المقدمة

{وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ...﴾، ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ....﴾.

بين شهر رمضان وبين الثورة لقاء في أكثر من جانب. فشهر رمضان ثورة للنفوس على ماضيها وواقعها، هو تحدّي لأمراض عشعشت في قلوب الناس، هو انقلاب لواقع النفس البشريّة المبتلاة برين الذنوب والغفلة والجهل والتجاهل و... ، هو شهر الفقراء والمستضعفين، هو شهر عباد الله، هو شهر خير من ألف شهر، شهر تتنزّل الرحمات الإلهيّة فيه من كلّ صوب، هو شهر الفيوضات الربّانية على الناس أجمعين.

والثورة الإسلاميّة كالشهر المبارك. ثورة للنفوس على ماضيها وواقعها، ثورة حطّمت أركان عاد وثمود وفرعون الّذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، هي تحطيم لأسطورة القوى المستكبرة الّتي لا تقهر، هي ثورة لنفوس الفقراء والمستضعفين التي حاول الاستكبار بجبروته وخيلائه أن يحطّمها وأن يستعبدها قبل الأبدان والأوطان، هي ثورة الخير كلّه، خير الدّنيا والآخرة، فكانت الفيوضات الإلهيّة فيها كتلك الفيوضات الإلهيّة الرمضانيّة. هي ثورة خير من ألف ثورة وثورة، هي تحقّق لآمال ودعوات وأفكار عشنا لها منذ ألف سنة أو تزيد. هي سوط العذاب الإلهي على الظالمين والمستكبرين.

فلا غرو أنّ التقاء الفجرين فجر جديد لنا وأمل جديد نعيش له. فهنيئاً لنا جميعاً الفجر السادس عشر لثورة النور والإيمان.

ثورة المستضعفين .. تبقى متميّزة

  التجربة الإسلاميّة في إيران وضعت التاريخ البشري على مسار جديد. فلأوّل مرّة في تأريخ هذا الكوكب تتفجّر ثورة شعبيّة بهذا العمق والمساحة والأبعاد. ولأوّل مرّة كذلك يزحف المستضعفون والمحرومون على الطغاة بهذا الشكل، ويواصلون الزحف حتّى يعصفوا بوجودهم.

فقد ألف الإنسان وبالأخص إنسان هذا العصر ـ وهو عصر التحوّلات السياسيّة الضخمة ـ أن يسمع أنباء تغيير الحكّام من خلال العمل الّذي يباشره العسكر، وإن كانت تسبقه أحياناً مظاهر سخط شعبي: من تظاهرات واضطرابات واحتجاجات وسواها.

وهذه الصيغة من التحوّلات السياسية قد فقدت بريقها وقيمتها، ولم تعد تثير اهتمام الشعوب، بعد أن جرّبتها كثيراً فيئست من عطائها الّذي يقف عادة عند حدود الكلام والشعارات. هذا إذا لم تكتشف الشعوب أنّ مسألة تغيير الحكام بحكّام جدد على ما يصحبه من ضجيج وبيانات حماسيّة، وكلمات معسولة، ووعود خداعة ـ مسرحية معدّة سلفاً أجاد النفوذ الأجنبي صياغة أدوارها وتمثيلها على خشبة المسرح، لكي يعطي لوجوده عمراً أطول.

على أنّ الثورة الإسلاميّة في إيران قد خالفت المألوف من الثورات، ولعلّ أولى مزاياها أنّها جاءت من القاعدة. من جماهير المستضعفين العريضة. فقد اشتركت فيها كلّ القطاعات الشعبيّة، وتأتي في الطليعة القوى العاملة والفلاحون والطلبة والمثقفون والعلماء وكثير سواهم.

والميزة الثانية فيها: اعتماد جماهيرها على قوتهم الذاتية، فلم تدعم الثورة لا من قوى عالمية ولا من قوى المنطقة، بل العكس هو الّذي كان قائماً، فحكومات المنطقة والقوى العالميّة مجمعة على عدم الرضا عنها إن لم نقل محاربتها، فهي من الثورات غير المسموح بها في عرف النفوذ الأجنبي المهيمن فيما يسمّى بالعالم الثالث.

وحتّى الدول الّتي تسمي نفسها نصيرة للشعوب أو مهتمة بقضايا الثورات الشعبيّة وقفت منها موقفاً متحيزاً لصالح الطغاة كما هو الحال في موقف الصين الشيوعيّة أثناء الثورة ـ كما ترجمته زيارة نائب رئيس وزرائها لبلاط الشاه ـ وليس عجباً أن تجمع حكومات المنطقة على دعم الشاه في آخر أيّامه. فالتصريحات من قبيل: «الشاه باق.. باق» كانت تردّدها الشافه المرتجفة كلّ يوم تقريباً قبل رحيل الشاه.

.. قد يقال مثلاً إنّ الثورة الإسلاميّة كان لها نظير في الماضي، الماضي القريب، والمقصود بذلك الثورة الفرنسيّة والثورة الروسيّة والثورة الصينيّة، غير أنّ هذا التصوّر غير دقيق اطلاقاً. فالثورة الفرنسية لم يشارك فيها غير سكان مدينة باريس فقط، أمّا مدن فرنسا الأخرى فكانت بحكم المتفرّجة على أحداث الثورة، وحتّى المواطنون الباريسيون لم يشاركوا جميعهم فيها، وإنّما قامت الثورة على أكتاف «تجمّع» من المواطنين البائسين فحسب.

