Skip to main content

عنصر البصيرة في شخصية الإمام الخميني (رحمه الله)

التاريخ: 12-08-2025

عنصر البصيرة في شخصية الإمام الخميني (رحمه الله)

إلى جانب كل الأبعاد المضيئة والمميزة في شخصية الإمام الخميني (رحمه الله)، فإن أحد العناصر الأساسية والفريدة التي لعبت دورًا حاسمًا في فكره وسلوكه هو "البصيرة والوعي العميق" في قيادته الدينية والسياسية، وهو أمر يعترف به الجميع. ورغم أن هذا العنصر غالبًا ما يُدرج إلى جانب المعرفة والعلم، ولم يُبحث بشكل منفصل وعميق حتى الآن. ومع ذلك، لا شك أن مفهوم "البصيرة" أو "الوعي العميق" يتجاوز مجرد العلم والمعرفة، فهناك العديد من العلماء الذين يفتقرون إلى البصيرة، كما أن كثيرًا من المعارف تظل مجرد معلومات ومحفوظات لا أكثر.

الكاتب: عباس جوارشكيان

الملخص

إلى جانب كل الأبعاد المضيئة والمميزة في شخصية الإمام الخميني (رحمه الله)، فإن أحد العناصر الأساسية والفريدة التي لعبت دورًا حاسمًا في فكره وسلوكه هو "البصيرة والوعي العميق" في قيادته الدينية والسياسية، وهو أمر يعترف به الجميع. ورغم أن هذا العنصر غالبًا ما يُدرج إلى جانب المعرفة والعلم، ولم يُبحث بشكل منفصل وعميق حتى الآن. ومع ذلك، لا شك أن مفهوم "البصيرة" أو "الوعي العميق" يتجاوز مجرد العلم والمعرفة، فهناك العديد من العلماء الذين يفتقرون إلى البصيرة، كما أن كثيرًا من المعارف تظل مجرد معلومات ومحفوظات لا أكثر.

ونظرًا للدور الأساسي والهام الذي يلعبه هذا العنصر في مجالات "القيادة"، "الإدارة"، "المرجعية"، "التربية"، "الهداية والإرشاد"، وغيرها، فإنه من الضروري التفكير فيه وتحليله بعمق، خصوصًا ضمن المحاور التالية:

 

أ) ما الفرق بين البصيرة والمعرفة؟ تعريف ماهية البصيرة والوعي، معايير التمييز بينهما، أنواع البصيرة وأشكالها، أسباب نشوئها، شروط تحصيلها، سبل المحافظة عليها وتعزيزها، وعناصرها في القيادة الدينية.

 

ب) أبعاد البصيرة في قيادة الإمام الخميني (رحمه الله): أمثلة وشواهد على تجليات البصيرة في أفكاره وأفعاله، ومصادر هذه البصيرة في شخصيته.

 

رغم ما تتمتع به شخصية الإمام (رحمه الله) من أبعاد بارزة وجديرة بالدراسة، إلا أن عنصر البصيرة والوعي العميق في آرائه وأفكاره وقيادته السياسية والدينية، والذي يشكل الأساس الذي ظل يرشد توجهاته الفكرية وقراراته السياسية والاجتماعية، لم يحظَ بعد بالاهتمام التحليلي الكافي. ربما يعود سبب هذا الإغفال إلى الخلط السائد بين مفهومي "البصيرة" و"المعرفة"، حيث يُنظر إليهما غالبًا على أنهما وجهان لعملة واحدة، مع أن البصيرة، رغم ارتباطها بالمعرفة، تمثل نوعًا أعمق وأكثر خصوصية من الفهم يتجاوز العلوم التقليدية والفهم الكلاسيكي.

 

تعاريف ومعاني البصيرة

 

قبل الخوض في أبعاد "البصيرة" في شخصية الإمام الخميني (رحمه الله)، من الضروري توضيح مفهوم هذه الكلمة. "البصيرة" من المصطلحات الشائعة والمألوفة في لغتنا، وتستخدم في سياقات متعددة تحمل معانٍ متنوعة. يمكن تبني تعريف عام شامل للبصيرة يشمل جميع أنواعها وأشكالها، وهو الذي سنبدأ به ثم ننتقل إلى معانيها الخاصة في القرآن الكريم وفي الاستخدامات الأخرى.

 

المعنى العام للبصيرة

البصيرة، بمعناها الشامل، هي الإدراك العميق للواقع، الذي يمكن الإنسان من تجاوز السطح إلى الجوهر، ومن المظاهر إلى البواطن، ومن الوضع الحالي إلى الحالة المستقبلية، ومن البداية إلى النهاية. بمعنى آخر، هي فهم عميق نافذ يمتد عبر الزمن ويشمل نطاقًا واسعًا، ويتميز بسرعة إدراكه، إما بشكل مباشر أو عبر وسائط قليلة.

في اللغة الفارسية، يُعبّر عن هذا النوع من الفهم بمصطلحات مثل "الرؤية الواضحة"، "الوعي العميق"، "الحدس الحاد"، "الذكاء الفطري"، وفي اللغة العربية نجد كلمات مثل "الفطنة"، "الذكاء"، "التبصّر".

وفي القرآن الكريم، تُستخدم كلمات مثل "التوسّم"([1]) و"البصيرة" لتعبر عن هذا المفهوم.

 

في الفلسفة العقلية، يُطلق الفلاسفة على هذه الحالة من الإدراك اسم "الحدس"، وتسمى تلك القوة المدركة على الفهم في الوجود الإنساني بـ "العقل القدسي"([2]). وفي اصطلاح الفلاسفة المشائيين([3]) فإن "التخمين" هو ذلك الإدراك السريع المؤكد الواقعي الذي يستطيع به العقل البشري، دون الرجوع إلى كنوزه من المعارف السابقة ودون تقديم أي مقدمات، أن يدرك الوسطية في الاستدلال، فإذا وصل إليها حصل على النتيجة المرجوة فوراً.

