نشأته

 

ولد الشهيد السيد عارف الحسيني في قرية بيوار من منطقة باراجنار في باكستان يوم 25/11/1946م، وقد اشتهر بالحسيني لأن نسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينتهي عبر جده سيد حسين الأصغر بن الإمام زين العابدين عليه السلام.

 

ترعرع الشهيد في أحضان أسرة دينية عريقة، وكان معروفاً منذ صغره بالنباهة والذكاء؛ بدأ دراسته العصرية في منطقته وأنهى الثانوية العامة بدرجات عالية وصنف من الطلبة المتفوقين.

 

دراسته

 

ينتسب الشهيد إلى عائلة علمية؛ فكثير من أجداده كانوا من علماء منطقته المعروفين.. وعليه، لم يكن بعيداً أن يتوارث الشهيد الرغبة في دراسة العلوم الدينية منذ صغره، ولذا التحق عام 1964 بالمدرسة "الجعفرية" المدرسة الوحيدة في منطقته وأنهى مرحلة المقدمات التي تحوي الأدب العربي والمنطق والفقه الميسر خلال ثلاث سنوات.

 

وبعد ذلك وفي عام 1967م سافر الشهيد إلى النجف الأشرف للالتحاق بالحوزة العلمية وسكن في المدرسة "الشبرية" وبعدها في مدرسة "دار الحكمة" وطوى مرحلة السطوح عند كبار العلماء مثل آية الله الشهيد السيد المدني وآية الله الشيخ المرتضوي.

 

عُرف عن الشهيد جديته في تحصيل العلوم الدينية بحيث لم يُضيع وقته سُدى.. يقول استاذه الشيخ المرتضوي: لقد كان الشهيد يملك الميول الدراسية إلى درجة كبيرة، فسفر المشي بين النجف وكربلاء (حدود 80 كلم) الذي كان يطويه الطلبة عادة خلال ثلاثة أيام كان الشهيد يطويه في يوم واحد ليستفيد من وقته أكثر ويتمكن من بلوغ متابعاته الدراسية في اليوم التالي.

 

وفي عام 1973 تم إبعاد الشهيد من العراق فرجع إلى باكستان حيث تزوج هناك ثم توجه عام 1974 نحو النجف الأشرف، ولكنه اضطر للسفر إلى مدينة قم المقدسة بسبب امتناع العراق عن إعطائه تأشيرة الدخول.. وفي قم حضر دروس الفلسفة والكلام والفقه (البحث الخارج) والتفسير عند كبار اساتذة الحوزة من قبيل الشهيد آية الله الشيخ المطهري وآية الله الشيخ ناصر مكارم شيرازي وآية الله الشيخ وحيد الخراساني وآية الله الشيخ جواد التبريزي وآية الله الشيخ محسن حرم بناهي ومجموعة أخرى من فضلاء الحوزة، حتى وصل مراتب عالية من العلم والفضل.

 

يقول الشيخ حرم بناهي أحد اساتذة الشهيد في حوزة قم العلمية واصفاً فضله وعلمه:

 

"كان الشهيد ذا أبعاد مختلفة، وحسب ما أتذكر فقد كان مُسلطاً على المباحث العقائدية (الكلام) حيث درس قسماً منها عندي لمدة ثلاث سنوات، وكان يحضر درسي عدد كبير من الأصدقاء، ولكنه كان الأقوى من بينهم، فقد اهتم بدراسة الكتب الكلامية بنفس مستوى اهتمامه بدروس البحث الخارج.

 

أما من ناحية الفقه فقد كان في مجال الفقه والاصول بمستوى عالم فاضل ممتاز، وذلك استناداً لاستيعابه المطالب العلمية للبحث الخارج، وخصوصاً في بحث الخمس فقد استوعبه بشكل كامل.. كنت اشعر بأن لديه القدرة الكاملة على التحليل وأن معلوماته واستعداداته في الفقه والاصول كثيرة جداً، ولذا قلت له عندما قصد السفر إلى باكستان: لا تذهب إلى باكستان لأننا نحتاج إلى مرجع تقليد، ولو بقيت هنا عدة سنوات فإن أهلية مرجعية التقليد ستتحقق فيك، وهذا الموقع ينتظرك، وإنني ألمس استعدادك لهذا المقام، لكنه قال لي إنني أشعر بالمسؤولية وقد شخّصت وظيفتي الشرعية فلا استطيع البقاء.

