قراءة تشريحية     

 

«ديوان الإمام الخميني»

 

عرف الإمام الخميني ـ رض ـ قائدا ثوريا عالميا، ومؤسسا للجمهورية الإسلامية في إيران، ولكن قلة من يعرف الإمام شاعرا، وندره من قرأه وأقترب منه كشاعر صوفي. اسمه (روح الله الموسوي) يذكرنا بقول الحلاج ـ رض -:

 

روحه روحي وروحي روحه                   نحن روحان حللنــا بـدنا

 

صدر في عام 2003م عن المجلس الأعلى للثقافة بمصر ديوانه، والذي قام بترجمة قصائد الديوان إلى اللغة العربية الأستاذ الدكتور / محمد علاء الدين منصور أستاذ اللغات الشرقية بكلية الآداب جامعة القاهرة، وتقع الطبعة العربية للديوان في 272 صفحة من القطع المتوسط، وهو مجمل ما كتبه الإمام الخميني ـ روح الله ـ إذ يحمل الديوان اسمه (ديوان الإمام الخميني).

 

وقد سار الإمام ـ روح الله ـ على خطى الفلاسفة وكبار العارفين في التفكر في أسرار الكون وتجلياته العرفانية فقد تجاوز المباشرة إلى القاموس الصوفي في دلالاته المعجمية والخيالية، وتعابيره آسرة وذات رقة وعذوبة في سعيه نحو مرضاة الله عز وجل، يقول:

 

                  يا نقطة عطف سر الوجود              خذ من يد المحب كأس الثمل

 

 

 

ومثال على عذوبة ألفاظه قوله:

 

هنيئا لذلك اليوم الذي أتحرر من هذا القفص

 

وأفرح بعد ذلك الحزن في فراق الحبيب

 

ألقي رأسي على قدمي المعشوق في خلوه العشق

 

أضع شفتي على شفتيك الحلوتين وأصير فرهاد...

 

ونرى أن الإمام ـ رض - ارتقى إلى قامة الشاعر الصوفي الفارسي المشهور حافظ الشيرازي، والذي عاش بين عامي 1326 ـ 1389 م، وتماس مع الشاعر الفارسي العظيم عمر الخيام ، الذي عاش بين عامي 1048 ـ 1124 م  في رباعياته.

 

وقراءة سريعة للديوان نلاحظ تكرار كلمات العشق والحب في عناوين القصائد:

 

1 ـ العشق مثل: نبيذ العشق ـ بحر العشق ـ سطل العاشقين ـ العاشق المحترم ـ نور العشق ـ ثمالة العاشق ـ العشق المفرج للكروب.

 

2 ـ الحب مثل: كوز الحب ـ لقاء الحبيب ـ شفة الحبيب ـ نقطة العطف ـ محرم السر ـ هوى الوصال ـ محفل المحترقة قلوبهم.

 

في قصيدته (بحر العشق) مثلا يقول:

 

قلبي المجنون أسطورة العالم

 

حول شمعة العشق، احترقت فراشتي

 

ضفيرة المعشوق فخ لقلوب عشاقه

 

شامته السوداء على الشفة، بذرتي

 

صخب العشاق هو وجههم الغماز

 

الأسرار والابتهالات كلها في بيتي

 

زقاق الحانة البهي، بيت صفاء العشق

 

طاق ورواق وجهك مأواي ومنزلي

 

صراخ الرعد نواح لاهب لقلبي

 

بحر العشق قطرة سكري

 

حينما تآلف المشط مع زلف المعشوق

 

غدا كتفي مسجد القديسين كلهم.

 

والإمام عاشق، أيما عاشق، تغزل بمحبوبته، فقال:

 

فراشة شمعة ووجهك الصبوح، أنا

 

مفتون بقامتك الممشوقة، أنا

 

أنا المضطرب إثر فراقك يا سيد الجمال

 

أرفع الستر عني، فمفتضح بك أنا

 

أيها الحبيب

 

أبصر قلبي الملتاع

 

وروحي المبتلاة السقيمة

 

حتام توصد وصالك بوجهي

 

كف يا روحي عني أذيتي

 

عاشق أنا لا يشعر بوجع العاشق إلا العاشق

 

غارق أنا في بحر العشق

 

.... الخ...

