"الكيان المؤقّت" وانهيار الداخل

د. بلال اللّقيس

يفترض بعضهم أنّ إطلاق أمين عام حزب الله سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله) مصطلح "الكيان المؤقّت" على كيان العدو "إسرائيل"، مقولةٌ في سياق حرب نفسيّة على العدو أو ربما لتحفيز بيئته؛ ربّما لأنّ هذا "البعض" يخشى أن يرى متلبساً بلبوس القوّة بدل الضعف، كأنّهم اعتادوا حالة الضعف والتقليد بدل الحضور والتوريد.

 

‎عوداً، فإنّ التتبّع الدقيق للسياقات والتحوّلات، يفيد أنّ إطلاق هذا المصطلح في الفضاء السياسيّ العامّ ليس حرباً نفسيّة، إنّما هي قراءةٌ علميّةٌ قائمةٌ على عددٍ كاف من القرائن والأدلّة والشواهد المتينة.

 

* حقيقة الصراع

‎حيث إنّ مواجهتنا مع الكيان الصهيونيّ في حقيقتها صراعٌ وليست حرباً أو نزاعاً، بمعنى أنّ لها أبعاداً ومستوياتٍ وطبقات ومجالات، بالتالي إنّ محاولة فهم هذا الصراع ثم تفسيره، وصولاً إلى توقّع مآلاته، يحتاج إلى مقاربات من زوايا عدّة متضافرةً؛ لأنّ المنتصر فيها لن يكون منتصراً في السياسة أو الاقتصاد، أو حتّى في الثقافة بمعناها التقليديّ فحسب، إنّما "في تفسير معنى الحياة". لذلك، فإنّ التفسير ثم التوقّع، يفرضان النظر إلى الصراع من زوايا عدّة حتّى لو تداخلت، وبأكثر من أداة علميّة ومنهج.

 

‎فتارةً يرى الصراع مع هذا العدوّ بمقاربة فلسفيّة، تنطلق من جدليّة "قوّة الحقّ وحقّ القوّة"، و"الوهم والحقيقة". وتارةً نراها ثقافيّةً، تُعّبر عن صراع الماديّة المفرطة بخصائصها مقابل حركة التاريخ المتّجهة إلى تحقيق التوازن والعدالة، والنزوع عن التطرّف. وأخرى اجتماعيّة، مرتبطةً بسؤالٍ الغاية المجتمعية، وفلسفة الاجتماع الإنسانيّ، والعُرى التي توثّقه وتحفظه وتسمو به. كذلك ثمّة أبعاد نفسيّة، متعلّقة بمسألة القلق، ودرجة الشعور بالطمأنينة، والتطبيع مع الذات والمصالحة معها (النفس)، بدل شعور تشكيكٍ باطني مستحكم، وأيضاً حال اتّهام للشرعيّة الفرديّة والجمعيّة، التي يعاني منها كلّ فرد في هذا الكيان، أينما اتّجه في العالم؛ إذ ثمّة شعورٌ يلازمه بأنّ الآخرين ينظرون إليه بشكّ!

 

‎أمّا زاوية الاستراتيجية، حيث سؤال التوازن المطلوب بين الداخليّ والخارجيّ، وبين المناعة والتحفّز الداخليّين، وملاءمتهما للدور المطلوب، وإلى أيّ مدى تعيش ذاكرة أجياله الجديدة حكايات انتصار منذ 4 عقود، أم تحوطها وقائع هزائم وعجز وتخبّط. وليس آخر الأبعاد السياسية؛ حيث التحدّي في الربط بين الثابت والمتغيّر في العلاقات السياسيّة، والتفاعلات بين كونه كياناً فقط أو دولة، وأيّ السياسات يمكن الركون إليها، والخيارات التي يمكن الاعتماد عليها، في عالم تضربه تحوّلاتٌ غير مسبوقة، منذ نشأة هذا الكيان الصهيوني.