وهو الأمر الّذي يختلف عن الثورة الإسلاميّة في إيران الّتي ساهم فيها الشعب كلّه بكافّة قواه وفصائله كما ذكرنا، ولم تتخلّف أيّة مدينة فيها عن تقديم قوافل من الشهداء.. لقد شارك الشعب المسلم الإيراني مشاركة فعّالة ويوميّة بالثورة الجبّارة. بالمظاهرات والاضطرابات ومواجهة رصاص الطغيان. وقد جابهت الثورة الإسلامية أشرس طاغية في المنطقة وواجه الشعب كلّ وسائله القمعية لمدة عام كامل تقريباً قدَّم فيه عشرات الآلاف من الشهداء، بينما استمرّت الثورة الفرنسيّة قرابة شهر فقط، وذلك لضعف الجهاز الحاكم المقابل. وما قيل بصدد المقارنة بين الثورة الإسلاميّة والثورة الفرنسيّة يقال عن الثورة البلشفيّة في روسيا والصين كذلك.

ففي روسيا كانت الأزمة الاقتصاديّة الخانقة في البلاد، وخسائر الحرب العالميّة الأولى الّتي منيت بها روسيا قد زعزعت هيبة الحكم القيصري ممّا أعطى مزيداً من الفرص لخوض النضال من أجل إسقاط الحكم. ومع هذا فإنّ المشاركة الشعبيّة لم تكن بحال تشبه الوضع في إيران أبداً ـ لا من ناحية الحماسة، ولا من ناحية الساحة، ثمّ إنّ الثورة الإسلاميّة المظفّرة لم تكن الظروف الدوليّة والمحلّية قد تهيأت لها كما هو حال الثورة البلشفيّة، فلا حرب عالمية تهزّ عرش السلطان وتغير في موازين القوى، ولا وهن في داخل الجهاز الحاكم.

فالثورة الإسلامية قد اندلعت والشاه في عنفوان سطوته بما يملك من جيش ضخم يعدّه البعض ثالث جيش في مضمار حداثة السلاح وقوّته، وما يملك من سافاك «شرطة سرّية» وقوى إرهاب أخرى لم يحدِّثنا التاريخ إلاّ بجزء منها في قصص الإرهاب الشيوعي والنازي.

ولعلّ من المفارقات الأساسيّة بين الثورة الشعب المسلم الإيراني والثورة البلشفيّة أنّ قيادة الشعب المسلم كانت توجهه من المنفى، فكان يجسِّد كلّ كلمة إلى عمل، بينما كانت قيادة لينين متواجدة في صفوف الروس، وكانت تعليماته تمر عبر القنوات الحزبية على شكل أوامر، بينما كانت الجماهير المسلمة الإيرانيّة تأخذ تعليمات الإمام الخميني أخذاً دون أن تمرّ بالروتين الحزبي المألوف، إنّما كان تؤديها كما تؤدّي فروض العبادة، إنّها قوّة الإسلام العظيم حقّاً، فهو يفعل في نفوس المؤمنين ما ليس بمقدور أيّة قوّة أو فكرة أن تفعله في النفوس.

ووضع الثورة الصينية شبيه بالثورة الروسيّة من حيث الظرف الدولي، فاندلاع الحرب العالميّة الثانية وما ترتب عليها من تغير في ميزان القوى العالمية، إلى ما كانت تتلقاه الثورة الصينيّة من مساعدات من المعسكر الروسي قد أنضجت الظروف الموضوعيّة لتفجير الثورة. هذا إضافةً إلى الفشل الّذي منيت به حكومة الصين الإمبراطورية في إرضاء طموحات ملايين الناس.. حيث السياسة الاقطاعيّة الظالمة، والإهمال المتعمّد لمصالح الناس، فلا ثورة بيضاء يسبح الإعلام الإمبراطوري بحمدها، ويضلّل الناس بخيراتها الموعودة، ولا جيش نظامي من أقوى جيوش العالم ولا جهاز رهيب للسافاك!!

والعلامات الفارقة الأخرى كذلك نجدها في كون الثورة الصينية نجحت على مراحل واستغرقت سنوات، وكان يدعمها جيش نظامي «جيش جان كاى تشيك»، ووحدات فدائية منظّمة، بينما كانت عدّة الشعب المسلم الإيراني: التظاهرات والاحتجاجات والتصميم على النصر، وبذل النفوس وحرارة الإيمان.

وهكذا تكون الثورة الإسلاميّة مميّزة عن سواها في تاريخ الثورات، من حيث شكل القيادة ومساحة المشاركة الشعبيّة، ومن حيث المطالب والطموحات، وحجم المقاومة ووسائل المواجهة.

وتبقى بعد ذلك ميزة تعدّ أساسيّة من حيث الأهمّية في هذه الثورة المباركة لأنّها ثورة صادقة للمستضعفين والمحرومين، ولأنّها ثورة إسلاميّة تهدف من أجل إعادة الرسالة الإسلاميّة إلى موقعها الحقيقي في حياة الناس، كرسالة حاكمة ومدبرة لشؤونهم الخاصة والعامة، فقد حظيت بانفتاح الأمّة عليها والتفاعل معها في جميع أقطار العالم الإسلامي، بقدر ما أثارت هلع القوى الاستعماريّة في العالم ووكلائها في المنطقة.

وهذه بعض الصور عن هذا التفاعل وذلك الهلع:

ـ السلطات الاندونيسيّة تلقي القبض على رجل قام بتهريب صور للخميني إلى داخل البلاد!!

ـ حكومة مجاورة لإيران صادرت وزارة الإعلام فيها ستة آلاف صورة للإمام الخميني!!

ـ في بلد مجاور آخر ألقت السلطات القبض على شباب وأطفال ينشدون: خميني يا إمام!

ـ إنذار في الجيش النظامي والجيش الشعبي والمخابرات، والحزب الحاكم سبّبه ظهور لافتات تحيّي الثورة الإسلاميّة... علّقت بعضها على مقرات الحزب ومراكز الحكومة!

