يجب أن يتمتع المجتمع الإسلامي كله بروحية الشهداء، حتى يتشكّل لدينا مجتمع شهيد حيّ، فكل مجتمع استطاع أن يصل إلى هذه الروحية سيكون أشمخ من العُقاب وأرسخ من الجبال، سيكون مجتمعاً لله تعالى، والله لا يعطي مجتمعاً كهذا إلى العزّة والقوة والثبات والنصر، ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾، ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾، وهذا ما أكّدت عليه الروايات وأيّدته التجربة، وهو ما أشار إليه الإمام الخميني (قدس سره) في أكثر من مناسبة، يقول (قدس سره): "الشعب يتمنّى تلك الشهادة التي طلبها جميع الأنبياء وتمنّاها جميع أولياء الله"[1].

 

ويمكننا أن نلاحظ من بركات مجتمع كهذا ما يلي:

 

1) أثرها التربويّ:

 

إن هذه الروحية تغيّر مفاهيم الإنسان وتوجّهاته وأساليبه؛ فهي قادرة على صنع مجتمع الإنسان بمميزاته الإنسانية التي تميّز تماماً عن المجتمع الحيواني.

 

إن من أحبّ الله تعالى وعشقه حتى صار لقاء الله تعالى هدفه الوحيد، لن تعني له هذه الدنيا وما فيها من ماديات شيئاً، سوى أنها أمور فرعية وجانبية، يهتم بها الإنسان لتلبية حاجاته فقط.

 

وهكذا يصف أمير المؤمنين (عليه السلام) المتقين: "عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم".

 

وهذه التربية ستغيّر مفاهيم الإنسان ومسلكيته في هذه الدنيا، وتصنع مجتمعاً سليماً بكامل المواصفات الإلهية.

 

2) أثرها المعنوي:

 

إن الحالة المعنوية تعتبر أساساً في نجاح أيّ عمل يريد أن يقوم به الإنسان، ولها دور أساسي في الحروب في النصر أو الهزيمة، لذلك تعتبر الحرب المعنوية جزءً أساسياً في أي حرب تنشأ بين الناس.

 

والمجتمع الذي يصاب بالإحباط أو اليأس لا يمكن أن يكون منتصراً ولو كان الأكثر عدداً والأعظم عدة.

 

والمجتمع الذي يملك روحية الشهادة لا يمكن أن يتسلّل إليه الإحباط أبداً، والسبب في ذلك أن الإحباط ناتج عن العجز وعدم القدرة على تحقيق الأهداف، فإذا كانت الأهداف دنيوية فمن الممكن أن يصاب الإنسان بالإحباط إذا لم تصل يداه لهذا الهدف ووجد أنه يقتل ويضعف. ولكن إذا كان الهدف النهائي هو لقاء الله تعالى والالتحاق بركب الصديقين والشهداء، فالقتل سيكون تحققاً للهدف، وبالتالي لا يمكن أن يولّد إلا اندفاعاً وقوة وإصراراً، ولن يجد الإحباط له مكاناً في مجتمع الشهداء والأحياء.

 

يقول الإمام الخميني (قدس سره): "منطقنا ومنطق شعبنا ومنطق المؤمنين هو القرآن الكريم ?إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ?، لا يستطيع أحد مقابلة هذا المنطق، لا يستطيع أحد الوقوف في وجه شعب يحسب نفسه من الله وإلى الله وكل ما يملكه لله ويعتبر موته حركة نحو المحبوب والمطلوب"[2].

 

"إن قُتِلنا إن شاء الله فإننا سنذهب إلى الجنة، أو قتلنا فإننا ذاهبون إلى الجنة أيضاً".

 

ويقول في كلام آخر: "إن قَتلنا فإننا سعداء، أو قُتلنا فإننا سعداء أيضاً".

 

وهذا هو الفكر القرآني الأصيل الذي أطلّ علينا في العديد من الآيات القرآنية كقوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ﴾[3]؛ فإن انتصرنا فذلك حسن وسعادة، وإن استشهدنا فذلك أيضاً حسن وسعادة.

 

3) الشجاعة والثبات:

 

إن الخوف إذا كان من الخالق فهو صحة ومطلوب، وإذا كان من غيره فهو مرض يجب التخلّص منه. وهذا المرض الخطير هو الذي أوصل الكثير من الشعوب إلى الفشل، بل نجده مصيبة العالم الإسلامي في كثير من قضايا هذا العصر الأساسية.

 

وقد أشار الإمام الخميني (قدس سره) إلى أن هذا المرض لا يجتمع مع روحية الشهادة: "لقد اعتاد شعبنا الشهادة والتضحية ولا يخشى الأعداء والقوى الكبرى ومؤامراتها. فالخوف لمن لا تحتوي مدرسته على الشهادة"[4].