 

وأما في التفسير فقد كانت له قراءات كثيرة، كما بذل جهوداً كبيرة في أساليب التبليغ.. إن معلوماته العامة كثيرة جداً".

 

كان الشهيد مهتماً بدراسته وبرز ذلك في مواظبته المستمر في كتابة كل كتاب يتعلمه ومباحثة الدرس ومطالعته، وبالإضافة إلى ذلك فقد كان يقوم بتدريس الطلاب وتربيتهم، وكان معروفاً في حوزة النجف وحوزة قم بالجد والتقوى.  

 

جهاده

 

قبل الخوض في سيرته الجهادية لإعلاء كلمة الله، من المناسب أن نذكر الخطوط العامة التي تحرك من خلالها الشهيد وواجه بها أنواع الانحرافات وأصناف العناوين وبصورة مختصرة جداً، وأهم تلك الخطوط:

 

1 ــ مواجهة الوطنية والقومية

 

فقد سعى الاستعمار وعبر عملائه إلى تكريس حالة الاعتزاز بالقومية والوطنية واللغة وجعلها المقياس في المفاضلة والتقديم مما أسفر عن آثار سيئة في تقسيم المجتمع الباكستاني الواحد، كان منها الدعوة إلى الحكم الذاتي والانفصال على أساس قومي وتأسيس التنظيمات والأحزاب المبتنية على الأسس السابقة، وقد أوقف الشهيد نفسه للتصدي لهذه الحالة محذراً من عواقبها الخطرة، وطرح الإسلام بديلاً عنها ومحوراً يوحد المجتمع ويجنبه التمزق والضياع.

 

2 ــ مواجهة الحالة الطائفية

 

فقد سعت الأيدي المستفيدة من تفرق المسلمين إلى تحريك الوهابية لزرع الفتن والمنازعات بينهم، والمجازر البشعة التي قام بها الوهابيون ضد غيرهم من المسلمين والجمعيات والمدارس التي أقاموها لترسيخ النهج الوهابي والكتب والمجالات التي أصدروها وكفّروا بها غيرهم من المسلمين ما هي إلا بعض النماذج الحية في هذا الاتجاه.

 

في هذا الجو المتشنج وبروحية إسلامية عالية تحرك الشهيد نحو توحيد أهل السنة والشيعة ولمّ شملهم ورص صفوفهم، وحظي في هذا المضمار خطوات كثيرة نحو الأمام تمثلت في الدعوة إلى الوحدة الإسلامية وعقد الاجتماعات والاحتفالات التي تختص بالوحدة والالتقاء بأهم الشخصيات السنّية، كما كشف للناس الصورة الحقيقية لمثيري هذه الاختلافات أي الوهابيون ــ وبتحريك وتمويل سعودي ــ وحكومة ضياء الحق.

 

3 ــ مواجهة الظلم والاستكبار

 

وبالأخص الأمريكي منه؛ حيث كان يعتقد أن أميركا هي الرأس المدبر والجهة المساندة للحكومات العميلة في باكستان، مستلهماً بذلك هدي قائده الإمام الخميني (رض) حيث قال: أمريكا أم الفساد والشيطان الأكبر.

 

أما بالنسبة لموقفه من النظام الباكستاني العميل، فقد وقف بوجهه وقفة حسينية داعياً إلى إقامة حكم إسلامي في باكستان ومندداً بالدكتاتورية الحاكمة على باكستان.

