قام النظام الشاهنشاهي البائد في إيران بنفي قائد الثورة الإسلامية سماحة آية الله العظمى السيد علي الخامنئي إلى مدينة ايرانشهر في محافظة سيستان وبلوشستان النائية جنوب شرق إيران، بين عامي 1977 و1979 ، ظنا منه بأن نفي عالم دين شيعي مناهض للنظام البهلوي إلى منطقة بعيدة معظم أهاليها من أهل السنة سيشكل عليه ضغطا هائلا يجبره على ترك النضال السياسي بعدما عجز ذلك النظام البائد في وقف النشاط الثوري لسماحة الإمام الخامنئي عبر الاعتقال والسجن والتعذيب.

 

لكن مسؤولي منظمة أمن النظام البائد المعروفة باسم "سافاك" ، وكذلك مسؤولي شرطة النظام، الذين خططوا لهذا النفي، تعجبوا فيما بعد من قدرة سماحته على امتلاك القلوب هناك ومواصلة النضال ضد نظام الشاه وتحول سماحته الى شخصية محورية في تلك المنطقة تهواه قلوب اهل السنة قبل الشيعة بسب ما شاهدوه من عظمة انسانية قل نظيرها، والتقارير السرية لمنظمة سافاك ومسؤولي الشرطة ، التي تم الاطلاع عليها بعد انتصار الثورة الاسلامية المباركة في ايران، تحكي قصة انقلاب السحر على الساحر.

 

لقد استخدم سماحته سلاح المحبة الإنسانية في تلك الظروف العصيبة للغاية في منطقة بعيدة واستطاع النفوذ في قلوب اهالي مدينة ايرانشهر والقرى والبلدات المحيطة بها، عندما اظهر مدى تعلقه بالكرامة الإنسانية بعيدا عن كل الاعتبارات الطائفية والقومية ، ووصل الأمر بأن يتردد المسلمون السنة الى مساجد المسلمين الشيعة ويتردد الشيعة إلى مساجد السنة بعدما كانت كل طائفة منها تواصل الحياة بعيدة عن الأخرى ولا يزورون مساجد بعضهم البعض، وعندما اجتاحت السيول مدينة ايرانشهر ولم تهتم الحكومة المركزية في طهران بالأهالي وباشر ذلك السيد والعالم الجليل بجمع المساعدات من كافة أنحاء إيران لإغاثة المنكوبين في تلك المنطقة المنسية دون التمييز بين الشيعة والسنة، عبر علاقاته الواسعة بالمؤمنين والخيرين، تحول هذا العالم الديني الشيعي الجليل المنفي الذي حتى لم يكن احد من أهالي ايرانشهر يسلم عليه في بداية حضوره في تلك المدينة (البعض منهم كان يخشى السلطات) إلى نعمة، وقد جاء في احد تقارير السافاك " هناك شخص من الشيوخ المنفيين واسمه الشيخ خامنئي الذي يعيش في مدينة ايرانشهر ويساعد اهالي المدينة وان مساعداته أدت إلى حل مشاكل أهالي المدينة الذين أصبحوا يقولون، حبذا ترأف بنا الحكومة وتقوم بنفي اثنين وثلاثة آخرين من هؤلاء الشيوخ إلى ايرانشهر، فهذا يكفينا لتعويضنا عن خساراتنا جراء السيول ".       

 

لكن ومن دون شك، فان أعظم بركات ذلك النفي إلى ايرانشهر كانت إقامة الوحدة بين المسلمين الشيعة والسنة في تلك المنطقة ، رغم أن النظام البائد ظن بأن حصر عالم ديني شيعي بين اهل السنة سيخمد من لهيب الثورة الإسلامية .

 

لقد كان سماحة قائد الثورة الإسلامية هو المبادر في نسج جسور العلاقات مع العلماء السنة ، وحضوره في المنفى اصبح فرصة للنضال والثورة بشكل مختلف، وقد وصل الأمر إلى أن اعتبر اهالي تلك المنطقة من سيستان وبلوشستان من السنة والشيعة، سماحته بأنه واحد منهم ، لقد تغلب سماحته بسلاح المحبة على سلاح النفي، وزرع حب الثورة الاسلامية في قلوب السنة والشيعة في ايرانشهر ، وابطل مخططات النظام الشاهنشاهي ، وما زالت تلك العلاقة الحميمة والودية قائمة منذ 45 عاما وحتى يومنا هذا وظهرت جليا قبل ايام اثناء استقبال سماحته لحشد من اهالي سيستان وبلوشستان، عندما تحدث سماحته عن الذكريات الحلوة في تعامله مع علماء اهل السنة واهالي سيستان وبلوشستان الكرام اثناء نفيه الى مدينة ايرانشهر.

