تحتضن طهران من جديد المؤتمر الدولي لدعم الانتفاضة الإسلامية الفلسطينية بحضور قادة وكوادر الفصائل الإسلامية والوطنية الفلسطينية واللبنانية إلى جانب رؤساء ومندوبي المجالس البرلمانية والفعاليات الدينية والثورية والأهلية لما يزيد على 100 دولة, جاؤوا إلى العاصمة الإيرانية لنصرة هذه القضية العادلة والتأكيد على التماهي الروحي والتعبوي والوجداني بين الصحوة الإسلامية المعاصرة ونضالات أهلنا الصامدين في فلسطين والقدس الشريف.

 

ومن خلال قراءة ورقة عمل مؤتمر طهران الدولي المنعقد برعاية مجلس الشورى الإسلامي ومتابعة لجنة فلسطين ورئيسها السفير حسين شيخ الإسلام, نستطيع الخروج بأهم محصلة وهي أن أحرار الصحوة الإسلامية العالمية والثورات العربية الشعبية قرروا بأن (زمن الاستفراد بانتفاضة الشعب الفلسطيني وجهاده المشروع  قد ولى, وأنَّ الأمة الإسلامية بأسرها تقف اليوم في المقدمة وجها لوجه لمكافحة إسرائيل الغاصبة وسلوكياتها الرعناء وتمردها على كل المعاهدات والأعراف الدولية التي تتم بمباركة صريحة وضوء أخضر من أميركا والاتحاد الأوروبي).

 

وإزاء ذلك يتحمل هذا المؤتمر النهضوي الحاشد مسؤولية عظمى على مستويين: الأول في  بلورة مفهوم الأمة الإسلامية وتعيين وظائف وادوار مكوناتها حكومات ومفكرين وفقهاء ومناضلين ومثقفين وجماهير، في عملية التصدي للمشروع الغربي ـ الصهيوني، لكيلا تتكرر الأخطاء السابقة, وتكون هذه المهمة قائمة على أرضية صلبة من التلاحم المصيري والتضامن والتآلف والتكامل والتعاون على البر والتقوى, وبرؤية عقائدية إيمانية سديدة لا مكان فيها للتكفير والتطرف الأعمى والنعرات المذهبية والطائفية والعرقية.

 

أما المستوى الثاني فإنه يتمثل في ترشيد الصحوة الإسلامية المعاصرة ورص قواها وإمكاناتها وطاقاتها الخلاقة توخيا لوعي الأولويات والتحديات وتقويم البرامج والممارسات السياسية والاجتماعية والفكرية من أجل تقوية البنى التحتية ودفع عجلة التنمية والإعمار وتحقيق الاكتفاء الذاتي اعتمادا على القدرات الوطنية، وصولا إلى صيانة الاستقلال بشقيه السياسي والاقتصادي، وإلغاء أية التزامات باطلة قد يمكنها الإخلال بالسيادة الناجزة، على أن يتم إطلاق حصيلة كل ذلك باتجاه المعركة الحقيقية للأمة في سبيل تحرير فلسطين والقدس الشريف والمسجد الأقصى وكنيسة المهد والجولان السوري والجنوب اللبناني والعراق وأفغانستان وباكستان, والعمل دون هوادة في سبيل إزالة الكابوس الاستكباري الجاثم على صدورنا جميعا مسلمين وعربا, والذي سيظل يقض مضاجعنا حتى تأزف ساعة الحسم الثوري لجماهير الأمة وتعود هذه الربوع الطيبة إلى أهلها وأصحابها الخيرين بعد تطهيرها من دنس الصهاينة والغزاة الغربيين القادمين من وراء القارات والمحيطات.

 

الجدير بالذكر أن طهران كانت قد عقدت قبل عشرين عاما مؤتمرها الدولي الأول لدعم الثورة الإسلامية في فلسطين، وكان بحق تظاهرة سياسية وشعبية مدوية جاءت ردا على مؤتمر مدريد  (عام 1991 ) ما دفع اسحق شامير رئيس حكومة العدو الصهيوني آنذاك إلى تجاهل المهمة التي ذهب من أجلها إلى اسبانيا، وتوجيه سهام أحقاده وكراهيته إلى طهران والمناضلين الذين توافدوا على العاصمة الإيرانية من كل حدب وصوب. ومع أن شامير هذا معروف بأنه مجرم حرب ومن مؤسسي العصابات التي ارتكبت المجازر الإرهابية ضد المواطنين الفلسطينيين الأبرياء قبل النكبة، إلا أنه لم يخجل من وصف مؤتمر طهران السابق  بـ " الإرهابي"، كما قدم في كلمته أمام ممثلي أميركا والاتحاد السوفييتي السابق والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة إضافة إلى مبعوثي الدول العربية المشاركة، رؤية تشاؤمية للغاية عن مستقبل السلام، مع أن مؤتمر مدريد كان قد استبق بدعاية سياسية وإعلامية ضخمة عالميا دامت عدة سنوات، وتم تسويقه على أنه سيكون مفتاح الحل لجميع المشاكل والأزمات في المنطقة ولاسيما الصراع العربي ـ الصهيوني.

