ولد الشهيد القائد مصطفى شمران عام 1933 في مدينة قم المقدسة.

 

ثم ما لبث أن انتقلت عائلته إلى طهران للعيش فيها بعد عام واحد من مولده.

 

وكان الشهيد القائد طفلاً محباً للعزلة غارقاً في التأمل والتفكر متجنباً للصخب والضجيج ومستغرقاً في مشاهدة جمال وجلال الطبيعة والوجود الإلهي. كما كان معجباً بالسماء وعاشقاً للنجوم المتلألئة.

 

وبعد أن أنهى دراسته الابتدائية  انتقل إلى ثانوية دار الفنون، ثم قضى العامين الأخيرين في ثانوية (البرز) دون مصاريف دراسية، وكان تلميذاً ممتازاً على طوال هذه المرحلة.

 

كما كان يتميز بالرقة والحساسية المفرطة، ويتألم من صميم قلبه لآلام المحرومين ويشاركهم عناءهم بعواطفه المستفيضة. ولقد كتب هو في مذكراته مصوراً تلك الفترة من حياته، فقال:

 

«عندما كنت عائداً تحت جنح الليل المظلم، شاهدت شخصاً فقيراً يرتجف من البرد القارس وسط ثلوج الشتاء، غير أنه لم يكن بإمكاني أن أعد له مكاناً دافئاً، فقررت أن أقضي تلك الليلة مثله أرتعش من البرد بعيداً عن المأوى، وقد فعلت؛ فقطعت الليل حتى الصباح وأنا أرتجف من شدة البرودة لدرجة أنني أصبت بالمرض الشديد، وما أجمله من مرض».

 

«عندما رسب أحد زملائي في الامتحان أخذت أذرف الدموع بحرارة لدرجة أنه شعر بالألم الشديد، فأخذ يهدئ من روعي قائلاً: ليس مهمّاً، لا تحزن إلى هذه الدرجة».

 

وفي عام 1332ﻫ.ش التحق الشهيد القائد مصطفى شمران بالكلية الفنية في جامعة طهران وبدأ دراسته في قسم الهندسة الكهربائية، ولمّا كانت تلك الفترة متزامنة مع مرحلة الانقلاب فإنه اضطلع بالنشاط الواسع في النضال السياسي الشعبي والتظاهرات الخطيرة المناوئة للنظام الملكي.

 

فحيثما كان الألم والعناء والعمل والمسؤولية والمشاكل والمخاطر، كان الشهيد القائد حاضراً؛ فكان يركب الخطر وسط التظاهرات العارمة وأمام الإطلاقات النارية وفي مواجهة الدبابات وفي خضم المسؤوليات الكبرى، وكان دائماً ما يعرض نفسه للخطر من أجل إنقاذ حياة زملائه.

 

ومع انخراطه الكامل في كل هذه المشاكل ومشاركته الفعالة في ميادين الصراع السياسي والاجتماعي ألاّ أنه تخرج من الجامعة بدرجة ممتاز وكان الأول على دفعته حتى إن أساتذة وطلاب تلك الكلية ظلوا يتناقلون اسمه على ألسنتهم عدة سنوات.

 

لقد كان الشهيد القائد يمارس التدريس منذ الصغر ويسدّ بعض حاجياته من ذلك الطريق؛ لقد كان عبقرياً في الرياضيات وخصوصاً في الهندسة لدرجة لا يشق له فيها غبار، وعندما كان الأستاذ يعرض حلاً لإحدى المسائل كان هو سرعان ما يعرض حلاً أفضل.

 

وعلاوة على ذلك فإنه كان يحضر درس تفسير القرآن الكريم لدى المرحوم آية الله طالقاني كما كان يحضر دروس الفلسفة والمنطق عندما كان طالباً جامعياً لدى الأستاذ الشهيد آية الله مرتضى المطهري، وكان عضواً نشطاً في اتحاد الطلبة المسلمين عندما كان يتهم المسلم المتدين بالرجعية والتخلف.