 

4 ــ مواجهة المتحجرين والمقدسين

 

فقد شكل هؤلاء إحدى الموانع الأساسية بوجه تحرك الشهيد، فقد شوشت أباطيلهم أفكار المسلمين بل جعلتهم يبتعدون عن الإسلام، فقد صوروا الإسلام كمجموعة من الأحكام الفقهية والعبادية المحضة، غضوا النظر عن المسائل الثورة، قدموا مصالحهم الذاتية على مصلحة المجموع، أنكروا أهمية إقامة الحكومة الإسلامية بل اعتبروها كالشجرة الممنوعة! قالوا بأنه لا مفر من الصبر على ظلم الحكام الطغاة.

 

أدرك الشهيد مدى خطورة هذه الأفكار السامة فكان لأصحابها من المتظاهرين بالقدسية والمتحجرين بالمرصاد، فوقف بوجههم وعراهم وفضحهم أمام الجماهير، ووفقه الله تعالى في حركته تلك فانكسدت بضاعة المنحرفين الغاوين.  

 

المنطلق هو الإمام

 

يمكن القول أن الشهيد السعيد استلهم الروح الثورية والجهادية من قائده الإمام الخميني (قد)، فقد كان ملتزماً بحضور دروسه العامة والأخلاقية في النجف الأشرف متمعناً في سيرته الجهادية.

 

وقد تعرف على الإمام بشكل أكبر من خلال استاذه شهيد المحراب آية الله السيد أسد الله المدني فازدادت علاقته وإعجابه الشديد بالإمام، وكان الشهيد حريصاً علي حضور صلاة الجماعة ظهراً خلف الإمام في مدرسة الشيخ الأنصاري، أما صلاة العشائين فكان يصليها كثيراً خلف الإمام في مدرسة السيد البروجردي، ولكثرة مواظبته على صلاة الجماعة اختص بموضع معين فيها.

 

ومع وجود تلك العلاقة فلم يكن من المستبعد أبداً أن يقوم البعثيون بإبعاده من العراق عام 1973، وقبل خروجه تشرف بخدمة الإمام طالباً منه الإرشادات والتوجيهات اللازمة، وقد أعطاه الإمام وكالة خاصة في الحقوق الشرعية إلا أن البعثيين أخذوها منه أثناء تفتيشه في الحدود.  

 

إبعاده من قم المقدسة

 

في السنة الأخيرة من تواجد الشهيد في مدينة قم المقدسة أي العام 1978 كان فتيل الثورة الإسلامية في إيران قد اشتعل، ورقعة المظاهرات الشعبية المطالبة بإسقاط الشاه وإقامة الحكم الإسلامي تتسع فتلتحق المدينة تلو الأخرى بهذا الركب.

 

لم يتعامل الشهيد مع هذا الوضع على أساس أنه مختص بالإيرانيين، بل شارك فيه باعتباره تحركاً إسلامياً على رأسه الولي الفقيه، فكان يشارك في المظاهرات ويدعو بقية الطلبة لحضورها.

 

جهاز الأمن الإيراني (السافاك) الذي كان يراقب الحوزة بدقة شديدة باعتبارها مركز ومنطلق الأحداث في إيران، اعتقل الشهيد لنشاطه السابق وبعد إجراء التحقيق معه طلب منه التوقيع على تعهد يلتزم من خلاله بعدم حضور المظاهرات والخطب والإمتناع عن لقاء الثوريين وعن المشاركة في أي أمر يتعلق بالثورة ضد النظام، فامتنع عن الاستجابة لذلك، فأصدر السافاك أمراً يقضي بإبعاده، فتم ذلك والحسرة تأكل قلب الشهيد لما يجري في إيران.  

 

السائر في خط الإمام

 

قبل الخوض في جهاد الشهيد في باكستان بعد إبعاده من مدينة قم المقدسة، لابد لنا أن نثبت أصلاً آمن الشهيد به وكان حاكماً، على تحركه وجهاده بشكل عام وهو السير في خط الإمام ونهجه ودعوة المسلمين لاتباع الإمام الخميني ــ رض ــ؛ فقد كان شهيدنا مؤمناً بأن خط الإمام هو أفضل وأوضح خط وطريق للمسلمين لمواجهة الخطوط المنحرفة سواء يمينية كانت أو يسارية، رجعية أو التقاطية، ويعتبره ذا أبعاد مختلفة تستوفي كل المجالات التي يحتاج إليها الإنسان، ولو لم ينتمي الإنسان إليه فإنه سيبتلى بالانحراف لا محالة.