البصيرة في القرآن الكريم 

 

في القرآن الكريم وردت عبارة "البصيرة" بصيغتها المباشرة، كما وردت تعابير أخرى قريبة المعنى مثل "التوسُّم". وقد تكرر استعمال كلمات مثل: بصيرة، بصير، تبصرة، مبصر، مبصرة، مستبصر، أبصار، في مواضع عديدة من القرآن الكريم. و"البصير" من أسماء الله الحسنى، و"البصائر" من أوصاف الآيات القرآنية:

 

{قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه} (الأنعام: 104)

{هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون} (الجاثية: 20)

 

كما أن "المبصر" صفة من صفات المتقين حينما ينجون من وسوسة الشيطان:

 

{إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} (الأعراف: 201)

 

وقد جُعلت "البصيرة" أساساً لدعوة الأنبياء عليهم السلام:

 

{قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة} (يوسف: 108)

 

وكذلك الوصف البليغ لـ "أولو الأبصار"، الذي هو صفة خاصة لأهل العبرة في القرآن الكريم، أي الذين يعبرون من ظاهر الأمور والأحداث إلى باطنها، ويدركون القوانين التي تحكم الحياة والوجود من خلال استنباطها من الوقائع الجزئية والأحداث الفردية والاجتماعية: {إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار} (آل عمران: 13) {فاعتبروا يا أولي الأبصار} (الحشر: 2).

 

بناء على ذلك ـ ومن المنظور القرآني ـ فإن البصيرة هي إدراك داخلي وبصيرة وجدانية تمكّن الإنسان من الوصول إلى فهم أعمق وأوسع من حدود المحسوسات والمظاهر الخارجية للأحداث والتحولات في الحياة. وكما أن "العلم" و"العقل" في نظر القرآن الكريم وفي الثقافة الدينية مقترنان بالعمل والالتزام، فإن البصيرة – والتي هي أرفع وأعمق مرتبة من العلم – تقترن كذلك بالعمل، وأصحاب البصيرة هم بالضرورة من عباد الله الصالحين المتقين. أما صيغة الجمع "أولو الأبصار" فتدل على أن البصيرة قد تتعدد أبعادها وتجلياتها حتى في الشخص الواحد.

 

ومن التعابير القرآنية اللافتة في هذا السياق كلمة "التوسُّم". والتوسّم في اللغة هو "إدراك العلامة"، أي الفهم من خلال الأمارات والقرائن. وبذلك، فإن التوسّم هو إدراك دقيق ورفيع يقود صاحبه من أصغر الإشارات وأبسط العلامات إلى اكتشاف حقائق كبرى.

 

{إن في ذلك لآيات للمتوسمين} (الحجر: 75)

 

قال بعض المفسرين في معنى الآية: أي للعارفين المعتبرين المتعظين. وصيغة الجمع "لآيات" تدل على شدة دقة هذا النوع من الإدراك؛ إذ يستطيع المتوسّم أن يستخلص من حدث واحد عدداً كبيراً من الدلالات والمعاني. وقد قال العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان عند شرحه لهذه الآية: "التوسّم هو التفرّس والانتقال من سيماء الأشياء إلى حقيقة حالها"، وهو ما يؤكد المعنى القائم على إدراك الحقائق من خلال العلامات الظاهرة.

 

المعاني الخاصة للبصيرة

 

بعد بيان التعريف الشامل والمعنى القرآني للبصيرة، يمكن الإشارة إلى أربعة معانٍ خاصة لها:

 

البصيرة بمعنى الخبرة (Expertise):

وهو المعنى العرفي المتداول؛ إذ يُقال "فلان بصير بكذا" أي ملمّ به إحاطة تامة، عارف بجوانبه وتفاصيله، خبير ومتخصص فيه، فلا يقع في الخطأ أو الارتجال أو العمل غير المدروس في مجاله.

 

البصيرة بمعنى الحدس والرؤية النافذة (Intuition):

وهي إدراك شهودي مطابق للواقع، لا يتم عبر الوسائل المعتادة للمعرفة، بل من خلال الإدراكات القلبية والمشاعر الداخلية. وهذه الإدراكات متنوعة ولا يمكن حصرها في إطار محدد، ويمكن تقسيمها من حيث مصدرها إلى أنواع:

 

إدراكات عاطفية ناتجة عن الروابط الروحية، مثل إحساس الأم بولدها.

 

إدراكات لاشعورية تنبع من العقل الباطن، مثل الإحساس المسبق بحوادث مقبلة.

 

إدراكات باطنية ناتجة عن انفتاح البصيرة الروحية (الكشف والشهود العرفاني).

 

إدراكات إلهامية من الملأ الأعلى، كالعلم اللدني الذي يفيضه الله على أوليائه.

 

إدراكات إلقائية عبر بعض الموجودات الغيبية، كالجن أو الأرواح (وقد تكون مضللة إن صدرت عن قوى خبيثة).

 

إدراكات رمزية متعلقة بالعلوم الغريبة ورياضات النفس. (بالطبع، لا يُمكن إدراج هذه الفئة، ذات الهوية العلمية والأكاديمية، ضمن فئة الإدراكات الحدسية، ولكن لأنها غير تقليدية وترصد أحداثًا خفية وغير مرئية، فإننا نضعها ضمن فئة الإدراكات الحدسية).

 

يتحقق هذا النوع من الإدراكات الحدسية أحيانًا في النوم أو اليقظة، بشكل مباشر أو غير مباشر، صريحًا أو ضمنيًا، الخ. أحيانًا يكون إنكار الذات فعالًا في اكتسابها، وأحيانًا أخرى، دون أي جهد، يتم العثور عليها ببساطة على أساس مواهب وراثية خاصة أو موهبة إلهية، حتى في السنوات الأولى من العمر.

 

البصيرة بمعنى الفطنة والحدّة الذهنية (Acumen):

الفطنة هي إدراك الجوانب الخفية والباطنة للأشياء من خلال الانتباه إلى علاماتها الجزئية والظاهرة. وهذا المعنى يتفق إلى حد كبير مع ما يُشار إليه في القرآن الكريم بـ"التوسم". الفطنة أو "التوسم" أو "الفراسة" وهي إدراك رقيق ودقيق يتحقق من خلال الانتباه إلى دقائق وخصائص مظهر الشيء وظهوره للإنسان؛ أي أن يكون حساسًا ودقيقًا في كل شيء، حتى أصغره وأتفهه، ويحسبه ويتأمله، ويعرف مستقبل الأمر من علاماته وبداياته في الحاضر، ويتنبأ بمجريات الأمور من خصائص المراحل الأولى من تكوينه.

