مرحلة الطفولة

 ولد الشهيد مصطفى شمران عام 1311هــ.ش (1933م) في مدينة قم، ثم ما لبث أن انتقلت عائلته إلى طهران للعيش فيها بعد عام واحد من مولده. وكان الشهيد مصطفى طفلاً محباً للعزلة غارقاً في التأمل والتفكر متجنباً للصخب والضجيج ومستغرقاً في مشاهدة جمال وجلال الطبيعة والوجود الإلهي. كما كان معجباً بالسماء وعاشقاً للنجوم المتلألئة. وبعد أن أنهى دراسته الابتدائية في مدرسة (انتصارية) بالقرب من (پامنار) فانه انتقل إلى ثانوية دار الفنون، ثم قضى العامين الأخيرين في ثانوية (البرز) دون مصاريف دراسية، وكان تلميذاً ممتازاً على طوال هذه المرحلة. كما كان يتميز بالرقة والحساسية المفرطة، ويتألم من صميم قلبه لآلام المحرومين ويشاركهم عناءهم بعواطفه المستفيضة. ولقد كتب هو في مذكراته مصوراً تلك الفترة من حياته، فقال:

 "عندما كنت عائداً تحت جنح الليل المظلم، شاهدت شخصاً فقيراً يرتجف من البرد القارس وسط ثلوج الشتاء، غير أنه لم يكن بإمكاني أن أعد له مكاناً دافئاً، فقررت أن أقضي تلك الليلة مثله أرتعش من البرد بعيداً عن المأوى، وقد فعلت؛ فقطعت الليل حتى الصباح وأنا أرتجف من شدة البرودة لدرجة أنني أصبت بالمرض الشديد، وما أجمله من مرض".

 "عندما رسب أحد زملائي في الامتحان أخذت أذرف الدموع بحرارة لدرجة أنه شعر بالألم الشديد، فأخذ يهدئ من روعي قائلاً: ليس مهمّاً، لا تحزن إلى هذه الدرجة".  

 

الالتحاق بالجامعة

 وفي عام 1332هــ.ش التحق الشهيد شمران بالكلية الفنية في جامعة طهران وبدأ دراسته في قسم الهندسة الكهربائية، ولمّا كانت تلك الفترة متزامنة مع مرحلة الانقلاب فإنه اضطلع بالنشاط الواسع في النضال السياسي الشعبي والتظاهرات الخطيرة المناوئة للنظام الملكي.

 فحيثما كان الألم والعناء والعمل والمسؤولية والمشاكل والمخاطر، كان الشهيد شمران حاضراً؛ فكان يركب الخطر وسط التظاهرات العارمة وأمام الإطلاقات النارية وفي مواجهة الدبابات وفي خضم المسؤوليات الكبرى، وكان دائماً ما يعرض نفسه للخطر من أجل إنقاذ حياة زملائه. لم يكن يشارك في مراسم الأفراح والمسرات، وكانت سعادته الكبرى في إسعاد الآخرين وتحمل آلامهم، لدرجة أنه كان يشعر بالضيق والقلق عندما تسترعيه الضرورة لحضور أحد الأفراح، لأنه كان دائم التفكير في شقاء البؤساء والمحرومين من مثل هذه المتع والمباهج.

 ومع انخراطه الكامل في كل هذه المشاكل ومشاركته الفعالة في ميادين الصراع السياسي والاجتماعي ألاّ أنه تخرج من الجامعة بدرجة ممتاز وكان الأول على دفعته حتى إن أساتذة وطلاب تلك الكلية ظلوا يتناقلون اسمه على ألسنتهم عدة سنوات؛ ويقول الشهيد مصطفى شمران مصوراً مشاعره وعواطفه في تلك الأيام:

 "أذكر أنني كنت أذهب إلى الجامعة، وكان الثلج يتساقط والجو بارداً، وتمرّ عليّ أيام ولم يكن لديّ من النقود شيء، وكنت أقطع الطريق الطويل من المنزل إلى المدرسة مشياً مما كان يستغرق أكثر من ساعة ونصف، وهو الأمر الذي كان يجعل يديّ وقدميّ تتجمدان من شدة البرد، غير أنني لم أكن أطلب نقوداً من أحد. وكان والدي كثيراً ما يلحّ عليّ بإعطائي النقود ولكني لم أكن لأقبل ذلك، حيث كان من العسير عليّ جداً أن أتقبل شيئاً من أحد، ولاسيما عندما كنت أتعرض للضغوط الشديدة مع قسوة الحياة. وظل هذا الإحساس ينمو ثم يلقي بظلاله على كل حياتي ويؤثر بشكل فلسفي عميق على شتى أفكاري وأفعالي".

 لقد كان الشهيد يمارس التدريس منذ الصغر ويسدّ بعض حاجياته من ذلك الطريق؛ لقد كان عبقرياً في الرياضيات وخصوصاً في الهندسة لدرجة لا يشق له فيها غبار، وعندما كان الاستاذ يعرض حلاً لإحدى المسائل كان هو سرعان ما يعرض حلاً أفضل. وعلاوة على ذلك فإنه كان يحضر درس تفسير القرآن الكريم لدى المرحوم آية الله الطالقاني في مسجد (هدايت) كما كان يحضر دروس الفلسفة والمنطق عندما كان طالباً جامعياً لدى الأستاذ الشهيد آية الله مرتضى المطهري، وكان عضواً نشطاً في اتحاد الطلبة المسلمين عندما كان يتهم المسلم المتدين بالرجعية والتخلف. ومع أن الجامعة في تلك الفترة كانت خاضعة للسيطرة السياسية الشيوعية من جانب حزب (توده) وعندما كان مسجد الجامعة لا يتجاوز حجرة صغيرة مهملة في الكلية الفنية لا يدلف إليها ألاّ قلة من الطلبة مع الكثير من الخوف جراء ما يمارس ضدهم اليساريون من إهانة وتصفية سياسية، ألاّ أنه كان أحد الذين أضفوا رونقاً وبهاءً على ذلك المصلى بحضورهم المتواصل، لدرجة أن أول كلية استطاعت أن تعبئ قواها الدينية والوطنية ضد قواعد اليساريين (أعضاء حزب تودة) وتقضي عليها في اتحاد الطلاب كانت في الواقع هي الكلية الفنية في جامعة طهران.

 وبعد الحركة الانقلابية في الثامن والعشرين من شهر مرداد وتأسيس جمع من رجال الدين والسياسة لنهضة المقاومة الوطنية، فإنه أصبح ممثل الكلية الفنية في هذه النهضة. وعندما وقعت تلك الحادثة الدموية في السادس عشر من شهر آذر سنة 1333هــ.ش التي أطلق خلالها جلاوزة الشاه الرصاص على الطلبة فقتلوا ثلاثة منهم في ممرات الكلية الفنية لدى قدوم الرئيس الأمريكي نيكسون، فإن الشهيد مصطفى شمران كان أحد الذين أصيبوا بجراح طفيفة في ذلك اليوم. كما كان هو الذي كتب مقالاً في ذلك الزمان وصور فيه شتى أبعاد ومشاهد حادثة يوم السادس عشر من آذر، وهو ذلك المقال الذي نُشر في أمريكا فيما بعد في مطبوعة بنفس هذا الاسم. وفضلاً عن كفاءته الدراسية والعلمية العالية فإنه كان يتمتع أيضاً بذوق فني وحس عرفاني ممتاز. فخطه الجميل ورسومه الرائعة وكتاباته السلسة وكذلك خصوصياته العقائدية البارزة في قوله وسلوكه تجعله متميزاً عن أترابه منذ شبابه المبكر. ومع أنه كان يبدو نحيفاً ألاّ أنه كان يبز أقرانه في المصارعة والرياضة الميدانية. ولهذا فإنه كان يحب المصارع البطل (تختي) وكتب مقالاً تجليلاً له بعد موته تحت عنوان (المصارع الشهم تختي)[1].  

 

الدراسة في أمريكا

 وبعد حصوله على البكالاريوس عمل الشهيد شمران مدرساً في نفس الكلية التي تخرج منها، إلى أن حصل على منحة دراسية لإكمال دراسته في أمريكا حتى درجة الدكتوراة بصفته طالباً ممتازاً. وبحصوله على درجة الماجستير بتقدير ممتاز في الهندسة الكهربائية من جامعة تكساس الأمريكية، انتقل إلى جامعة بركلي للحصول على الدكتوراة، وخلال ثلاث سنوات حصل الشهيد شمران أيضاً على درجة الدكتوراة في الإلكترونيات والفيزياء الحيوية (هندسة الطاقة النووية) بامتياز من جامعة بركلي متفوقاً على زملائه من الطلبة القادمين من شتى أنحاء العالم وتحت إشراف أبرز الأساتذة في هذا الحقل. والمثير للدهشة أن الشهيد شمران أبرز تفوقه الدراسي والعلمي بينما كان منخرطاً في نفس الوقت في خضم النضال السياسي والعقائدي، وهو ما أثار دائماً إعجاب الأصدقاء والأعداء. وكان في تلك الفترة يعتمد في الحصول على نفقات حياته من عمله في التدريس والأبحاث، وذلك لأن السافاك كان قد حجب عنه منحته الدراسية بحجة نشاطه السياسي ضد نظام الشاه.  