 

أما عن الإمام ــ رض ــ نفسه فقد بيّن الشهيد للمسلمين عظمة شخصيته ومنزلته، ودعاءهم لاتباع قيادته حيث النجاة في ذلك، وننقل كلمتين للشهيد في هذا المجال، يقول (رض): "كما أن الكعبة رمز إتحاد المسلمين فهم يتجهون إليها ويصلون نحوها، كذلك ينبغي أن يكون للمسلمين قائد واحد يتبعونه، وقد فطن المسلمون ــ ولله الحمد ــ لهذا الأمر، واليوم يمكن القول بأن جميع الشروط اللازمة في القائد موجودة بالكامل في سماحة الإمام وهو أجدر رمز لقيادة العالم الإسلامي، لقد كنا في السابق نعتقد أن الإمام هو قائدنا، أما اليوم فإننا نطيع أحكامه أيضاً على أساس أنها أحكام واجبة الطاعة".

 

ويقول في موضع آخر: "يجب أن يكون للمسلمين مركز واحد ولا يمنع من ذلك تعدد محافظاتهم، وإن أجدر فرد لقيادة المسلمين هو أمل المستضعفين آية الله العظمى الإمام الخميني روحي له الفداء، ولو أن المسلمين اجتمعوا تحت ظل قيادة الإمام الخميني فإننا سنشهد جميعاً أن قضية أفغانستان ولبنان وفلسطين والأماكن الأخرى سوف تحل".  

 

نصرة الثورة الإسلامية

 

بعد إبعاد الشهيد إلى باكستان واصل الشهيد نشاطه في دعم ومساندة الثورة الإسلامية عبر فضح الشاه ونظامه المعادي للإسلام وطرح الإمام كقائد للمسلمين، وبالرغم من معارضة المتحجرين والمتظاهرين بالتقدس لهذا التحرك، إلا أن الشهيد استمر في هذا الطريق ودعا لإقامة مظاهرة (بطول 2 كم) لتأييد الثورة تتجه نحو بيشاور، وفي التجمع الكبير في بيشاور أعلن شهيدنا السعيد عن دعمه المطلق للإمام الخميني وقيادته، ولم تكن باكستان قد شهدت من قبل نظير هذا التحرك والتجمع الكبير.  

 

الخدمات الدينية والاجتماعية

 

وكانت محط اهتمام بالغ للشهيد، فبالإضافة إلى نشاطه السياسي السابق وتدريسه العلوم الحوزوية والاشتغال بالتبليغ وهداية الناس، فقد كان الشهيد يُكرس الكثير من وقته لخدمة خلق الله؛ فقد أسس مدرستين الأولى باسم جامعة أهل البيت ويجاورها مسجد، والثانية باسم مدرسة المعارف الإسلامية (استبدل اسمها فيها بعد باسم جامعة الشهيد عارف الحسيني)، وامتازت هذه الأخيرة بتدريس العلوم الحديثة كالعلوم السياسية والاقتصادية وعلم النفس بالإضافة إلى العلوم الحوزوية.

 

كما قام ببناء وتأسيس ثلاثة عشر مسجداً وحسينيات كثيرة، كما بنى مركزين صحيين، وتميزت أعماله الخيرية بأنها أنجزت في مناطق المستضعفين والمحرومين لخدمتهم، وعلى سبيل المثال فإن الخدمات الصحية كانت تتم للفقراء مجاناً، كما أن أغلب المساجد والحسينيات بُنيت في المناطق التي يُعدم أو يندر فيها وجودها.  