ـ رئيس حكومة تركيا يستبعد ظهور خميني في بلاده!

ـ حاكم مصر يحذّر من مغبّة ظهور خميني في مصر!

ـ صحيفة محلّية في بلد خليجي تحذّر: كم من خميني بين هذه العمائم!

ـ مظاهرات في العراق تؤيّد الثورة الإسلاميّة، ومظاهر السرور تغمر كلّ بيت، صور الخميني توزّع في السوق السوداء!

ـ مظاهرات في السودان تؤيّد الثورة الإسلامية!

ـ تصاعد التيار الخميني في تونس!

ـ بعض العملاء في المنطقة يعتبون على أمريكا لتقصيرها في حماية الشاه حتّى وصل العتب إلى ما يشبه الغضب.

ـ أنصار الخميني في لبنان يهاجمون بعض حانات الخمر في صور وبيروت!

ـ الحركات الإسلاميّة تشكّل وفوداً لزيارة الخميني للتهنئة والإفادة عن التجربة والتنسيق.

ـ حركات تحرّريّة كثيرة زارت وفود منها الإمام الخميني للتهنئة واستلهام دروس الثورة.

ـ الاتحاد السوفيتي يخشى من تسرّب المدّ الخميني إلى أراضيه!

ـ مظاهرات في باكو تؤيّد الثورة الإسلاميّة، واستقبال جماهيري للسفير الإيراني في روسيا!

ـ تصاعد تيار الثورة الإسلاميّة في أفغانستان.

ـ تصاعد المدّ الإسلامي في مصر وتركيا!

ـ أمريكا تعدّ دراسة حول الحركات الإسلامية في المنطقة!!

ـ الصين تتبنّى طبع القرآن الكريم!

ـ زعماء اليهود في إسرائيل قلقون من نجاح التيار الإسلامي في إيران.. وإسرائيل تسأل عن صور الخميني في قرى الشريط الحدودي المحتل من لبنان وتوقف، من يحملها، على الحواجز.

ـ البهجة تعمّ الضفة الغربية بانتصار الثورة الإسلاميّة! وتسرّب عشرات آلاف النسخ من كتب العقيدة الإسلاميّة إلى المناطق المحتلّة. هذه جملة من الصور والحقائق الّتي فرضت نفسها على منطق الأحداث في المنطقة وفي العالم كصديً لدويّ الثورة الإسلاميّة في إيران.

إنّ الهزّة العنيفة والعمليّة التحريكيّة لإنسان المنطقة الّتي أعقبت الثورة، دليل على صدقها وسعة شعبيّتها وسلامة أهدافها، وتجاوبها مع طموحات المستضعفين في الأرض، وهذا ما يفسّر التجاوب الواسع العميق بين الثورة والشعوب المحرومة.

أليس هذا دليلاً على أنّ الشعوب قد وجدت فيها أملاً ونبراساً وانعطافاً لصالح الرسالة والإنسان؟

إنّ الأيّام القادمة ستفرز العديد من ألوان التفاعل مع هذه الثورة الأصيلة، وستفعل فعلها في مسيرة الأحداث في العالم الإسلامي كلّه إن شاء الله تعالى.

إنّها الثورة الّتي اكتشف الإنسان المستضعف فيها ذاته، وهي التعبير الصادق عن طموحاته وتوجّهاته وأهدافه..

﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾.

   صوت التحدّي

مــاض على رايات «قم» يحضر

مـاض ويشرق من خليج أصالتي

الفــارس البدري ضمآن الخطـأ

ويداك، يــا قــم الملاحم، آية

صوت إلهــي الــرؤى متوثّب

غنّى به داعي السماء فــأورقت

سلمان تعشقه الدروب حضارة

أنا في مسافات اللقاء قصيدة

فــي لحنها تنساب قافية الهوى

غنّيت درب الفـاتحين قصائداً

ورأيت في عينيك رمزاً ثائراً

يمتد... قرآن الخلـود جبينه

يمتد في نــار الحضور حضوره

أبداً يريد «الغرب» شــل عبيره

عجبــاً... يفوز اللاهثون بكنزنا!

يتهـــافتون على رحيق رمالنا

يهبون... مــا يهبون غير فنائنا

حسبوك يــا خضراء رنة قارئ

تهتز مــن وجد بهـــا أعماقه

ولانت فـي دمنــا حضور مطلق

وأجل مـا تهب «الحضارة» رغبة

غنّــى... فأطرب كلّ رمز أزرق!

لغــة يسود بها الضياع وترتوي

لغــــةً خبرنا كنهها... فمبادئ

 

فتثور «بدر» بــالجهاد و«خيبر»

سيف علـــى حدّيه بعد أخضر

ومداك، نهـــر للجلال.. وكوثر

تروي... وصــوت بالتحدّي يعبر

لغد بمـــا تهب الفواصل يمطر

بيد... وتــاهت بالرسالة أعصر!

تنمو.. على حدّ الجهاد.. وتكبر..

تشدو بــــأوتار اللقاء وتسحر

ويميد فــي الصحراء درب مقمر

خضراً... بــآلاف الرؤى تتفجر

يخضل مــن شفة الضياء ويزهر

وجراحه بدمــى التـآمر تسخر

إن ضجّ كسرى أو تملمـل قيصر!

«تحجيم» ثورتـه الّتــي لا تقهر

باسم الحضـارة يكبرون ونصغر!

هيماً... وزغب صغارنــا تتضوّر

أمن التقدّم أن نجوع ويبطــروا!

نشوان من حدق المواجد يسكـر!

ويغيب عن صحو الحضور الأزهر!

وغد بأجيال الضحــى يخضوضر

جوعـى... وحرف بالأصالة يكفر!

واختال كالطاووس رمز «أحمر»!

