحقيق والتفتيش في قوات الحرب بمحافظة خوزستان وتعيين الشهيد الدقائقي مسؤولاً لهذا المكتب، انتقل "ره" إلى الأهواز لمساعدته.  

 

المشاركة في الدفاع المقدس

 

خلال الأشهر الأولى من الحرب عُيِّن من قبل القائد العام للحرس الثوري ممثلاً عن الحرس في غرفة العمليات الحربية التي كانت تعقد جلساتها وقتذاك في الفرقة 92 المدرعة بالأهواز، فكانت من مهامه العمل على التنسيق بين قوات الحرس والجيش. وبالرغم من المماطلة التي كان يبديها بني صدر الخائن بأنحاءٍ شتى، لكنه "ره" كان دؤوباً في إنجاز المهام والواجبات الموكلة إليه على أحسن وجه.

 

وفي أواخر شهر آبان من عام 1359هــ.ش [1980م] كلِّف بالتوجه إلى مدينة شوش للتصدي للعدو الذي كان يرمي السيطرة على الطريق المؤدية إلى شوش وكان يومها مستقراً على بعد 3 كم منها. وفي البداية بادر إلى جانب الأخ مرتضى صفار إلى تنظيم قوات الحرس هناك، وبعد فترة عُهدت إليه مسؤولية قيادة حرس الثورة في مدينة شوش، وخلال توليه لهذه المسؤولية كان بالإضافة للتخطيط للعمليات والمعارك الناجحة ضد العدو التي كانت تجري بشكل مجموعات قتالية صغيرة ــ كان ــ يساعد الشهيد دقائقي في تأسيس مدرسة تدريب القيادة على مستوى السرايا والأفواج. وحيث تغيّرت سياسة قوات الحرس من الدفاع إلى الهجوم ازداد دوره جدية بما يتناسب مع هذا التطور أكثر من أي وقتٍ مضى، وفي بعض المراحل ــ ومنها عمليات طريق القدس لتحرير بستان ــ برز كمقاتل فذٍّ.

 

ونظراً لروحه العالية وتشوقه الطافح لمنازلة العدو بشكل مباشر وما أبداه من كفاءة ومواهب أثناء قيادته لقوات الحرس الثوري في مدينة شوش عيِّن من قبل قيادة الحرس الثوري قائد لمقر عمليات فرقة الفجر، وكان له دوراً يحوياً ومهماً ــ كقائد لمقر عمليات الفجر ــ في التخطيط وتوجيه الوحدات العاملة لتحرير مرتفعات أبو صلبي ــ سايت الرادار ــ أثناء عمليات الفتح المبين. وفي الحقيقة إن تحرير هذا المحور الحساس والهام إنما تحقق بفضل التعاون والتنسيق والقيادة الواعية لهذا الشهيد العظيم والشهيد حسن باقري قائد مقر نصر. وكسائر العمليات كان له "ره" إلى جانب الشهيد حسن باقري دوراً فاعلاً في الاستطلاع والتخطيط لعمليات بيت المقدس، ففي هذه العمليات نجح ومن خلال التخطيط الدقيق المتناسق والتعاون مع الإخوة المضحين في القوة الجوية بنقل القوات التي تحت إمرته من شمال "فكّة" إلى جنوبها. ونظراً لما أبداه من كفاءة عالية في قيادته للفرقة فقد أنيطت بالمقر الذي يخضع لأمرته إلى جانب مقرّي نصر وفتح مهمة اختراق الخطوط الدفاعية المحاصرة لخرمشهر، وبفضلٍ من الله أعادت المقرات الثلاثة بعد قتال بطولي وتاريخي وبتنسيق كامل، مدينة الدم ــ خرمشهر ــ إلى أحضان الوطن الإسلامي.

 

وعقب عمليات رمضان عُيِّن "ره" مساعداً للشهيد باقري في قيادة مقر كربلاء. وبعد عمليات محرم وبعد تعيين الشهيد باقري نائباً لقائد القوة البرية في الحرس تولى الشهيد بقائي مسؤولية قيادة قوات كربلاء الأولى.  

 

الخصال الأخلاقية

 

لقد اقترنت حياة هذا الشهيد المكللة بالمفاخر بالتعبد والزهر والتأله، فقد كان منذ صباه تواقاً للأمور الدينية إذ كان يؤدي الصلاة والصيام قبل سنوات من بلوغه سن التكليف ويجيد القيام بالتعاليم الدينية.

 

أَلِفَ المسجد منذ صغره، ويشترك بشكل فاعل في جلسات تلاوة القرآن، وكثير الاهتمام بالدعاء وزيارة الأئمة الأطهار "ع"، وكان كثيراً ما يولي عناية لذكرى مصائب أهل البيت "ع" بحيث أنه قال: إن مراسم الرثاء هذه هي التي حفظتنا. وكان فائق العناية بالصلاة دؤوباً في أدائها جماعة، خاشعاً في صلاته بحيث يغبطه أخوته في السلاح حينما يرونه على تلك الحالة.