 

شروط الفطنة: لا يكون الإنسان ثاقب البصيرة بهذا المعنى إلا إذا:

١) أن يكون دقيقًا، وراقيًا، وذا فهم جيد. (وأن يكون لديه روح حساسة ودقيقة).

٢) أن يكون خبيرًا ومتخصصًا في العمل ذي الصلة.

٣) أن يكون لديه خبرة عملية واسعة في العمل (أن يكون لديه خبرة في أنواع مختلفة من المسائل).

٤) أن يكون قادرًا على التفكير والتأمل في القضايا والتعلم من التجارب الماضية والحالية. (أن يكون قادرًا على استخدام التجارب السابقة كدليل للمستقبل وفهم الأمور بشكل أفضل).

٥) أن يكون غير عاطفي، بل إنسانًا "متوازنًا" من حيث الشخصية، و"عقلانيًا" من حيث التفكير.

٦) أن يتمتع بقدرات عقلية جيدة؛ مثل سرعة التنقل، والذاكرة الجيدة، والقدرة التحليلية الوفيرة، الخ.

7) أن يكون على دراية جيدة بالقوانين التي تحكم المادة (وهي من العوامل المهمة والرئيسية في الحدة). فمثلاً في الشؤون الإنسانية والاجتماعية، من جهة، يجب أن يكون على دراية بطبيعة الإنسان، وأن يكون على دراية بالظروف الأساسية لنفسيته، ومن جهة أخرى، يجب أن يعرف القوانين التي تحكم الحركات الجماهيرية والشعبية، وأن يكون على دراية بالسنن الإلهية التي تحكم حركة المجتمعات، الخ.

لا شك أنه كما هو الحال في العلوم الدقيقة، حيث يُمكن التنبؤ بالمراحل التالية لأي ظاهرة والإعلان عنها بمعرفة قوانين الطبيعة، كذلك الحال في الشؤون الإنسانية والاجتماعية. إن من ينجحون أكثر في تحليل الأحداث، وفهم ما هو آت، والتنبؤ بمجرياتها هم من يمتلكون إتقانًا أكبر للقوانين والمبادئ والتقاليد التي تُسيطر على الظواهر الإنسانية والاجتماعية.

4. البصيرة بمعنى "الرؤية" (Vision):

الرؤية هي ذلك الإدراك الكلي أو ذلك الفهم الجذري الذي يمنح جميع إدراكات الإنسان ومعارفه العلمية اتجاهًا محددًا ويضفي عليها هوية شاملة وصبغة خاصة. هذا النوع من الإدراك الكلي يؤثر بصورة أساسية وجذرية في جميع التحليلات والتفسيرات العقلية أو العلمية للإنسان، ويمنحها هوية موحدة ومشتركة.

ومن المهم ملاحظة أن العلاقة بين "الرؤية" و"البصيرة" هي علاقة عموم وخصوص مطلق؛ فالبصيرة هي تلك الرؤية المطابقة للواقع، ومن ثمّ فإن هناك رؤى لا تتوافق مع الحقيقة، وبالتالي لا يُطلق عليها "بصيرة". ويُستخدم مصطلح "الرؤية" على نطاق واسع للتعبير عن التوجهات العامة والاتجاهات النظرية أو العملية الخاصة، مثل: الرؤية المادية في مقابل الرؤية المعنوية، الرؤية الإلحادية أو الإلهية، الرؤية التجريبية أو العقلية، النقلية أو الاستدلالية، الفقهية أو الكلامية، التقليدية أو المتجددة، الاختزالية أو المتعالية، النفعية أو القيمية، العملية أو المثالية، الشركية أو التوحيدية... وسنتحدث عن "الرؤية" بمزيد من التفصيل لاحقًا.

 

أبعاد البصيرة في شخصية الإمام الخميني (قده):

من المناسب الآن أن نبحث عن المعاني المذكورة للبصيرة في شخصية الإمام الخميني (قده)، غير أن المقام هنا لا يتسع لتحليل دقيق ومفصل، ولذلك سنكتفي بالإشارة الإجمالية لبعض الملامح، على أمل أن يقوم الباحثون وأهل الفكر لاحقًا بدراسة كل بُعد منها دراسة مستقلة ووافية.

 

يرى الكاتب أن المعاني الأربعة للبصيرة كانت حاضرة في شخصية الإمام الخميني (قده) في ثلاثة مجالات أساسية:

 

البصيرة في الدين، والفقه، والاجتهاد.

 

البصيرة السياسية.

 

البصيرة في القيادة وتدبير الأمور.

 

وتوجد شواهد كثيرة على ذلك، سواء من حيث الخبرة، أو من حيث الرؤية الواضحة والشهود القلبي، أو من حيث حدة الذكاء والفطنة، أو من حيث الرؤية الكلية الشاملة. وهنا، ومن غير الدخول في تفصيل أو حصر كامل، نذكر بعض المواقف التي تجلّت فيها فطنة الإمام وذكاؤه في لحظات حاسمة من مسيرة الثورة الإسلامية، وكل منها يستحق دراسة خاصة:

 

موقفه الثوري والجريء والحاسم ضد نظام الشاه مباشرة بعد وفاة آية الله البروجردي، حيث اختار الإمام هذا الظرف الزمني الاستثنائي لمواجهة النظام مواجهة جادة.

 

جعله الشاه الهدف الرئيسي لهجماته.

 

حساسيته تجاه قضية فلسطين.

 

هجومه الشجاع على إسرائيل وأمريكا واستهدافه لهما مباشرة.

 

رفضه دعم أو تأييد النظام البعثي العراقي أثناء إقامته في العراق.

 

معارضته لفكرة الكفاح المسلح كوسيلة لتحقيق النصر.

 

عدم تأييده لجماعة "المنافقين" (مجاهدي خلق) في الوقت الذي كان بعض كبار العلماء يؤيدونهم.