 

نشاطه السياسي في أمريكا

 ومن أبرز مآثر حياة الشهيد شمران السياسية والاجتماعية تأثيره ودوره المتفرد في تأسيس التجمعات الطلابية ضد نظام الشاه وخصوصاً الاتحاد الإسلامي للطلبة في أمريكا. وتعتبر السيطرة على اتحاد الطلبة الإيرانيين في أمريكا من أهم تحركاته السياسية هو ورفاقه في تلك الفترة (عام 1340هــ.ش) حيث كان هو أحد أبرز مؤسسي اتحادات الطلبة الإيرانيين في أمريكا. وتقديراً لدوره الممتاز وكفاءاته العالية والفريدة فقد انتخبه اتحاد الطلبة الإيرانيين في أمريكا غيابياً كأول عضو فخري دائم فيه (عضو شرف) وذلك في اجتماعه التاسع عام 1962م. غير أن هذا الإجراء لم يدخل حيّز التنفيذ وذلك بسبب الصراع الدائر بين اليساريين والوطنيين في الاتحاد، مما جعل الشهيد شمران يركز جهوده على تقوية الاتحاد الإسلامي للطلبة المقيمين في أمريكا، وفضلاً عن ذلك فانه أكد حضوره الدائم ومشاركته الفعالة في شتى التجمعات السياسية ــ الوطنية المناوئة لنظام الشاه. وكمثال على ذلك انتماؤه إلى الجبهة الوطنية الثالثة، وإصدار شهرية فكرية باسم (جبهة) ونشرة خبرية تحت عنوان (الجبهة الوطنية في أمريكا) بمساعدة عدد من زملائه. كما أن خطاباته في جموع الطلبة ومحافل الجبهة الوطنية والاتحاد الإسلامي وسواها، وكذلك كتابة المقالات المتعددة باسمه الأصلي أو باسم مستعار مثل مقالات (الثورة) و(حكومة علي) و(البيان الديمقراطي) تعد كلها من صور حضوره السياسي البارز والفعال في عرصات المواجهة السياسية.

 ففي تلك المسيرة التي نُظمت في عهد "كنيدي" من مدينة "بالتيمور" إلى "واشنطن" والتي امتدت على مسافة تسعين كيلو متراً كان هو أنشط المشاركين وكان يسير في المقدمة دائماً، والمدهش في ذلك أنه لم يكف عن أبحاثه وأحاديثه في العرفان والسير والسلوك الروحي على طوال الطريق.

 كما كانت له مشاركة فعالة في الاضراب عن الطعام الذي نظم داخل مصلّى منظمة الأمم المتحدة احتجاجاً على اعتقال ومحاكمة آية الله الطالقاني وأصحابه، حيث كتب من هناك رسالة إلى شقيقه يقول فيها:

 

"اكتب إليك هذه السطور بآخر رمق من حياتي".

 وإضافة إلى كل ذلك فقد كان له حضور مؤثر ومشاركة فعالة في التظاهرات الكبرى والواسعة التي نظمها الطلبة الإيرانيون في أمريكا في أعقاب مذبحة الخامس عشر من شهر خرداد. كما كان له دور مؤثر ومصيري في التظاهرات التي أقيمت أمام محل إقامة الشاه عند زيارته لأمريكا عام 1343هــ.ش، حيث اضطر نظام الشاه إلى إرسال عدد من عملاء السافاك ــ بلغ المئات ــ من إيران إلى أمريكا للهجوم على جموع المتظاهرين وتفريقهم بعد أن فشلت السفارة الإيرانية في خداع المتظاهرين.

 لقد كانت روحه لا تنتعش ألاّ بخوض غمار الجهاد، وكان حبّه للعالم والكون والبشر وحتى لمن يقفون ضده يبلغ ذروته لدرجة ان أصدقاءه في ذلك الزمان أطلقوا عليه لقب "إله الحب".  

 

التدريب العسكري في مصر

 ولكن هذا الرجل صاحب الروح الشفافة والمرفرفة والعزم المتين والإرادة الصلبة أدار ظهره لكل المظاهر المادية بعد نضهة الخامس عشر من خرداد الدموية والاعتقاد بتراجع النضال القانوني والبرلماني، وتوجه إلى مصر مع عدد من أصدقائه المؤمنين والمخلصين لتعلم فنون القتال والاستعداد لخوض الحرب المسلحة ضد النظام البهلوي. وكان ذلك في نفس الوقت الذي بعثت فيه نهضة المقاومة الفلسطينية بكوادرها إلى مصر للتدريب أيضاً، حيث قضى الشهيد شمران عامين شارك فيهما بعدة دورات للتدريب العسكري وفنون النزال وجهاً لوجه وحرب العصابات والعمل الفدائي، ثم أخذ هو على عاتقه مسؤولية تدريب المقاتلين الإيرانيين على تعلم تلك الفنون.

 ولأن الشهيد شمران كان يتمتع بالفكر الديني الأصيل والعميق فإنه كان يعتقد بأن الاشتراكية والوطنية بلا إسلام من شأنها بث الفرقة والتشتت بين المسلمين؛ ولهذا فإنه كان على خلاف تام مع النزعة الوطنية والقومية التي سادت البلدان العربية في تلك الفترة كبديل عن الوحدة والقومية الإسلامية، وهو ما جعل المناضلين الإيرانيين ينقلون قواعدهم إلى لبنان جراء تلك الخلافات والصراعات الفكرية ومن ثم موت جمال عبد الناصر.

 يقول الشهيد شمران في أحد اللقاءات التي أجريت معه:

 "بالطبع كانت لنا صراعات مع بعض الأجنحة القومية العربية المتطرفة، كما أننا قدّمنا احتجاجات إلى عبد الناصر بسبب إطلاق اسم الخليج العربي على الخليج الفارسي أو إطلاق عربستان على خوزستان، وقد قبل عبد الناصر هذه الاعتراضات واعترف بصحتها، وقال: إن تيار القومية العربية بلغ من القوة بحيث لا يمكن مقاومته بسهولة. كما أعرب لنا عن أسفه حيث أنهم لم يدركوا بعد أن معظم هذه التحركات يقوم بها الأعداء من أجل شق الصف الإسلامي، وقال لنا إن الشيء الوحيد الذي يستطيع فعله هو أن يسمح لنا بالحديث بحرية، فربما استطعنا توضيح الأمور للعرب وإقناعهم بأن كل هذه المشاريع ليست سوى مشاريع للتفرقة ولا ينبغي مواصلتها". 

 

الهجرة إلى لبنان

 وفي عام 1346هــ.ش غادر الدكتور شمران مصر إلى أمريكا لفترة وجيزة بهدف الإعداد لهجرته الكبرى إلى لبنان. وطبقاً لدعوة من زعيم الشيعة في لبنان الإمام موسى الصدر، فإنه وصل إلى لبنان أواخر سنة 1349 وانضم إلى ذلك الجمع وأصبح من الأصدقاء المقربين للسيد موسى الصدر.

 

ونقرأ في صفة مخطوطة من مذكراته:

 "لقد كنت أحيا حياة رغدة في أمريكا، وكنت أملك شتى الإمكانات، ولكني طلقت اللذائذ ثلاثاً وذهبت إلى جنوب لبنان حتى أعيش بين المحرومين والمستضعفين وأتذوق فقرهم وحرمانهم وافتح قلبي لاستقبال آلام وهموم هؤلاء البؤساء. لقد أردت أن أظل دائماً في مواجهة خطر الموت تحت القنابل الإسرائيلية، جاعلاً لذتي الوحيدة في البكاء وأنا أبث السماء أهاتي الحارقة في سكون الليل وظلمته، وحيث إنني عاجز عن مد يد العون لهؤلاء المظلومين المسحوقين فيمكن أن أواسيهم بالحياة بينهم كما يعيشون فاتحاً أبواب قلبي لاستقبال حزنهم وشقائهم. لقد أردت ألاّ أحشر في هذه الحياة الدنيا مع زمرة أولي النعمة والجائرين وألاّ أتنفس من أجوائهم وألاّ أقرب لذائذهم وألاّ أبيعهم علمي وفكري في مقابل حفنة من المال ولحظة من لذة الحياة".

 ولأن الدكتور شمران جاء إلى لبنان بنية إقامة قواعد للنضال، فإنه توجه منذ اللحظة الأولى إلى أقصى نقطة في الجنوب أي إلى مدينة "صور" بالقرب من حدود الكيان الصهيوني وأخذ على عاتقه إدارة المدرسة الصناعية في جبل عامل ــ البرج الشمالي على بعد خمسة كيلومترات من "صور" بجوار المخيمات الفلسطينية. وكان اليتامى من أبناء الشيعة اللبنانيين يدرسون في هذه المدرسة، وهم الذين صاروا فيما بعد الكوادر الأصلية للخط الأول في المقاومة الشيعية ضد الكيان الصهيوني.

 وفي المدرسة الصناعية لجبل عامل كان التلاميذ يدرسون العلوم ويتعرفون تكنولوجيا العصر ويتدربون في الورشات المختلفة التي بناها الدكتور شمران بنفسه، كما يؤدون فيها بعض الأعمال لسد حاجتهم المالية، مما كان سبباً في نمو تجربتهم العلمية. وكان هؤلاء الشباب هم الذين قاوموا ببسالة الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان، ولاشك أن اسم هذه المدرسة وهؤلاء الشباب قد بات محفوراً على صفحات تاريخ الكفاح في لبنان كنموذج بارز للشجاعة والتضحية والإيمان.

 ولأن هذه المدرسة كانت تقع بجوار المخيمات الفلسطينية مع وجود الأهداف المشتركة والشعور بالصداقة الحميمة من جانب الدكتور شمران، فإنها قدّمت خدمات جليلة لهذه المخيمات لدرجة أن منظمة الأمم المتحدة بعثت برسالة تقدير خاصة للدكتور شمران.

 وفي لبنان كان الإمام موسى الصدر قد بدا نشاطاته الثقافية والاجتماعية الواسعة منذ سنوات بغية إحقاق حقوق الشيعة المحرومين في لبنان وإعادة العزة والكرامة إليهم، حيث كانوا يخجلون في إظهار تشيعهم ويتقمصون شخصية أخرى بطرق ووسائل مختلفة من قبيل الزواج من غير الشيعة أو محاولة الحصول على بطاقة للعضوية في أحد الأحزاب اليسارية. وكان وجود شاب مثقف ومناضل وواعٍ ومنظم وجذاب كالدكتور شمران بجانب الإمام موسى الصدر في مثل هذه الظروف من شأنه أن يؤدي دوراً مفعماً بالأمل والشجاعة والحركة على هذا الطريق الوعر المليء بالعقبات. 