 

لكن وبعد مضي عقدين من الزمن أيقن المسلمون والعرب وأحرار العالم  بأنه (لا مدريد ولا ما بعدها من المؤتمرات والاتفاقيات والمعاهدات المحمية برعاية القوى الكبرى وكفالتها) أفضت إلى تحقيق السلام ولا أنصاف السلام ولا أرباعه بالشرق الأوسط، في ظل التعنت الصهيوني، والتعامي الغربي المطلق عن استهتار تل أبيب بمؤسسات الشرعية الدولية وقراراتها الملزمة. كما أن السمة البارزة للعشريتين تجسدت في تمادي إسرائيل الغاصبة في  الهمجية والعدوان والعربدة وضرب القوانين الدولية عرض الحائط، دون أن يرتد طرف للغربيين من أدعياء المبادئ والقيم الحضارية، الذي يتباكون اليوم على الحريات وحقوق الإنسان والديمقراطية في العالم العربي، وهم لا يتورعون عن تصديرها إلينا شئنا أم أبينا عبر الحروب وأعمال الغزو والاحتلال لغايات لا يشم منها سوى رائحة الدم والبترول والغاز، وهم الثروتان اللتان تزخر بهما البلاد الإسلامية طولا وعرضا.

 

لقد دأبت الإستراتيجية الاستكبارية للتحالف الأميركي ـ الأوروبي ـ الإسرائيلي في الفترة التي أعقبت أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول (2001 )على تكريس حالات اليأس والقنوط والاستسلام في نفوس العرب والمسلمين، وتحميلهم مسؤولية التفجيرات الإرهابية في نيويورك رغم  ما اكتنفها من غموض وسوداوية، إلى جانب ما تسرب من معلومات مثيرة عن وجود أصابع صهيونية وراءها نظرا لتغيب نحو(4000) موظف يهودي يوم الحادث بالذات، مع أن لهم مكاتب وعناوين شغلية في منظمة التجارة العالمية، أضف إلى ذلك الطريقة المريبة التي استخدمتها ال (سي آي ايه ) في إلقاء القبض على زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن قبل إعدامه رميا بالرصاص فورا بتاريخ (2 أيار 2011 ) وهو بين أهله وذويه في قصر محصن بأحد الأحياء الفاخرة في العاصمة الباكستانية إسلام آباد، في حين أن العقل والمنطق كانا يفرضان على واشنطن الإبقاء على حياته مهما كلف الأمر ووضعه رهن الاستجواب والمحاكمة، ليسمعوا ملابسات وأسرار تدمير برجي المنظمة بتلك الطريقة المريعة، من فم العدو رقم واحد للولايات المتحدة نفسه، لا أن يتم  قتله ودفنه بتلك العملية السريعة التي من المؤكد أنها أثارت شكوك واستهزاء الأمم والشعوب من أقصاها إلى أقصاها، نظرا للتبريرات السخيفة الغير مقنعة، والصورة الفوتوغرافية المزورة للجثة التي قدمتها السلطات الأميركية للرأي العام العالمي ووضعتها تحت تصرف وسائل الإعلام وشبكات التلفزة المحلية والدولية، والتي لم تلبث أن سحبتها مباشرة بعد افتضاح أمرها وثبوت أنها كانت مفبركة ومن صنع فنان في (الفوتوشوب).

 

في هذا المضمار يجمع العلماء والمفكرون والمراقبون على أن أعظم إنجاز سجلته الصحوة الإسلامية المعاصرة, هو أنها دفعت بالقضية الفلسطينية إلى واجهة الأحداث بقوة, وقوضت المخططات التي سعت إلى حشر أبناء الانتفاضة في زوايا القتل اليومي الجماعي والخضوع والحصار الظالم والمفاوضات العبثية, والوعود الكاذبة. وإزاء ذلك اتفق أبناء الثورات الشعبية  على أن مسيرات الانتصار الناجز على الأنظمة الدكتاتورية والقواعد الفاسدة في بلدانهم، لن تستقيم دون اقتلاع الشراك االشيطانية من طريقها، وأن بقاء سفارات وممثليات وبعثات تابعة ل" إسرائيل "بين ظهرانيهم، سوف يعرضهم لا محالة إلى طعنات نجلاء مستقبلا، الأمر الذي سيضع  تضحياتهم ومنجزاتهم وتطلعاتهم المحقة في عين العاصفة، إلا إذا حزموا أمرهم وقاموا بقطع دابر أي نوع من التمثيل الصهيوني في أوطانهم.

 

إن الشعب المصري المؤمن كان قد اكتوى قبل غيره بنيران التطبيع مع العدو الصهيوني على خلفية معاهدة كامب ديفيد، لكنه زلزل بثورته الإسلامية التحررية في( 15 يناير/كانون الثاني 2011) أكبر قاعدة رسمية متواطئة مع التحالف الأميركي ـ الإسرائيلي في المنطقة. فقد أطاح بالفرعون المخلوع حسني مبارك وألقى به ومرتزقته وراء قضبان المحاكم حتى ينالوا جزاءهم العادل. كما زحف نحو مقر سفارة إسرائيل في القاهرة وحاصرها ثم اقتحمها وأجبر السفير والدبلوماسيين المذعورين على الفرار ليلا، في موقف ثوري ورسالي يعكس أصالة أبناء أرض الكنانة.

 

لقد أكد هؤلاء الأحرار يجاريهم في ذلك إخوان العقيدة والدم والمصير المشترك في تونس والسعودية والبحرين وليبيا والأردن وقطر والإمارات واليمن وسائر بلدان العالم الإسلامي، على تواصل حميم بين الصحوة الإسلامية  المباركة وفلسطين التي طالما جادوا بتضحياتهم من أجلها، وسط أجواء من القلق وردود الفعل الشديدة، باتت تسيطر على الإدارة الأميركية والحكومات الأوروبية والكيان الصهيوني، مخافة انقلاب السحر على الساحر وتحول الثورات الشعبية المعاصرة في القريب العاجل إلى زحف جماهيري هائل يكتسح من أمامها كل الذين أرهقوا الأمة وأهدروا كرامتها وأذاقوها مرارات الاستضعاف والتبعية والجور طيلة العقود الطويلة الماضية.