 

وزار سماحته ايضا المدن والقرى الاخرى في المنطقة ونسج العلاقات سريعا من الوجهاء والشخصيات البارزة وعموم الاهالي، فمدينة بزمان التي تبعد 100 كيلومتر عن ايرانشهر هي اول مدينة توجه اليها سماحته من ايرانشهر بعد نفيه هناك، وتوجه الى منزل "رودين خان بامري" الذي كان من وجهاء المدينة، برفقة عدد من العلماء وعندما طرق الباب جاء نجل رودين خان الذي كان فتى يافعا وفتح الباب وثم اخبر والده بمجيء عدد من العلماء فامره والده باستقبالهم وقال ان باب الدار مفتوح دوما امام العلماء ، وعندما جاء نجل رودين خان مجددا الى الباب ليرحب بدخول الضيوف الى الدار ، تريث سماحة قائد الثورة الاسلامية وقال له " أخبر أباك بأننا لسنا من العلماء العاديين" وكان سماحته يريد التأكد هل ان صاحب المنزل راغب في التواصل مع عالم دين منفي في تلك الظروف الحساسة والحالة الامنية والقمعية السائدة ؟ فجاء رب المنزل الى الباب وعندما رأى سماحته صاحب المنزل قال له " ألا تخشى دخول عدد من العلماء لهم نشاط سياسي الى دارك ؟" فاجابه رودين خان "انا مستعد لأبذل دمي في درب ونهج الامام الحسين (ع) " وحينها وضع سماحة قائد الثورة الاسلامية يده على كتف رودين خان وقال للعلماء الذين يرافقونه " أيها السادة ، ان مكاننا هو في هذا الدار". وصلى سماحته الصلاة في ذلك اليوم في المسجد القريب من الدار لكن رودين خان قال له ان الضيف يجب ان يبقى عندنا يوما او يومين لنقوم بالواجب ونذهب معه في جولة الى داخل المدينة، لكن سماحة قائد الثورة الاسلامية اخبره بأنه يجب ان يعود الى ايرانشهر ويتواجد في مركز الشرطة عند الساعة الخامسة عصرا ويسجل حضوره ، وعندئذ فقط علم رودين خان بأن هذا العالم الثائر هو خاضع للنفي واجراءاته وحينها قال لسماحته " أيها السيد اخبرني من الذي يؤذيك؟ أهو رئيس الشرطة ؟ ام مسؤول السافاك أم قائد الدرك ؟ ايا يكن ، فانني مستعد لقتله ببندقيتي" وحينها اجابه سماحة الامام الخامنئي " لا يا سيد رودين خان، هؤلاء جميعا سيميلون نحونا في يوم من الأيام ". ثم اضاف سماحته " هذا الكلام والاعمال يشكل خطرا عليك ، انهم سيقتلونك" فيجيبه رودين خان مبتسما "اذا انتصرتم وانا قتلت، قوموا بتسمية احد الشوارع باسمي" وبقيت هذه الذكرى وبعد انتصار الثورة الاسلامية وكلما قدم رودين خان الى طهران ليلتقي بسماحة قائد الثورة الاسلامية ، يمازحه سماحته ويقول له ضاحكا " رودين خان، ألم تستشهد بعد حتى نسمي شارعا باسمك؟"

 

وفي اليوم التالي لذلك اللقاء في مدينة بزمان ، توجه رودين خان برفقة نجليه الى مدينة ايرانشهر وتوجه نحو منزل سماحة قائد الثورة الاسلامية وحينما اراد الشرطي الحارس امام باب المنزل منعهم من الدخول حدثت مواجهة بينه وبين رودين خان ، فخرج الامام الخامنئي الى الباب وقال للشرطي ان يتنحى ويسمح بدخولهم ، فتذرع الشرطي قائلا "  انا يجب ان احافظ على حياتكم" فرد الامام الخامنئي قائلا " اذا لم تقتلونا انتم، فهؤلاء لا يقتلوننا" ومنذ ذلك اليوم اصبحت زيارات الامام الخامنئي لمدينة بزمان متواصلة والتحق عدد من الشباب المناوئين للنظام الشاهنشاهي في تلك المدينة بركب اصحاب الامام الخامنئي ومنهم النجل الاكبر لرودين خان الذي كان ملاحقا من قبل النظام.