 

تأسيس التنظيمات السياسية ــ العسكرية الشيعية

 كان الشيعة اللبنانيون يشكلون أكثر من ثلث مجموع السكان في لبنان، ولكن أحداً لم يكن يعيرهم اهتماماً آنذاك، وكانوا محرومين من أغلب الامتيازات القومية. ومن المعلوم أن لبنان بلد تسكنه قوميات مختلفة تعتنق مذاهب متعددة ولها ثقافات متباينة، فهناك المسلمون (شيعة وسنة) وهناك المسيحيون (مارونيين وأرثوذكس وأرامنة وسواهم) وهنالك أيضاً الدروز.. وما عدا ذلك. وكانت كافة هذه القوميات في تلك الفترة لديها تشكيلات ومؤسسات سياسية ودينية مستقلة ماعدا الشيعة، إلى أن خضع الحكام في لبنان للمطلب الشيعي المنطقي بعد نضال متواصل في هذا المجال، فبرز إلى الوجود لأول وهلة "المجلس الشيعي الأعلى في لبنان" بزعامة الإمام موسى الصدر عام 1348هــ.ش.

 وكان الشيعة هم الوحيدين في لبنان الذين يعيشون بيد عزلاء، فلم يكن باستطاعتهم الدفاع عن حقوقهم المستلبة، وذلك في وقت كان المحتلون الصهاينة قد ركزوا كل هجماتهم على المناطق الشيعية وجنوب لبنان بشكل عام. وعلى هذا فقد تأسست "حركة أمل" العسكرية المنبثقة عن "حركة المحرومين" التي كانت حركة شعبية مدافعة عن "المجلس الشيعي الأعلى". وكان الدكتور شمران أيضاً هو الذي نظر وشكل هذه الحركة كما فعل مع "حركة المحرومين".

 يقول الدكتور شمران موضحاً بداية نشاطاته حتى تشكيل حركة أمل:

 "كانت توجد مدرسة باسم مدرسة جبل عامل الصناعية في جنوب لبنان، وكانت تسمى أيضاً بالمدرسة المهنية، وقد أصبحت مديراً لهذه المدرسة الواقعة بجوار أحد المخيمات الفلسطينينة، وهو أكبر هذه المخيمات في جنوب لبنان... كما أسسنا أيضاً اتحادات إسلامية في لبنان على غرار الاتحادات الإسلامية الموجودة في أمريكا وأوربا. وكان الشباب الشيعة في لبنان من أفضل الشبان، حيث عملت معهم على المحور الايديولوجي لمدة عامين، وهو النشاط الذي تفتق عن تأسيس "حركة المحرومين" فيما بعد. أي أن هؤلاء الشباب كانوا هم العمود الفقري لحركة المحرومين الكبرى. وقد نظمت حركة المحرومين عدة تظاهرات واسعة، ومنها تظاهرات بعلبك التي شارك فيها خمسة وسبعون ألف شاب مسلح، وكذلك تظاهرات مدينة صور التي شارك فيها مائة وخمسون ألف مسلح، وأقسم فيها الشيعة اللبنانيون على مواصلة طريق الجهاد من أجل إحقاق حقوقهم المسلوبة حتى آخر قطرة من دمائهم. وهذا هو أحد نماذج النشاط السياسي لحركة المحرومين. وعندما تفجر الصراع في لبنان، وامتلأت الساحة بالمسلمين من شتى الاتجاهات، ولم يكن بوسع أية طائفة سوى التسلح حفاظاً على البقاء، فإن حركة المحرومين أقدمت على تشكيل حركة عسكرية باسم "أمل" التي كانت في الواقع هي الفرع العسكري لحركة المحرومين. وكنّا قد انتقينا أعضاء حركة أمل من بين أفضل الأشخاص كفاءة وتديناً من المتخرجين في دورة إعداد الكوادر. واستطيع أن أقول حقاً بان شباب حركة أمل هم الذين تعرف معظمهم الإسلام الصحيح وانطلقوا في جهادهم على هذا الأساس".

 

بدء الصراعات الداخلية

 ولم يكد يمضي سوى أربعة أعوام على بدء الدكتور شمران لنشاطاته حتى اشتعل أوار الصراع والحروب الداخلية في لبنان.

 وفي الحقيقة فإن هذه الحروب كانت هي التي مهدت الطريق أمام (إسرائيل) لاجتياح لبنان، وكانت هي التي أضافت المزيد من الحرمان والفقر لأوضاع الشيعة؛ كما كانت هي التي حركت الكتائب ضد الشيعة من جهة، وأوقعت الصدامات بين الشيعة والعناصر اليسارية المأجورة للعراق أو للمنظمات اللبنانية والفلسطينية العميلة للقوى الدولية من جهة أخرى. ولقد ازدادت الأمور سوءًا فيما بعد، حيث اسفرت هذه المأساة عن خلافات وانشقاقات في الصف الإسلامي اللبناني المناوئ للصهاينة وحرف أنظار الإسلاميين عن الفتنة والاعتداءات الإسرائيلية، ولهذا فإن النهضة والانتفاضة الفلسطينية ــ اللبنانية ضد الصهيونية قد تحولت على الأثر إلى حركة شعبية بدون أدنى أثر للدور المؤثر والفعال للتنظيمات السياسية والعسكرية السابقة. وللاطلاع على المزيد من التفصيلات حول قضايا وأحداث تلك الفترة يمكن الرجوع إلى كتاب (لبنان) الذي ألفه الدكتور شمران. غير أننا نكتفي هنا بعدة سطور يصوّر فيها شهيدنا الكبير بعض أبعاد تلك المرحلة، حيث يقول في كتابه المذكور:

 "إن إيماني بالثورة هو الذي دفعني لاتخاذ خطوة على هذا الطريق مما عرضني دائماً للخطر والموت، غير أنني لم أكن لأخشى الموت مع إيماني بالهدف وتحرير فلسطين؛ ففتحت ذراعيّ لاستقبال شتى المخاطر، على أنني لم أعد أؤمن اليوم بهؤلاء الثوار، ولم أعد راضياً ولا مقتنعاً، فلقد فقدوا شخصيتهم الثورية، ولا أعتقد أنهم يهدفون إلى تحرير فلسطين.

 وكلما حاولت إرضاء نفسي وإقناع قلبي بأن المقاومة الفلسطينية هي تلك الشعلة المقدسة التي ينبغي الحفاظ عليها من أجل تحرير البشر والسهر على بقائها بالقلب والنفس والروح، فإنني لا أستطيع ذلك، وللأسف، أو على الأقل أجدني أخدع نفسي وأهيم في خيالات الثورة المعسولة وأتمنى أن أتجرع كأس الشهادة الأوفى". وهاهو يشتكي إلى الله قائلاً:

 "يا إلهي، إننا نتحمل كل هذا الظلم والعسف والتهاجم والتهم بصدر رحب وفي سبيلك ومن أجل تحقيق الهدف المقدس وهو تحرير فلسطين، ولسوف نظل بجانب الفلسطينيين رغم كل ذلك دون أن ندخر جهداً في بذل شتى ألوان التضحية على طريق تحرير فلسطين".

 ولقد عملت أيادي التفرقة الصهيونية من جهة وخيانة العملاء المارونيين والفلسطينيين من جهة أخرى على إيجاد جو قاتل وباعث على القنوط لدرجة أن الشهيد شمران يصور ذهاب آماله مع الريح في بعض كتاباته، فيقول:

 "يا إلهي، لقد شددت الرحال إلى هذه البلاد تحدوني الطموحات الكبرى؛ تلك الطموحات النقية والمقدسة والإلهية التي لا يشوبها شيء من حب النفس أو الاندفاع.

 لقد كنت أرجو أن أبذل نفسي في سبيل الثورة الفلسطينية كوثيقة على تحرير فلسطين.

 وكنت آمل أن أحج إلى القدس سيراً على الأقدام وأسجد هناك لله تعالى شكراً على لطفه ورحمته.

 وكنت أحلم أن أجاهد في سبيل الحق والعدل وأن أكون خلاًّ وعوناً للمحرومين والبؤساء والمساكين.

 وكنت أرجو…

 كنت أرجو أن أكون شمعة تحترق من أعلاها إلى أسفلها حتى أدفع الظلمة إلى الانقشاع ولا أدع مجالاً للكفر والجهل والظلم للسيطرة على الوجود…

 وأما الآن، فقد تخليت عن الآمال، واستسلمت للقضاء والقدر بقلب مصدوع يائس.

 أخطو نحو الموت فقيراً بائساً بعد أن أدركت بأنني أيضاً لم أكن أفضل ولا أرفع منهم خلال كل هذا التاريخ المشحون بالآلام".

 وتعتبر بعض حكايات كتاب "لبنان" التي عايشها الشهيد شمران بنفسه على قدر من الألم والشجاعة بحيث تصلح كل منها لإنتاج فيلم رائع ومؤثر حول الشهامة والشجاعة والحرمان والمظلومية التي تميز الشيعة اللبنانيين.

 ومن ذلك قصة (النبعة) والحصار الذي فرضه عليها الكتائب لعدة أشهر، وذكريات الشهيد شمران حول تلك المنطقة ومسجدها وقاعدتها لإعداد الكوادر ومستشفاها، وكذلك قصة شارع أسعد الأسعد في منطقة الشياح وإقدامه على إنقاذ طفل وأمه في براثن الموت، وأيضاً ملحمة بنت جبيل.  

 

اختفاء الإمام موسى الصدر

 في يوم 29 من شهريور 1357هــ.ش المصادف ليوم 31 من أغسطس 1978م وقعت حادثة اختطاف الإمام موسى الصدر زعيم الشيعة في لبنان الذي كان بمثابة قاعدة محكمة وضمانة قوية للبنان والمنطقة؛ وكان ذلك على أعتاب انتصار الثورة الإسلامية المباركة في إيران، تلك الثورة التي كان شيعة لبنان من أكثر المنشدين إليها، والساعين نحوها، والمعلقين آمالهم عليها، والمقربين منها. وفي تلك الأيام كان الشهيد العظيم يحترق بنار الحسرة والألم على اختفاء الإمام موسى الصدر من ناحية، ومن ناحية أخرى فانه كان هائماً في حب انتصار الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني الذي كان في الحقيقة انتصاراً لآماله وتطلعاته. وكان هذا الاحتراق والشوق اللذان تتجلى فيهما العاطفة والشعور بالمسؤولية يمثل كل منهما أملاً غالياً بالنسبة له؛ فبينما كان يبذل المساعي لتقصي حقيقة اختفاء الإمام موسى الصدر، كان في نفس الوقت متأهباً للقيام بدوره في انتصار الثورة الإسلامية؛ فقد قام هو وأصدقاؤه وزملاؤه بالمزيد من التحريات حول اختفاء الإمام موسى الصدر ثم ما لبثوا أن أوقفوا الإمام الخميني على نتيجة هذه المساعي، كما بعث به الإمام عدة مرات عندما كان مقيماً في نوفل لوشاتو كممثل له إلى ليبيا من أجل تقصي لأمور، ولكن بلا جدوى للأسف.