 

كان الشهيد بقائي يحب الإمام الخميني "ره" والعلماء حباً جماً، ويساند الحركات السائرة في خط الإمام وتنسجم مع بيانه الروحاني. وكان يعتقد بأن الفئوية تخلق عند الإنسان والتعصب والعجز الفكري فيقول: راقبوا ما يقوله الإمام الخميني (قدس سره) فقط واقتفوا أثره.

 

لم يكن ارتجالياً في عمله أثناء جهاده السياسي الديني، بل كان يسعى لأن يسير نضاله في صلب مسار الدين، وفي الحقيقة كانت ثورية مجيد ممزوجة بتدينه، وكان يجهد للعمل في حياته ونضاله وفقاً للإذن الشرعي.

 

كان الشهيد بقائي يكنُّ محبة عجيبة لقوات التعبئة الشعبية، وحيثما كانت تبدر مشكلة كان يدافع عنها، وكان تعامله مع عناصر قوات التعبئة ممزوجاً باللطف والرأفة، فكان يجالسهم ويشاركهم الطعام، وكثيراً ما شوهد يترجل من السيارة حينما يصادف التعبويين في طريقه ويصافحهم، فقد كان يقول: من أسرار نجاحنا عرفان قدر القوى الشعبية.

 

يقول الأدميرال علي شمخاني قائد القوة البحرية بهذا الصدد:

 

"لقد كان مجيد تعبوياً، فإذا ما شئت أن تعرف مَنْ هو التعبوي عليك أن تقصد مجيداً، فالتعبوي يعني التضحية، يعني عاشق الولاية وسماحة الإمام الخميني "ره"، يعني منتظر إمام الزمان "عج"، يعني الذوبان في خط الإمام الحسين "ع"، وكثيرٌّ من حراس الثورة تعبويون، وكان مجيد أحدهم".

 

كان الشهيد بقائي من بين الذين لم يخسروا أنفسهم في خضم العناوين والمناصب ولم يتاجر بشخصيته الإلهية السامية في قبال هذه الأمور، فلقد كان في غاية القناعة والتواضع والوقار والإنصاف وقلّة الطموح رغم كل ما كانت تتوفر لديه من إمكانيات. يقول القائد العام لقوات حرس الثورة واصفاً إياه:

 

"لقد كان الشهيد بقائي مثال التقوى، فكانت تقواه في جبهات الحرب لائحة واضحة ومضرب مثل الخاص والعام، ومن بين المناقب الصالحة والرائعة التي كان يتحلى بها هو أنه حيثما حلَّت الصلاة كان يترجل من السيارة ويؤدي الصلاة بوقتها حتى ولو كان على حافة الطريق، وصلواته بالليل وأدعيته الخاصة وأخلاقه وعفته وحياؤه الكامن في كيانه خلقت منه مثالاً للتقوى، ولما يزل مجيد بقائي مقتدانا من بين الشهداء".

 

كان دائم التفكير بيوم القيام بحيث كان يبكي حيثما جرى الحديث عن العقاب الإلهي في مجالس الحديث. وكان الشهيد بقائي يؤكد ويحث بنحوٍ خاص على قراءة دعاء العهد في كل يوم ويؤدي بدقة مستحباته وفرائضه، وذا أُنس عجيب بالقرآن حيث كان يصطحب مصحفاً صغيراً على الدوام فيتلو آياته كلما سنحت الفرصة محاولاً حفظها.  

 

الشهادة

 

كان من المزمع أن تقوم مجموعة من المسؤولين والقادة العسكريين بزيارة الإمام الخميني "ره" قبل عمليات "والفجر التمهيدية"، غير أن الشهيد بقائي قال: علينا أن نبقى في الجبهة للتخطيط لهذه العمليات، ولهذا السبب بقي هو ومجموعة أخرى من بينهم الشهيد حسن باقري في منطقة العمليات. وفي صبيحة اليوم التالي توّجه برفقة بعض القادة العسكريين مستقلين سيارتين عسكريتين لاستطلاع المنطقة المستهدفة، وعلى طول الطريق كان الشهيد بقائي منهمكاً بتلاوة القرآن وحفظ سورة الفجر التي كان يتلوها للحفظ بمعونة أحد رفاقه، وبعد الوصول إلى الهدف ترجّل الجميع من السيارة وتحركوا نحو خندق الترصد، وخلال الطريق كان يقول لصحبه: هل للإنسان بلوغ الدرجات التي يتحدث عنها القرآن الكريم حيث يقول: {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي}؟ وهل يوفّق الله الإنسان لهذا الأمر الهام بحيث ينال تلك الدرجات العُلى؟ لم يتم مجيد كلامه وإذا بقنبلة معادية تقع على مقربة منهم، فكم كان سريعاً تلقيه الجواب بغليان دمه الطاهر وبتر رجليه، وهكذا عرج إلى ربه عاشقاً مخلصاً ونال درجة القرب والرضوان الإلهي.