 

ويروي "احمد بامري" نجل رودين خان كيف اشتدت اواصر المحبة بين سماحة الامام الخامنئي واهالي ايرانشهر ، كما يروي عبدالغني دامني الذي كان في ذلك الزمان من الشباب المثقفين من اهل السنة في ايرانشهر، بأنه كان يتردد الى مركز اسلامي في زاهدان (مركز محافظة سيستان وبلوشستان) ويجالس علماء اهل السنة وكانت النداءات والرسائل الثورية التي يوجهها الامام الخميني طاب ثراه، من منفاه في النجف الاشرف ، تصل ايضا الى ذلك المركز الاسلامي ، وعلم عبدالغني دامني هناك بوجود عدد من العلماء المنفيين في ايرانشهر، وكان يرغب في رؤيتهم لكن القمع السائد كان يمنعه من ان يسأل احدا كيف يصل اليهم، فتعرف عليهم صدفة في يوم من الايام في الشارع ، وعندما سأله الامام الخامنئي عن دراسته فرح لكونه خريجا جامعيا وتحدث معه عن الكتب والمؤلفات الدينية ونسجت علاقة ودية بينهما وسأله عن مكان اقامته، فاجاب عبدالغني بأنه يسكن في منطقة محمد آباد وسأله الامام الخامنئي مرة أخرى " الا تحدث لكم مشاكل اذا جئنا الى محمد آباد ؟" فاجاب عبدالغني بأن لا مشكلة فانتم ضيوفنا وعلى الرحب والسعة، فذهب الامام الخامنئي الى محمد آباد واراد رؤية والد عبدالغني بعدما علم بأنه من العلماء الذين درسوا في الهند، ودار الحديث بينهما عن نضال علماء الهند ضد الاستعمار البريطاني، لأن سماحة الامام الخامنئي كان قد ألف ايضا كتابا في هذا المجال.

 

وفيما بعد وعندما زار عبدالغني مدينة ايرانشهر للالتقاء بسماحة الامام الخامنئي ، اعرب سماحته عن القلق ازاء الكتب التي تنشر ضد اهل السنة وضد الشيعة قائلا ان النظام الشاهنشاهي المنحوس هو من يصب الزيت على النيران، فاجابه عبدالغني " ان عدونا الرئيسي هو الاستكبار العالمي والصهيونية الدولية، وهؤلا لايفرقون بين السنة والشيعة" واستحسن سماحة الامام الخامنئي هذا الكلام ورحب به كثيرا وقال لـ عبدالغني " ابقي هنا، لنحارب معا هذا النظام".

 

ويروي عبدالغني ايضا ان سماحة الامام الخامنئي كان يذهب للقاء علماء ووجهاء اهل السنة في ايرانشهر الذين كانوا يرحبون بسماحته، وازدادت المودة والمحبة هذه يوما بعد يوم ، حتى وصل الامر بأن اعتبر اهالي المدينة السيد الخامنئي واحدا منهم، وهكذا فشل مخطط النظام البهلوي الذي كان يظن بأن نفي سماحته الى منطقة سنية سيشدد الخلافات والتفرقة الطائفية.

 

ويقول سماحة الامام الخامنئي في احد خطاباته في عام 1985 عندما كان رئيسا للجمهورية وزار سيستان وبلوشستان " حينما لم يكن هناك بعد كلام عن الوحدة بين الشيعة والسنة، كانت بيني وبين علماء السنة في هذه المحافظة ومنهم المولوي دامني، وحدة فعلية وعملية ".

 

سيول ايرانشهر

 

يقول سماحة الامام الخامنئي عن فترة نفيه الى ايرانشهر " نحن في ايرانشهر، كنا غرباء بالكامل، كنا نعيش هناك عدة شهور ونذهب ونأتي ، لكن احدا لم يكن يصادقنا، ولم يكن احد يسلم علينا، الى ان جاءت السيول ...."

 

في صيف عام 1978 اجتاحت السيول مدينة ايرانشهر ودمرت كل ممتلكات الاهالي وغاب المسؤولون الحكوميون ومسؤولي المحافظة واجهزة النجدة وبقي الاهالي دون مأوى ويعانون من الجوع في تلك المنطقة المنسية، لكن الشخص الوحيد الذي شمر عن ساعديه لنجدة المنكوبين كان ذلك العالم الديني المنفي الذي في البداية لم يكن الاهالي حتى يسلمون عليه، لكن ما قام به ذلك السيد الجليل لنجدة الاهالي المنكوبين قضى على ترديد اهالي المدينة لفتح قلوبهم في وجهه.