 لقد كان دائماً ما يوجه الأنظار قدر استطاعته إلى مظلومية الشيعة في لبنان، وينادي بعظم المسؤولية الإسلامية تجاه قضية الإمام موسى الصدر. ولهذا فإنه نظم عدداً من الاضرابات العامة والتظاهرات الواسعة في لبنان بهذا الصدد، كما نظم مسيرة كبرى من بيروت إلى دمشق لدى اجتماع عدد من قادة ورؤساء الدول الإسلامية في سوريا. ألاّ أن كافة هذه المحاولات والتحديات لم تسفر عن نتيجة واضحة، ومازال مصير هذا الزعيم الإسلامي مجهولاً.  

 

بداية انتصار الثورة الإسلامية في إيران

 كانت الثورة الإسلامية في إيران تخطو كل يوم خطوة جديدة نحو النصر؛ فقد لاذ الطاغوت بالهرب من إيران وعاد الإمام الخميني إلى أرض الوطن بعد خمسة عشر عاماً من النفي والجهاد. ولأنه كان من المتوقع أنه لا مفر من وقوع صراعات دموية في المراحل الأخيرة من الانتصار بين المناضلين والمجاهدين من جهة وبين الماكينة العسكرية للنظام من جهة أخرى، فإن الدكتور شمران ومعه عدد من الشباب والإيرانيين الأقوياء الذين أنهوا تدريباتهم العسكرية في لبنان وسورية أخذوا يتأهبون للعودة إلى إيران. وكأن التاريخ كان يمر دفعة واحدة في تلك الأيام، حيث كان كل يوم يعادل عاماً كاملاً من الأحداث؛ فقد وقعت صدامات دموية في العشرين وحتى الثاني والعشرين من بهمن، وأعرب خمسمائة من الشباب اللبنانيين المتحمسين والمشتاقين عن رغبتهم في الانضمام إلى إخوانهم الإيرانيين.

 يقول قائدهم الدكتور شمران: "لقد فكرنا نحن أيضاً في إعداد خمسمائة من مقاتلي حركة "أمل" والنزول إلى ساحة المواجهة، فتحدثنا مع الحكومة السورية التي أبدت استعدادها لأن تضع تحت تصرفنا طائرة مع ما يلزمنا من معدات حتى نهبط بهذا العدد من مقاتلي أمل حيثما شئنا حتى لو كان ذلك في "فرح آباد" أو في وسط شوارع طهران. وكنت أنا المسؤول عن هذه العملية لأخوض بهؤلاء المقاتلين مع ما لدينا من معدات غمار المعركة. وليس بوسعي التعبير عما كان يشعر به هؤلاء الشباب من شوق وحرارة وعاطفة للقدوم إلى إيران والاستشهاد بجوار إخوانهم الإيرانيين. وكما تعلمون فإن المواجهة في طهران لم تستمر لأكثر من أربع وعشرين ساعة، وربما أقل من ذلك، حيث لاذ الطاغوت بالفرار وانتصر الشعب. ولهذا فلم تتح الفرصة أمام هؤلاء المقاتلين الذين هم من خيرة نجوم الحرب ولا سيما الحرب الفدائية للمجيء إلى إيران والمشاركة في المواجهة بجانب إخوتهم الإيرانيين".

 وفي خضم انتصار الثورة الإسلامية، وحباً للخميني، وانضماماً إلى أمواج المد الثوري العارم، فقد أبرق الدكتور شمران إلى أحد أعضاء الحكومة المؤقتة بضرورة إعلامه بالقدوم فيما إذا كان وجوده في إيران مفيداً. ولكن، وفضلاً عن عدم الرد على هذه المخابرة، فإنهم حجزوا الدكتور شمران عندما جاء برفقة اثنين وتسعين من الشخصيات اللبانية بمن فيهم علماء الشيعة والسنة وممثلون عن المقاتلين الثوريين لمقابلة الإمام الخميني في إيران لمدة ثماني ساعات داخل الطائرة في مطار مهرآباد للحصول على تأشيرة الدخول (رغم إرسال عدد من التلكسات من داخل الطائرة). وأخيراً عاد الدكتور شمران إلى أرض الوطن بعد اثنين وعشرين عاماً من الهجرة والمنفى مفتتحاً هذه العودة بلقاء الإمام الخميني. وكان هو أفضل رسول قادم من لبنان حاملاً معه الكثير من أسرار وألغاز هذا البلد. وفي الشهور الأولى من عودته إلى إيران نُظمت له عدة لقاءات لإلقاء سلسلة من الأحاديث في المحافل المختلفة حيث كان محور خطاباته شجاعة وبطولة الشيعة اللبنانيين وما عانوه من مظالم وآلام وما قدموه من شهداء.

 يقول الدكتور شمران في كتابه "لبنان":

 "إنني قادم من جبل عامل، حيث دعا الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري إلى الإسلام الصحيح هناك ولأول مرة، وبنى في تلك الديار مسجداً لعبادة الله الواحد…

 إنني قادم من جبل عامل الذي عانى سكانه من الظلم طوال 1400 عام من تاريخ الإسلام.. إنني مندوب المحرومين والمستضعفين في جنوب لبنان الذين يحترقون كل يوم بنيران المدفعية الثقيلة وقنابل الطائرات الإسرائيلية. لقد جئت من أرض أبيد أكثر من نصفها بشكل تام…

 جئت لأرفع صرخة الشيعة اللبنانيين المدوية تحت سماء إيران العالية. إنني آهة اليتامى المعذبين الموجعة الذين يستيقظون من شدة الجوع عند انتصاف الليل بلا يد رحيمة تمسح عن قلوبهم العناء. إنهم يعيشون رهن الخوف من الظلمة والوحدة دون أن يجدوا صدراً دافئاً يأوون إليه. إنني أنة الفجر المنبجسة من صدور الأرامل المحترقة، مرفرفاً ذات اليمين وذات الشمال مع نسيم السحر بحثاً عن الأفئدة والضمائر الحية، وعندما يعروني التعب فأسقط يائساً خالي الوفاض من الأمل، أتحول إلى قطرة من الدموع تتساقط كالأنداء على حافة الأوراق.

 إنني أمل ذوي القلوب الحية الساهرين على العدل والانصاف، وإنني هارب من كل هذا العالم الغارق في الظلم، وكلي أمل في النصر الذي سيتحقق بظهور المهدي (عج) الذي سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً".

 إن هذا الاهتمام الخاص الذي يوليه لشيعة لبنان وتاريخهم المفعم بالعناء والشقاء والذي هو جزء من الثورة الإسلامية يثير حساسية أولئك الذين ربما كانوا تحت سيطرة التجار من القادة الفلسطينيين فيثيرهم عليه تذكره للشيعة اللبنانيين حتى في إيران. فيكتب الدكتور شمران قائلاً بهذا الصدد:

 "إن البعض يتهمونني بالاهتمام الفكري بالدول الأجنبية ووضع مصالح إيران تحت التأثير الأجنبي، ويقولون بأنه يجدر بي صب كل اهتمامي على إيران دون سواها كلبنان وغيره من الدول:

 أولاً: إن اهتمامي وقلقي الشديد يتعلق بإيران دون سواها، فأوضح أن أخطار الثورة تهددنا وإنني أتحدث عن هذه المواضيع حفاظاً على إيران.

 ثانياً: إنني أمضيت في لبنان ثمانية أعوام كانت مزيجاً من العناء والمخاطر وصراع الموت والحياة والشهادة؛ فلو كان ثمة من يريد أن يعرف شيئاً عن لبنان والإمام موسى الصدر فإنني أفضل مصدر مطلع للراغبين. وإن الذي يثير دهشتي هو تأثر البعض بكتابات اليساريين واليمينيين وعملاء الأجانب".

 لقد كان الدكتور شمران هو أول من نظم الدورات التدريبية للحرس الثوري وبادر هو شخصياً بتعليم كوادره. وبعد ذلك عُين معاوناً لرئيس الوزراء في شؤون الثورة وانكب على حل المعضلات والأزمات التي ألمّت بالبلاد. 

 

في كردستان

 في الأيام الأخيرة من انتصار الثورة قامت الأحزاب الكردية اليسارية بتحركات مضادة للحكومة المركزية وذلك بإثارة النعرة القومية لدى الشباب الأكراد ورفع شعار الحكم الذاتي. وقد بدأت الأحزاب اليسارية الكردية مواجهتها المسلحة للثورة الإسلامية بالهجوم على مقر مهاباد وانتزاع أسلحة القواعد الحدودية والاستيلاء على مدينة سرو الحدودية وقتل خمسة وعشرين من عناصر الحرس الثوري في مدينة مريوان. وقد وقعت هذه الأحداث عندما لم تكن هناك قوات حكومية في المنطقة وبدون أدنى مواجهة للمهاجمين. وفي مثل هذه الظروف نزل الدكتور شمران إلى الساحة حيث ارتدى ملابس القتال لأول مرة في غائلة مدينة سرو وتقدم القوات المسلحة في هجوم مضاد على الأعداء وفتح الطريق أمام الدبابات لتتقدم إلى الأمام. وقد كان هذا التحرك الشجاع من جانب الدكتور شمران سبباً في رفع معنويات القوات العسكرية ودفعها لتمشيط المنطقة.

 وبعد ذلك قام الدكتور شمران بمأمورية مع الجنرال الشهيد فلاحي الذي كان قائداً للقوات البرية آنذاك للتوجه إلى مريوان وتسوية الأمور بالطرق السلمية.