 

تعامل الإمام الحذر جداً مع قضية شريعتي (ونظراً للدور الفعال جداً الذي لعبه الدكتور شريعتي في تشكيل الوعي الثقافي والحركة الطلابية فإن تعامل الإمام (رحمه الله) الحذر والدقيق مع هذه القضية من أجل الحفاظ على الطبقة الفكرية النزيهة يستحق التأمل والبحث.

 

كشفه ومواجهته للمقدّسين المتظاهرين بالتدين داخل الحوزة.

 

جعل "الوحدة" بين الجامعيين ورجال الدين محورًا في خطاباته.

 

طرحه موضوع ولاية الفقيه في دروسه الفقهية منذ بهمن 1348هـ ش (فبراير 1970م).

 

بصيرته المبكرة بإمكانية انتصار الثورة في عامي 1962-1963م.

 

دعوته لكسر حظر التجول في 21 و22 بهمن 1357هـ ش (فبراير 1979م)، مما كان لذلك الدور الحاسم في إسقاط النظام.

 

فطانته تجاه انهيار النظام الشيوعي السوفيتي قبل وقوعه.

 

موقفه الحاسم من قضية سلمان رشدي.

 

إصراره القوي على تسمية النظام الجديد بـ"الجمهورية الإسلامية" بدل "الديمقراطية الإسلامية".

 

وهناك عشرات المواقف الأخرى التي تعكس حنكة الإمام، (رحمه الله) في حياته السياسية والاجتماعية وهي جديرة بالتأمل والتحليل، وتستحق البحث والدراسة بشكل مستقل. وهنا يجدر التعمق في المعنى الرابع للبصيرة، أي "الرؤية الصحيحة" في آراء وأفكار الإمام (رحمه الله)، والتعمق في هذا الجانب، الذي يُعد من أهم جوانب شخصيته الفكرية والسياسية والفقهية وأهمها.

 

الرؤية: تعريفها وأثرها

قبل تناول أبعاد الرؤية في شخصية الإمام الخميني (قده)، يجدر بيان طبيعتها.

الرؤية عامل أساسي وشامل في جميع الأفكار والآراء النظرية والعملية للإنسان، إذ تمنح مجموع معارفه ومعلوماته هوية وشكلاً وفاعلية خاصة. وكما أن الرؤية البصرية تحتل مكانة محورية في إدراك الإنسان لموقعه وتوجيه حركته، فإن الرؤية العقلية والقلبية تمثل عنصرًا حاسمًا بين سائر معارفه.

الرؤية تحدد حتى كيفية إدراك الحقائق وفهمها، وتوجّه خياراته النظرية والعملية، وتمنح فهمه للوجود إطارًا خاصًا. فهي زاوية النظر التي يختارها كل باحث لمقاربة الواقع. وحتى لو افترضنا أن الحقائق العلمية مطلقة ومستقلة عن الباحث، فإن زاوية النظر التي يتبناها سيكون لها أثر أساسي في فهمه لها، بحيث أن تغير تلك الزاوية سيؤدي إلى تحول جذري في إدراكه لما كان يعرفه سابقًا.

 

ويشهد تاريخ الفكر الإنساني أن التحولات الثورية في المعرفة البشرية كانت غالبًا نتيجة لتغير في زاوية النظر وظهور بصائر خاصة عند علماء يمتلكون نفس معارف معاصريهم لكنهم ينظرون من منظور جديد.

أهمية الرؤية تتضح حين نرى أن نفس المعطيات والحقائق يمكن أن تُفهم بطرق مختلفة أو حتى متناقضة. وهذا واضح في وجود مدارس فكرية متباينة داخل ثقافة أو دين واحد كالإسلام، وفي اختلاف العلماء والمجتهدين المنتمين لمذهب واحد كالتشيع.

 

وبناءً على ذلك، فإن جذور كثير من الخلافات النظرية في المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعقدية والتفسيرية تعود إلى اختلاف الرؤى. فاختلاف النظرة يؤدي لاختلاف الفهم حتى لنص واحد أو حدث واحد، ما لم نبحث في الأسس الجذرية للفهم ونُصلحها أو نوفق بينها، ستبقى النقاشات الجزئية بلا جدوى.

 

وفي واقعنا المعاصر، نرى اختلاف المشارب وتعدد الرؤى حتى حول القضايا الواحدة، فيما يُعرف اليوم بـ"القراءات المتعددة". وهذه الظاهرة تؤثر تأثيرًا حاسمًا في مجريات الخلافات السياسية والعقدية الراهنة. لكن للأسف، يغيب التحليل العلمي العميق لها بسبب طغيان النزعة السطحية والصحفية في تناولها.

 

ومع أن بعض المفكرين والصحفيين ذوي التوجه التعددي (Pluralistic) يرون أن تنوع الفكر البشري أمر طبيعي ولا يحتاج إلى علاج، بل ينبغي تقبله والالتزام بلوازمه، إلا أن هذا الموقف يلغي السعي وراء الوصول إلى رؤية صحيحة وموحدة، ويعتبره جهدًا عبثيًا.

 

ولكن على الرغم من كل هذا التقارب التعددي، يتعين علينا أن نعرف:

أولاً: إنّ هذه النظريّة والرأي ليستا في جوهرهما أكثر من قراءة ورؤية خاصّة بشأن المعرفة البشريّة، ووفقاً لمضمون هذه النظريّة نفسها، لا ينبغي اعتبارها حقيقة مسلَّمة وواقعاً غير قابل للشك. فكيف يمكن – من منظور هذه النظريّة الخاصّة – إصدار الحكم على جميع الآراء والأفكار الأخرى، ودعوتها إلى القبول والالتزام بمثل هذا الفهم وهذه الرؤية!؟

 

ثانياً: إنّ قبول أيّ نظريّة، ومن بينها هذه النظريّة (التعدديّة المعرفيّة)، يجب أن يستند – على الأقل – إلى شواهد وقرائن كافية، وأن يقوم – في أقصى الحالات – على أدلّة وبراهين راسخة. وإنّ مجرّد تقديم الشواهد التاريخيّة والاستناد إلى كثرة موارد الاختلاف في الرأي بين الأمم والمذاهب والتيّارات والمفكّرين، لا يوفّر أيّ اعتبار لهذه النظريّة؛ إذ إلى جانب جميع هذه الاختلافات، توجد مئات بل آلاف الحالات من التوافق والتفاهم والاشتراك في الفكر ووحدة النظر.