 

* ‎العدّ العكسيّ‎

إنّ قراءة متأملة وموضوعيّة لهذه الأبعاد والزوايا، تفيد بما لا يدع مكاناً للشكّ أنّ هذه المقاربات شارفت على استنفاذ أغراضها، وبدأت تضجّ بتناقضها، وعجزها عن استحضار المبرّر الكافي للاستمرار؛ فأن تستمرّ، فهذا يعني أنّك قادر على تقديم المبرّرات الكافية لفعلك، وفكرتك بشكلٍ مستمرّ وقوّي، وبالزخم نفسه، إن لم نقل أكثر. وإذا لم تتوفّر استدامة المبرّر، تدخل في العَمَه والتيه الاستراتيجيّ: لماذا أنا هنا؟! وهل كان يوجد طريق آخر؟! وإذا ما تسلّل ذلك داخل النفس، انهارت الشرعيّة كأهمّ عنصر قوّة.

 

* هواجس الزوال بلسان نخبهم

‎بات الزوال هاجساً للداخل في هذا الكيان، بعد أن قامت على تفوق النوع واستمراره مقابلنا. يظهر ذلك جليّاً في تصريحات خبرائه وقادته ومفكريه، وكتاباتهم، يكفي منهم مقولات من قبيل إبراهام بورغ، رئيس الكنيست سابقاً، الذي تنبّأ بـ"أنّ إسرائيل غيتو صهيونيّ، يحمل بذور زواله في ذاته"(1). والكاتب المعروف بـ"ب.ميخائيل" يكتب في يديعوت عن "نهاية دولة إسرائيل تلوح في الأفق"، وآخر يكتب عن "اقتراب انهيار الصهيونية". ورابعٌ يقول: "إنّ إسرائيل وجود مفتوح للجدل"(2)، وخامسٌ يتساءل: "هل أوشكت "دولة" اليهود أن تكون مشهداً عابراً؟"(3)، بينما شكّك العالم الصهيونيّ الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، "إسرائيل أومان" باستمرار وجود الدولة العبرية على المدى البعيد، مشيراً إلى أنّ "عدداً كبيراً، وأكثر مما ينبغي من اليهود لا يدركون لماذا هم موجودون هنا". وفي تصريحٍ لافت لنتنياهو أنّ التاريخ علّمهم، أنّ لا دولة لليهود عمّرت أكثر من 80 عاماً"(4).

 

‎بينما تنبأت وكالة الاستخبارات المركزيّة الأميركيّة، الحليف الاستراتيجيّ لـلعدو الإسرائيليّ، بزوال الكيان مؤكّدةً: "إنّ انهيار إسرائيل خلال عشرين عاماً المقبلة، أمرٌ محتومٌ، ولا مفرّ منه"، مضيفةً: "إنّ أكثر من مليوني إسرائيليّ، بينهم 500 ألف يحملون البطاقة الخضراء أو جواز سفر، سوف يتوجّهون إلى أميركا خلال الأعوام الـ15 المقبلة، وأنّ حوالي مليون و600 ألف إسرائيلي، يستعدون للعودة إلى أوطانهم في روسيا وأوروبا الشرقية والغرب"(5).

 

* ‎مؤشرات الزوال.. من الداخل

‎تشير تلك الهواجس إلى هذا العدّ العكسيّ، مضافاً إلى مجموعة قرائن، باتت تشكّل نوعاً من الإجماع داخل الكيان، فضلاً عن خارجه، وكلها تتضمن اتجاهات باتت مؤشّراً نحو الزوال:

 

1-انسداد الأفق: ثمّة شعور متنامٍ يدور حول انسداد الأفق؛ إذ إنّ عدم قدرة الكيان الصهيونيّ المؤقّت على تعريف نفسه ذاتاً، دفعه لتعريف نفسه من خلال الخدمة التي يمكن أن يقدّمها لصالح القوّة العظمى في كلّ حقبة زمنيّة. وهذا ما جعل الركيزة الخارجيّة تطغى على الداخليّة، في عمليّة بناء الأمن الاستراتيجيّ. ربّما ركن إلى مُعطى؛ أنّ العالم استقرّ على الولايات المتّحدة وقيادتها المطلقة، فلم يميّز بين المسارات التغييريّة التي كانت تشقّ طريقها بشجاعة وتصميم، وتفرض معادلاتها، وتبحث عن مكانة لها خارج القفص الأمريكيّ. فتقدّمت مقاربة "البيزنس" في سلوكه على الاستراتيجيا والسياسة؛ ظنّاً أنّ الاقتصاد اللّيبراليّ يغني عن غيره، ولم يرقب عوامل تحوّل القوّة وتحدّياتها، وبناء القوّة التي كانت تسير باضطراد وتصميم في المنطقة، وتحكي للأمّة قصص نجاح غير مسبوقة، ابتداءً من لبنان.

 

‎2- تغليب المصالح الفرديّة: إلّا أنّ مجريات العقود الأخيرة أوصلت الكيان إلى تحدّيات يعجز عن مواجهتها، فغلّب الإنجازات التكتيكيّة في أدائه، بل وصل به الحال إلى تغليب حسابات زعاماته على مصلحة الكيان، كمؤشّر على اختلال ثقافته الداخلية السياسية. وأبرز ما يحصل اليوم، أنّ السياسات الخارجيّة ليست امتداداً للداخليّة فحسب، بل تنطلق منها. لذلك، ضاع الجاري بالاستراتيجيّ.

 

‎3-مساعي "السلام" الكاذبة: أتت فرصة السلام المدّعى منذ "كامب ديفيد" لتوهم اتّجاهات كبيرة في الكيان أنّ ثمّة مساراً آخر للسيطرة على الشعوب، لا سيّما أنّ طريق الحروب العسكريّة تقترب من الاعتراف بمحدوديتها وقصورها. حينما أسدل هذا "السلام" نوعاً من الايهام، وبالتالي الرخاوة في البيئة الداخليّة للكيان. فما هو السبيل لسدّ العجز بين هذين النهجين؟ ربّما هو الصفقة أو الصفقات. لكن على أيّ أسس؟ ومن هو الطرف الثاني في هذه الصفقة؟ وماذا يستطيع أن يقدّم كلّ طرف للآخر؟

 

‎يبدو أنّ محاولة ملء فراغ أمريكا، بتقارب إسرائيليّ مع أنظمة عربيّة، لن يفي بالغرض؛ لأنّ مرتكزات صفقة كهذه ومبانيها ووجهتها ليست واضحة كفاية، بل هي أقرب إلى بيعة لمرّة واحدة.

 

‎4- قصوره عن تقديم نفسه كحاجة: هل بالإمكان تغيير طبيعة المنطقة وصراعها، ليصير هذا "الكيان المؤقّت" حاجةً للشعوب، كأن ينتقل الملعب الصراعيّ إلى الاقتصاد والتقانة، فيكون "لإسرائيل" حينها دور؟ ربّما هكذا تنظّر الإدارة الأمريكيّة، حيث يترقّب هؤلاء إنتاج دور جديد لهم، من بوّابة هذا التحدّي الاقتصاديّ، الماثل في المجتمعات العربيّة والدول. هذه رؤية تنطلق من مشكلة المنطقة الاقتصاديّة، لكنّ نجاح هذه الفكرة يرتبط بعوامل عدّة، وليحصل ذلك، يجب أن تتّجه المنطقة نحو عامل مشترك كـ"الإبراهاميّة"، ويجب تخفيف الإيديولوجيا، وتكريس العوز، ليأتي هذا "الكيان" كحاجة ومنقذ. هذه هي معالم التصّور، لكنّ حسابات "البيدر" جاءت مختلفة على وقع المصالح الدوليّة، وإخفاقات أمريكا، وتراجع ردعها، وترتيب أولويّاتها الاستراتيجيّة، ما فرض العودة القسريّة إلى الاتّفاق النوويّ وما يخلّفه من حقيقة، أنّ إيران المقاومة تتقدّم كقطب شامل الأبعاد، ويتم الاعتراف القسري والإذعان بأنّها باتت بوّابة المنطقة في أيّ طرح، وعمود أيّ تصوّر إقليميّ.