 

الإضراب فالاعتقال

 

في عام 1980 أي بعد عام من انتصار الثورة الإسلامية أقدمت مجموعة من القتلة والمجرمين بمجزرة دامية في منطقة باراجنار استهدفت إثارة الفتنة الطائفية، واحتجاجاً على المجزرة ودعم الحكومة الباكستانية لها اعتبر الشهيد يوم عيد الفطر يوماً أسود، ودعا إلى التجمعات الشعبية المعارضة وإلى الإضراب العام الذي حظي بتجاوب كبير من الجماهير.

 

وبسبب نشاطه السابق وإعلانه عن استعداده لتحمل أي طارىء يحدث ألقت السلطات الباكستانية القبض عليه يوم 21/9/1980، وعلى أثر الضغوط والاعتراضات والتجمعات الشعبية المطالبة بالإفراج عن الشهيد والتي استمرت 22 يوماً أفرجت الحكومة الباكستانية عن الشهيد وعن 416 شخصاً آخر اعتقلوا خلال فترة الاحتجاجات، إلا أن الشهيد امتنع عن الخروج من السجن لسبب سنذكره في باب خصائصه.  

 

مع نهضة تطبيق الفقه الجعفري

 

انظم الشهيد لــ"نهضة تطبيق الفقه الجعفري" مع بداية تأسيسها عام 1979 برئاسة المرحوم المفتي الشيخ جعفر حسين، وقد انتخب الشهيد عضواً في المجلس الأعلى، ويعود سبب تأسيس النهضة إلى الدور الواضح الذي مارسته الحكومة الباكستانية من تمييز ضد الشيعة في الباكستان وإلزامهم بأحكام فقهية لا يقرها مذهبهم؛ منها ما يتعلق بالزكاة التي يلزم الشيعة وفقاً لمذهبهم بتسليمها إلى مرجع التقليد دون غيره.

 

وكان الشهيد أبرز شخصية تصدت لتشكيل هذا التجمع الكبير الذي حاصر المباني الحكومية (مبنى رئاسة الجمهورية، ومبنى رئاسة الوزراء) يوم 5/7/1980 بهدف إلغاء التمييز السابق، وبالفعل فقد أذعنت الحكومة الباكستانية لمطالب المحتجون بعد أن استمر الحصار ثلاثة أيام، والنهضة وإن نالت بعض الأهداف والمكاسب فإنها أصيبت بالركود فيما بعد بسبب ضيق الأفق وانحصار الأهداف.  

 

زعيم الشيعة في الباكستان

 

بعد وفاة المرحوم الشيخ جعفر حسين يوم 29/8/1983 استغلت الحكومة الباكستانية الفراغ الذي خلفه الفقيد فدعمت بعض علماء البلاط والمتحجرين وحاولت أن تصنع منهم رموزاً وقادة للشيعة، إلا أن محاولاتها باءت تدريجياً بالفشل بعد أن عقدت النهضة اجتماعاً متأخراً لتعيين قائد جديد لها، فتم يوم 1/2/1985 اختيار الشهيد السيد عارف الحسيني قائداً للنهضة، وكانت لهذا الاختيار آثار حسنة ومباركة على المجتمع الباكستاني ككل.

 

وكانت للصفات القيادية التي أختص بها الشهيد دور بارز في إضفاء الصورة الجديدة للدور الإسلامي الذي تحركت الشيعة من خلاله.  

 

الثقيلة المسؤولية

 

اختيار الشهيد كقائد للنهضة فرضت عليه مسؤوليات جمة سعى بكل إمكاناته وطاقاته لأدائها وإنجازها، فسافر إلى القرى النائية للتعرف على أهلها ولتفقد أحوالها ودراسة مشاكلها وسد احتياجاتها قدر المستطاع، وتوثقت بذلك أواصر المعرفة والمحبة بينه وبين الجماهير.

 

ويمكن القول أن دور الشهيد كان في هذه الفترة وحتى شهادته هو تبيين الموقف الإسلامي الصحيح لكل حدث وواقعة مستلهماً بذلك من فكر الإمام ونهجه، فكان يصدر البيانات في الأحداث والمناسبات المهمة مثل: اسبوع الوحدة ويوم المستضعفين وشهر محرم وموسم الحج، كما أقام المؤتمرات والمحافل الإسلامية وعقد الكثير من اللقاءات الصحفية مع الجرائد والمجلات المختلفة في مناسبات وأحداث عدة.