بسرابهـــا مهج تداس وتنحر!

تزجـى... وجوع للشعوب مدمّر!

 

قبسات من فكر الشهيد مطهري حول الثورة

  * إنّ كلّ ثورة معلولة لسلسلة من عوامل الشقاء والبؤس، أي انّ الناس عندما يكونون غير راضين ومشمئزين من النظام الحاكم، فإنّهم يتمنون النظام المظلوم (أي النظام الّذي يطالبون به ويبتغونه)، وإنّ آثار الثورة وعلائمها عند ذلك تظهر إلى الوجود.

هذا وإنّ مجرّد عدم الرضا لا يكفي، فمن المحتمل أن نجد شعباً ما، لا يرضى عن وضعه القائم، ويتمنّى وضعاً آخر، ولكن لم يقم بالثورة أيضاً، لماذا؟ ذلك، لأنّه ارتضى نفسيّة الخنوع وقبول الظلم. مثل هؤلاء الناس لا يرتاحون للنظام الحاكم، ولكنّهم يستسلمون للظلم.

ولا يمكن أن تقوم ثورة في مكان ما إلاّ إذا كان الشعب غير راض عن النظام، بل إضافة على ذلك، لابدّ أن تتوفّر فيه النفسيّة النضاليّة والنفسيّة الرافضة والمستنكرة، إنّه يمنح لأتباعه شعوراً نضاليّاً، لطرد وتغيير الوضع غير الصحيح ومحاربته.

ماذا يعني الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ يعني: أنّ الوضع الحاكم إذا كان وضعاً سيّئاً ونظاماً لا إنسانيّاً، فعليك أن لا تستسلم أمامه، وأن تجد وتجتهد قدر المستطاع لطرد وتغيير وضعه القائم، وتثبيت النظام المطلوب المختار.

إنّ المسيحيّة الّتي ترتكز على الاستسلام والخنوع، كانت تنتقد الإسلام طوال القرون الماضية، وتقول: كيف يستند هذا الدين على السيف والجهاد؟ يجب أن يدعو الدين إلى الصلح والسلام، فإذا صفعك أحد على خدّك الأيمن، فوجّه إليه الجانب الأيسر من وجهك ليصفعه مرّة أخرى، وأمّا الإسلام فإنّه بريء من هذا المنطق.

يقول الإسلام: «أفضل الجهاد كلمة حقّ عند إمام جائر»، وكم من حماسة خلقتها هذه الجملة القصيرة في عالم الإسلام.

إذا ما وجد عنصر الاستنكار والهجوم بالنسبة إلى الظلم والجور والاضطهاد في عقيدة ما، عندئذ تتمكن تلك العقيدة من زرع بذور الثورة بين أتباعها.

* لقد اضطر المستعمرون، أن يجدّوا ويكدحوا كثيراً بين أبناء البلاد الإسلاميّة، ليتمكّنوا من قطع العلاقة بين الدين والسياسة.

وقد عرضت هذه الأمور بكثرة في مجتمعنا، حتّى تقبّلها الناس تقريباً، ولكنّنا، رأينا عندما سمع أحد مراجع التقليد ـ هذا الإنسان الّذي يسعى الجمهور، ليطبقوا أعمالهم الدينية مع فتاويه وأوامره بكلّ دقّة ـ يصرّح بأنّ الدين لا ينفصل عن السياسة، وخاطب الناس قائلاً: إذا ابتعدتم عن سياسة البلاد فقد ابتعدتم ـ في الحقيقة ـ عن الدِّين، رأيناهم كيف تحرّكوا وأقدموا على التعبئة العامّة.

ولو دقّقنا أيضاً في موضوع المطالبة بالحرّية، عندما كانت معروضة ـ بكلّ شدّة ـ في المجتمع الإيراني لرأينا أنّها لم تلق استجابة واضحة من الجمهور.

وبعد أن عرض نفس الموضوع من قبل الإمام القائد أي الزعيم الديني، عرف الناس أنّ مسألة الحرّية لم تكن مسألة سياسيّة بحتة، بل أنّها مسألة إسلاميّة، واتّضحت هذه النقطة وهي أنّ كلّ مسلم يجب أن يعيش حرّاً ويطالب بالحرّية.

إذن ففي الوقت الّذي تطالب الثورة بالعدالة من ناحية، وبالحرّية والاستقلال من ناحية أخرى، فإنّها تريد العدالة والاستقلال والحرّية في ظلال الإسلام، وبعبارة أدق، فإنّها تطالب بكلّ شيء مع صبغتها الإسلاميّة، وهذا ما أراده الشعب وابتغاه.

* لقد أصبح الإمام الخميني قائداً للثورة بلا منازع ولا معارض؛ لأنّه بالإضافة إلى اجتماع جميع مزايا وشروط القيادة فيه، فإنّه كان آتياً على المسير الفكري والروحي وحاجات الشعب الإيراني، مع أنّ الآخرين ـ الّذين كانوا يجدّون للحصول على منصب القيادة ـ لم يكونوا في هذا المسير بمقدار ما كان الإمام الخميني عليه.

ومعنى ذلك: أنّ الإمام الخميني، مع كلّ المزايا والخصائص الشخصيّة، وإذا كانت المحركات الّتي استفاد منها لتحريك المجتمع، من نوع المحركات الّتي يستخدمها الآخرون، وإذا كان منطقه في إثارة الجماهير شبيهاً لمنطق الآخرين، فلا يمكنه أن يكسب فوزاً في تحريك المجتمع.

