مقابلة مع سماحة الشيخ نعيم قاسم‏

 

حوار: ولاء إبراهيم حمود

 

لقد أنسانا الإمام غربتنا، عندما حقق حلم الأنبياء.

 

كلَّما هلَّ فجرُ انتصار الثورة الإسلامية في إيران، أو فجر انتصار المقاومة في جنوب لبنان، يعود إلينا جميعاً ومن ضفاف العرفان، بيديه الكريمتين.. بسهر عينيه العابدتين، بإطلالته المهيبة من مسجد جمران... ببساطة كرسيه البيضاء التي أذابت ببساطتها قوائم عرش الشاه «الذهبي»... ويعود إلينا السؤال: ما الذي كان يملكه الإمام حتى استطاع أن يوقظ أمة المليار مسلم؟ كيف استطاع بحركة يده البسيطة وهي تحيي الجماهير أن يقلب عرش الطاغوت.. أن يخلع ريش الطاووس؟ بماذا اختلف عن الجميع حتى اخترق كل النسائج «المخملية» في إيران الشاه... وفي لبنان «سويسرا الشرق» ويعيد الحياة فيهما وسواهما إلى زمن محمدٍ (ص) وعلي (ع) حيث سعادة الدارين وكرامة ما بينهما؟‏

 

في ذكراه حملت هذه الأسئلة وأسئلة غيرها إلى سماحة نائب أمين عام حزب اللَّه الشيخ نعيم قاسم الذي عرفه عن كثب وتشرَّف بلقائه عدة مرات. صارحني الشيخ في إجابته: «إن الإمام (قده) مزج بين الفكر والروح بطريقةٍ حميمة، جعلت من طرح الإسلام طرحاً متكاملاً»... حدَّثني سماحة الشيخ عن عبادات الإمام وروحانيته. حدَّثني عن صلاة ليله التي استمرت زهاء سبعين عاماً ولم يقطعها مرض أو يوقفها انشغال، منذ فترة البلوغ... حتى لحظة الوصال. حدَّثني عن تركيزه على كل جوانب الحياة بشكلٍ متوازٍ، لم يغفل جانباً لحساب آخر... وحدَّثني عن قضايا أخرى في هذا الحوار.‏

 

* ما الذي أبقته السنوات في الذاكرة، من أثر اللقاء الأول بالإمام الخميني (قده)، وهل اختلفت صورته عندك، بعد اللقاء، عمَّا قبله؟‏

 

تعرَّفت على شخصية الإمام (قده) من خلال وسائل الإعلام، وكتاباته المختلفة، ونجاحه المميز، في قيادة الثورة الإسلامية في إيران. وكنت كلما ازددت به عبر هذه القنوات معرفة، أشعر أنني أمام‏

 

شخصية فريدةٍ، لم أعايش مثلها، ولم اطلع على مثل منهجها، من خلال اطلاعي على مختلف النشاطات الإسلامية في الحقبة التي سبقت الإمام. ما زالت ذاكرتي تحتضن تفاصيل اللقاء الأول بيني وبينه «رضوان اللَّه عليه» حيث تشرَّفت بإطلالته في حسينية جمران، مع وفد من لبنان، في إطار أحد احتفالات عيد الغدير، يوم تنصيب أمير المؤمنين علي (ع). وهناك كان يشدني النظر إليه وإلى حركاته وكلماته، حتى شعرت أن أي لحظة يمكن أن تمرَّ دون أن أنظر إليه، أو أسمعه، ستكون خسارة كبرى. ولعله اللقاء الأول الذي شعرت خلاله بكل جوارحي أنني لم أفارقه، لدرجة لم أشعر معها أن اللقاء قد انتهى وأن علينا أن نغادر المكان. وربما كان المثال الذي أستشهد به في لقاءاتي وخطبي، أهم ما احتفظت به ذاكرتي من ذاك اللقاء، حيث قال للحاضرين ما معناه: إن قوة علي ليست في نوعية سيفه القاطع، ولا في العضلات المفتولة، ولكنها في استخدامه سيفه والعضلات في سبيل اللَّه تعالى فما برز يوماً إلا لمرضاته سبحانه وتعالى. ثم تشرَّفت بعد ذلك برؤيته في عدة لقاءات، بعضها كان خاصاً بحزب اللَّه وبعضها عاماً، من خلال بعض الوفود والمؤتمرات. ولا أستطيع الآن أن أصف كيف كان يمتلك قلبي وعقلي بشكل مباشر كنت أشعر معه أن كل واحد من هذه اللقاءات فيه فكرة جديدة، زادٌ جديد.‏