 

وبقراءة تشريحية للديوان  لغوية اصطلاحية ومحورية نلاحظ أن:

 

1 ـ لغة الديوان:

 

لغة الإمام الخميني ـ رض ـ جاءت شفافة مغرقة في الكشف فسعى إلى ابتكار دلالة جديدة للمفردة وخلق عوالم تتزاحم فيها المعاني وتتغلب على طابعها المألوف وبعدها الحسي، وفضاءات ذات جذب صوفي مغرق في الرمزية الصوفية والعرفانية مثل: الحانة ـ الخمار ـ المجنون ـ النبيذ ـ الدرويش... الخ الخ.

 

2 ـ الخطوط العريضة للديوان: اشتمل الديوان على الخطوط  المحورية التالية:

 

أولا: التجليات العرفانية:

 

إذ ترتكز تجربته العرفانية على عنصر الكشف والحدوسات القلبية لما لها من دور أساسي في القبض على المعرفة المتأنية من خلال سفر العارف في الآفاق والأعماق. فيعمد إلى الترميز الذي يراد منه إظهار المعاني المضمرة في بواطن الكلام، فثمة خفايا وأسرار محجوبة عن الأغيار المقيدين بسلاسل الحواس.

 

يقول في رباعيته (يا ملاكي!):

 

متى كنت خفيا عن أنظار العاشقين ؟

 

متى كنت منفصلا ـ يا ملاكي ـ عن الروح ؟

 

طوفان حزنك يقلع جذور الوجود.

 

متى كنت منفصلا يا أنيسي عن الروح ؟.

 

وفي رباعيته (ذكراك):

 

يا من ذكراك خميرة حزني وسروري

 

يا من سروه قامتك شجرة حريتي

 

ارفع الستر واكشف عن طلعتك

 

يا أس كل خرائبي وقصوري!.

 

وفي رباعيته (رسالة البلبل):

 

قبلت ريح الربيع شفة الخضرة بدلال

 

وهمست في أذن الشقائق، زهرة النسرين المعبأة أسرارا

 

أوصل البلبل من غصن الزهر رسالة للعشاق

 

أن تعالوا إلى الحانة الحنية على العشاق

 

ثانيا: الإنسانية والتسامح:

 

تحمل القصائد رؤية تتسم بجدية التسامح والتعايش الإنساني بين أتباع الأديان، في قصيدته (فتواي) يقول:

 

والمسجد والصومعة والمعبد والكنيسة،

 

وحيثما تمر يذكرك بمن هو سكينة فؤادي.

 

ثالثا: الحكم والمواعظ:

 

في بعض الأحيان تغلب على الإمام روح المعلم والمربي والمرشد الذي يبث الحكم والمواعظ في صيغة تقريرية مثل قوله:

 

* لكل إنسان نصيبه من الحزن والسعادة.

 

* وسبب هنائي كأس خمري الصافي.

 

* وطريق الباطل لا يصل إلى منزل العشاق.

 

رابعا: السياسة:

 

بعد الانتصار الكبير للثورة كتب الإمام الخميني ـ رض ـ قصائد قصيرة تتحدث عن الجمهورية الإسلامية في إيران، في قصيدته التي تحمل هذا العنوان (الجمهورية الإسلامية) يقول في إحدى رباعياته:

 

جمهوريتنا الإسلامية خالدة،

 

والعدو يئس من حياته

 

اليوم الذي يخلو فيه العالم من الظالم

 

لنا ولكافة المظلومين عبد.

 

أما في رباعيته (جمهوريتنا) والتي كتبها بعد اشتعال الحرب مع العراق، فيبدو فيها صوفيا ثائرا يتحدث بلهجة المرشد والزعيم، يقول:

 

جمهوريتنا دليل على الإسلام،

 

وأفكار طلاب الفتنة النجسة صبيانية،

 

والشعب يتقدم في طريقه،

 

وصدام قد ارتد كيده إلى نحره.

 

وهي كما تبدو تشبه رباعيات الشاعر العظيم عمر الخيام.