ولولا أنّ للإمام صفة الزعامة الدينيّة والإسلاميّة، ولولا أنّ الشعب الإيراني يحسّ في صميم روحـه بنـوع من القرابـة والألفـة والاستئناس مع الإسلام، ولولا الحب العميق لأهل بيت الرسول (ص)، ولولا شعور النّاس بأنّ هذا النداء الّذي يخرج من فم هذا الرجل، إنّما هو نداء الرسول (ص) أو نداء علي (ع) أو نداء الإمام الحسين (ع)، لما وجدت ثورة وحركة بهذا الشمول في إيران.

وإنّ سرّ نجاح الإمام القائد: أنّه تقدّم بالثورة في قالب المفاهيم الإسلاميّة. إنّه ناضل ضدّ الظلم، وكان نضاله هذا وفقاً للمعايير الإسلاميّة.

إنّه حارب الجور والطغيان والاستعمار والاستثمار، عن طريق إلقاء هذه الفكرة، وهي أنّ المسلم يجب أن لا يخضع للظلم، وأن لا يقبل الاضطهاد، ولا يسمح لنفسه أن يكون ذليلاً مهاناً أمام الكافر.

لقد ناضل الإمام تحت لواء الإسلام وبالمعايير والمقاييس الإسلامية.

والأعمال الأساسيّة لهذا القائد: انّه قاوم طويلاً وبكلّ جدّية مسألة الفصل بين الدّين والسياسة.

* علماء الدين يهيّؤون أرضية الثورة: قيل للناس: إنّ الإسلام دين العدالة والحرّية والمساواة، وإنّ الإسلام يستنكر التفرقة الطبقيّة.

وبهذا اللّحاظ وبالإضافة إلى النجاحات المعنويّة، أخذت المفاهيم الأخرى مثل المساواة والحرّية والعدالة و...، صبغة إسلاميّة واستقرّت في أذهان الناس.

وبسبب استقرار هذه المفاهيم في أذهان الشعب، أصبحت ثورتنا الأخيرة ثورة عارمة، ولا أظنّ أحداً يتردّد حول القول بشموليّة هذه الثورة.

إنّ هذه الحركة شملت المدن والأرياف، فالحضري والقروي، المتنعِّم والمحروم، العامل والفلاح، التاجر وغير التاجر، المثقّف والعامّي، الكل جميعهم ساهموا في هذه الثورة، وكلّ ذلك بسبب إسلاميّة الثورة الّتي استطاعت أن تجعل الطبقات المختلفة في صفٍّ واحد، وتُسيِّرهم في مسير واحد.

وأكبر من إيجاد الوحدة، استطاعت ثورتنا أن تكسب فوزاً عظيماً، في إزالة روح الخضوع والاستسلام أمام الغرب ـ بمعناه الأعم، أي القطاعين الغربي والشرقي ـ عن شعبنا، استطاعت ثورتنا أن تقنع الشعب: بأنّ له مبدأ ومدرسة وفكراً مستقلاً، ويستطيع أن يقف على قدميه ويتّكئ على نفسه.

* يا اخواني: إنّني أتساءل: ما هي القوّة الّتي تتمكّن من تحريك وإثارة 30 مليوناً على الأقل من شعب عدده (35) مليون نسمة؟ إنّ الّذين قرأوا تاريخ الثورات في العالم، يعرفون إنّه لم تصل أيّة ثورة إلى ما وصلت إليه ثورة إيران، من حيث السعة والشمول.

لاحظوا اخواننا الطيّارين على سبيل المثال، ربّما كان قليل هم الّذين يتصوّرون مدى قدرة، وقوّة الأحاسيس والعقائد الدينية، المتفشّية في صميم وأرواح هذه الطبقة.

إنّهم ـ وسط دهشة الجميع ـ يضربون عن العمل، بإيمان وإخلاص، ولم يخضعوا لأيّة قدرة ولا يرعبهم أيّ تهديد.

ولكن عندما يأتي الإعلان عن قدوم الإمام، يتطوّعون لقيادة طائرته.

تخالفهم السلطة وتهدّدهم ـ كما نقلوا لي بأنفسهم ـ وتحذّرهم من مغبّة إقدامهم على مثل هذا العمل، مع أنّهم لا يملكون وظيفة ولا منصب بعد أن أضربوا عن العمل، بل، وتهدّدهم بأنّهم إذا قادوا الطائرة، فإنّ الحكومة سوف تقصفهم بالصواريخ وتقضي عليهم.

غير أنّهم يجيبون ـ بالرغم من كلّ ذلك ـ : إنّنا عازمون على الحركة، واعملوا ما شئتم، عند ذاك، تضطرّ السلطة إلى التراجع، وتسمح بفتح خط واحد من بين جميع الخطوط الجويّة، فيسمّيه الطيّارون: خطّ الثورة، وياله من اسم بديع.

أين هم أولئك الّذين يقولون: إنّ الدّين يخصّ كبار السن، والعجائز وأهالي الجنوب؟ ألم يشارك بهذه الثورة، القروي والحضري، العامل والفلاح، الطالب والأستاذ، المحامي والموظّف؟ فما هي القوّة الّتي تستطيع أن تخلق ثورة كهذه، غير قوّة العقيدة، وبالأحرى عقيدة مثل الإسلام؟

حول الثورة الإسلامية في إيران..

{يا أيّها الّذين آمنوا.. إن تنصروا الله ينصركم ويثبّت أقدامكم.. والّذين كفروا.. فتعساً لهم.. وأضلّ أعمالهم. ذلك بأنّهم كرهوا ما أنزل الله.. فأحبط أعمالهم. أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الّذين من قبلهم.. دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها. ذلك بأنّ الله مولى الّذين آمنوا.. وأنّ الكافرين لا مولى لهم}.

