الشيخ بلال حسين ناصر الدين

شاء القدر الإلهيّ أن يُلقى يوسف في البئر، ثمّ يخرج منها ليصبح عزيز مصر بعد حين، ويأتي إليه أبواه وإخوته(1) ويستقرّوا جميعاً هناك ملازمين إيّاه، حتّى تناسلوا وتكاثروا، وصارت لهم حياتهم في أرضٍ جديدة ومجتمعٍ جديد لا معرفة لهم فيه. وبفضل حنكة يوسف عليه السلام وحكمته ونفاذ تأثيره المعنويّ في قلوب الآخرين، استطاع أن يُبكم ألسنة مجتمع الفراعنة الذين كانوا ينظرون إلى الغرباء نظرة توجّس وخيفة واستعلاء وتكبّر، فعاش ذووه في بقعة مستقلّة بعيداً عن يد الفراعنة ومساوئهم، وما زالوا كذلك يعيشون الأمن طوال حياة يوسف عليه السلام، إلى أن ارتحل عنهم بعد سنين(2). فماذا حصل بعدها؟

 

* موسى عليه السلام المنقذ

دارت الأيّام وبدأ الفراعنة يخلفون بعضهم بعضاً، وكلّما جاء فرعون كان أشدّ بطشاً من سلفه. وصار بنو إسرائيل –أي بنو يعقوب عليه السلام- غرضاً يرمى بغضب الفراعنة، الذين بدأوا استعبادهم والتضييق عليهم والتنكيل بهم بكلّ أشكال التنكيل والاعتداء(3)، حتّى بعث الله فيهم نبيّه موسى عليه السلام ليُخرجهم ممّا هم فيه ويثبّت أقدامهم على ما كانوا عليه من دين وإيمان، فظهرت على يديه المعجزات في مواجهة فرعون وجلاوزته.

 

ومن المعجزات الكبرى التي حدثت على يديّ موسى عليه السلام أن فلق الله له ولبني إسرائيل البحر(4) الأحمر(5)، حتّى أصبحت أمواجه كالجبال الراسخة، وأغرق فرعون وجنوده، بعد أن كان قد أرسل عليهم الجراد والقمّل والضفادع عذاباً أليماً لهم.

 

ومن اللافت في الأمر، أنّ ما بين دخول يعقوب وبنيه مصر وخروجهم منها ما يقرب من الأربعمئة عام، وهذا يشير إلى أنّ بني إسرائيل كانوا قد تكاثروا، وقد ورد أنّ عددهم قد بلغ ستمئة ألفٍ(6)، وهذا يكفي لتصوّر عِظم انشقاق البحر ونجاة مثل هذا العدد الكبير، في الوقت الذي غرق فيه فرعون وجنوده.

 

* أرض التيه

وصلت حشود الناجين إلى الجهة المقابلة من مصر، وهي صحراء سيناء، وهناك بدأت مرحلة جديدة من حياة بني إسرائيل، فقد تخلّصوا ذلك اليوم من معاناة امتدّت لسنين طويلة، وجاء موسى بالفرج لهم. ولكن لم يكونوا على علم بأنّ أمراً إلهيّاً سيأتيهم هو بمثابة الامتحان لقلوبهم وإيمانهم وثباتهم، فقد أمرهم النبيّ موسى عليه السلام بأمر الله وهو أن يدخلوا الأرض المقدّسة(7). فما هي هذه الأرض؟

 

قيل إنّ الأرض المقدّسة هي عموم بلاد الشام(8)، وقيل هي خصوص فلسطين، وقيل أيضاً هي القدس وأريحا لا غير، وقيل هي بيت المقدس لكونها قرار الأنبياء ومسكن المؤمنين(9)، وقيل إنّها الأردن وفلسطين، وجماعة أخرى تقول إنّها أرض الطور(10). وإنّما سمّيت بالأرض المقدّسة على اختلاف الأقوال فيها لأنّها أرض كثر فيها الأنبياء الذين عاشوا فيها وبلّغوا رسالات ربّهم(11)، ولأنّ كثيراً منهم صلّوا وعبروا في هذه البقاع، حتّى عُرف بيت المقدس بخصوصه بمحاريب الأنبياء(12)، ولهذا يترجح القول إنّ الأرض المقدسة هي بيت المقدس.

 

وممّا يشير إلى أنّهم اقتربوا من تلك الأرض بعد خروجهم من مصر، وكانوا قاب قوسين أو أدنى من الدخول فيها، هو قوله تعالى: ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ﴾ (المائدة:21)، فالأمر بالدخول يوحي بكونها أرضاً قريبة كما جرت العادة في الخطاب بين الناس.