 

أنا لا أخفي أنه كانت له في قلبي محبة لا توصف، وأنه الآن بالتأكيد بات الرمز والقدوة لي. شعرت وما زلت بإبداعه الأفكار التي كان يقدمها لنا بطريقةٍ تسحر الألباب وتدخلنا إلى المعنى الحقيقي الذي نحتاجه.‏

 

 * ما الجديد الذي حمله كبير الأُمة إلى أمتنا، على المستوى الفقهي والثوري، وسائر المفردات التي أطلقها موقظ الفجر الإسلامي (قده)؟‏

 

فتح الإمام الخميني أبواباً لم تكن مفتوحة من قبل، جعلنا نشعر بحياة النبي والأئمة. لقد أنسانا غربتنا التي نعيشها في حملنا للإسلام في الزمن المعاصر البعيد عن طاعة اللَّه والالتزام. دخل إلى مفردات حياتنا فغيَّرها، وجعلنا نعيش معه في أفكارنا وعواطفنا وسلوكنا. لقد شكّل محطة تاريخية هامة في حياة الأمة، يمكننا أن نؤرخ بفترة ما قبل الإمام وما بعده وما بينهما. بدءاً من المدرسة الفيضية وانتهاءً بإقامة الدولة الإسلامية المباركة إلى رحيله، فترة زاخرةٌ، مفصلٌ تاريخي جوهري أثّر على الأمة كلها، ما جعلنا نعيش معه جميعاً القدوة. وبالنسبة إليّ فأنا لا أشبع من ملاحقة سيرته، وأستطيع القول، إن الإمام (قده) قد أثر بي منهجه وسلوكه، فكلَّما أعجزتني مسألة أو شعرت بأنها على درجة من الغموض، ولا يمكن الاستفادة من الروايات أو الآيات بشكلٍ دقيق، رجعت إلى الإمام لأجد مطلبي، والتوجيهات الحقيقية، إذ إن الإمام لم يترك شيئاً إلا وتحدث عنه، خاصة أنه واكب الشعب الإيراني وحركته في كل المواقع السياسية والاجتماعية والأخلاقية والتربوية والدينية، وهذا ما جعله موسوعة تطبيقية وليس موسوعة نظرية فقط.‏

 

* لندخل في تفصيل أكبر، كيف كان واقع المسلمين الثقافي قبل الإمام (قده) وما هو الميراث الفكري الذي تركه لنا قبل رحيله؟ ماذا عن أبرز المرتكزات التي أرساها؟‏

 

أستطيع القول إن الإمام الخميني (قده) أحدث انقلاباً في الحركة الثقافية وفي نمط التفكير في داخل المجتمعات الإسلامية بشكلٍ عام. وقد بدأ الأمر بإيران ثم امتد إلى مناطق عديدة في العالم، ونتلمس هذا الأمر من خلال عدة مفردات:‏

 

أولاً: كان السائد في منطقتنا هو الاهتمام الثقافي البعيد عن الحركية السياسية والمجتمعية، إذ كان التركيز على أسلوب الوعظ والإرشاد والبناء العقائدي، لكن لم يكن هناك اهتمام بالحكم ولا بالمواقف السياسية ولا بشؤون المجتمع بشكلٍ عام. حتى أن بعض الأحزاب الإسلامية كان يتحدث عن المرحلية، فيعتبر أن المرحلة الأولى هي المرحلة الثقافية، أما السياسية فتأتي لاحقاً. والذي أحدثه الإمام الخميني هو هذا الدمج غير القابل للانفكاك بين المسألة الثقافية والمسألة السياسية وهو صاحب القول المشهور: «ديننا عين سياستنا وسياستنا عين ديننا». وهذه رمزية تدل على أن الإمام (قده) لا يقبل الثقافة لمجرد الثقافة، إنما يريدها لتحريك الحياة، لأن الإسلام دين الحياة والدولة والفرد والمجتمع والدنيا والآخرة.‏