 

خامسا: الخمريات:

 

بعض المتصوفة يقصد بالخمر، خمر الجنة ولكن المقصود بها عند الإمام الخميني ـ رض ـ غلبات الشوق فحين يغلب الشوق والوجد والحال بسبب تجلي المحبوب الحقيقي أو الله وقت غلبة المحبة على قلب السالك فيفنى السالك ويغيب عن وعيه لا يعدم لأن استيلاء الشوق والوجد يهدم القواعد العقلية وينقض معاقده الوهمية.

 

لإضاءة هذه المفردة في شعر الإمام ـ رض ـ لابد من ملاحظة الترميزات التالية:

 

* الحانة: وهي مكان المناجاة والحب الإلهي.

 

* الخمار: وهو الشيخ الكامل والمرشد الأول.

 

* الساقي: هو مصدر الفيض المطلق أو الفياض الأول.

 

* القدح والكأس: وهو قلب العارف الذي تتجلى فيه الأنوار.

 

* الشراب: وهو الفيض الإلهي الذي يعين السالك في طريقه.

 

في رباعيته (عيد النيروز) يتماس  مع الشاعر عمر الخيام في خمرياته، إذ يقول:

 

قد ناء الصوفي والعارف من هذه البيداء،

 

فأحتسى الخمر من المطرب فهو هاديك إلى الصفاء،

 

إن أرشدني إلى باب شيخ الحانة،

 

فلأسلكن لا بقدمي بل برأسي وروحي الطريق إليه.

 

وفي قصيدته (كخمر) يتحدث عن الخمر في شهر رمضان وقت السحر !!!!، يقول:

 

أقبل رمضان، هوت الخمرة وتداعت الحانة

 

أجل العشق والطرب والخمرة يا صاح لأوان السحر !

 

فقد أفطرني حبيبي الدرويش نبيذا

 

قلت: قد أورق صيامك وأثمر

 

بالخمرة توضأ

 

ففي مذهب العابثين سينال عملك الحسنى.

 

ويقصد بالدرويش: هو الزاهد عن الدنيا.

 

وفي قصيدته (مفتضحا في المدينة)، يقول:

 

واقعا في فخ جدائلك

 

مفتضحا في المدينة، في أزقتها وشوارعها

 

إن طردتني من الباب لأدخلن من باب أخرى

 

إن أخرجتني من البيت لأخترقن الحائط

 

لقد غادر جنون العلم والعمل رأسي حين أيقظني قدحك الملآن

 

لا لذة تضاهي لذة المرض

 

لذا أدع الروح عن طيب خاطر، تتمارض بداء عينيك

 

لقد استعنت بأنفاس الدرويش

 

حيثما لم أعثر على طريق تفضي بي إلى زقاقك

 

ونفضت ثوبي خجلا مما قطفت ومما جنيت

 

وها قد حضرت خجلا في خدمة الخمار.

 

وفي قصيدته (حسن الختام)، يقول:

 

ألا أيها الساقي أملأن بالخمر كأسي،

 

فانه يخلص من الخير والشر روحي

 

أملان كأسي بالخمر التي تغني روحي

 

وأخرج وجود الخداع والخيال من وجودي.

 

نلاحظ أن الإمام الخميني ـ رض ـ يرقى في خمرياته إلى مستوى راق تضاهي كبار شعراء الخمريات من أمثال أبو نواس وغيرهم .

 

وبعد، هذه مقاربة سريعة لهذا الديوان العظيم لما يحمل من رؤى صوفية عميقة تتجاوز الأبعاد المألوفة نحو القطبية الرأسية المعمقة، ونؤكد أن هذا الديوان يحتاج إلى أكثر من قراءة لمحاولة الوصول إلى الطيف الصوفي في مكنون رؤى الإمام الخميني العظيم. ورحم الله الإمام على ما ترك لنا من تراث صوفي غزير، كسح المطر الذي لا تستقبله إلا القلوب المعلقة بالله العلي العظيم والتي تجاوزت الطمع والخوف إلى الحب الإلهي العظيم...

 

والمقصود بـ (كأس الثمل) هو كأس العشق والحب حتى الفناء...