 

ثالثاً: إنّ الادّعاء بعدم جدوى السعي لحلّ الخلاف، والإيمان بالتعدديّة المعرفيّة، يقوم في حدّ ذاته على رؤية خاصّة ومسلّمات مسبقة تجاه المعرفة البشريّة؛ ومنها الاعتقاد بأنّه لا يوجد معيار ثابت وعام لتمييز الحقّ من الباطل، والصواب من الخطأ، والحقيقة من الوهم في المعرفة البشريّة، وأنّه لا يوجد أيّ مرجع علمي موثوق خارج الإدراك الشخصي لكلّ فرد (فلا من حيث العقل توجد مسلّمات وأُسس عامّة يُستند إليها، ولا من حيث الشرع يمكن الحصول على فهم واحد ثابت وموثوق للنصوص والموادّ الشرعيّة ليكتسب حجّيّة عامّة، ولا من حيث العلوم التجريبيّة يمكن للظنون والنظريّات العلميّة أن تمتلك من الواقعيّة والتمثيل للواقع ما يُفيد معرفة يقينيّة ثابتة وراسخة). ومن البديهي أنّ مثل هذه المسلّمات المسبقة تتعرّض لنقدٍ جادّ ومناقشات واسعة ينبغي تناولها في موضعها.

 

رؤية الإمام الخميني (قده)

عند التأمل في آراء وأفكار الإمام الخميني (قده) ومجموعة التوجيهات الواسعة طوال حياته السياسية والاجتماعية، يتضح بجلاء تميّزه الخاص والاستثنائي بين باقي المفكرين والمصلحين والفقهاء المعاصرين وغير المعاصرين، وهذا الأمر مفهوم لأي شخص. نحن أمام تميّز بارز وعميق في نظر وعمل الإمام (قده). تميّز عن الفقهاء والعلماء الذين نشأوا وترعرعوا في نفس الفضاء الفكري والإرث الثقافي والموقع الاجتماعي والسياسي للإمام (قده). كيف يمكن ألا نفكر في هذا التميّز الكبير، وألا نحلّله ونفسره؟ من الضروري أن نسأل بجدية وعلم:

 

ما هي العناصر التي ترتبط بتوجهات الإمام (قده) الفكرية والعملية الخاصة في ميدان الأفكار الدينية والعمل السياسي والاجتماعي؟

ما هو أصل تميّز الإمام الخاص بين كبار الفقهاء والعلماء الدينيين؟

هل يعود التميّز إلى اختلاف مدى معرفة الفقهاء بالدين؟

هل المعرفة ومدى الإلمام بالمعرفة المعاصرة هو الذي يلعب الدور الرئيسي، أم أن مستوى المعرفة بالحقائق الاجتماعية والوضع السياسي للمجتمع هو أساس هذا الاختلاف في الرأي؟ هل يعود ذلك إلى الخصائص الشخصية – مثل الإخلاص وصدق النية، والشجاعة والجرأة، أو القدرات الفردية في الإدارة والقيادة... – أم أن العوامل الخارجية والظروف الزمنية الخاصة هي التي تثير هذه الاختلافات؟

... الكاتب لا يعتقد أبداً أنّ هذه الأمور المذكورة أو أسباب أخرى لم تلعب دوراً أو أن شخصية الإمام خالية منها، بل لأن واقع الوجود – سواء كانت الحقائق الفيزيائية والمادية أو الحقائق الاجتماعية والظواهر الثقافية والإنسانية – تتميز بهويات معقّدة وشاملة وجماعية، خاصة في مجال النفس والشخصية الإنسانية، لا يمكن أبداً إهمال دور جميع الأسباب والعوامل الثقافية والاجتماعية والتاريخية ... لكن كل الكلام يدور حول العنصر الرئيسي والأساسي لهذا الاختلاف، عنصراً قوياً وحاداً غطّى على باقي العوامل المؤثرة وجعل شخصية الإمام (قده) بدلاً من أن تكون شخصية سلبية متأثرة بالبيئة والإطار الثقافي والتاريخي، شخصية تصنع العصور وثورية تماماً.

 

يبدو أنّه في بعد شخصية الإمام الفردي (قده)، مع مراعاة النقاط اليقينية التالية، ليس من الصعب التعرف على هذا العنصر:

1- (من حيث الموقع الاجتماعي) كانت ثورته من موقع أحد أبرز «العلماء الدينيين».

2- (من حيث دافع الحركة) الدافع الأول والأساسي للإمام (قده) هو الدفاع عن الدين والقيم الإسلامية. (لا يوجد أدنى شك في إخلاصه بعمله، وغيرته الدينية، ودافع تكليفه الشرعي).

3- (من حيث مبادئ الحركة وأُسسها) كان محور الشعائر الدينية والفقه الإسلامي في تقديم آرائه ونظرياته وتوجيهاته العملية والنظرية، والالتزام الكامل بالمبادئ والقيم الإسلامية، ما جعل حركته حركة إلهية ودينية مئة بالمئة. (على الأقل من وجهة نظر الإمام (قده) وجميع الناس الذين آمنوا به، كانت كل هوية الحركة إسلامية ودينية بالكامل).

4- (من حيث الأهداف والغايات) كانت رسالة وهدف حركة الإمام (قده) النهائية إقامة الحكومة الدينية واستمرار رسالة النبي الأكرم (ص) والأئمة الأطهار (ع) في المجتمع والأمة الإسلامية.

 

بالنظر إلى هذه النقاط، لا شك أنه يجب البحث عن العنصر الرئيسي في رؤية الإمام (قده) في فهمه للإسلام، وأن نوع نظرة الإمام (قده) إلى الحقائق والتعليمات الإسلامية هو العنصر الأبرز في تميّزه الكبير عن باقي العلماء والفقهاء المعاصرين.