 

ويروي سماحة الامام الخامنئي تلك الايام قائلا، أن السيول دمرت 80 بالمئة من المدينة وانا قمت بتفقد كافة مناطق المدينة في غياب مجيء حتى مسؤول حكومي واحد او حتى مسؤول من المحافظة، وما وصل من المساعدات عبر مؤسسة النجدة لا يلبي شيئا وكان كوادرها يحتاجون الى استهلاك قسم من تلك المساعدات لانفسهم ومأكلهم ومشربهم.

 

ويروي اهالي ايرانشهر بأن سماحة الامام الخامنئي هو من تولى جمع وايصال مساعدات والنجدة لاهالي ايرانشهر حين حول مسجد آل الرسول (ص) الى مركز الامداد والدعم، والى جانب العمل المحلي، اتصل بمعارفه في مدينتي مشهد المقدسة ويزد وطلب النجدة الفورية لمنكوبي السيول وعندئذ وصلت شاحنات تحمل الخبز والتمؤر والجبن وغيرها من المواد الغذائية لسد جوع اهالي المدينة وتخفيف معاناتهم.

 

ويشهد كل من عاصر تلك الايام في ايرانشهر بأنه لولا وجود سماحة الامام الخامني لحدثت كارثة كبيرة جدا وماساة هائلة في تلك المدينة المنكوبة بالسيول حيث وصل ارتفاع المياه الى متر واحد وانهار الكثير من البيوت المبنية من الطين.

 

ويروي هؤلاء كيف كان الامام الخامنئي يذهب شخصيا لكافة البيوت والمنازل المهدومة ويسجل على الورقة قائمة بالحاجات الضرورية ويتم على هذا الاساس توزيع الاعانات والمواد الغذائية بين العائلات والأسر ، وهذا العمل الجهادي قد اثمر وبسبب هذه الاتصالت انتشر نبأ الكارثة الى انحاء ايران وتوجه عدد كبير من طلاب الجامعات من مشهد المقدسة وكرمان الى ايرانشهر للمساعدة في عمليات النجدة والاغاثة ، وانجذب اهالي ايرانشهر السنة والشيعة نحو هذا العالم الديني المنفي الذي لا يفرق بين الاهالي في توزيع المساعدات ويوزعها بالتساوي على الشيعة والسنة ، وهذه المساعدة والشفقة بنى المحبة لسماحته بين الاهالي.

 

وتوطدت العلاقة ووصل الامر الى ان قال الامام الخامنئي " انا من ايرانشهر، وايرانشهر منّي، واذا حدث لي شيء في فترة النفي في ايرانشهر، فادفنوني في ايرانشهر" ويروي احمد بامري ويقول " في الايام التي تلت وقوع السيول أقبل الناس بقوة على الامام الخامنئي الى حد شعرت السلطات بالخوف وفشلت جميع مخططاتها، فالسيد الذي تم نفيه الى منطقة نائية في اقصى البلاد للتضييق عليه ، اصبحت كافة قبائل تلك المنطقة وعلماؤها ووجهاؤها من محبيه ومؤيديه ، وكانت العلاقة الودية هذه متبادلة لأن الامام الخامنئي كان هو من يبادر اولا الى نسج خيوط العلاقة مع العلماء السنة ويتحدث معهم عن توطيد الصداقة والوحدة بين السنة والشيعة.

 

ويضيف احمد بامري " ان المحبة التي ابداها الامام الخامنئي، ذكّرتنا من جديد بأننا عائلة وأسرة واحدة، قبل مجيء الامام الخامنئي الى ايرانشهر كان يعيش السنة والشيعة كل على حدة ولا يزور الشيعة مساجد السنة ولا يزور السنة مساجد الشيعةة، لكن ما قام به الامام الخامنئي اثناء كارثة السيول وعدم التمييز بين السنة والشيعة اثناء الكارثة ، قضى على كل المسافة، وجعل الشيعة والسنة يقفون جنبا الى جنب وحتى يومنا هذا يشارك الشيعة في المراسم الدينية لاهل السنة ويشارك السنة في المراسم الدينية للمسلمين الشيعة، وكما سن الامام الخامنئي سنة الاحتفال باسبوع الوحدة الاسلامية بمناسبة المولد النبوي الشريف (ص) فالاحتفال مستمر عاما بعد عام وكل هذا من بركة وجود سماحة الامام الخامنئي وجهوده الوحدوية.