الإمام الخامنئي (دام ظله:

 

بسم الله الرحمن الرحيم‏

الآن إذ تعد للنشر ثانية المجموعة القيمة من الأحاديث الهادية والمرشدة لمعلمنا ومرشدنا وإمامنا الكبير، من المناسب أن تسجل كلمة- وإن كانت موجزة ومتواضعة- حول هذه الشخصية الفريدة المجددة حياة الإسلام حقاً في هذا العصر.

في كل نقطة من العالم، متى ما خطا إنسان بوحي من العلم والعقل والفكر السامي، أو الزهد والتقوى والإيمان الراسخ، أو الشهامة والشجاعة والهمة العالية، أو الفطنة والحنكة والوعي السياسي، في طريق عمل عظيم، وتابع هدفه المقدس بصبر وثبات؛ لا شك في أنه سيقود بلده وشعبه واحياناً الإنسانية إلى تحقيق مفاخر عظيمة وتقدم خالد، فكل الذين وجدوا موقعاً لهم بين مشاهير التاريخ، كانوا قد اتسموا ببعض هذه السمات.

بيد أن المعلم الفذّ في عصرنا الحاضر، ألا وهو الإمام روح الله الخميني، كانت تتجلي فيه كل هذه السمات مجتمعة، بمستوى بعيد المنال قليل النظير في اغلب الأحيان، إذ كان عالماً ورعاً، وعاقلًا متقياً، وحكيماً مدبراً، ومؤمناً مجدداً، وعارفاً شجاعاً وواعياً، وحاكماً عادلًا، ومجاهداً مضحياً.

كان سماحته فقيهاً واصولياً وفيلسوفاً وعارفاً، ومعلم أخلاق، وأديباً وشاعراً، وقد تربع سنوات طوالًا على ارفع مقاعد التدريس، واستحوذ على اهتمام أبرز وأشهر المجامع العلمية في الحوزة.

فقد امتزجت خصوصياته الذاتية البارزة مع ما نهله من المعارف القرآنية وزين به قلبه وروحه، فصنعت منه شخصية عظيمة وجذابة ومؤثرة بنحو تبدو إزاءه كلّ شخصية من الشخصيات البارزة في القرن الأخير الذي يعد قرن الرجال العظام والمصلحين الدينيين وكبار السياسيين والاجتماعيين، هامشية وقليلة الجذابية وأحادية الجانب.

فالعمل الذي كرّس له همّته، واستطاع انجازه بإيمانه وتوكله ودرايته وصبره، كان عظيماً ومدهشاً ويبعث على الإعجاب بالدرجة ذاتها أيضاً.

إذ كانت شخصيته الفذة والساطعة، محط الأنظار وفريدة في مختلف مراحل حياته السياسية، سواء يوم دعا بوحي من موقعه، وهو مرجع ديني في مدينة قم، إلى مقارعة النظام البهلوي‏ العميل الفاسد وحماته المستعمرين الأمريكيين، ووضَعَ ظلم واستبداد الشاه وأعوانه وكنزهم للأموال ومحاربة الدين، في مهب إعصاره الغاضب.

وكذلك حينما استطاع، بعد نضال مرير زاخر بالمحن على مدى خمسة عشر عاماً، وبفضل الجهاد العظيم للشعب الإيراني، تأسيس النظام الإسلامي واجتثاث جذور النظام الخائن والفاسد والوضيع.

وفي كل ذلك تجلى صرح الإيمان والشجاعة والتضحية ذاته في وجوده القيم جنباً إلى جنب مع عمق الحكمة والدراية والعقلانية.

لقد كان يعرف إيران جيداً: فمن جهة كان يدرك موقعها الجغرافي الحساس والمصيري، ويعي جغرافيتها السياسية ومواردها الطبيعية والإنسانية، ويحيط بتطلعاتها وأهدافها وآمالها الكبيرة، ومن جهة أخرى كان محيطاً بتاريخها على مدى المئة والخمسين عاماً الأخيرة الزاخر بالمحن، وابعاد هيمنة الأجانب ونهبهم لثرواتها، وخيانة وفساد واستبداد الأسرة البهلوية وآلاف الأسر المرتبطة بها، وما فُرض عليها من فقر وتخلف علمي وصناعي وأخلاقي و .. وأهم من ذلك كلّه إدراكه لروحية شعبها العظيم والأصيل والرشيد والمؤمن.

كما أنه كان على اطلاع بأوضاع العالم والشعوب المستعمرة والدول المستكبرة والجيل الشاب التائه الحيران والمتعطش للحقيقة، ولاسيما الأوضاع المؤسفة للدول والأمة الإسلامية. وكان يتألم لكل ذلك. وكانت القضية الفلسطينية ومعاناتها المؤلمة تعتصر قلبه الكبير.