بدون شك، هذا الفهم وهذا النوع من النظرة – الذي نسميه «رؤية» و«بصيرة» – لا يرتبط بمدى المعرفة أو مدى الاطلاع على النصوص والمصادر الدينية، فهناك العديد من العلماء الذين حملوا ثقلًا هائلًا من العلوم الدينية وكانوا يتمتعون بقدرات علمية وعقلية كبيرة، لكن لا يمكن أن نجد فيهم مثل هذه البصيرة والرؤية والتأثير. وهناك كثير من المثقفين الذين لا شك في إتقانهم للعلوم الحديثة، ولكن رغم إيمانهم الديني ومعرفتهم بالمعارف الإسلامية، لا تظهر في آرائهم ونظرياتهم توجهات سياسية واجتماعية مثل هذه، بل على العكس، البعض منهم كان من دعاة العدمية الدينية واللافعالية.

 

كيفية اكتشاف رؤى ومواقف الإمام (قده) العامة:

يمكن اكتشاف محاور رؤية الإمام (قده) بطرق عدة:

 

استخراج الأسس النظرية لأفكار الإمام من خلال التحليل العقلي والاستنباط النظري.

 

دراسة المذاهب الفقهية والفلسفية والعرفانية لدى الإمام (قده).

 

الانتباه إلى التوجه العملي للإمام في حياته الشخصية والاجتماعية، وأحكامه، وخياراته، وطريقة تعامله مع مختلف الأشخاص والقضايا، ونمط حياته، وعلاقاته الاجتماعية وغير ذلك.

 

اكتشاف المحاور والجوهر في تعبيرات الإمام (قده) من خلال البحث عن المحاور المتكررة والمؤكدة في كلامه.

 

إشارة إلى بعض بصائر الإمام (قده):

نظرًا لضيق المجال في هذا النص، نكتفي هنا بذكر بعض المحاور الرئيسية لرؤية الإمام، مع تأجيل التفسير والتفصيل والاستدلال إلى مكان آخر:

 

المحاور الرئيسية لرؤية الإمام (قده) من جانبين:

أ‌) الرؤى العامة للإمام (قده) تجاه الإسلام

ب‌) الرؤى الخاصة بالإنسان والتي تتعلق ببعض التعاليم الأساسية والمحورية في الإسلام

 

أ) الرؤى العامة

الإيمان بشمولية الإسلام:

الاعتقاد بأن الإسلام مذهب يمكنه أن يلبي جميع حاجات الإنسان، وله القدرة على إرادة وقيادة الناس في كل العصور، لا سيما في العصر الحاضر. والاعتقاد بأن الفقه الشيعي قادر على تحقيق هذا المعنى. وهذا الاعتقاد مبني على أسس خاصة في فكر الإمام (قده) فيما يتعلق بأسلوب الاجتهاد في الدين، ولهذا لم يكن يرى الاجتهاد السائد والمألوف في الحوزات كافياً.

 

النظر إلى تعاليم وأبعاد الإسلام كنظام متكامل ومتلازم:

أي إن اعتبار التعاليم الإسلام الفردية والاجتماعية والعبادية والسياسية مترابطة وذات هوية واحدة. بناءً على هذه النظرية الخاصة، فإن التعاليم الاجتماعية والسياسية والحكومية للإسلام عند الإمام تحظى بنفس القدر من الأصالة والأهمية والضرورة التي تحظى بها الأحكام الفردية والتعليمات العبادية. ومن هذا المنظور تصبح السياسة كالعبادة، وتجد العبادة معناها في سياق السياسة، ومن ثم فإن الطبيعة الإسلامية للمجتمع لا تكتسب معناها إلا بالتطبيق الشامل لأحكام الإسلام.

رؤية الإسلام كرسالة دنيوية وأخروية معًا:

بعبارة أخرى، ترى التعاليم الشرعية بأنها تهدف إلى مصالح الدنيا والآخرة معًا، وأن الدين مكلف بتحقيق سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة. ولذلك، فإن إقامة العدل الاجتماعي، وتحرير المستضعفين من الظلم، والعمل على رفاهية ورفعة حياة الفقراء والمحرومين، تكون في مقدمة برامج الدين الاجتماعية وتعتبر دينية وأصلية تمامًا.

 

تلازم الرؤية للدنيا والآخرة:

أي أن السعادة في الآخرة مرتبطة بالسعي إلى السعادة في الدنيا، ولا يتم فصل حساب الدنيا عن الآخرة، فالآخرة هي باطن الدنيا والدنيا هي ظاهر الآخرة، وبعبارة أخرى توجد علاقة وجودية بين الدنيا والآخرة. ونتيجة لذلك، يُنظر إلى العلم والدين على أنهما مرتبطان ومتوافقان، وترفض كل النظريات العلمانية داخل إدارة شؤون المجتمع، ويُنظر إلى الدنيا بكل معنى الكلمة كأمر ديني.

 

النظرة العقلانية إلى الكون والإنسان والشريعة:

إقرار مصالح حقيقية وذاتية لكل الأحكام والتعليمات الشرعية، وبالتالي، تعتمد مبررات الأحكام الشرعية في الشؤون الاجتماعية والسياسية والحكومية على إدراك الحقائق والمصالح (المصالحية)، ويُعطى للحكم السياسي منزلة مماثلة للحكم الأصلي. ويتضح كيف تنشأ النظرة الحكومية للإسلام من خلال هذا المنظور والرؤية (شمولية الإسلام، النظر النظامي إلى التعاليم الدينية، رؤية الدين كرسالة دنيوية وأخروية، تلازم الدنيا والآخرة، والنظرة المصالحية إلى الأحكام الدينية)، وكيف ترتبط هذه النظرة ارتباطًا عميقًا بالدين والأصل الإسلامي، وتحظى بأهمية وأولوية حتى أن الإمام (قده) يعتبر الحكم من أعظم الواجبات الدينية ويتقدم على كل الأحكام الأصلية في الإسلام.

 

النظرة التوحيدية للدين والنظام الاجتماعي:

على أساس هذه النظرة يُرفض النظام الشركي وكل مظاهر الشرك بشكل مطلق، وأي محور غير الله يُسمى طاغوتًا، وبالتالي فإن التوحيد المحوري هو الأصل والأساس في الدين والحكم في المجتمع. لقد كان التوجه إلى الله من أبرز محاور فكر وعمل الإمام (رحمه الله)، وكانت حساسية الإمام (قده) غير العادية تجاه الطاغوت وأتباع الطاغوت ومظاهر الطاغوت في المجتمع نابعة من هذا الاعتقاد والموقف التوحيدي.