آيات بينات تلخص القصّة كلّها.. قصة الثورة الإسلاميّة المظفّرة في إيران. نعم لقد نصر المسلمون الله فنصرهم. نصروه حين رفعوا سلاح الإيمان وبقوّة مقابل الطغاة الكافرين وعملائهم. نصروه بتوفير المقومات المطلوبة للنصر.. فنصرهم عزّ وجلّ بتسديد الخطى، وبإرباك القوى المعادية، وإلقاء الرعب بين صفوفها.

إنّ المقاييس الطبيعيّة المادّية تعجز تماماً عن تفسير المظاهر الإيرانيّة، بمعزل عن التسديد الإلهي.. وبمعزل عن معادلة النصر الإلهي. فأكثر التوقعات تفاؤلاً، كانت تعطي للجيش الإيراني فرصة شهر على الأقل حتّى تتفكك صفوفه وينضمّ قسم منه إلى الثورة.. هذا إذا بقيت المواقف السياسية على حالها ولم تتجّه الأمور نحو الحرب الأهليّة الشاملة.

وفجأة... ينفجر الزلزال.. ويطيح في طريقه بالقوّة الأخيرة المتبقّية للنظام البائد، والّتي راهن الغرب والشرق معاً على دورها في إيقاف المدّ الإسلامي.

إنّ التسديد والعون الإلهي الّذي يبرز بقوّة في هذه المنطقة الهامّة.. نلمسه أيضاً في كلّ جانب وخطوة ومنعطف من مسيرة الثورة الإيرانيّة.

نلمسه في الحكمة الخارقة الّتي تعاملت بها القيادة مع الأحداث.. فكانت مواقفها تسير دائماً في اطراد مدهش أذهل كلّ المراقبين العالميين.

نلمسه في القوّة الضخمة الّتي حرّكت وتحرِّك الشعب الإيراني المسلم بقطاعاته المختلفة في اتجاه التضحية والاستشهاد، وبحدود تفوق التصوّر.

نلمسه في ارتباك القوى الاستعماريّة: وارتباك السلطة البائدة في التعامل مع الثورة خلال فترة تصاعدها.. ومع عودة قائدها آية الله السيّد الخميني إلى إيران.

نلمسه في حفظ حياة القائد.. رمز الثورة بعد رجوعه إلى طهران، من محاولات الاغتيال المنتظرة، وهو يخطب مكشوفاً أمام الملايين من الناس، الّذين يسرح بينهم الكثير من عملاء السافاك والقوى المعادية، مع ما كان يعنيه اغتياله، لا سمح الله، من إضعاف لمسيرة الثورة في أشدّ فتراتها حرجاً.

ونلمسه أيضاً في أمور ونواح كثيرة... وكثيرة.

ولكن.. كما قلنا في بداية الحديث، هناك علاقة سببيّة بين نصرة المسلمين لله.. وبين نصر الله لهم. أو، بتعبير آخر، هناك علاقة سببية بين توفّر مقوّمات النصر، وبين حصول النصر.

فما هي المقوّمات الّتي امتلكها المسلمون في إيران.. حتّى أنعم الله سبحانه وتعالى عليهم بالنصر؟

في رأينا هناك أربع مقوّمات أساسيّة توفّرت للثورة ومكّنتها من النجاح في سرعة قياسيّة:

1 ـ الهدف الديني.

2 ـ القيادة الفذّة.

3 ـ الشمول الجماهيري للثورة... والتضحيات الواسعة.

4 ـ العلاقة التنظيميّة بين القيادة والجماهير.

1 ـ الهدف الديني:

يشكّل الهدف الديني الّذي نادت به قيادة الثورة الإسلاميّة في إيران، وهو إسقاط نظام الشاه من أجل إقامة حكم إسلامي.. العمق الحقيقي لهذه الثورة الرائدة.

وليست محاولات تجزئة الهدف عن طريق الاكتفاء بشقه الأوّل أي «إسقاط الشاه» إلاّ لعبة استعماريّة للالتفاف على ثورة الشعب الإيراني.

فالدوافع الّتي استدعت إسقاط النظام من فساده وظلمه الاجتماعي وتبديده للثروات الوطنية إلى تنفيذه لسياسة التغريب والتفريس وإحيائه للأمجاد الوثنية، إلى تأييده ومساعدته لإسرائيل.. كلّها ينبغي أن لا تفصل عن الدافع الأوّل والأهمّ وهو التكليف الديني الشرعي الملزم للمسلمين بوجوب محاربة الظلم بشتّى أشكاله.. والسعي لإقامة حكومة إسلاميّة عادلة ترعى شؤونهم وتحفظ مصالحهم على أساس شريعة الله.

أمّا عن الخلاف (في وجهات النظر) الّذي حصل داخل القيادة الإسلاميّة أثناء الثورة، بخصوص تحديد الهدف.. فلا يعدو كونه خلافاً في تقدير طبيعة المرحلة والظرف السياسي. إذ كانت هناك وجهة نظر تقول بأنّ الظرف السياسي لا يسمح حالياً بإسقاط النظام.. وأنّ المناسب مرحليّاً، هو المطالبة بتطبيق دستور 1906. ولكن السيد الخميني اعتبر بأنّ الظرف السياسي مؤاتٍ تماماً لطرح الهدف النهائي للثورة واقتنع الجميع بوجهة نظره.

2 ـ القيادة الفذّة:

يستلفت النظر في قيادة الثورة الإسلاميّة في إيران نقطتان: قدرتها التأثيريّة الطاغية بين الجماهير.. وحكمتها المقرونة بالشجاعة، في اتّخاذ المواقف والقرارات، وكلا النقطتين كان لهما أثر بارز في مسيرة الثورة وتسريع خطواتها.