 

"الخوف من الموت للذي يعتبر الموت نهاية الحياة، ولا يخشى الموت إلا من يعتبر الموت فناء أبدياً أو يخشى مراحل من الجزاء والعقاب، ولكن إذا ارتحلنا من الدنيا ونحن في سلامة من ديننا في الجبهة أو خلف الجبهة والذي يعتبر فعلاً جبهة للحرب والشهادة. وإذا فزنا بالشهادة، فلن نهاب الهزيمة الظاهرية في هذا البحر اللجي من العالم، أو النصر الظاهري"[5].

 

فالذي يبذل نفسه وروحه في سبيل الله سبحانه وتعالى قد تجاوز كل هذه الأمراض بمراتب، تجاوز من مرحلة الخوف من الموت إلى مرحلة اقتحامه، كما كان يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): "والله لا يبالي ابن أبي طالب أوقع على الموت أم وقع الموت عليه".

 

يقول الإمام الخميني (قدس سره): "لا يمكن للشعب الذي يتمنّى الشهادة أن يشعر بالخوف".

 

"ممَ يخاف أهل بلد إذا كانوا كلهم يقظين وعلى استعداد للشهادة؟ ممَ يخافون؟!".

 

"هذا الشعب الذي يطلب الشهادة ويدعو الله أن يرزقه الشهادة لا يخشى التدخّل العسكري ولا الحظر الاقتصادي"[6].

 

"الشعب الذي يعشق رجاله ونساؤه الشهادة ويهتفون بها، لا يمكن أن يتأوّه من نقص في بعض الموارد الاقتصادية، هذا الأنين لا يرفعه إلا المتعلقون بالمادة، وأما أولئك الذي يعشقون ربهم، لا تثنيهم الزيادة أو النقص ولا يؤلمهم ارتفاع الأسعار أو انخفاضها. هذا الذي يسير قدماً نحو الشهادة، لا يهتم إذا أعلمته بأن اللصوص قد سرقوا أمواله وارتفعت أسعار المواد الضرورية، إنه لم يذهب لجمع الغنائم، ذلك لأن غنيمته أبدية ولا تراجع فيها"[7].

 

"الشعب الذي يتفجّر عشق الشهادة من قلب امرأته ورجله، صغيره وكبيره، ويتسابقون نحو الشهادة، ويفرّون من الشهوات الحيوانية والدنيوية، ويعتقدون بعالم الغيب والرفيق الأعلى، لا يخرج من الميدان ولا ينعزل مهما كبرت خسارته"[8].

 

الشهادة لا تغيّر الأعمار:

 

﴿يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾[9].

 

إن القرآن الكريم يعطينا تصوّراً يخالف كل التصوّرات الموجودة في أذهان الكثير من الناس، الذين يتصوّرون أن الشهادة تقصر من عمر الإنسان، حيث يؤكّد أن الشهادة لا تقصر في عمر الإنسان حتى على المستوى الدنيوي، فلا البعد عن الجبهات سيؤخّر موتهم ولا تواجدهم في خط النار سيعجّله. إذاً فحتى على المستوى الدنيوي لن يخسر الشهيد شيئاً.

 

وهذا ما أكدته الروايات أيضاً:

 

فعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "إن الفار لغير مزيد في عمره، ولا محجوز بينه وبين يومه".

 

4) الشهادة سلاح:

 

يقول الإمام الخميني (قدس سره): "لا يمكن لأيّة قدرة مواجهة الشعب الذي يقف نساؤه ورجاله على أهبة الاستعداد للتضحية بالنفوس، مصرّين على الاستشهاد".

 

فاختيار الشهادة يعتبر أهم سلاح يملكه المجاهد ويغيّر فيه المعادلات، إن هذه الدماء هي التي طالما تغلّبت على كل أسلحة وأدوات الطواغيت.

 

يقول الإمام الخميني (قدس سره): "إن دماء شبابنا تغلّبت على البنادق".

 

ويقول أيضاً (قدس سره): "بقتل شخص مهما كان هذا الشخص كبيراً لن تتراجع الأمة، وستبقى اليد الإلهية ممدودة لتصنع من شهادة الشهيد موجاً عارماً، يحيينا من جديد، ويعطي للإسلام حياة جديدة"[10].

 

إن نقطة ضعف العدو مهما كان مجهّزاً بالسلاح ومهما كان عاتياً وظالماً هي الشهادة وطلب الشهادة، فطريق الشهادة كان على الدوام هو الذي يكسر شوكة المتكبرين ويفضح ضعفهم وزيفهم، يقول الإمام الخميني (قدس سره): "مثل هذه الشهادات تضمن النصر، وتفضح أعداءكم حتى ولو كان العالم يؤيّدهم"[11].

 

ويقول أيضاً: "هنيئاً الشهادة لشهداء الثورة الإسلامية، وبالأحرى شهدائنا الذين سارعوا إلى رحمة الله على أيدي أقذر الأعداء وألدّهم وقد جلبوا العزّة للإسلام والعار والخزي الأبدي لأعداء الشعب الشريف"[12].