 

والشهيد وإن كثف جهوده ونشاطاته من أجل أسلمة الحالة في باكستان إلا أن اهتماماته لم تنحصر في باكستان بل اهتم بمعاناة الشعوب الإسلامية الأخرى، فكانت له علاقات مع الإسلاميين من الدول الأخرى، وسعى للمزيد من إقامتها وتوطيدها.  

 

خصائصه

 

امتاز الشهيد بخصال حسنة جمة، نذكر أهمها:

 

1 ــ التقوى والعبادة

 

وقد شهد له بهذه الصفة أعداؤه وخصومه قبل أصدقائه إذ كانت ظاهرة للعيان، ومن مظاهرها المحافظة على أوقات الصلوات. يقول آية الله الشيخ الاشتهاردي (أحد أساتذة الشهيد): "كان محافظاً على أوقات الصلاة إذ كان غالباً ما يحضر قبل طلوع الفجر وقبل زوال الشمس في حرم المعصومة (ع) لأداء صلاة الجماعة".

 

وكان الشهيد ملتزماً إحياء الليل بالعبادة، فلم يشهده أحد نائماً وقت السحر وحتى في أيام السجن، ولم تمنعه ظلمة السجن وظلم السجانين من أداء صلاة الليل، فكان يقف أمام ربه يذرف دموع المناجات والاستغفار.

 

يقول أحد أصدقائه القدامى واصفاً عبوديته لله: "منذ اللحظة الأولى التي رأيته فيها وجدته ساعياً لطاعة الله وعبوديته، كان مواظباً على صلاة الجماعة، وكان يسعى دائماً سواءً في فترة تواجده في حوزة النجف أو حوزة قم إلى أداء الصلوات الخمس جماعة، وكان كثير التقيد بالمستحبات، مواظباً على التهجد وصيام الأيام المستحبة والإكثار من قراءة القرآن، ولم أشهده يترك صلاة الجماعة إلا لسبب، وكان ملتزماً بقراءة دعاء كميل كل ليلة جمعة من دون استثناء".

 

وتقول زوجة الشهيد: "لقد كان الشهيد قليل النوم في حياته المباركة، مشغولاً بالعبادة أكثر الأحيان، فأغلب أوقات الليل يقضيها بالعبادة"، وبالرغم من تقيده والتزامه بالتقوى والعبادة فقد حرص كثيراً على توصية الآخرين بها والتأكيد عليها في كل مجلس ومناسبة.

 

2 ــ الزهد في الدنيا

 

فقد كان مترفعاً عن المدح والثناء غير محب للظهور، فلم يحب القول إن فلاناً كان تلميذي أو أنني درست فلاناً، وكان يقول: "عندما أتفقد أحياناً بعض المناطق فإنني أشعر بالخجل عندما ينادوني بالقائد أو يطلقون لي الشعارات أو يمدحوني".

 

وعندما انتخب قائداً لنهضة تطبيق الفقه الجعفري لم يؤثر هذا الاختيار شيئاً في سلوكه وحياته، فمنزله المتواضع ظل على حاله ولم تظهر أي علامة تدل على تغير وضعه المادي، وكان قليل الأكل متجنباً تناول المأكولات اللذيذة.

 

3 ــ التعلق الشديد بأهل البيت(ع)

 

ونتخذ من زيارته للأئمة الأطهار (ع) وإحيائه للعزاء الحسيني نموذجين بارزين في هذا المجال.

 

أما بالنسبة لزيارة الأئمة الأطهار (ع) فقد كان مهتماً وملتزماً بزيارتهم، وقد زار الإمام الحسين (ع) من النجف الأشرف مشياً على الأقدام أكثر من عشرين مرة ــ في كل عام أربعة مرات تقريباً ــ وذلك خلال فترة تواجده في النجف الأشرف وخصوصاً في الأيام المخصوصة بزيارته عليه السلام.