ومع إيماننا بوجود تداخل بين النقطتين.. باعتبار أنّ الحكمة والشجاعة والمواصفات الفذّة للقائد تزيد من سعة تأثيره الجماهيري.. إلاّ أنّنا نؤكّد أيضاً على وجود سبب أساسي هام لجماهيريّة السيّد الخميني، يتمثّل في مرجعيّته الدينيّة، ولا يمكن لأيّ باحث يتوفّر على دراسة الثورة الإيرانيّة، إلاّ أن يستوعب ما ينطوي عليه مركز المرجعيّة من تأثير ديني واجتماعي في حياة المسلمين.

أ ـ أهمّية المرجعيّة الدينيّة:

حسب الرأي الفقهي السائد لدى المسلمين الشيعة، فإنّ المرجع، وهو المجتهد المطلق الحائز على الشروط الشرعيّة، يمتلك الولاية الشرعيّة العامّة في شؤون المسلمين مادام كفوءاً لذلك من الناحيتين الدينيّة والواقعيّة معاً.

وهذا ممّا يمنحه ثقلاً دينيّاً واجتماعياً واسعاً، ويضفي على أوامره طابع الإلزام الديني بالتنفيذ.

والمرجع بحكم مسؤوليّته الشرعيّة، لابدّ أن يكون مستقلاً عن الحكام والكيانات الظالمة.. فالركون إلى الظالمين.. والتعاون معهم.. بل والسكوت عن محاربتهم مع الاستطاعة، حرام حسب شريعة الإسلام.

.. من هنا نفهم طابع الاستقلاليّة الّذي يميّز هذا المركز، والجهاز الديني المرتبط به من طلبة العلوم الدينيّة، والعلماء الوكلاء المنبثين في المناطق المختلفة. فالتمويل يحصل من خلال ضريبة الخمس المفروضة (بحكم النص القرآني وما يشرحه من نصوص السنة) على كلّ مسلم يمتلك مقداراً من المال يفيض عن مؤونة سنته.

وتاريخ المرجعيّة، غني بالمواقف الإسلاميّة الرافضة للظلم والظالمين، نذكر على سبيل المثال كيف تمكن المرجع الميرزا الشيرازي بفتواه الّتي تحرم تعاطي التنباك، أن يجبر الشاه ناصرالدين القاجاري على إلغاء الامتياز الّذي يحصر المتاجرة بالتنباك بالانجليز.. وكيف جاءت فتوى المرجع الشيخ محمّد كاظم الخراساني والشيخ عبدالله المازندراني بخلع الشاه محمد علي سنة 1909 لتشعل الثورة الدستورية (المشروطة).. وقد انتهت تلك الثورة بخلع الشاه لمخالفته أحكام دستور 1906 الّذي يقيّد صلاحيّاته، ويعطي للعلماء المجتهدين الحقّ بالرقابة الدينيّة على القوانين. كما نذكر دور المرجع الشيخ محمد تقي الشيرازي في إشعال ثورة 1920 في العراق. ودور العلماء وعلى رأسهم آية الله الكاشاني في الانتفاضة الّتي جاءت بمصدق إلى الحكم في إيران سنة 1951.. ونذكر أيضاً دور آية الله الخميني بالذات في انتفاضة 1963 ضدّ الشاه الّتي سقط خلالها آلاف الشهداء، وكانت بمثابة تمهيد للثورة الأخيرة المظفرة.

ب ـ حكمة القائد وشجاعته:

شكلت شخصية السيّد الخميني الفذّة كما قلنا، عامل استقطاب ودفع في حركة الثورة. وأبرز صفاته: حكمته.. وشجاعته النادرتين.

أمّا حكمته.. فنلمسها في فهمه الدقيق للوضع الدولي، وبالتالي في حسن تعامله معه..

فأمريكا بموجب اتفاقيّة (سالْت) الأولى تعتبر إيران ضمن دائرة نفوذها وهي تحرص لذلك على إبقائها بعيدة عن دائرة النفوذ السوفياتي. ونظراً لشمول الثورة الإيرانيّة واتّساعها، فإنّ التصدّي لها بالقوّة أو من خلال الانقلاب العسكري يعني إعلان الجهاد المقدس، ووقوع الحرب الأهليّة (...) والحرب الأهلية ـ في نظر أمريكا ـ تهدّد بانقسام إيران إلى دويلات، وسيخضع بعضها بالتأكيد للنفوذ السوفياتي (...) لذلك فإنّ أمريكا مضطرّة إلى توسّل الأساليب السليمة لمحاولة احتواء الثورة، حفاظاً على مصالحها (...).

ويبدو أنّ السيّد الخميني أتقن التعامل مع نقطة الضعف الأمريكيّة هذه إلى حدّ كبير فسارع، في اللّحظة المناسبة، إلى إعلان هدفه بإسقاط الشاه وإقامة حكومة إسلاميّة. ودفع بالقوى المعارضة إلى تبنّي هذا الهدف.. معلناً إنّ الفرصة المتاحة لإسقاط النظام هي فرصة ثمينة قد لا تحصل مرّة أخرى...

ونلمس حكمة القائد أيضاً في حرصه الشديد والمستمر طوال فترة الثورة، على تماسك المعارضة ونجاحه في تحقيق ذلك. وقد برز هذا الحرص في تأكيده على دور المراجع الكبار الآخرين في قيادة الثورة وتوجيهها.. وهو العالم بما يمثلونه من ثقل ديني واجتماعي، وتحذيره من المندسين والجهلاء الّذين يريدون افتعال الخلافات بينه وبينهم. كما برز هذا الحرص على تماسك المعارضة في تدرج السيد الخميني بطرح برنامجه، وتأجيله طرح النقاط مثار الخلاف إلى ما بعد الانتصار.