 

وبعد الحركة الانقلابية في الثامن والعشرين من شهر مرداد وتأسيس جمع من رجال الدين والسياسة لنهضة المقاومة الوطنية، فإنه أصبح ممثل الكلية الفنية في هذه النهضة. وعندما وقعت تلك الحادثة الدموية في السادس عشر من شهر آذر سنة 1333ﻫ.ش التي أطلق خلالها جلاوزة الشاه الرصاص على الطلبة فقتلوا ثلاثة منهم في ممرات الكلية الفنية لدى قدوم الرئيس الأميركي نيكسون، فإن الشهيد القائد كان أحد الذين أصيبوا بجراح طفيفة في ذلك اليوم. كما كان هو الذي كتب مقالاً في ذلك الزمان وصور فيه شتى أبعاد ومشاهد حادثة يوم السادس عشر من آذر، وهو ذلك المقال الذي نُشر في أميركا فيما بعد في مطبوعة بنفس هذا الاسم.

 

وفضلاً عن كفاءته الدراسية والعلمية العالية فإنه كان يتمتع أيضاً بذوق فني وحس عرفاني ممتاز. فخطه الجميل ورسومه الرائعة وكتاباته السلسة وكذلك خصوصياته العقائدية البارزة في قوله وسلوكه تجعله متميزاً عن أترابه منذ شبابه المبكر. ومع أنه كان يبدو نحيفاً ألاّ أنه كان يبز أقرانه في المصارعة والرياضة الميدانية.

 

وبعد حصوله على البكالوريا عمل الشهيد القائد مدرساً في نفس الكلية التي تخرج منها، إلى أن حصل على منحة دراسية لإكمال دراسته في أميركا حتى درجة الدكتوراه بصفته طالباً ممتازاً.

 

وبحصوله على درجة الماجستير بتقدير ممتاز في الهندسة الكهربائية من جامعة تكساس الأمريكية، انتقل إلى جامعة بركلي للحصول على الدكتوراه، وخلال ثلاث سنوات حصل الشهيد القائد أيضاً على درجة الدكتوراه في الإلكترونيات والفيزياء الحيوية (هندسة الطاقة النووية) بامتياز من جامعة بركلي متفوقاً على زملائه من الطلبة القادمين من شتى أنحاء العالم وتحت إشراف أبرز الأساتذة في هذا الحقل.

 

والمثير للدهشة أن الشهيد شمران أبرز تفوقه الدراسي والعلمي بينما كان منخرطاً في نفس الوقت في خضم النضال السياسي والعقائدي، وهو ما أثار دائماً إعجاب الأصدقاء والأعداء. وكان في تلك الفترة يعتمد في الحصول على نفقات حياته من عمله في التدريس والأبحاث، وذلك لأن السافاك كان قد حجب عنه منحته الدراسية بحجة نشاطه السياسي ضد نظام الشاه.

 

ومن أبرز مآثر حياة الشهيد القائد السياسية والاجتماعية تأثيره ودوره المتفرد في تأسيس التجمعات الطلابية ضد نظام الشاه المقبور وخصوصاً الاتحاد الإسلامي للطلبة في أميركا.

 

وإضافة إلى كل ذلك فقد كان له حضور مؤثر ومشاركة فعالة في التظاهرات الكبرى والواسعة التي نظمها الطلبة الإيرانيون في أميركا في أعقاب مذبحة الخامس عشر من شهر خرداد. كما كان له دور مؤثر ومصيري في التظاهرات التي أقيمت أمام محل إقامة الشاه عند زيارته لأميركا عام 1343ﻫ.ش، حيث اضطر نظام الشاه إلى إرسال عدد من عملاء السافاك ـ بلغ المئات ـ من إيران إلى أميركا للهجوم على جموع المتظاهرين وتفريقهم بعد أن فشلت السفارة الإيرانية في خداع المتظاهرين.