 يقول الدكتور شمران في كتابه "كردستان":

 "مكثنا عشرة أيام في مريوان؛ وبعد سلسلة من النشاط الدائب والاجتماعات الكثيرة المطولة مع كافة الأطراف نجحنا في حل قضية مريوان بسلام. وكانت الشخصيات البارزة في المدينة على وفاق معنا، غير ان الأحزاب اليسارية كانت تتآمر بلا هوادة وتسعى إلى إراقة الدماء واتساع نطاق الشغب والتمرد.

 وكانت غائلة پاوه هي المؤامرة الأخرى للأحزاب اليسارية الكردية فيما بعد؛ ففي تاريخ 24/5/1358هــ.ش بدأ الهجوم على مدينة پاوه، ووصل ذروته في منتصف الليل وظل متواصلاً بعنف طوال اليوم التالي. وكانت المدينة على وشك السقوط عندما حلقت المروحية التي كانت تقله هو والشهيد سرافراز والجنرال فلاحي في أجواء المدينة، ورغم الرشقات المتلاحقة نحوها من كل حدب وصوب فإنها نجحت في الهبوط. وبعد التحقق من الأوضاع، حيث إنه لم يكن ثمة أمل في بقائهم على قيد الحياة، فإن الدكتور شمران بعث بالشهيد الجنرال فلاحي في أول فرصة إلى كرمانشاه لتوفير الأمتعة والمعدات وتقديم تقرير حول الأوضاع، بينما أخذ هو على عاتقه قيادة العمليات في أسوأ ظروف ممكنة. وكانت خطوته الأولى بعث الأمل من جديد في نفوس رجال المقاومة في هذه الظروف الاستثنائية؛ فمن بين ستين من مقاتلي الحرس الثوري القادمين من مناطق أخرى لم يكن قد بقي سوى ستة عشر شخصاً، من بينهم ستة أو سبعة من الجرحى، بينما كان العشرة الباقون يصارعون الموت وقد تغلب عليهم التعب والتهالك والجزع والجوع في ظروف صعبة للغاية بعد أسبوع كامل من الحصار؛ فلقد فقدوا الكثير من زملائهم، لدرجة أن خمسة وعشرين جريحاً من عناصر حرس الثورة استشهدوا بشكل وحشي دفعة واحدة عند سقوط مستشفى المدينة. وكانت بقايا الأمل تتبدد بمرور الوقت؛ فعندما كانت المروحية التي جاءت بالأمتعة وكان على متنها عدد كبير من الجرحى تزمع الاقلاع في طريق العودة فإنها سقطت جراء نيران العدو مما عمق المأساة واليأس في النفوس، فقد شاهد هؤلاء المقاومون الأبطال جمعاً من زملائهم مرة أخرى وهم يستشهدون أمام أعينهم في مظلومية صارخة! وهو ما لم يكن بوسع أحد تحمله! فأخذ بعضهم يصرخون بجنون، وراح بعضهم يضربون برؤوسهم الجدران، بينما جلس بعضهم الآخر يولول مفجوعاً!

 وكان على الدكتور شمران في مثل هذه الحال بصفته قائداً بطلاً أن يكون نموذجاً للصبر والتحمل أمام الجميع فضلاً عن قيادة العمليات.

 يقول الدكتور شمران في كتابه (كردستان) مصوراً تلك اللحظات:

 "إننا جميعاً حرس للثورة، وجئنا طلباً للشهادة، وسنتحمل شتى المصائب ابتغاء وجه الله الأعلى، ولن نفر من ساحة المعركة فرار الجبناء الأذلاء؛ لقد جئنا لنرفع عالياً راية الثورة الإسلامية الخفاقة، وجئنا لنلقن العالم أجمع درساً في الإيمان والتضحية والشهادة، وجئنا لنحيي ذكرى ملحمة الحسين (ع) وأصحابه. إننا لنفخر بالشهادة في سبيل الله، وندعو الله أن نلقاه بأكفان مخضبة بالدماء. إننا لا نخشى الموت ولسوف نجعل أعداء الثورة يشاهدون كيف يضحي المؤمن بنفسه، وكيف أنهم سيدفعون الثمن غالياً، وبالتأكيد فإن الإمام الخميني والشعب الإيراني لن يقفوا مكتوفي الأيدي..". وأمضى الدكتور شمران ليلة ليلاء مع عدد قليل من أفراد الحرس المتعبين المنهارين تحت حصار آلاف المسلحين الذين كان يتوجس منهم الانقاض الوحشي بين حين وآخر.

 وحوالي الساعة الرابعة صباحاً، وعندما وصلت عمليات القتل والنهب مداها، تجمع عناصر الحزب الديمقراطي المنحل حول مكبر الصوت في داخل المدينة ووجهوا النداء التالي: "كل من يعلن وفاءه للحزب الديمقراطي فهو في أمن وسلامة. إننا لم نأت إلى هنا ألاّ للقضاء على الحرس والدكتور شمران".

 وقد ورد في كتاب "كردستان" للدكتور شمران:

 "كنا نقف على سطح منزل الحرس صباح يوم 27/5/1358هــ.ش وأبصارنا تمتد إلى المدينة بينما يتساقط الرصاص علينا من كل جهة؛ وفجأة صاح رجال الحرس: الله أكبر، فقلت ماذا حدث؟ فأجابوا لقد أصدر الإمام الخميني بياناً تاريخياً مما يعتبر أساساً للتطورات الثورية الكبرى في بلادنا. إنه بيان غيّر مصير كردستان وإيران، بل إنه أعظم بيان ثوري يصدره الرجل العظيم ذو الثمانين عاماً وهو الذي لم يقطع دراسية عسكرية ولم يطلع على استراتيجية الحرب ولم يخض تجربة في التكتيكات العسكرية. فلقد أصبح الإمام الخميني قائداً عاماً للقوات المسلحة، وأصدر أمراً للجيش بالتوجه إلى پاوه خلال أربع وعشرين ساعة واستئصال شأفة المناوئين للثورة".

 وتغيرت الأوضاع بانتشار أمر الإمام، ولاذ بالفرار أعداء الثورة الذين كانوا يقرعون طبول الانتصار، وعادت الروح إلى عناصر الحرس الجرحى والمتعبين، فأعادوا الاستيلاء على المدينة بأكملها وكافة المرتفعات المحيطة بها بلا خسائر ولا أضرار سوى اثنين أو ثلاثة من الشهداء.

 وفي كتاب "كردستان" نقرأ ما يلي:

 "لقد كنا في حالة دفاع حتى صدور ذلك الأمر التاريخي للإمام، وكنا نسعى جاهدين للحفاظ على ما بقي لدينا أمام هجمات العدو المتتالية، ولكن كل شيء تبدل بمجرد انتشار أمر الإمام؛ فلقد استعاد شبابنا المتعبون والجرحى واليائسون روحهم المعنوية العالية، بينما فقد العدو القوي والمقتدر معنوياته بسرعة مذهلة".

 وبعد الانتصارات الأولية وجه الدكتور شمران خطاباً حماسياً إلى الشعب الإيراني لخص فيه أحداث پاوه ووقائعها الدموية وما جرى فيها من معارك ضارية.

 وغداة تحرير پاوه، أي في يوم 28/5/1358هــ.ش قاد الدكتور شمران تلك القوات المتعبة مع ما انضم إليها من مقاتلين جدد، ونجح في تحرير مدينة (نوسود).

 وبعد نوسود جاء دور مريوان، ثم بسطام، ثم بانه، فأما مدينة بانه فقد استسلمت بدون اشتباكات، ثم هربت القوات المناوئة للثورة بقيادة جلال الحسيني (شقيق عز الدين الحسيني) إلى العراق قبل وصول الدكتور شمران. وبعد ذلك بيوم واحد، وعند دخوله إلى مدينة سردشت بعد طي طريق شاق وعسير تحوطه الأخطار، وبينما كان الدكتور شمران يشاهد الأعداء يفرون من أمامه، فقد استقبله الأهالي المسلمون والطيبون الأكراد بشغف وشوق وترحاب كبير وهم ينثرون النقود والحلوى على رأسه هو وجنود الإسلام.

 يقول الدكتور شمران في مذكراته التي كتبها على خلسة من المعارك:

 "يا إلهي، لقد منحتني القدرة على جعل المستحيل ممكناً، فكللتني بالنصر في أشد المعارك ضراوة، وحققت لي ما لم أكن أتخيله، وجعلت من نصيبي هذا النصر الذي لم أكن أتوقعه…

 إلهي، أنت الذي وهبتني كل هذه الشجاعة لأخوض غمار المهالك مستقبلاً الشهادة، وجعلت الرعب والخوف يسيطران على قلوب المتآمرين فيفرون من أمامي كالنمل والجراد ويتحاشون مواجهتي".

 وعن طريق الاستفادة من قوة إيمانه هو وأصحابه واستخدام التكتيكات الحربية والنفسية المعقدة، فقد استطاع الدكتور شمران استعادة كافة مناطق كردستان من قبضة المناوئين للثورة خلال ما لا يزيد على عشرة أيام.

 يصور الدكتور شمران في كتابه "كردستان" تلك الأيام فيكتب:

 "لقد كان أصدقاؤنا يستمعون من الاذاعة والتلفزيون إلى أنهم ضربوا عليّ الحصار في منطقة كذا وليلة كذا، ولكن الحقيقة هي أننا كنا نحن الذين نلقي بأنفسنا وسط المحاصرة فنفجر قوات العدو من الداخل. وهذا هو السبب في أن الأخبار كانت تقول عنا مثلاً بأننا محاصرون في بسطام (بين مريوان وبانه) أو سواها من المواقع".

 كما يقول:

 "وكان أن استسلمت بانه دون اطلاق رصاصة واحدة، وكذلك سردشت التي كانت من أعتى وأخطر مواقع العدو؛ فإن قواتنا سيطرت عليها بعد مواجهة خفيفة لم يذهب ضحيتها سوى عدد طفيف من الجرحى. إن القصف لم يكن هو الذي انتصر في كردستان، بل قوة الإيمان، وقوة الشهادة، وأمر الإمام الخميني".