 

ولم يقصد شهيدنا زيارة قبر الحسين (ع) مشياً من الطريق المعتاد (والذي يطوى عادة خلال ثلاثة أيام) الذي يجاور الفرات وهو الطريق تكثر فيه البيوت التي تضيف الزوار، بل كان يزور الإمام (ع) من الطريق العام والبالغ 80كم وهو طريق شاق، فكان يقطعه خلال نهار واحد (من بعد صلاة الفجر وحتى الغروب) وكان يتوجه فور وصوله إلى كربلاء لزيارة أبي عبد الله الحسين عليه السلام وهو يقول "ينبغي أن أتشرف بخدمة مولاي وأنا أشعث الرأس ومغبر"!

 

أما بالنسبة للعزاء الحسيني فقد كان شديد التعلق لاستماع مآتم ومصائب أهل البيت (ع)، كثير البكاء عليهم، لاطم الصدر في عزائهم، وكان يسافر من النجف الأشرف إلى الكاظمين للمشاركة في موكب عزاء الإمام الكاظم (ع).

 

وقد امتاز الشهيد بصوت شجي حزين يبكي سامعيه فور قراءته لمصائب أهل البيت (ع)، وفضلاً عن اهتمامه الشخصي بالقراءة الحسينية فقد أوصى الآخرين بها وحثهم عليها، وله كلمة معروفة في هذا المجال يقول فيها "إن إقامة العزاء هو حبل وريد حياتنا".

 

4 ــ الأخلاق الرفيعة

 

فقد كان دمث الخلق، حسن التعامل، كثير السكوت، اشتهر بالكرم وحسن الضيافة بالرغم من ضيق يده، فقلما شوهد يأكل الغذاء وحيداً من دون ضيف، وكان يهتم بتقديم أفضل ما عنده لضيوفه. تقول زوجة الشهيد واصفة جانباً آخر من شخصيته الأخلاقية: "كان يوصينا دائماً أن لا نغتاب أحداً، وهناك أمر آخر أكد عليه وهو أنه لو أساء أحد معاملتكم فيجب أن تعاملوه بالحسنى وتحسنون علاقتكم به".. التواضع يعتبر من أبرز صفاته التي اشتهر بها، فكان يسقط الكلفة عن زواره ويتعامل معهم بطريقة تشعرهم بأنه يعرفهم منذ أمد بعيد، وكان يسبق الآخرين إلى السلام سواء كانوا صغاراً أم كباراً، ويقوم لكل من يأتي لزيارته.

 

5 ــ الاهتمام بتدريس القرآن

 

ونكتفي بذكر مثال واحد في هذا المجال، فبعد أن أصدرت الحكومة الباكستانية قرارها بالإفراج عن الشهيد بعد 22 يوماً من السجن عام 1980 رفض الشهيد ذلك وقال للسجانين: "لقد شرعت في السجن بسلسلة من الدروس في تفسير القرآن وهي لم تنته بعد، وما لم أنته من هذه الدروس فلن أخرج من السجن"، وبعد إنهاء دورة كاملة من دروس القرآن خرج شهيدنا من السجن.  

 

شهادته

 

إن دور الشهيد ونشاطه الكبير في فضح أمريكا وعملائها في المنطقة والمتمثلين في ضياء الحق وآل سعود وصدام وغيرهم قد أقلق الاستكبار الأمريكي كثيراً، فخطط منذ أمد بعيد لاغتيال الشهيد، فحرك إحدى العصابات المجرمة ــ وبتمويل سعودي وتخطيط عراقي ــ لقتله، وإن لم يتم ذلك مسبقاً فلسبب واحد وهو عدم توفر الفرصة المناسبة.