 

ثانياً: استطاع الإمام (قده) أن ينزع من الواقع الإسلامي فكرة الانهزام، وثبت فكرة القوة المعنوية والانتصار وشحذ الهمم باتجاه أن التغيير لا بد أن يحصل، وأن النصر لا بد أن يأتي، وأن عملنا يجب أن يكون مطمئناً، وبثَّ في الأمة الشجاعة. وقد أصبحتْ ببركة توجيهاته تعيش حالاً من الاندفاع والجرأة والثقة بالنفس لم تكن تعيشه من قبل. وتجاوزت الكثير من الحسابات المادية المحبطة باتجاه التغيير.‏

 

ثالثاً: أن الإمام بثَّ الروح الجهادية فأصبحنا نعيش الجهاد كمفردة يومية وطبيعية كالصلاة تماماً التي فرضها اللَّه من دون أن تكون لحظة استثنائية أو حالة خاصة، فتحول الجهاد إلى مفردةٍ نحياها يومياً في إيران ولبنان والمنطقة، وهذا المعنى الجهادي التطبيقي والعملي لم تكن تعيشه الأمة من قبل، مع أنها كانت قبله، تمتلك آيات الجهاد ورواياته وتتغنى بها.‏

 

رابعاً: أبرز الإمام (قده) الشخصية الإسلامية، التي تؤدي التعبير الحقيقي لما أراده الرسول والأئمة الأطهار. كان (قده) يستخدم دائماً تعبير الإسلام المحمدي الأصيل، حتى يميزه عن تلك الشكليات التي تهتم بالمظاهر، وتبتعد عن التطبيق. إن طرح الإمام أعطى الإسلام المعاصر النقاء الذي استطاع أن يفرض نفسه حتى مع الأعداء الفكريين وهنا أستعير عبارة الإمام الشهيد محمد باقر الصدر (قده)، عندما قال بأن الإمام الخميني حقق حلم الأنبياء، وهذا تعبير دقيق جداً، وله تعبير آخر يتحدث فيه عن ضرورة أن نعطي كل ما عندنا لمنهج الإمام عندما قال: «ذوبوا في الإمام الخميني كما ذاب هو في الإسلام»، فهو أي الإمام الصدر (قده)، لم يرَ تمييزاً بين شخص الإمام وكل تعاليم الإسلام الحقيقية الحية، لذا اعتبر أن الذوبان في الإمام هو ذوبان في الإسلام، لأنه (قده) جسَّده، بكل أبعاده.‏

 

* ماذا أعطى الإمام الخميني (قده) للمرأة؟ وهل استطاعت بنات الزهراء (ع) الاستفادة من حفيدها(قده)؟‏

 

اشتهر الإمام الخميني (قده) بنظرته الإسلامية الثاقبة للمرأة وبوقوفه إلى جانبها، ليرفع حيفاً لحق بها، بسبب التفاسير الخاطئة للإسلام. لقد كانت نظرته لها نظرة احترام وتقدير فلها المكانة الحقيقية من خلال شخصية السيدة الزهراء (ع) وهو يصفها (ع) بأنها نموذج الإنسان الكامل. وبعد مراجعتنا لتوجيهاته، نلاحظ أنه يخاطب النساء في إيران خطاب الواثق بقدراتهن، وهو ينسب نجاح الثورة إليهن، ويعتبر أنه لولا الزينبيات من النساء، لفقدت الثورة أحد أهم إمكانيات نجاحها. وقد كان يرى أن وجودهن في الساحات أهم من وجود الرجال أحياناً وهو يجعلها كالقرآن في مهمة صنع الرجال بل ويؤكد على حقوقها المساوية للرجل في التعليم والعمل وإبداء الرأي، والوصول إلى مراكز اجتماعية وثقافية مختلفة. أعتقد أن ما تحدث عنه الإمام (قده) وما أعطاه للمرأة فاق كل ما تحدّث عنه علماؤنا السابقون، فهو من شجعها على المشاركة السياسية، فطابع المظاهرات في إيران في التصدي للشاه، كان نسائياً بامتياز، وهذا ما انعكس أيضاً وبفضل الإمام الخميني (قده) على لبنان حيث أخذت المرأة الدور الأساسي في صد العدوان الإسرائيلي، وتحقيق النصر للمقاومة.‏