 

على كلّ حال، أرسل النبيّ موسى عليه السلام اثني عشر رجلاً (نقيباً) لاستطلاع حال الأرض المقدّسة تلك، وعندما دخل هؤلاء الرجال وجدوا فيها قوماً جبّارين قساة، لا تأخذهم رحمة، يبطشون ويعتدون، ولا يجدون حائلاً بينهم وبين ما يغضبهم.

 

حينها، اتّفق هؤلاء الاثنا عشر رجلاً أن لا يتفوّهوا بما رأوه لئلّا يدخل الخوف في قلوب قومهم. وعندما وصلوا، نكث عشرة رجال منهم ما تعاهدوا عليه، والتزم اثنان، أحدهما يقال له يوشع، والآخر كالوب، أو كالب(13). عندما سمع بنو إسرائيل مقولة هؤلاء الرجال وانتشر الخبر بينهم كالنار في الهشيم، دخل الرعب في قلوبهم وبدأوا يتهامسون، حتّى وقفوا في وجه نبيّهم موسى عليه السلام، وقالوا له: ﴿إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا﴾ (المائدة:22).

 

* حقيقة الجبّارين

لقد كثر الكلام في حقيقة الجبّارين أو العمالقة، حتّى قيلت فيهم أوصاف لا تتناغم مع المألوف بين الناس ولا مع حقائق التاريخ، علاوة على أنّه لم يُعثر على نصّ واضح يؤكّد ما ورد فيهم من صفات. وممّا ورد في المبالغة في توصيفهم في بعض المرويّات أنّ حبّة الرمّان التي يأكلها الواحد منهم يمكن أن يجلس فيها خمسة أنفار من بني إسرائيل! أو أنّ الميت منهم يمكن أن يوضع كجسر يعبرون عليه فوق نهر النيل! وغير ذلك من الأساطير والخرافات. ويبدو أنّ مثل هذه الأقاويل الخرافيّة إنّما كانت بيد إسرائيليّة، وذلك كي يبرّروا لأنفسهم تقاعسهم عن امتثال أمر نبيّهم.

 

* عدم الوفاء... طامة كبرى

نسي بنو إسرائيل كلّ عطاءات النبيّ موسى عليه السلام وفضله عليهم، ونسوا أنّه الذي خلّصهم من معاناتهم الطويلة مع الفراعنة، وأنّه لولاه لكانوا مشردين مقتّلين، فقد نسوا كلّ ذلك وقالوا له: ﴿لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا﴾، وأردفوا مصرّين على موقفهم: ﴿فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا﴾ (المائدة: 24).

 

وكي يلقي النبيّ موسى عليه السلام عليهم الحجج علّه يستنهض نفوسهم وضمائرهم، بدأ بتذكيرهم بفضائل الله عليهم، وكيف أنّه جعل منهم أنبياء وجعلهم ملوكاً وآتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين. ولكن كلّ ذلك كان دون جدوى، وكأنّما بدا عليهم الغنج والدلال، أو أنّهم اعتادوا القعود، فضلاً عن أنّهم كانوا ضعاف النفوس قد أصابهم الجبن والخنوع، والميل والاطمئنان إلى الدنيا، لأجل ذلك كلّه، ثبتوا على موقفهم، فلن يدخلوا الأرض تلك مهما بلغ الثمن.

 

* حياتهم في التيه

كان لكلمتهم تلك ثمن باهظ، كلّفهم خوض معاناة جديدة كانوا بالغنى عنها، حيث حكم الله عليهم بالتيه في مكانهم أربعين سنةً: ﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ (المائدة: 26)، فكانوا يجوبون فيها عباب الصحراء ولا يدركون كيف السبيل إلى الخروج منها، فكانوا كلّما انطلقوا في الصباح وقطعوا مسافة كبيرة، يجدون أنفسهم في صباح اليوم التالي أنّهم ما زالوا في مكانهم، وهكذا دام دوارهم أربعين عاماً.

 

أمّا بالنسبة إلى المساحة التي وقع تيهُهم فيها بقدرة الله سبحانه، فقيل إنّها ما بين الأربعة فراسخ والستّة عشر فرسخاً(14).

 

كان التيه في الصحراء حيث لا زرع ولا ماء، فدعا النبيّ موسى عليه السلام الله سبحانه بعد أن أظهروا توبتهم، ففضّلهم الله دون غيرهم من الناس بأن أنزل عليهم المنّ والسلوى، والمنّ شيء كالصمغ كان يقع على الأشجار طعمه كالزبد والعسل، وقيل: إنّه الخبز المرقّق، أمّا السلوى فهو طير السماني(15). وكان ينزل عليهم المنّ والسلوى ما بين الفجر وطلوع الشمس(16). أمّا مشربهم فكان بواسطة معجزة النبيّ موسى عليه السلام، حيث كان لديه حجر يضعه على الأرض ثمّ يضرب عليه، فتنفجر منه اثنتا عشرة عيناً على عدد أسباط بني إسرائيل(17).