 

لقد كانت روحه لا تنتعش ألاّ بخوض غمار الجهاد، وكان حبّه للعالم والكون والبشر وحتى لمن يقفون ضده يبلغ ذروته لدرجة أن أصدقاءه في ذلك الزمان أطلقوا عليه لقب "إله الحب".

 

ولكن هذا الرجل صاحب الروح الشفافة والمرفرفة والعزم المتين والإرادة الصلبة أدار ظهره لكل المظاهر المادية بعد نهضة الخامس عشر من خرداد الدموية والاعتقاد بتراجع النضال القانوني والبرلماني، وتوجه إلى مصر مع عدد من أصدقائه المؤمنين والمخلصين لتعلم فنون القتال والاستعداد لخوض الحرب المسلحة ضد النظام البهلوي.

 

وكان ذلك في نفس الوقت الذي بعثت فيه نهضة المقاومة الفلسطينية بكوادرها إلى مصر للتدريب أيضاً، حيث قضى الشهيد القائد عامين شارك فيهما بعدة دورات للتدريب العسكري وفنون النزال وجهاً لوجه وحرب العصابات والعمل الفدائي، ثم أخذ هو على عاتقه مسؤولية تدريب المقاتلين الإيرانيين على تعلم تلك الفنون.

 

وغادر الشهيد شمران مصر إلى أميركا لفترة وجيزة بهدف الإعداد لهجرته الكبرى إلى لبنان. وطبقاً لدعوة من سماحة الإمام القائد السيد موسى الصدر، فإنه وصل إلى لبنان أواخر سنة 1349 وانضم إلى حركة المحرومين بطلب من سماحة الإمام القائد السيد موسى الصدر.

 

ولأن الشهيد القائد جاء إلى لبنان بنية إقامة قواعد للجهاد، فإنه توجه منذ اللحظة الأولى إلى أقصى نقطة في الجنوب إلى قاعدة الإمام القائد السيد موسى الصدر مدينة "صور" وأخذ على عاتقه إدارة المدرسة الصناعية في مؤسسة جبل عامل ـ البرج الشمالي على بعد خمسة كيلومترات من "صور" بجوار المخيمات الفلسطينية. وكان اليتامى من أبناء الشيعة اللبنانيين يدرسون في هذه المدرسة، وهم الذين صاروا فيما بعد الكوادر الأصلية للخط الأول في المقاومة الشيعية ضد الكيان الصهيوني.

 

وفي المدرسة الصناعية لجبل عامل كان التلاميذ يدرسون العلوم ويتعرفون تكنولوجيا العصر ويتدربون في الورشات المختلفة التي بناها الشهيد شمران بنفسه، كما يؤدون فيها بعض الأعمال لسد حاجتهم المالية، مما كان سبباً في نمو تجربتهم العلمية. وكان هؤلاء الشباب هم الذين قاوموا ببسالة الاجتياح الصهيوني لجنوب لبنان، ولاشك أن اسم هذه المدرسة وهؤلاء الشباب قد بات محفوراً على صفحات تاريخ الكفاح في لبنان كنموذج بارز للشجاعة والتضحية والإيمان.

 

وكانت الثورة الإسلامية في إيران تخطو كل يوم خطوة جديدة نحو النصر؛ فقد لاذ الشاه بالهرب من إيران وعاد الإمام الخميني (رحمه الله) إلى أرض الوطن بعد خمسة عشر عاماً من النفي والجهاد. ولأنه كان من المتوقع أنه لا مفر من وقوع صراعات دموية في المراحل الأخيرة من الانتصار بين المناضلين والمجاهدين من جهة وبين الماكينة العسكرية للنظام من جهة أخرى، فإن الدكتور شمران ومعه عدد من شباب الحركة المجاهدين الذين أنهوا تدريباتهم العسكرية في لبنان أخذوا يتأهبون للعودة مع الشهيد شمران إلى إيران.

 

وكأن التاريخ كان يمر دفعة واحدة في تلك الأيام، حيث كان كل يوم يعادل عاماً كاملاً من الأحداث؛ فقد وقعت صدامات دموية في العشرين وحتى الثاني والعشرين من بهمن، وأعرب خمسمائة من شباب الحركة المجاهدين المتحمسين والمشتاقين عن رغبتهم في الانضمام إلى إخوانهم الإيرانيين.