النظرة الولائية:

النظرة التوحيدية تقتضي نظرة ولائية لكل مناحي الحياة والمجتمع، فمحور الله وأحكامه في كل أبعاد المجتمع يستلزم أن تأخذ كل مصادر ومجاري التشريع والتنفيذ والقضاء مشروعيتها وهويتها من هذا المحور والمبدأ، لكي تكون الوحدة الولائية ضامنًا لتحقيق التوحيد في المجتمع.

 

في هذا المقام، ليس من غير المناسب أن نورد بعض من أقوال الإمام (قده) كمثال، حيث تتضح فيها هذه الرؤى بشكل كامل. ومن بين كثرة توجيهات الإمام (قده)، نجد في وصيته السياسية والدينية هذه المقاطع:

 

"نحن نفتخر... بالحقائق القرآنية كأعظم نسخة تنقذ الإنسان من كل القيود التي تقيد قدميه ويديه وقلبه وعقله... ونحن نفتخر بأننا أتباع مذهب... مكلف بتحرير الإنسان من كل الأغلال والعبودية... ونحن نفتخر بكتاب نهج البلاغة... حيث أن أوامره الروحية والحكومية هي أعظم طريق للنجاة..." (ص 24)

 

"الإسلام والحكم الإسلامي ظاهرة إلهية، إذ بتطبيقهما تُؤَمَّن سعادة أبنائه في الدنيا والآخرة بأعلى صورة... وهو مذهب... يتدخل ويراقب في جميع مناحي الفردية والاجتماعية والمادية والروحية والثقافية والسياسية والعسكرية والاقتصادية، ولا يغفل عن أي نقطة، حتى ولو كانت ضئيلة جدًا، تلعب دورًا في تربية الإنسان والمجتمع وتقدمه المادي والروحي..." (ص 33)

 

"حفظ الإسلام في رأس جميع الواجبات." (ص 33)

 

"القرآن الكريم وسنة رسول الله (ص) فيهما من الأحكام في الحكم والسياسة أكثر مما فيهما في غيرهما، بل الكثير من الأحكام العبادية في الإسلام هي عبادات سياسية..." (ص 37)

 

"الحكم من أعظم الواجبات وأداؤه من أعظم العبادات." (ص 38)

 

(الصفحات 36، 37، 38 من الوصية مخصصة لموضوع علاقة الإسلام بالسياسة).

 

"الحكم من الأحكام الأصلية في الإسلام، بل مقدم على جميع الأحكام الأصلية الأخرى."

 

ب) الرؤى الخاصة

تشير تأكيدات خاصة للسيد الإمام (قده) إلى محاور ورؤى خاصة لديه. وهنا نذكر بعضًا منها:

 

سيادة منطق «الواجبية وأداء التكليف» على كل حركاته وسكناته، وفي كل الإجراءات السياسية وقيادة الثورة، نابعة من «محورية الخضوع لله» في نظر وعمل الإمام (قده).

 

أولوية القتال ضد «أئمة الكفر» وتركيز كل هجماته الساحقة على العمود الفقري والمحاور الرئيسية للتمرد والفساد (أمريكا، الصهيونية، الشاه).

 

التمسك بالعزة: اهتمام خاص بعزة الإسلام، عزة المسلمين، عزة علماء الإسلام، عزة النفس المؤمن... وبناءً على هذا الاهتمام والتأكيد، كان الإمام (قده) يدعو المسلمين إلى الحمية والغيرة الإسلامية، وكان يظهر رد فعل قوي وشجاع ضد الانحرافات والبدع والإساءة إلى المقدسات وهجمات أعداء الإسلام على الأراضي الإسلامية (الصهيونية).

 

محورية الشعب والاهتمام بعامة الجماهير وليس بالنخبة فقط: الاعتماد على الشعوب، والاهتمام الجدي بإيقاظ الشعوب، مخاطبة الناس باعتبارهم أولياء النعمة، استخدام لغة مبسطة يفهمها عامة الناس، وغيرها من الصفات الشعبية البارزة في فكر وعمل الإمام (قده).

 

الاهتمام والتأكيد على الشباب، وإعطاء الثقة والتقدير لفئة الشباب في المجتمع (وهذا واضح في سيرة الأنبياء (ع) والرسول الكريم (ص) والأئمة الأطهار (ع)، وله جذور نظرية في نظرية الفطرة وبعض التعاليم الإسلامية).

 

الاهتمام الخاص والبارز بـ«وحدة الكلمة»: فقد أشار الإمام مرارًا إلى عاملين رئيسيين للثورة وهما «محورية الله» و«وحدة الكلمة» كركنين للثورة، ورمز للنصر وبقاء الثورة.

 

الحساسية الخاصة والموقف الخاص لقضية «الفقر والغنى»: التأكيد المستمر والشامل للإمام (قده) على قضية المستضعفين تحت مسميات «الفقيرين»، «المستضعفين»، «المظلومين»، «سكان الأحياء الفقيرة»، «الجياع»... وتنبيه المسؤولين إلى الاهتمام بهذه الفئات وإصلاح أوضاعهم مقابل «رجال الأعمال»، «المتسولين على الأرض»، «النخب»، و«الأغنياء الغافلين» يبرز أهمية قضية الفقر والغنى أمامه.

 

بلا شك، هناك محاور كثيرة أخرى في فكر الإمام (قده) تحتاج إلى استخراج وتوضيح مناسب. هنا، ومع ضيق المجال، يؤسفني ألا أستشهد بالعديد من أقوال الإمام حول كل محور، لكن لا بد من الإشارة إلى نقطة حيوية وهامة في آراء الإمام وهو اهتمامه الشديد بقضية الفقر والغنى:

 

«إن هؤلاء الفقراء خدموا البلاد وقاموا بالثورة، وبيد هذه الطبقة وصلت الحركة إلى هذا الحد، وهذا أمر ليس خفيًا علينا أو على أحد، فالطبقة التي أنجزت هذه الحركة كانت طبقة محرومة من النساء والرجال...» (صحيفة الإمام، ج 6، ص 263)

«ما يجب على رجال الدين ألا يتخلوا عنه أبداً، وألا يخرجوا من الميدان تحت دعاية الآخرين، هو دعم الفقراء والمحرومين؛ لأن من يتخلى عن ذلك يتخلى عن العدالة الاجتماعية للإسلام. ويجب علينا تحت أي ظرف أن نعتبر أنفسنا مسؤولين عن هذه المهمة العظيمة، وأي تقصير فيها هو خيانة للإسلام والمسلمين.» (صحيفة الإمام، ج 20، ص 244 / رسالة قبول القرار)

 

كل آمال وأماني الشعب والحكومة والمسؤولين لدينا أن يزول الفقر والحرمان من مجتمعنا، ويتمتع شعبنا العزيز والصبور والمفتخر بالرفاهية المادية والمعنوية.