 

وما زال قوتُهم على هذا النحو، ينزل عليهم المنّ والسلوى، إلى أن ظهر منهم ما أوقع العجب في قلب موسى عليه السلام، حيث طالبوه بأن يدعو الله بأن يُخرج لهم من الأرض البصل والفوم (وهو الحنطة)(18) والعدس، فردّ عليهم قائلاً: ﴿أتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ﴾ (البقرة: 61)؟

 

* أحداث التيه

جرت في سني التيه أحداث عدّة، نذكر منها ما يأتي:

 

1. اجعل لنا آلهة: وهم في مسيرهم بعد انشقاق البحر، رأوا قوماً يعبدون أصناماً آلهة لهم، فطلبوا من النبيّ موسى عليه السلام أن يصنع لهم آلهة يعبدونها!

 

2. عبادة العجل: عندما ذهب النبيّ موسى عليه السلام لميقات الله، صنع لهم رجلٌ يدعى السامريّ عجلاً من ذهب، فصاروا يعبدونه من دون الله!

 

3. موت النبيّ موسى عليه السلام: ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ومات موسى كليم الله عليه السلام في التيه، فصاح صائح من السماء مات موسى عليه السلام وأيّ نفس لا تموت؟»(19).

 

* العبر المستوحاة

في تيه بني إسرائيل عبر كثيرة، نذكر منها الآتي:

 

1. إنّ معصية الله سبب من أسباب الحرمان، فقد يحرم الله العاصي من شيء كان مكتوباً له، وقد حرم بني إسرائيل الدخول إلى الأرض المقدّسة نتيجة معصيتهم، وكان حرمانهم حرمانًا تكوينيًّا، تجلّى في أن يتيهوا في الأرض.

 

2. إنّ الإنسان الذي تتراكم على قلبه الذنوب، حتّى تحيط به من كلّ جانب، سيكون مصيره العذاب والعقاب: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (البقرة: 81)، وهكذا كان حال بني إسرائيل.

 

3. إنّ العناد والانقياد للشهوة إنّما يوصلان المرء لأن يكون ذليلاً، لا يكاد يجد لنفسه مخرجاً إلى الكرامة والعزّة، وإنّ من يرضى بالذلّ يذلّه الله: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ﴾ (البقرة: 61).

 

4. الأمّة التي تتبع هواها وتخلد إلى الأرض(20) إنّما تعيش حالة البهيميّة، لا يدرك أفرادها الحقّ ولا يميّزون بينه وبين الباطل، ويصبح الدين لعقاً على ألسنتهم، لا فائدة منه ولا جدوى، فيكونون مصداقاً لقوله تعالى بحقّ بني إسرائيل: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ (الجمعة: 5).

 

وأخيراً، إنّ القيام بعمل جبّار يحتاج إلى بنية ثقافيّة وفكريّة ونفسيّة، تخوّل القائم به تخطّي الصعاب والشدائد، ولأنّ بني إسرائيل ركنوا إلى الأرض وتعنّتوا، فقد حُرموا من الدخول إلى الأرض المقدّسة، وتاهوا، فالفرصة تأتي مرةً واحدةً لاختبار المؤمنين والطائعين، وإلّا حلّت عليهم اللعنة، ووصموا بالعصيان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- سورة يوسف، الآية 99.

2- عن الإمام الصادق عليه السلام: «دخل يوسف السجن وهو ابن اثنتي عشرة سنة، ومكث فيه ثماني عشرة سنة، وبقي بعد خروجه ثمانين سنة، فذلك (مئة) سنة وعشر سنين». (الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 324).

3- سورة البقرة، الآية 49.

4- سورة الشعراء، الآيات 63-66.

5- ويقال له بحر قلزم. (التبيان، الشيخ الطوسي، ج 8، ص 28).

6- نور الثقلين، الحويزي، ج 1، ص 607.

7- سورة المائدة، الآية 21.

8- مستدرك الوسائل، الشيخ النوري، ج 13، ص 291.

9- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 13، ص 168.

10- الأمثل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ج3، ص669.

11- انظر: المصدر نفسه، ج 3، ص 669. والميزان، السيد الطباطبائي، ج 5، ص 288.

12- الكافي، الشيخ الكليني، ج 1، ص 482.

13- الاختصاص، الشيخ المفيد، ص 266.

14- انظر: بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 13، ص 167.

15- المصدر نفسه، ج 13، ص 167.

16- مجمع البيان، الشيخ الطبرسي، ج 1، ص 225.

17- الاختصاص، مصدر سابق، ص 266.

18- انظر: التبيان، الشيخ الطبرسي، ج 1، ص 272.

19- الكافي، مصدر سابق، ج 3، ص 112.

20- قال تعالى: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ﴾ (الأعراف: 176)

 

المصدر: مجلة بقية الله