 وكان الدكتور شمران في سردشت عندما تلقى نبأ وفاة آية الله الطالقاني، فعاد إلى طهران بمجرد سماع هذا الخبر المؤسف، وهو الذي لاحق فلول الأعداء حتى داخل الحدود العراقية. ولكم كان جميلاً وجهه الذي لفحته بأشعة الشمس، وكذلك نظراته المفعمة بالحنان وملامحه الواثقة. لقد ذهب حينها إلى مقبرة "بهشت زهراء" بنفس تلك الحلة العسكرية التي كان يرتديها في  پاوه.

 وبات شمران شخصية محبوبة ورمزاً ونموذجاً للشاب الثوري وهو الذي لم يكن معروفاً بين الناس حتى ذلك اليوم. وكان هذا الأمر إضافة إلى الأكاذيب والشائعات التي أثارتها ضده التجمعات اليسارية سبباً في خلق جو مغرض من الدعاية في محاولة للمساس بشخصيته في عدد من الصحف العميلة، فوجهوا إليه التهم والافتراءات تحت ذرائع واهية. وللأسف فإن هذا التيار الدعائي دفع بالمسؤولين لجعله يتخلى عن الاستمرار في جهاده في كردستان ويترك الباقي لقوات الشرطة والدرك في تلك الأيام.

 ومن ثم فقد عادت القوات العسكرية إلى قواعدها، كما غادرت قوات المتطوعين المنطقة، فخمدت تلك الحركة الشعبية العارمة التي كانت قد توهجت طاعة لأمر الإمام، مما جعل المناوئين للثورة يعاودون نشاطهم من جديد ويبثون الدعايات الواسعة التي تتحدث عن مظلوميتهم المزعومة فضلاً عن نشر التهديد والرعب هنا وهناك؛ فأقدموا على إغلاق الطرق من جديد، وهاجموا المواطنين والجنود وعناصر الحرس وقتلوا عدداً منهم، كما أعدموا عدداً آخر على رؤوس الأشهاد واستمروا في إيجاد جو من الرعب والفزع.

 وعندئذ لم يستطع الدكتور شمران أن يظل صامتاً؛ كما اكتشف أولئك الذين فكروا بأن الحل يكمن في اسناد أمن المنطقة إلى قوات الدرك بأنهم وقعوا في الخطأ، فتقرر أن يعود الجيش والقوات العسكرية إلى الساحة من جديد، وإثر هذا القرار فإن الدكتور شمران ما لبث أن توجه إلى سردشت وقاد نخبة من العسكريين ووجهوا ضربة قاصمة للعدو.

 وبعد هذه العمليات فكر العدو في حيلة أخرى وفتح باب المحادثات بغية وضع حد لهذه الهجمات واستغلال الفرصة لتجديد قواه المحطمة؛ ولأن الدكتور شمران لم يكن يعقد أملاً على المحادثات فإنه غادر المنطقة واضطر إلى العودة إلى طهران، وذلك في نفس الوقت الذي كانت فيه عمليات الاجرام والقتل وإراقة الدماء والغارات الوحشية على الأهالي مازالت مستمرة في المنطقة. ولم تسفر المحادثات عن نتائج، بينما استمرت هذه الأحوال السيئة على ما هي عليه في كردستان حتى بداية الحرب المفروضة.

 وسيطرت الفلول المناوئة للثورة من جديد على تلك المناطق التي كانت قد حررتها القوات الثورية، وظلت بعض المناطق ومنها سردشت خاضعة لنفوذهم حتى أواسط سنوات الحرب، وأما بعض المناطق الأخرى مثل نوسود فقد ظلت في قبضتهم حتى تحرير حلبچه.

 لقد غادر شمران كردستان بينما كان صدى صوته المجلجل مازال يدوي بين سهول ومرتفعات زاگرس مانحاً الروح والأمل للمقاتلين، وودع المواطنين الأكراد بقلب مملوء بالمحبة والتعاطف وصدر يموج بالبغض والغضب الثوري ضد أعدائهم، وهو الذي لم يثق أبداً بأعداء الشعب.

 يقول في كتابه "كردستان":

 "إننا لا نتحمل العداء للإسلام والثورة الإسلامية في إيران، وإننا لم نكن نرغب في أن ينزل الجيش إلى ساحة المعارك لنقمع معارضينا بقوة السلاح. لقد كنا نأمل أن نمنح الحرية حتى للخونة والكفار والضالين… وكنا نود استخدام المنطق في الرد على رصاصاتهم؛ ولكننا وللأسف أدركنا بأنه لا أثر للمنطق والحب والسلام على القلوب المظلمة الفاقدة للإيمان".  

 

في وزارة الدفاع

 وعاد الدكتور شمران فعُيّن وزيراً للدفاع باقتراح من مجلس الثورة وأمر من سماحة الإمام، وذلك بتاريخ 16/8/1358. وكان أول شخص غير عسكري يتولى هذا المنصب.

 وبعد تسنّمه للمنصب الجديد، انخرط الدكتور شمران في إعداد سلسلة من البرامج الواسعة والتأسية أملاً في تبديل الجيش إلى مؤسسة ثورية متطورة. ومن أبرز تلك البرامج تنقية الجيش بناءً على أسس منطقية وصحيحة، وإقرار العلاقات العادلة والحميمة والقلبية القائمة على الترتيب والنظام، وصب الاهتمام على الصناعات والأبحاث الدفاعية ودفعها إلى الحركة والحيوية. وكان الاهتمام الخاص الذي يوليه الإمام والشعب للدكتور شمران فضلاً عن منصبه الرفيع وقدرته وكفاءته سبباً في إثارة التحركات الغامضة والمشبوهة الرامية إلى المساس بشخصيته الناصعة.

 وباتت هذه الهجمات العدائية التي كانت تُشن ضده على صورة دعايات صحافية من الشدة بحيث أثرت حتى على بعض أصدقائه الجهلاء والتجمعات الإسلامية غير الواعية فراحوا يكررون هم أيضاً نفس هذه التهم والأكاذيب ببلادة تامة. وكان هؤلاء قد بدأوا حملتهم من لبنان وجعلوا من حادثة "تل الزعتر" مقمعة ينهالون بها على رأس كل من يدافع عنه. والمثير للدهشة أن غالبيتهم لم يكونوا يعرفون شيئاً عن تل الزعتر ولا عن حقيقة الامر. ثم ما لبثوا أن توسلوا بحادثة "قارنا" وتسليح اقطاعيي كردستان؛ وكانوا قد خططوا لترويج كل هذا الأكاذيب في كل مكان بحيث لا يجسر أحد على الاقتراب من مواقع الأزمة وإسداء النصح. كما أن بعض التنظيمات على غرار "پيكار" كانوا ينوون اغتياله ولكنهم فشلوا في مسعاهم.  

 

في مجلس الشورى ممثلاً عن أهالي طهران

 ورشح الدكتور شمران نفسه بشكل مستقل في الدورة الأولى لانتخابات مجلس الشورى الإسلامي؛ ورغم كل هذه الأجواء المسمومة وبدون التوسل بالحملات الدعائية فانه نجح في دخول المجلس ممثلاً عن طهران بعد أن منحه أهاليها الأوفياء أكثر من مليون صوت.

 يقول الدكتور شمران بهذا الصدد:

 "إلهي، لقد غمرني الناس بحبهم الزائد وأغرقوني بلطفهم وعطفهم حتى جعلوني أشعر بالخجل وأحسب نفسي من الصغر بحيث لا أستطيع رد هذا الجميل. فامنحني يا إلهي الفرصة والمقدرة على أداء هذا الدين حتى أكون لائقاً بكل هذا العطف والمحبة".  

 

في مجلس الدفاع الأعلى

 وفي تاريخ 20/2/1359هــ.ش، ولدى تشكيل مجلس الدفاع الأعلى، عينه قائد الثورة الإسلامية الكبير ممثلاً ومستشاراً له في هذا المجلس. وهذا هو نص قرار التعيين:

 

  بسم الله الرحمن الرحيم

 سيادة الأستاذ الدكتور مصطفى شمران أيّده الله تعالى؛ تشكيلاً لمجلس الدفاع القومي الأعلى استناداً إلى على المادة العاشرة بعد المائة من دستور الجمهورية الإسلامية في إيران، فقد تقرر تعيين سيادتكم مشاوراً لي في هذا المجلس. ونظراً لما نمرّ به من ظروف استثنائية فإن على سيادتكم القيام بالمتابعة التامة والدقيقة لكافة الأحداث الداخلية المتعلقة بدوائر الجيش المختلفة وإرسالها إليَّ كل أسبوع.

 

روح الله الموسوي الخميني

   وأما في الدورة الأولى من انتخابات رئاسة الجمهورية فقد ظل أصدقاؤه يلحّون عليه بإصرار من أجل ترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية، ولكنه رفض بشدة. ويقول الدكتور شمران في مذكراته الخاصة موضحاً سلبياته في هذا المجال:

 1 ــ إنني لست سياسياً، ولم أتلاعب بالسياسة طوال حياتي، كما أنني أبغض السياسة، وعلى صاحب هذا المنصب أن يكون سياسياً في الوقت الحاضر.

 2 ــ إنني إنسان متصلب، وشديد التمسك بالمعايير الإلهية والإنسانية والإسلامية، وليس عندي أدنى استعداد للتضحية بما أمتلكه من موازين أو التخلي عن طريقتي ومُثلي.

 3 ــ إنني إنسان متواضع وخاشع، ولكنني عندما يجدّ الجد فإنني لا أساوم ولا أصالح.

 4 ــ إنني شخص عارف، وأجدني أشد قرباً من عالم القلب والروح من واقعيات الحياة. كما أنني زاهد ودرويش في حياتي الخاصة وهارب من علائق الحياة، وإنكم الآن في حاجة إلى من يهتم أيضاً بعالم المادة غير مقتصر على عالم الروح من أجل تلبية متطلبات الشعب.

 5 ــ إن هذه الدنيا ليست لي، ولقد جئت خطأً في هذا الزمان وهذا المكان، ولا تناغم بين أفكاري وأسلوبي ومشاعري وهذه الأجواء الكائنة.