 

وتبدأ القصة المحزنة عندما تحدث الشهيد قبل أيام قليلة من شهادته في إحدى المحافل العلنية في كراتشي عن الخطط والممارسات الخبيثة لآل سعود، فقد كشف الوجه الحقيقي لهم عبر خطبة طويلة (وهي آخر خطبة له في حياته) من خلال ذكر أعمالهم المشينة كتكفير المسلمين ودعم مثيري الفتنة وقتل الحجاج ومنع الفلسطينيين من الحج والتولي لأمريكا والفسق والفجور.. الخ، وبعد ذلك وفي 4/8/1988 سافر الشهيد من باراجنار إلى بيشاور ليتوجه في اليوم الثاني إلى لاهور كي يعقد لقاء صحفياً ثم يشارك في تجمع كبير يعلن من خلاله عن خبر مهم، ولذا أعد مؤيدوه مستلزمات الاستقبال في لاهور.

 

وبعد أداء صلاة الفجر والتعقيبات يوم الجمعة 5/8/1988 توجه الشهيد نحو الدور الثاني في مدرسته، وبعد نزلوه من آخر سلم كان له أحد المجرمين في كمين فأطلق نحوه عدة رصاصات سامة من مسدس كاتم للصوت أصابت قلبه ورأسه فسقط مضرجاً بدمه وهو يهتف "لا إله إلا الله" وبعد أن سمع طلاب المدرسة هذا الهتاف تجمعوا حول الشهيد وهم مندهشون مما حدث، أما الشهيد فكان ينظر نحوهم بهدوء ثم ودعهم وهو مطمئن البال، وفاضت روحه الطاهرة نحو بارئها وهو في الطريق إلى المستشفى، وبالشهادة نال مراده؛ فزوجته كانت تقول: "كلما بلغه خبر استشهاد شخص كان يقول: ما أحسن نصيبه حيث نال الشهادة، وكان يطلب من الله في كل صلواته أن لا يحرمه من هذه السعادة".

 

وبعد انتشار خبر استشهاده عم الحزن والأسى في قلوب الجماهير ومحبي الشهيد، ثم شيّع جثمان الشهيد في بيشاور بتشييع ضخم اعتبر أكبر تجمع من نوعه في تاريخ باكستان، وقد هتفت الجماهير الحانقة بوجه ضياء الحق والهيئة المرافقة له بشعارات "القاتل ضياء، آل سعود مثل اليهود، الموت للجنرال ضياء، الموت لأمريكا".

 

وقد صلى على جنازة الشهيد آية الله الشيخ الجنتي ــ مبعوث الإمام الخميني (رض) ــ ثم نقلت الجنازة بعد ذلك إلى بيوار ــ مسقط رأسه ــ فدفن هناك.

 

أما القاتل والمجرمون فسرعان ما انكشفت هويتهم للجميع وبان للعيان تدخل الحكومة الباكستانية في جريمة القتل بالرغم من التعتيم الشديد والتلكا في المحاكمة والتحقيق، إلا أن دم الشهيد لم يسقط على الأرض من دون أن يثأر الله له، فلم يمض أربعون يوماً على استشهاد العلامة السيد عارف الحسيني (رض) إلا وقد هلك ضياء الحق ومعاونوه ومجموعة من المسؤولين الأمريكيين في حادث انفجار الطائرة المعروف.

 

الإمام الخميني (رض) أصدر بياناً بمناسبة شهادة العلامة السيد عارف الحسيني قال فيه: "لقد وصلتني رسائل وبيانات التعزية بمناسبة شهادة حجة الإسلام السيد عارف الحسيني، هذا النصير الوفي للإسلام والثورة والمدافع عن المحرومين والمستضعفين، وهذا الابن الحقيقي لسيد الشهداء أبي عبد الله الحسين (ع)… ولم تكن لأمثال العلامة عارف الحسيني بشارة أعظم من هذه حيث نظر من محراب عبادة الحق لعروجه الدامي إلى قوله (ارجعي إلى ربك) وشرب جرعة وصال المعبود من شهد الشهادة ورأى وصول الآلاف من عطاشى العدالة لمنبع النور… لقد فقدت ابناً عزيزاً).

 

فالسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيّاً.