الشيخ بسام محمّد حسين

 

بدأت الغيبة الكبرى لإمام زماننا عجل الله تعالى فرجه الشريف في سنة 329 للهجرة، وهي التي أشارت إليها الروايات بأنّها الغيبة الطويلة، بعد نهاية الغيبة الصغرى التي عبّرت عنها أيضاً بالغيبة القصيرة.

 

وقد أثارت هذه الغيبة تساؤلات في اتّجاهات متعدّدة، ومن بينها التساؤل المهمّ حول تفسير معنى الغيبة، الذي على ضوئه يتّضح الدور الذي يمارسه الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف في زمن غيبته، ووجه الحاجة إليه، وهذا ما سنحاول الإطلالة عليه في هذه المقالة الموجزة من خلال قراءة في التراث المهدوي.

 

* معنى غيبة الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف 

ربّما يتبادر من إطلاق هذه الكلمة (الغيبة) البُعد الجغرافيّ لصاحبها، كما يُقال عادةً في المسافر إنّه غائب، ولعلّ هذا المعنى هو المسيطر على أذهان الكثيرين ممّن يسمعون بهذه الكلمة ابتداءً، فيتخيّلون أنّ الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف مختبئ في جبل أو وادٍ أو صحراء أو نحوها. وقد يساعد على هذا التصوّر بعض القصص المنقولة في مجال التشرّف بلقائه عجل الله تعالى فرجه الشريف، بعيداً عن صحّتها أو سقمها.

 

إلّا أنّ هذا المعنى بإطلاقه غير صحيح، لكونه يجعل من الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف شخصاً منزوياً بعيداً عن أمّته وشيعته. وإذا كانت الحكمة الإلهيّة قد شاءت أن يغيب الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف عن أمّته، إلّا أنّ ذلك لا يعني عدم قيامه بمهامه تُجاهها بما لا يخالف الغيبة، خاصّة وأنّ وجوده لطف بالأمّة ورحمة بها.

 

وفي هذا المجال، نشير إلى ثلاث نقاط:

1. نصبه من قبل الله تعالى لطفاً منه سبحانه بهذه الأمّة.

 

2. وجود الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف.

 

3. قيام الأمّة بواجبها تُجاه هذا الإمام ونصرتها له.

 

والأمران الأولان متحقّقان، ولكن المشكلة في النقطة الثالثة، ولذا قال المحقّق الطوسيّe: "وجوده لطف، وتصرّفه لطف آخر، وعدمه منّا"(1).

 

* التفسير الصحيح للغيبة

وعلى هذا الأساس، فالتفسير الصحيح للغيبة أن نقول إنّها غيبة هويّة وليست غيبة حضور أو غيبة الشخصيّة، بمعنى أنّ الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف يعيش بين الناس بشكل طبيعيّ، ويمارس أدواراً عديدة، ويتنقّل بين البلاد من مكان إلى آخر، إلّا أنّ ذلك كلّه في السرّ والخفاء، وبشكلٍ أمنيّ دون أن يشعر به أحد من الناس، أو تُعرف له هويّة أو شخصيّة.

 

وهذا الذي دلّت عليه الروايات العديدة الواردة عن أهل البيت عليهم السلام، التي توضح أنّ له حركة غير ظاهرة، وأدواراً خفيّة وسرّيّة يقوم بها عجل الله تعالى فرجه الشريف :

 

1. شمس من خلف السحاب

ورد هذا التشبيه للإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف في بعض الروايات، ففي بعض التوقيعات الصادرة عنه عجل الله تعالى فرجه الشريف : "وأمّا وجه الانتفاع بي في غيبتي فكالانتفاع بالشمس إذا غيّبتها عن الأبصار السحاب، وإنّي لأمان لأهل الأرض كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء"(2).

 

ومن الواضح أنّ للشمس حركتها وفوائدها العظيمة على الحياة الكونيّة، سواء شعر الناس بذلك أم لم يشعروا، ولولاها، لاختلّت الحياة الأرضيّة وذهب نورها. وكما أنّ ثمّة صلاحاً في سطوعها بلا حجاب، فكذلك ثمّة صلاح في وجود السحاب أحياناً، ولا تتعطّل معه حركتها ودورها، بل ينتظر الناس انكشاف الحجاب والسحاب للانتفاع الكامل بنورها.

 

2. عنايته عجل الله تعالى فرجه الشريف بشيعته في زمن الغيبة

في الكتاب الصادر عن الناحية المقدّسة إلى الشيخ المفيد رحمه الله: "إنّا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء (أي الشدّة وضيق المعاش) واصطلمكم (استأصلكم) الأعداء"(3).

 

فالإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف هو الحافظ لشيعته والراعي لشؤونهم، ولولا لطفه وعنايته لم يبقَ لهم ذكر يذكر، وهذه العناية ليست في الظاهر كما هو واضح، بل من حيث تخفى على الناس.

 

3. تشبيه غيبته عجل الله تعالى فرجه الشريف بغيبة يوسف عليه السلام

عن الإمام الصادق عليه السلام في حديث له مع سدير الصيرفي: "فما تُنكر هذه الأمّة أن يفعل الله عزّ وجلّ بحجّته كما فعل بيوسف؛ أن يمشي في أسواقهم ويطأ بُسطهم حتّى يأذن الله في ذلك له كما أذن ليوسف؛ ﴿قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ﴾ (يوسف: 90)"(4).

 

إنّ نبيّ الله يوسف عليه السلام كان يعيش بين الناس بشكلٍ طبيعيّ، بل كان لديه سلطة وتصرّف في خزائن الأرض، إلّا أنّه كان مجهول الهويّة، حتّى أنّ إخوته لم يعرفوه إلى أن أذن الله له فعرّفهم بهويّته، والإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف شبّه به وجُعل هذا الأمر من السنن التي فيه كما كانت ليوسف عليه السلام.

 

4. تشبيه عمله عجل الله تعالى فرجه الشريف بعمل الخضر عليه السلام

من التشبيهات المهمّة في الروايات لدور الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف، التشبيه بدور الخضر عليه السلام، الذي عبّر عنه القرآن الكريم في سورة الكهف بالعبد الصالح، فعن عبد الله بن الفضل الهاشمي في حديث له يسأل الإمام الصادق عليه السلام عن غيبة الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف : قلت: فما وجه الحكمة في غيبته؟ قال: "وجه الحكمة في غيبته وجه الحكمة في غيبات مَن تقدّمه من حجج الله تعالى ذكره، إنّ وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلّا بعد ظهوره كما لم ينكشف وجه الحكمة فيما أتاه الخضر عليه السلام من خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار، لموسى عليه السلام إلى وقت افتراقهما"(5).

 

وهذا إن دلّ على شيء، فإنّما يدلّ على أدوار عظيمة يقوم بها الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف من حيث يخفى على الناس سرّها، فهي في الظاهر شيء وفي الواقع شيء آخر، كما أشار القرآن الكريم إلى بعضٍ من تلك الأمور في الرحلة القصيرة التي رافقه فيها، ولذا جاء عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "رحمة الله علينا وعلى موسى، لو صبر لرأى من صاحبه العجب"(6).

 

5. حضوره عجل الله تعالى فرجه الشريف في موسم الحجّ

تدلّ بعض الروايات على حضور الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف موسم الحجّ، ومشاركته الناس في أداء المناسك، ورؤيتهم له ورؤيته لهم، لكن مع معرفته بهم وعدم معرفتهم به، وهو ما يعني غياب الهويّة، لا غيبة الشخصيّة، فعن عبد الله بن جعفر الحميري عن محمّد بن عثمان العمري (رضي الله عنه) (السفير الثاني) قال: سمعته يقول: "والله إنّ صاحب هذا الأمر ليحضر الموسم كلّ سنة، فيرى الناس ويعرفهم، ويرونه ولا يعرفونه"(7). وعن عبد الله بن جعفر الحميري أيضاً قال: سألت محمّد بن عثمان العمري (رضي الله عنه) فقلت له: أرأيتَ صاحب هذا الأمر؟ فقال: نعم، وآخر عهدي به عند بيت الله الحرام وهو يقول: "اللهم أنجز لي ما وعدتني"(8).

 

6. معاونو الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف ومساعدوه في غيبته

دلّت الروايات على أنّ الخضر عليه السلام هو من مرافقي الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف في زمن غيبته، فعن الحسن بن عليّ بن فضال قال: سمعت أبا الحسن عليّ بن موسى الرضا عليهما السلام يقول: "إنّ الخضر عليه السلام شرب من ماء الحياة، فهو حيٌّ لا يموت حتّى ينفخ في الصور، وأنّه ليأتينا فيُسلّم فنسمع صوته ولا نرى شخصه، وإنّه ليحضر حيث ما ذكر، فمن ذكره منكم فليسلّم عليه، وإنّه ليحضر الموسم كلّ سنة فيقضي جميع المناسك، ويقف بعرفة فيؤمّن على دعاء المؤمنين، وسيؤنس الله به وحشة قائمنا في غيبته ويصل به وحدته"(9).

 

كما دلّت روايات أخرى على وجود مجموعة من الأفراد يرافقونه بشكلٍ دائم، فعن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "لا بدّ لصاحب هذا الأمر من غيبة، ولا بدّ له في غيبته من عُزلة، ونِعْمَ المنزلُ طَيْبَة وما بثلاثين من وحشة"(10).

 

ولعلّهم الأبدال المقصودون في الفقرة الواردة عن الإمام الصادق عليه السلام في دعاء النصف من رجب، بعد الصلاة على النبيّ وآله عليهم السلام: "اللهم صلّ على الأبدال والأوتاد، والسيّاح والعبّاد، والمخلصين والزهّاد، وأهل الجدّ والاجتهاد"(11).

 

ويبدو من الرواية المتقدّمة وغيرها أنّ هؤلاء الثلاثين من أصحاب المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف يتجدّدون دائماً، فكلّما توفّي منهم واحد حلّ محلّه آخر، وإن كان يحتمل أن يمدّ الله تعالى في عمر بعضهم كما مدّ في عمر الخضر والمهديّ عليهما السلام.

 

ومن المرجّح أن يكون لهؤلاء الأولياء الثلاثين وأكثر، دور في الأعمال التي يقوم بها الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف في غيبته(12).

 

* حاضر ونشط

في المحصّلة: دلّت الأخبار، إذاً، على أنّ الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف يقوم بنشاط واسع، ويتحرّك في البلاد المختلفة، ويدخل الدور والقصور، ويمشي في الأسواق، ويحضر موسم الحجّ في كلّ عام، وأنّ سرّ غيبته لا ينكشف إلّا بعد ظهوره، كما لم ينكشف وجه الحكمة في أعمال الخضر عليه السلام إلّا بعد أن كشفها لموسى عليه السلام. وإنّ حالته عجل الله تعالى فرجه الشريف في غيبته تشبه حالة يوسف عليه السلام، ونوع عمله فيها من نوع عمل الخضر عليه السلام، الذي كشف لنا القرآن بعض عجائبه. بل يظهر من الروايات أنّهما عليهما السلام يعيشان معاً ويعملان معاً. والمرجّح أن يكون كثير من أعماله عجل الله تعالى فرجه الشريف بواسطة أصحابه الأبدال وتلاميذهم، الذين تُطوى لهم الأرض والمسافات، ويهديهم ربّهم بإيمانهم، وبتعليمات الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف.

 

فالله يعلم بما يقوم به الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف ووزيره الخضر عليه السلام، وأصحابه الأبدال، وتلاميذهم أولياء الله عليهم السلام، من أعمال في طول العالم وعرضه، وفي أحداثه الكبيرة والصغيرة.

 

ومن الطبيعيّ أن لا ينكشف وجه الحكمة في غيابهم وعملهم عليهم السلام، إلّا بعد ظهوره، واطّلاعنا على ما كانوا يقومون به من عمل، في عصرنا والعصور السابقة، أو على جزء يسير منه. وقد يكون أحدنا مديناً لهم بعملٍ أو أكثر قاموا له به في حياته، فضلاً عن مسار التاريخ وأحداثه الكبرى(13).

 

نسأله تعالى أن يعجّل فرجه ويجعلنا من أنصاره وأعوانه.

 

 

1- يراجع: العلّامة الحلّي، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، ص 388.

2- الشيخ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، ص485.

3- الشيخ الطبرسي، الاحتجاج، ج 2، ص 333.

4- الشيخ الكليني، الكافي، ج 1، ص 337.

5- الشيخ الصدوق، مصدر سابق، ص 482.

6- العلّامة الريشهري، ميزان الحكمة، ج 4، ص3104.

7- الشيخ الصدوق، مصدر سابق، ص 440.

8- المصدر نفسه، ص 440.

9- المصدر نفسه، ص 390.

10- الشيخ الكليني، مصدر سابق، ج 1، ص 340.

11- السيّد الأمين، مفتاح الجنّات، ج 3، ص 50.

12- الشيخ الكوراني العاملي، عصر الظهور، ص192.

13- المصدر نفسه، ص 192-194.

 

المصدر: مجلة بقية الله