إن شعور سماحته بالواجب الديني هو الذي دفعه للنزول إلى ساحة النضال الكبير والتأريخي، التي لم يطأها مطلقاً غير رجالات التأريخ الاستثنائيين، ولم يخرج منها منتصراً سوى عدة معدودة.

كان سماحته يفكّر بإنقاذ إيران من قبضة النظام الفاسد الذي فرض عليها التخلف والانحطاط والفقر الاقتصادي والأخلاقي والعلمي، وقد رأى في العودة إلى الإسلام وإقامة نظام الإسلام السياسي وحكومة القيم الإلهية، السبيل الوحيد لتحقيق ذلك.

وبشقه لهذا الطريق، وضع النموذج الحي بين يدي الأمة الإسلامية وأسّس نهجاً جديداً في العالم الإسلامي كان من أولى معطياته المباركة إحياء الهوية الإسلامية في أوساط المسلمين.

بدأ نضاله منذ الخطوة الأولى باسم الله وبمساعدة شرائح المجتمع الواسعة .. تحدث إليهم ودعاهم لمناصرته بإيمانهم وعقولهم وهممهم، لم يتوجه إلى الأحزاب والتنظيمات صاحبة الادعاءات قط، بل كان ينظر إلى دوافعها وأهدافها نظرة شك وريبة في الغالب، واشاح بوجهه عن سجالاتها ومساوماتها السياسية.

تحدث إلى الجماهير بصدق وإخلاص دائماً، ووضع- شأنه شأن المعلم البصير والمرشد الخبير- عقله وحكمته ومعرفته تحت تصرف الاتباع في مسيرة النضال الشاقة.

ولما انتصر نضال الشعب الإيراني وسط حيرة العالم ودهشته، وقَبلَ الشعب الإيراني بأسره قيادته وزعامته من الأعماق، أوجد بفكره وسلوكه أعظم تحول في التاريخ السياسي لهذا البلد، أي استبدل الملكية التي كانت تجسيداً لحكومة الظالمين والناهبين الدوليين المستبدة، بـ (الامامة) التي تمثل مركز الحكومة الإلهية والشعبية لعباد الله، وزيّن اقتداره وصلابته بالعدل، ونوّر امتيازه‏ وتفرّده بالعبودية والتواضع، وعالج تمكّنه وقوته بالزهد والتقوى، فَلَمْ يتخلّ لحظة عن طريق الله وعبودية الله.

ولأنه حمل على عاتقه عب‏ء الأمانة الجسيم، ضاعف من مراقبة روحه.

إن كلامه النابع من القلب، وقلبه الذاكر الخاشع، وسلوكه المستلهم من الدين، أفاض بنبع متدفق من المعرفة والحكمة والتدبير الإلهي، على فكر وعقل الشعب الإيراني الذي كان يعشق إخلاصه ومعنويته.

فكان الزاد والمعين لرجال الدولة والمسؤولين وأبناء الشعب في مواجهة الكم الهائل من الدسائس والعداوات، وإيجاد الحلول لجبل من المشكلات المفروضة.

والسنوات العشر الأخيرة من حياة الإمام الكبير المباركة، تمثل بحق مرحلة تأسيس نظام الإسلام السياسي، وإحياء الهوية الإسلامية لدى مسلمي العالم، واهتزاز راية الإسلام في بلدنا، مرحلة استقلال إيران وحريتها، وعزة الشعب الإيراني ومفاخره الوطنية ونهضته غير المسبوقة نحو الرقي والتكامل، مرحلة عزة إيران على الصعيد العالمي، وتأثيرها في القضايا الدولية، مرحلة انطلاقة نهج جديد في تاريخ بلدنا، وبمواصلة ذلك ستحقق إيران الإسلامية تقدمها المادي والمعنوي.

لقد رسم الإمام الحكيم المحُنك، معالم هذا الطريق، ولفت إليها الأنظار بوضوح في العشرات من المناسبات بمئات التوجيهات والإرشادات الفاعلة الموجهة لمسؤولي البلد وأبناء الشعب الإيراني بأسره.

وهذه المعالم والتوجيهات تحمل اليوم القدر نفسه من القيمة والمتانة والفاعلية، والحكومة والشعب الإيراني بأمسّ الحاجة إليها لمواصلة مسيرته المليئة بالمطبات، صوب الفلاح والتقدم المادي والمعنوي.

تصدر هذه المجموعة من المواعظ والحكم، التي تُلقي في الوقت نفسه الضوء على تاريخ الثورة الإسلامية والسنوات العشر التي أعقبت انتصار الثورة والأحوال التي مّرت بها البلاد آنذاك خاصة، تصدر بمناسبة الذكرى المئوية لولادة رجل التاريخ الأوحد، وفي عام يفخر بحمل اسمه، ونأمل أن تحظى باهتمام الجميع واستفادتهم.

كل التحيات لروحه السامي، وشوق إلى حضرة بقية الله- أرواحنا فداه- وسلام عليه.

السيد علي الخامنئي