 لقد كان يرجح القيام بدور حيث لا يوجد الآخرون أو حيث لا يستطيعون. كما كان يرى الواجب الكفائي واجباً عينيّاً طبقاً لما لديه من كفاءات كبيرة وكان يعجل في أدائه، ولذلك فإنه لم يتجاهل لبنان حتى وهو في إيران، وكانت آلام لبنان وفلسطين مزيجاً مع كل كيانه. وكان الدكتور شمران يشعر بالألم الشديد تجاه التفرقة والخلافات الداخلية والأنانية والتشبث بالرأي والتكبر وعدم الخلوص، ولكنه كان يقابل كل ذلك بأداء واجباته وتكاليفه الإلهية بصدق وإخلاص.

 

يقول في مذكراته التي كتبها في أهواز:

 "إنني مطلع بما فيه الكفاية على المشاكل الراهنة وأريد المساعدة في العمل على حلها. كما أنني لا أريد أن أزيد الطين بلّة، بل أريد أن أعمل في صمت وهدوء في سبيل الله وحسب، وأرغب في خدمة الإسلام والثورة والوطن بكل ما أستطيع، ولا أتوقع على ذلك جزاءً من أحد ولا شكوراً.

 لقد كنت آمل أن يقوم مسؤولونا بواجباتهم بدراية كاملة ومعرفة تامة بعد انتصار الثورة، وألاّ يلقوا بالثورة في مستنقع من الخلاف والتشتت، وألاّ يفكروا ألاّ في الله تعالى، وألاّ يعملوا ألاّ له، وأن يلقوا تحت أقدامهم بالغرور وهوى النفس، وأن يجسدوا الثورة نموذجاً فذّاً في التاريخ وفي العالم. إن الخلافات الراهنة تدل على أننا نخوض غمار تجربة خطيرة وشاقة للغاية، وإن علينا أن نبذل المزيد من الجهود وأن نتحمل المصائب والمشاكل أملاً في زيادة الوعي والاستعداد لأداء هذه الرسالة حتى نكون جديرين بهذا الانتصار.

 إنني أعتقد أنه لا جدوى من النصح والنقد بينما نحن غارقون في الخلافات العاصفة نتخبط في مستنقع التهم والشائعات، بل يجب علينا أن نتخلص بالعمل الصالح والصبر والمقاومة حتى نجسد المعايير الإنسانية والإلهية الصحيحة ونضع المشاعل على الطريق حتى يراه الناس بوضوح ويختاروا مسارهم السليم".  

 

فرق العشرة آلاف مقاتل

 إن الذي استخلصه الدكتور شمران من تجربته العملية المكثفة في النشاطات العسكرية هو أن مخلفات عهد الحكم الملكي البائد مازالت تثقل كاهل الجيش من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن التهديدات والممارسات الخيانية في أطراف البلاد (ولاسيما على الحدود الغربية) كانت من الخطورة بحيث لم يعد ثمة مجال سوى إبداع وابتكار مشروع جديد حتى لا تفقد القوات المسلحة اقتدارها وقوتها الدفاعية الدائمة. ولهذا فإن الدكتور شمران قدم قانوناً لمجلس الثورة الذي لم يلبث أن صادق عليه، وهو القانون الذي ينص على تشكيل فيالق يضم كل منها عشرة آلاف مقاتل من القوى الشعبية. وتحمل الجيش مسؤولية التعاون معه في تحقيق هذا المشروع، ولكن هذا الاقتراح تأخر تنفيذه بسبب معارضة رئيس الاركان المشتركة في ذلك الوقت، حتى شنت القوات البعثية هجومها بتاريخ 31/6/1359هــ.ش على حدودنا المفتوحة فشلّت حركة المقاومة الشعبية.

 وبعد أزمة سقوط خرمشهر، قام المرحوم الشهيد الدكتور بهشتي بزيارة تفقديه لمناطق العمليات، فالتقى في أهواز بالمرحوم الشهيد الدكتور شمران. وعندها بادره بالقول: لقد أدركت الآن السبب في إصرارك على تشكيل فرق العشرة آلاف مقاتل، فلو كان هذا المشروع خرج إلى حيز التنفيذ لما فقدنا خرمشهر!

 لقد كان الدكتور شمران واثقاً بأنه من الممكن إيجاد تحول في الجيش من الداخل عن طريق تشكيل هذه الفرق والاستفادة من العسكريين المؤمنين. وعلاوة على ذلك فإنه سيكون لدينا دائماً قوات مؤمنة ومخلصة مما يساعدنا على احباط مؤامرات الأعداء وصد هجماتهم في كل مكان. والجدير بالذكر أن الدكتور شمران قدم هذا المشروع بينما كانت الحرب المفروضة لم يشتعل أوراها بعد، ولم تكن قوات تعبئة المستضعفين قد تشكلت هي الأخرى.  

 

في خوزستان

 ولم يستطع الدكتور شمران أن يقر له قرار إثر الهجوم الجبان الذي شنه الجيش البعثي على حدود إيران الإسلامية وانقضاضه العاجل على المدن والقرى والأهالي العزل؛ فتوجه مباشرة إلى الإمام الخميني واستأذنه في الذهاب إلى أهواز بصحبة آية الله الخامنئي (الذي كان هو الآخر ممثلاً للإمام في مجلس الدفاع الأعلى في ذلك الوقت وعضواً في مجلس الشورى الإسلامي). ولأن الشهيد شمران كان دائماً ما يركب المخاطر ولا يخشى الموت، فإنه ما لبث أن قام بأول هجوم فدائي على دبابات العدو التي لم يكن بينها وبين مدينة أهواز الآيلة للسقوط سوى كيلومترات قليلة، وكان ذلك بعد وصوله إلى أهواز بليلة واحدة.  

 تشكيل مقر الحروب غير المنتظمة (حرب العصابات)

 واجتمعت حول الدكتور شمران فرق من المقاتلين المتطوعين، فقام بتنظيمهم وإعدادهم ومن ثم تشكيل مقر للحرب غير المنتظمة (الميليشيا) في أهواز؛ وقد أخذت هذه الفرق تتقوى وتنتظم بالتدريج فأدت خدمات متعددة. وفضلاً عمّا قام به هذا المقر من بطولات في العمليات الفدائية التي نفذتها العناصر الثورية لإرباك الجيوش البعثية المجهزة والحيلولة دون تقدمها نحو مدينة أهواز، فإنه شارك في عمليات الفرق الهندسية وساعدها في نصب مضخات المياه على شواطئ نهر كارون وشق قناة تبلغ نحو عشرين كيلومتراً طولاً ومائة متر عرضاً خلال شهر واحد، مما جعل مجرى مياه النهر يتحول نحو دبابات العدو، فاضطر العدو للانسحاب لعدة كيلومترات، وقد شاهد أمامه حاجزاً هائلاً، وبالتالي عدم التفكير في احتلال مدينة أهواز.

 إن أحد أبرز ما قام به الدكتور شمران من أعمال مهمة وأساسية في أهواز هو التنسيق بين الجيش والحرس والمتطوعين؛ ومع أن هذا التنسيق كان مؤثراً وفعالاً جداً في مقاومة أهواز ألاّ أن الشهيد شمران لم يستطع الذهاب إلى باقي مناطق العمليات مثل خرمشهر والمبادرة إلى اتخاذ نفس هذه الخطوة، وذلك بسبب ما كانت تتعرض له أهواز من خطر السقوط.  

 

انتصار سوسنگرد

 وأصرّ صدام على احتلال سوسنگرد بعد أن يئس من دخول أهواز، فهاجم سوسنگرد للمرة الثانية وحاصرت دبابات العدو المدينة لمدة ثلاثة أيام، إلى أن استطاع عدد من أفراده دخول المدينة في اليوم الثالث. ولأن الدكتور شمران كان في شدة القلق بسبب محاصرة عدد من زملائه ومقاتليه الأبطال في تلك المدينة، فإنه وبعد مداولات متعددة مع آية الله الخامنئي، وضع الجيش على أهبة الاستعداد لشن هجوم غير متكافئ ولأول مرة؛ كما نظم القوات الشعبية وقوات الحرس الثوري بجانب قوات الجيش وهاجم العدو من طريق أهواز سوسنگرد بأسلوب جديد وخطة مستحدثة. وعندما كان الدكتور شمران يتقدم نحو المدينة وكله شوق لمساعدة ولقاء إخوانه المحاصرين في سوسنگرد، فوجئ بالوقوع في محاصرة دبابات العدو، وحينئذ عمد إلى تمرير من معه بشكل ما، وألقى بنفسه في خنادق المحاصرة كواحد من تكتيكاته المعهودة. وهنا تنشب معركة ضارية، فتحمل عليه القوات الخاصة من خلف دبابات العدو، فيغير الشهيد شمران مواقعه من خندق إلى آخر وهو يتصدى للمهاجمين كأسد هصور في ساحة المواجهة، وبينما كانت دبابات العدو تمطره بالنيران هي الأخرى فقد استشهد زميله الذي كان بصحبته في حين أصيب هو بجراح في ساقه اليسرى، ومع ذلك فقد قفز داخل سيارة نقل عراقية بمساعدة شاب جسور كان قد وصل إلى ساحة القتال، وقاد السيارة بمهارة فائقة وسط قوات العدو مما أخل بنظامها وأصابها بالذهول، ثم ما لبث أن لحق بزملائه فيه غبطة وحبور بالقرب من بوابة سوسنگرد.

 وبنفس هذه السيارة أوصل الدكتور شمران نفسه إلى أحد المستشفيات في أهواز، ولكنه لم يبق في أكثر من ليلة واحدة ثم ما لبث أن عاد إلى مقر الحروب غير المنتظمة (المليشيا) وأخذ يوجه ارشاداته بساق مجروحة وأليمة إلى زملائه الأوفياء. واللطيف في الأمر هو أن اجتماعاً عقد بجوار سريره في تلك الليلة بالمستشفى بمشاركة القادة العسكريين (الجنرال الشهيد فلاحي قائد الفرقة 92، والشهيد كلاهدوز، وعدد من قادة الحرس، والعقيد محمد سليمي الذي كان رئيساً لمقر الشهيد شمران)، إضافة إلى محافظ خوزستان، والشهيد حجة الإسلام محلاتي (الذي كان ممثلاً للإمام في قوات الحرس) وفي نفس هذا الاجتماع الذي كان قد عقد للتشاور، وفي نفس تلك الليلة، قدم الشهيد شمران اقتراحه بالهجوم على مرتفاعات (الله أكبر).  