لا سمح الله أن تأتي أيام يكون فيها سياستنا وسياسة المسؤولين لدينا الانحراف عن الدفاع عن الفقراء والتحول إلى دعم الأغنياء والمستثمرين، حيث يتمتع الأغنياء بثقة واهتمام أكبر. هذا مخالف لسيرة الأنبياء وأمير المؤمنين والأئمة المعصومين (ع) وهو طاهر عن روحانية العلماء ويجب أن يبقى كذلك. ومن فخر ونعمة بلدنا وثورتنا وعلمائنا أنهم وقفوا إلى جانب الفقراء وأعادوا شعار الدفاع عن حقوق المستضعفين. (رسالة البراءة، صحيفة الإمام، ج 20، ص 129)

 

«الدافع للحكم هو ما قاله أمير المؤمنين (ع): "لولا حضور الحاضر وقیام الحجة بوجود الناصر وما اخذ الله علی‌ العلماء أن لا یقاروا علی کظة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها علی‌ غاربها ولسقیت آخرها بکأس أولها"([4]) لقد أخذ الله تعالى عهدًا من العلماء أن لا يصمتوا على بُطش الجائرين وجشع الظالمين وجوع المظلومين.

"الذين يظنون أن الكفاح من أجل استقلال المستضعفين والمحرومين في العالم لا يتعارض مع الرأسمالية والسعي للرفاهية، هم غرباء عن أساس الكفاح، والذين يظنون أن الأغنياء والمتكاسلون يمكن أن يستيقظوا بالنصيحة وينضمون إلى المجاهدين أو يعينوهم، إنما يدقّون الماء في هاون..."

 

قضية الكفاح والرفاه، الثورة وطلب الراحة، طلب الدنيا وطلب الآخرة، هما قضيتان لا يجتمعان أبدًا، فقط الذين يعانون من الفقر والحرمان هم وحدهم من يواصلون الكفاح حتى النهاية. الفقراء والمتدينون الفقراء هم من يقودون الثورات الحقيقية ويحافظون عليها. يجب أن نبذل كل جهدنا للحفاظ على خط الدفاع عن المستضعفين.» (صحيفة الإمام، ج 20، ص 235 / رسالة قبول القرار)

 

«في اليوم الذي يصبح فيه النواب ذوي نزعة القصور والترف ـــ لا سمح الله ـــ ويخرجون من خصلة التواضع، عندها يجب أن نقرأ الفاتحة لهذا البلد».

«أليس من الأفضل أن نكون مؤيدين للمظلومين والمحرومين بدلاً من دعم الظالمين ورجال الأعمال والمحتكرين الظالمين الذين لا يراعون الله؟...» (ص 41)

 

«أنصح البرلمان والحكومة والجهات المعنية بأن يقدروا هذا الشعب، ولا يتكاسلوا في خدمتهم خاصة الفقراء والمستضعفين والمظلومين الذين هم نور أعيننا وأولياء نعمنا...» (ص 44)

«يجب أن يكون الرئيس وأعضاء البرلمان من طبقة لمسوا معاناة الفقراء والمستضعفين، ويعملون من أجل رفاهيتهم، وليس من طبقة رجال الأعمال والمحتكرين والنخب المرفهة الغارقة في الملذات، الذين لا يمكنهم فهم مرارة الحرمان وألم الجياع والفقراء». (ص 56)

 

في الوصية للقيادة: «...أن يكرسوا أنفسهم لخدمة الإسلام والجمهورية الإسلامية والمحرومين والمستضعفين...» (ص 57)

في الوصية للحكومة: «... يجب أن يكونوا جميعًا خدامًا للشعب وخاصة للمستضعفين». (ص 61)

«أوصي الجميع بالسعي لرفاهية الطبقات المحرومة، فخير الدنيا والآخرة هو الاهتمام بالمحرومين الذين عانوا عبر التاريخ من ظلم الحكام وطبقة الإقطاع، ومن الجميل أن يتطوع الأغنياء لتوفير السكن والرفاهية لسكان الأحياء الفقيرة، وهم على يقين بأن خير الدنيا والآخرة في ذلك، ومن الظلم أن يكون أحد بلا مأوى والآخر يملك شققًا». (ص 83)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١. علم النفس الشفاء، الفصل السادس من المقال الخامس

٢. في هذا الخصوص يمكن الرجوع إلى منطق مظفر. (المنطق، قسم المدخل، ص ٢٤)

٣ و ٤. مفردات راغب، ص ٥٦١ (الوسم التأثير والسمه الأثر)

٥. الميزان العربي، ج ١١ و ١٢، ص ١٨٥

٦. الوصية السياسية الإلهية لسيد الإمام (ره)

 


 


([1])  التوسم: هو النظر في الشيء بتعمق وتمعن، وليس مجرد رؤية سطحية.

([2])  العقل القدسي: يُمثل أعلى مراتب العقل عند ابن سينا، حيث تتجلى فيه القدرة على إدراك الحقائق العليا دون الحاجة إلى التفكير المنهجي. 

([3])  الفلاسفة المشاؤون: هم فلاسفة ينتمون إلى مدرسة فكرية تعتمد على النظرية العقلية والاستدلال البرهاني، ويُعرفون أيضًا بفلاسفة الإتباع لأرسطو. سُموا بهذا الاسم لأن أرسطو كان يعلّم تلاميذه أثناء المشي.

([4])  نهج البلاغة, الخطبة الشقشقية.

احدث الاخبار

الاكثر قراءة