 

5) الشهادة والنصر:

 

لا شك أن الأسلحة المادية تملك دوراً في الحرب على صعيد القدرة وسعة اليد، وعلى صعيد زيادة رصيد القوة، ولا شك أن كفاءة المقاتل أيضاً لها دورها في حجم التضحيات التي يضطر الإنسان لتقديمها في ساحة المعركة، والخسارة التي يمكن أن يتكبّدها، ولذلك أمر القرآن الكريم بالاهتمام بهذا الجانب ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ...﴾[13]. كل ذلك مهم يؤثر على طبيعة المجريات، وكيفية ومن حسم المعركة.

 

ولكن الأهم من ذلك كله روحية اليد التي تحمل هذا السلاح أو تمرّست على تلك الكفاءة. هذه الروحية هي التي تملك عنصر الحسم في المعركة مهما كانت المعادلات المادية، وهذا ما أكّده الإمام الخميني (قدس سره): "لا يمكن لأية قدرة مواجهة الشعب الذي يقف نساؤه ورجاله على أهبة الاستعداد للتضحية بالنفوس، مصرّين على الاستشهاد".

 

"أنتم المتنصرون لأن الله معكم، أنتم الأعلون لأن الإسلام حاميكم، أنتم الغالبون لأن الإيمان رأس مالكم ولأنكم احتضنتم الشهادة، وأما أولئك الذين يخشون الموت والشهادة، فهم المهزومون حتى ولو كان لهم جيشاً عظيماً"[14].

 

"الشعب الذي تعتزّ أمهاته وأخواته الباسلات بموت أبنائهن الأبطال، الذين هم في صف الشهداء، منتصر لا محالة"[15].

 

فالمعادلات المادية ليس لها الكلمة الأخيرة في المعركة، وهذا ما يؤكّد عليه القرآن الكريم ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ﴾[16]، ولا يستثنى من ذلك المسلمون، كما حصل في حنين ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ﴾[17].

 

فعندما تغيّرت الروحية تغيّرت نتائج المعركة رغم كل المعادلات المادية.

 

إن الروحية التي إذا امتلكها المجتمع حسم المعركة لصالحه هي روحية الشهادة، فإن هذه الروحية لا يمكن أن تجتمع مع الهزيمة، حتى على المستوى الدنيوي.

 

يقول الإمام الخميني (قدس سره): "إن الشعب الذي يتمنّى الشهادة منتصر لا محالة".

 

ويقول أيضاً: "إنكم منتصرون لأنكم عانقتم الشهادة، أما أولئك الذين يخافون الشهادة والموت فهم مهزومون".

 

لأننا من خلال حبّ الشهادة والإقبال على الموت، نحوّل أهم نقطة ضعف في المعادلات المادية إلى أعظم قوة، بشكل يقلب المعادلات كلها.

 

وهذا ما أكّدته التجربة أيضاً، يقول الإمام الخميني (قدس سره) الذي عايش التجربة مخبراً عنها: "إن حسّ السعي في طلب الشهادة والفداء هو الذي أدّى إلى انتصار الشعب الأعزل على الطاغوت".

 

"أيّها الشهداء العظام، ويا شهداءنا الأكارم الأحياء، لولا جهادكم المتواصل وجهاد إخوانكم وأخواتكم الأجلاء في الجبهات وخلف الجبهات بإخلاص، حيث رزقكم الله عناياته الخاصة، لما كان بإمكان أي قدرة وأي عتاد عسكري إنقاذ الجمهورية الإسلامية، بلدكم العزيز الذي تصافح الغرب والشرق وأذنابهم وتعاضدوا من أجل إغراقه في هذا البحر اللجّي الهائج. لم يعرف أولئك الذين أعمى الله بصيرتهم وسلبهم من المعنويات بأن هذه سفينة نوح وربّانها الله"[18].

 

ـــــــــــــــــ

 

[1] صحيفة النور، ج8، ص257.

 

[2] صحيفة النور، ج15، ص145.

 

[3] سورة التوبة، آية / 52.

 

[4] صحيفة النور، ج13، ص213.

 

[5] صحيفة النور، ج14، ص226.

 

[6] صحيفة النور، ج12، ص138.

 

[7] صحيفة النور، ج19، ص126.

 

[8] صحيفة النور، ج16، ص48.

 

[9] سورة آل عمران، آية / 154.

 

[10] من كملة له ألقاها بتاريخ (15/2/58 هجري شمسي).

 

[11] صحيفة النور، ج17، ص62.

 

[12] صحيفة النور، ج15، ص112.

 

[13] سورة الأنفال آية / 60.

 

[14] صحيفة النور، ج16، ص58.

 

[15] صحيفة النور، ج2، ص12.

 

[16] سورة البقرة، آية 249.

 

[17] سورة التوبة، آية 25.

 

[18] صحيفة النور، ج19، ص97.