 

وعاد الشهيد شمران فعُيّن وزيراً للدفاع باقتراح من مجلس الثورة وأمر من الإمام الخميني (ره) ، وذلك بتاريخ 16/8/1358. وكان أول شخص غير عسكري يتولى هذا المنصب.

 

وبعد تسلمه للمنصب الجديد، انخرط الشهيد شمران في إعداد سلسلة من البرامج الواسعة والتأسيسية أملاً في تبديل الجيش إلى مؤسسة ثورية متطورة. ومن أبرز تلك البرامج تنقية الجيش بناءً على أسس منطقية وصحيحة، وإقرار العلاقات العادلة والحميمة والقلبية القائمة على الترتيب والنظام، وصب الاهتمام على الصناعات والأبحاث الدفاعية ودفعها إلى الحركة والحيوية.

 

وباتت الهجمات العدائية التي كانت تُشن ضده على صورة دعايات صحافية من الشدة بحيث أثرت حتى على بعض أصدقائه الجهلاء والتجمعات الإسلامية غير الواعية فراحوا يكررون هم أيضاً نفس هذه التهم والأكاذيب  تامة.

 

ورشح الشهيد شمران نفسه بشكل مستقل في الدورة الأولى لانتخابات مجلس الشورى الإسلامي؛ ورغم كل هذه الأجواء المسمومة وبدون التوسل بالحملات الدعائية فانه نجح في دخول المجلس ممثلاً عن طهران بعد أن منحه أهاليها الأوفياء أكثر من مليون صوت.

 

وفي تاريخ 20/2/1359ﻫ.ش، ولدى تشكيل مجلس الدفاع الأعلى، عينه الإمام الخميني (رحمه الله) ممثلاً ومستشاراً له في هذا المجلس.

 

لقد كان يرجح القيام بدور حيث لا يوجد الآخرون أو حيث لا يستطيعون. كما كان يرى الواجب الكفائي واجباً عينيّاً طبقاً لما لديه من كفاءات كبيرة وكان يعجل في أدائه، ولذلك فإنه لم يتجاهل لبنان حتى وهو في إيران، وكانت آلام لبنان وفلسطين مزيجاً مع كل كيانه. وكان الشهيد شمران يشعر بالألم الشديد تجاه التفرقة والخلافات الداخلية والأنانية والتشبث بالرأي والتكبر وعدم الخلوص، ولكنه كان يقابل كل ذلك بأداء واجباته وتكاليفه الإلهية بصدق وإخلاص.

 

واستشهد إيرج رستمي قائد منطقة دهلاوية فشعر الشهيد شمران بالألم المفجع جراء ذلك، ولكنه اختار قائداً آخر ليحل محل الشهيد رستمي في جبهة دهلاوية.

 

وكان الشهيد شمران قد وجه عدداً من الوصايا التي لا سابق لها إلى زملائه في آخر اجتماع لمقر الحروب غير المنظمة قبل رحيله إلى دهلاوية بليلة واحدة. ويقال إن الجميع كانوا يودّعونه لدى خروجه ثم شيعوه إلى مرمى البصر بعيون مغرورقة بالدموع.

 

وتحرك الشهيد شمران نحو سوسنكرد، والتقى في الطريق بالمرحوم آية الله إشراقي والجنرال الشهيد فلاحي، فقبل أحدهم الآخر للمرة الأخيرة، ثم واصل طريقه حتى بلغ مذبح العشق.

 

وكان كافة المقاتلين قد اجتمعوا في قناة خلف دهلاوية، فعزّاهم وبارك لهم استشهاد قائدهم إيرج رستمي، ثم قال لهم بصوت محزون ومختنق ونظرة عميقة سابحة في الضياء: "لقد أحب الله رستمي فأخذه إليه، وسيأخذني إليه أيضاً إذا ما كان يحبني.