وأمّا شجاعة القائد.. فنلمسها في تاريخه منذ سنة 1963 حيث تصدّر المظاهرات وهو يرتدي الكفن متأهّباً للموت.. كما نلمسها في صموده القوي أمام الضغوط والاغراءات على حد سواء.. يقول السيّد الخميني: «حيثما ذهبت، كنت أشعر بضغط الشاه. لقد حاولوا شرائي.. إنّ الشاه بعث إليّ برسالة عرض فيها المصالحة مقابل ترك كلّ شؤون إيران بين يدي. لكنّني لم أعرها أيّ اهتمام..».

ويضيف قائلاً: «تلقّيت رسائل من الرئيس الفرنسي لإقناعي بعدم العودة إلى طهران.. وقد تصرف الامريكيون بالطريقة نفسها.. وإذ ذاك أدركت أنّهم يحضرون شيئاً ما، وقرّرت العودة أيّاً تكن النتائج ..».

3 ـ الشمول الجماهيري للثورة.. والتضحيات الواسعة:

الجماهير، كما يقال، هم وقود الثورة وأداة تفجيرها. والثورة الناجحة هي الأقدر على استقطاب الجماهير حول هدفها. وحسب هذا المقياس تعتبر الثورة الإسلاميّة في إيران من أنجح الثورات في التاريخ. فقد استطاعت هذه الثورة أن تستوعب الغالبيّة العظمى من الشعب الإيراني.. إذ لم تقم على أساس تأجيج الحقد الطبقي أو استثارة الفئات: العلماء والتجّار جنباً إلى جنب من العمال والفلاّحين والمهنيين والطلاب والمثقّفين.

أمّا عامل التحريك والاستقطاب الجماهيري الّذي اعتمدت عليه الثورة... فهو الإسلام، فالنظام البائد يعتبر نظاماً كافراً ظالماً. والشعب الإيراني شعب مسلم شديد التمسّك بإسلامه.. لذلك سرعان ما لبّى أمر قيادته الدينيّة بوجوب الانتفاضة ضدّ النظام.. وتقديم كلّ التضحيات في هذا السبيل، بما في ذلك بذل الأنفس. وهذا يفسّر لنا سرّ الروحيّة الّتي تصرف من خلالها المجاهدون، المسلمون، حين كانوا يواجهون الأسلحة الفتّاكة بأجسادهم العزلاء دون خوف أو تراجع.فالموت في سبيل الله استشهاد يختصر الطريق إلى الجنّة.. أغلى أمنيات المسلم.

4 ـ العلاقة التنظيميّة بين القيادة والجماهير:

إذا كان الكثيرون من المخلصين، قد أبدوا تخوّفهم على مسيرة الثورة الإيرانيّة، من عدم وجود التنظيم الواضح الّذي يؤطّر الجماهير.. ويسمح للقيادة أن توصل تعليماتها بدقّة... وللجماهير أن تنفّذ تلك التعليمات.. فقد كشفت الأحداث عن وجود صيغة تنظيميّة فعّالة تستفيد من عفويّة الالتفاف الجماهيري العقائدي حول علماء الدِّين.. وتتضمّن هذه الصيغة مجلساً أعلى مكوناً من مائتي عضو معظمهم من العلماء وبينهم بعض أساتذة الجامعات والمفكرين.. بالإضافة إلى مائة ألف عنصر متطوّع في جميع أنحاء إيران، أغلبهم من الشباب وطلابّ الجامعات والمثقّفين. وكان السيد الخميني يبعث بتعليماته من باريس إلى المجلس عن طريق الهاتف. وكان المجلس ينقل إليه صورة عن الوضع أوّلاً بأوّل.. وينفذ تعليماته عبر جهازه الواسع المكوّن من المتطوّعين ومن جمهور المساجد. وقد لعبت أجهزة التسجيل دوراً مهماً في إيصال خطب وتعميمات السيّد الخميني المسجّلة بصوته إلى مختلف أنحاء إيران.

وعن المجلس المذكور تنبثق مجموعة من اللجان.. فهناك لجنة إعلاميّة للاتّصال بالمراسلين العالميين. وتضمّ هذه اللّجنة عناصر يتقنون اللّغات الأجنبيّة المختلفة.

وهناك أيضاً لجنة صحّية تهتمّ بقضايا الاسعافات والأدوية والتبرع بالدم.. وقد قامت بمهمات واسعة خلال الأحداث حيث كان يتساقط مئات الشهداء والجرحى في الشوارع.

كذلك.. هناك لجنة اجتماعيّة لتأمين المواد الغذائيّة والحاجات المعيشيّة الملحّة الّتي فقدت من بعض أسواق إيران.

وهناك أيضاً لجنة مالية تتولى جمع التبرعات من الشعب الإيراني لإنفاقها في خدمة الثورة...

..وبعد، إنّ الحديث عن الثورة الإسلاميّة في إيران.. يبقى قاصراً عن الإحاطة بكلّ جوانبها ومقوّماتها.

وسيحتاج المعنيون بدراسة الهزّات السياسيّة والاجتماعيّة إلى وقت طويل حتّى يستوعبوا تجربتها الغنيّة الحافلة.

إنّها كما قال قائدها «معجزة».. ولكنّها كما قال قائدها أيضاً «معجزة تحقّقت بقوّة الإيمان».. فهل يستفيد المسلمون في العالم من دروس هذه التجربة الرائدة؟

جانب من الوصيّة السياسية الإلهية للإمام الخميني (ره)

«واليوم، يجب على الشعب الإيراني خاصة وعلى جميع المسلمين عامّة أن يصونوا بكلّ ما أوتوا من قوّة هذه الأمانة الإلهيّة الّتي أعلنت رسمياً في إيران والّتي أنجزت مكتسبات عظيمة خلال مدّة قصيرة، وأن يبذلوا الجهد في سبيل إيجاد مستلزمات بقائها وإزالة العقبات والمشاكل الّتي تعترضها».