 

* "الكيان المؤقّت" اليوم

‎مع هذه الحقائق الكبرى، أين سيكون موقع "الكيان المؤقّت الصهيونيّ"؟ ومن أيّ الممرّات سيدخل؟ وهل يمكننا القول إنّ هذا الكيان انتقل عمليّاً من الكيان الذي كان يحقّق مصالح الغرب في الماضي، إلى الكيان الذي يحتاج الغرب أن يثبّت له دعائمه ووجود كيانه، ويحمي أصل بقائه واستمراره؟ هذا هو عمق النقاش الدائر اليوم.

 

‎بنى هذا "الكيان المؤقّت" كيانه على دور خارجيّ كبير أدّاه حتى عام 1982م، لكن كلّما تقلّص الدور الكبير، فَقَدَ هذا الكيان مبرّرات استمراره، وتزايدت تناقضاته الداخليّة وشروخاته. كيف والحال أنّ أمريكا نفسها، مهما ادّعت من اهتمام بالمنطقة، تراها في نهاية المطاف، قد انكفأت عن لعب أيّ أدوار عسكريّة؛ ما يعني أنّ ردعها أُصيب، وأنّ نصف هامش مناورتها السياسيّ والاستراتيجيّ قد انمحى وسقط، وبقيت تتحرّك بنصفه الآخر.

 

‎واليوم، يقف الكيان مربكاً أمام معضلة محور المقاومة في المنطقة وحلفائه، بموازاة عالمٍ يتحوّل لما بعد الآحاديّة، ويتحوّل معه كل شيء، إلا من قدّم العناصر الذاتية في بنائه وراهن عليها، ‎وبغياب قيادات استثنائية سيصعب اتخاذ القرارات الكبرى عوضاً عن الترحيل، ولا يمكن معالجة المناعة الداخليّة إلّا بثورةٍ ثقافيّة كبرى، لا يبدو أنّ أحداً من قياداته أو مؤسساته، قادرٌ على القيام بها. ‎كلّ هذا يعني أنّنا مقبلون على تحدٍّ وجوديّ للكيان المؤقّت الصهيونيّ. فأيّ صراع منخفض الوتيرة، ليس إلّا صورةً موهومةً، يزداد معها قلق الكيان وتزداد هواجسه، في ظلّ حركة أعدائه الدؤوبة والمصمّمة. ولا يعني هذا أنّ الكيان قادرٌ على صراع مرتفع الوتيرة؛ كونه غير مضمون النتائج بالنسبة إليه، ويرجح أن يسرّع من انهياره. أمّا الوقت كعامل حاسم، فلا يسير لصالحه أبداً.

 

‎نعم، بات بإمكاننا القول إنّ هذا الكيان تخطّى سنّ الكهولة، بمصل ودعم أمريكيّ غربيّ دوليّ مفتوح، ويدخل اليوم سنّ الشيخوخة، واقتراب الأجل السياسيّ، بيد أنّ مصل الأعراب لا يفيده ولا ينقذه، وعمره رهنٌ بنا نحن أيضاً، طالما بقينا في الموقع الصحيح من التاريخ، نكمل في مسار بناء القوّة الشاملة، ونثق بقدرتنا ونصنع الأمل.

 

1- ملحق هآرتس، مقالة: بعد صهيوني؟ نقلاً عن: الجزيرة، مقالات سياسية: زوال "إسرائيل" على أجندة الجدل الصهيوني، نواف الزرو. 2012.

2- ناحوم برنياع، يديعوت أحرونوت. نقلاً عن: (م.س.).

3- إبراهام تيروش، معاريف. نقلاً عن: (م.س.).

4- موقع الميادين نت، مقالة: النمط المتبدل الذي بات يتحكم بقرارات العدو، بقلم عمر معربوني. 2020م.

5- الجزيرة، مقالات سياسية: زوال "إسرائيل" على أجندة الجدل الصهيوني، نواف الزرو. 2012م.

 

المصدر: مجلة بقية الله