 

حتى في مسألة وصول المرأة إلى مرحلة الاجتهاد الفقهي، لم يمانع الإمام أبداً فهي تستطيع أن تكون على درجة عالية من العلم وهو أمرٌ مسموح ومتاح. ولا يمكننا التعميم حول الاستفادة الشاملة للمرأة من نهج الإمام والفُرص التي قدمها لها، حيث نستطيع القول: إن بعض النساء استفاد من توجيهات الإمام الخميني، وتقدَّم خطوات إلى الأمام والبعض الآخر لم يوفق لذلك، بسبب عدم الاطلاع الكافي وعدم بذل الجهد التام للتعبير. لا أستطيع أن أطلق حكماً عاماً، لأن الأمور متفاوتة بين السلب والإيجاب.‏

 

ما هو السؤال الجوهري الذي يفترض أن يطرح بعد رحيل الإمام، ولمن توجهه سماحة الشيخ؟‏

 

أنا أسأل أولئك الذين لم يتعرفوا على فكر الإمام الخميني (قده) ولم يدرسوه بشكلٍ جيد، كيف سيقابلون اللَّه سبحانه وتعالى وقد حملوا قناعاتهم وآراءهم وأفكارهم بطريقة بعيدة عن التعرف على الإمام وفكره، ما جعلهم يخسرون الكثير من هذا النبع الفياض، لمجرد العصبية أو المذهبية أو الاختلاف غير المبرر؟ أدعو هؤلاء إلى قراءة فكر الإمام بعمق والتعرف على هذه الخبرات الموجودة في فكره، ومقارنتها بما لديهم ليجدوا بهذه المقارنة الجواب الشافي، وسؤالي هو: لماذا لا يقرأون ولا يدرسون ولا يطلعون على هذا النتاج العظيم، ليوفروا عليهم عناء التجارب في الحياة وصعوبة السؤال يوم القيامة؟‏

 

لم تكن هذه كل المواضيع التي حملتها إلى سماحة الشيخ الذي كان جاهزاً للإجابة عن كل سؤالٍ في أي موضوع، حول هذه الشخصية العظيمة، التي ندين جميعاً لها حتى آخر وليد لآخر جيل من أجيالنا، بيقظتنا بعد طول سباتٍ ونهضتنا بعد طول رقاد. لنسلك دروباً أنارها لنا بهديه وذلَّل صعابها بجهده، كي نصل حيث يرضى اللَّه إلى محجةٍ بيضاء، لا نصب فيها ولا عناء، وقد وضعها أمام أجيال الحياة كلها يوماً جدُّه العظيم أمير المؤمنين (ع) هدفاً للوصول. لملمت أوراقي وأنا أستعيد أصداء السؤال الأخير الذي طرحه نائب الأمين العام لحزب المقاومة المنتصرة بالولاء لهذا الخميني العظيم، ولم يمنعني ضيق الوقت وسرعة الانصراف من الإحساس بأننا نحن الذين نواليه على حب. ونسعى خلف خطاه معنيون أيضاً بشكلٍ أو بآخر بإعادة التعرف على فكر الإمام، وإعادة قراءته بعد مضي هذه السنوات على رحيله، كي لا نكون نحن أكثر خسارةً من سوانا عندما نكتفي بما فهمناه منه في حين تتطلب منا مواجهاتنا التي نبهنا إليها (قده) الكثير من الوعي للنهل من المعين الصافي للإسلام المحمدي الأصيل الذي فجر فينا ينابيعه رجلٌ من قم فبعث فينا الحياة سلام اللَّه عليه إماماً ومنارة زادها الموت حياة وضياء.