 

استئناف التحرك من جديد

 ورغم إصرار واقتراح المسؤولين والأصدقاء، فإن الدكتور شمران لم يكن مستعداً لمغادرة أهواز وترك مقر الحروب غير المنظمة والعودة إلى طهران للعلاج، وأمضى كل تلك المدة في ذلك المقر. وبينما كانت ماثلة أمامه وهو في تلك الحالة الخرائط العسكرية للمنطقة ومدى تقدم العدو وتحرك القوات الإيرانية، فإنه كان دائم التفحص فيها وإبداع مشاريع ممتازة وتقديم اقتراحات بناءة في المجالات العسكرية والهندسية المختلفة وحتى في الحقل الثقافي. وبالتدريج يستطيع السير بمساعدة عكاز تحت إبطه، ويستعد للعودة إلى الجبهة من جديد.

 ولم يعد الدكتور شمران يتحمل الجلوس ولاسيما بعد معركة 15 دي ماه سنة 1359هــ.ش التي تمخضت عن انكسار بعض قواتنا وأسفرت عن مأساة الهويزة، فاستنفر عدداً من المقاتلين الشجعان والمضحين وأقلع معهم بعدد من المروحيات التي كانت تحت قيادته رغم ذلك العكاز، وتحرك لشن هجوم على قوات العدو ومهماته خلف الجبهة في طريق (جفير ــ طلايه)، ولكن تلك المروحيات لم تستطع تجاوز منطقة الهويزة بسبب نيران العدو المكثفة، فاضطرت للعودة إلى قواعدها. وشعر هو بالضيق والألم الشديد بسبب هذه العودة.  

 

لقاء إمام الأمة

 وأخيراً، وفي شهر اسفند سنة 1359هــ.ش ألقى الدكتور شمران عكازه، ثم أسرع في تفقد جبهات القتال في أهواز بصحبة عدد من زملائه بينما كان مايزال يظلع قليلاً. وبعد ذلك توجه إلى طهران لأول مرة بعد إصابته للقاء إمام الأمة وتقديم تقرير له حول أوضاع العمليات؛ وعندما مثل بين يدي الإمام أخبره بما وقع من أحداث وقدم له تقريراً مفصلاً حول العمليات مع مزيد من الاقتراحات. وكان إمام الأمة (ره) يستمع إليه بعطف أبوي ومحبة خاصة، ثم دعا له ولزملائه من المقاتلين وقدم له الارشادات والتوصيات الخاصة.

 وكان الدكتور شمران متألماً مما يسيطر على الجبهات من صمت وسكون، فكان يسعى لإعادة الحركة والنشاط إليها عن طريق ما يقدمه من اقتراحات وبرامج جديدة. لقد كان مصراً على التعجيل بالهجوم على مرتفعات (الله أكبر) ثم على مدينة (بستان) والوصول إلى مضيق (چذابه) بالقرب من الحدود لقطع الارتباط بين القوات العراقية في الشمال والجنوب مع حدود العراق. وفي النهاية وفي يوم 31 من شهر أرديبهشت سنة 1360هــ.ش تم فتح وتحرير مرتفعات (الله أكبر) بعد هجوم منسق ومباغت مما يعتبر من أعظم الانتصارات في ذلك الوقت بعد انتصار سوسنگرد. وكان الشهيد شمران أول من وضع قدميه مع زملائه من جنود الإسلام الأبطال على مرتفعات (الله أكبر). وفي اليوم التالي وبرفقة قائده الباسل إيرج رستمي وعدد من الجنود المضحين والمقتدرين استطاعوا الاستيلاء على كافة مرتفعات شحيطيه (شاهسوند) بينما كان الآخرون يشاهدون هذا الاقدام الجسور وسط هالة من الدهشة والاعجاب.

 وبعد الانتصار الذي تحقق في مرتفعات (الله أكبر) أصر الدكتور شمران على ضرورة الإسراع بتوجيه قواتنا إلى (بستان) قبل أن يستطيع العدو إحكام مواقعه، غير أن ذلك لم يحدث، فأقدم الشهيد شمران على تنفيذ مشروع الاستيلاء على (دهلاوية) بفضل ما أبداه مقاتلو مقر الحروب غير المنظمة من تضحية وإيثار وبطولة بقيادة إيرج رستمي.

 وكان تحرير (دهلاوية) في حد ذاته إجراءً شجاعاً وخطراً ومثيراً للإعجاب؛ فلقد أقامت القوة المؤمنة من عناصر المقر جسراً على نهر الكرخة وعبرت النهر إلى وسط قوات العدو، وحررت (دهلاوية) بعون الله تعالى، حيث كان هذا أول انتصار بعد عزل بني صدر من القيادة العامة للقوات المسلحة، كما كان مقدمة لانتصارات أخرى كثيرة.

 وفي الثلاثين من شهر خرداد سنة 1360هــ.ش شارك الشهيد شمران في اجتماع طارئ لمجلس الدفاع الأعلى في أهواز حضره المرحوم آية الله إشراقي، وانتقد القوات على ما يعمّها من صمت وسكون، وقدم من جديد اقتراحاته العسكرية ومن بينها الهجوم على (بستان).  

 

نحو مذبح العشق

 واستشهد إيرج رستمي قائد منطقة دهلاوية فجر الحادي والثلاثين من خرداد سنة 1360هــ.ش، فشعر الدكتور مصطفى بالألم المفجع جراء ذلك، ولكنه اختار قائداً آخر ليحل محل الشهيد رستمي في جبهة دهلاوية.

 وكان الدكتور شمران قد وجه عدداً من الوصايا التي لا سابق لها إلى زملائه في آخر اجتماع لمقر الحروب غير المنظمة قبل رحيله إلى دهلاوية بليلة واحدة. ويقال إن الجميع كانوا يودّعونه لدى خروجه ثم شيعوه إلى مرمى البصر بعيون مغرورقة بالدموع.

 وتحرك الدكتور شمران نحو سوسنگر، والتقى في الطريق بالمرحوم آية الله إشراقي والجنرال الشهيد فلاحي، فقبل أحدهم الآخر للمرة الأخيرة، ثم واصل طريقه حتى بلغ مذبح العشق. وكان كافة المقاتلين قد اجتمعوا في قناة خلف دهلاوية، فعزّاهم وبارك لهم استشهاد قائدهم إيرج رستمي، ثم قال لهم بصوت محزون ومختنق ونظرة عميقة سابحة في الضياء:

 "لقد أحب الله رستمي فأخذه إليه، وسيأخذني إليه أيضاً إذا ما كان يحبني".  

 

الشهادة

 وانتهى كلامه؛ ثم ودع كافة المقاتلين وقبل ما بين أعينهم بعد أن قدم القائد الجديد لرفقاء الجهاد، ووقف على الخط الأمامي للجبهة عند أقرب نقطة للعدو خلف ساتر ترابي، وحذر المقاتلين بصفته قائداً محنّكاً يدرك القضايا والأمور المهمة في حينها بألاّ يتقدموا عن هذه النقطة لأن العدو يُرى بالعين المجردة، ولاشك أن العدو قد رآهم أيضاً. وانهمر سيل القذائف؛ وبينما كان يوجه إليهم أوامره بالتفرق وكان هو أيضاً متجهاً إلى أحد الملاجئ أصابته شظية في رأسه من الخلف، فارتفع صياح المحيطين به ممن شاهدوا ما حدث، وأوصلوه بسرعة إلى سيارة الاسعاف؛ وكان وجهه الملكوتي المبتسم بملامحه الواثقة والمخضب بالدم والتراب يتحدث إليهم بعمق، رغم أنّه لم ينبس ببنت شفة ولم ينظر إلى أحد.

 وفي مستشفى سوسنگرد، الذي سمي فيما بعد بمستفى الشهيد شمران، قدمت له الاسعافات الأولية ثم اتجهت سيارة الاسعاف نحو الأهواز. وللأسف فإن جسده فقط هو الذي وصل إلى أهواز، بينما كانت روحه تحلّق في الملكوت الأعلى بكفنه المدمّى، الذي كان لباسه في القتال، ملبيةً نداء ربها {ارجعي إلى ربك راضية مرضية}.

 واصدر قائد الثورة الإسلامية الكبير بياناً بمناسبة استشهاد الدكتور مصطفى شمران فيما يلي بعض سطوره:

 "لقد اختتم شمران العزيز طريق الجهاد الذي شقّه لنفسه منذ بداية حياته بإيمان واثق بالهدف الإلهي العظيم وعقيدة طاهرة نقية بعيداً عن التلوث بالانتماء إلى الأجهزة والتنظيمات السياسية المختلفة؛ فلقد شقّ طريقه في الحياة مستضيئاً بنور المعرفة والزلفى إلى الله تعالى والجهاد في سبيله حتى ضحى بنفسه من أجل ذلك. لقد عاش عزيزاً مرفوع الرأس واستشهد شامخاً مرفوع الرأس فوصل إلى الحق تعالى.

 إن العظمة تكمن في الجهاد في سبيل الله بعيداً عن الضجة والضوضاء السياسية والتظاهر الشيطاني، والتضحية بالنفس في سبيل هذا الهدف لا من أجل الأهواء النفسية؛ وهذه هي منقبة البشر الإلهيين.

 لقد لحق بالرفيق الأعلى رافلاً في حلل العزة والكرامة، فرحمة الله عليه وجلّت ذكراه.

 وأما نحن، فهل بوسعنا أن نتحلّى بمثل هذه الفضيلة؟ إن الله تعالى هو وحده الكفيل بالأخذ بأيدينا وإخراجنا من ظلمات الجهل وهوى الأنفس".

 والسلام على عباد الله الصالحين

 ــــــــــــــــــــــ

 1ــ هو "جهان بهلوان تختي" وكلمة بهلوان تطلق في الفارسية على الرياضي الذي يتمتع بالروح الرياضية الحقة وأيضاً بالشهامة والشجاعة والكرم والرجولة والتدين. وأما كلمة "جهان" فلا تعني "العالمي" هنا كما يتبادر إلى الذهن، بل يراد بها التفرد والتميز النوعي في هذا المجال.