لقد دخلنا شهر شعبان، شهر العبادة، شهر التوسّل، شهر المناجاة، "واسمع دُعائي إذا دعوتك، واسمع ندائي إذا ناديتك"(1)، موسم مناجاة الله المتعال، موسم وَصْلِ هذه القلوب الطاهرة بمعدن العظمة، معدنِ النور. وما نريد الوقوف عنده في هذا الشهر العظيم هو ذكرى ولادة الإمام الحسين عليه السلام والمناجاة الشعبانيّة.

 

•تضحية لا نظير لها

إنّ ذكرى مولد أبي عبد الله الحسين عليه السلام، ذكرى عظيمة. وعظمة الثالث من شعبان، يجب أن نَعُدّها قبساً من عظمة الحسين بن عليّ عليهما السلام، فهو يومٌ عظيم. لقد ولد في هذا اليوم رجلٌ ارتبط مصير الإسلام به وبحركته، وبانتفاضته، وبتضحياته، وبإخلاصه. لقد قدّم هذا العظيم للتاريخ وللبشرية حركةً لا مثيل لها ولا نظير، حركةً يُحتذى بها ولن تُنسى أبداً.

 

إنّ التضحية بالروح، وبأرواح الأعزّاء، وبِسبْي نساء أهل البيت عليهم السلام، بتلك الفظاعة، وتَحَمُّلَ تلك الواقعة القاسية، من أجل بقاء الإسلام، ومن أجل أن تبقى مقارعة الظلم كأصل في تاريخ الإسلام والبشريّة، لهو أمرٌ منقطع النظير. لقد استشهد الكثيرون في سبيل الله؛ في رَكْبِ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وفي ركب أمير المؤمنين عليه السلام، وفي ركب أنبياء الله عليهم السلام. لكن أيّاً منهم لا يُقارن بواقعة كربلاء. ثمّة فرق بين من يدخل ميدان الحرب وسط التهليل واستحسان الموالين، على أمل الفتح والنصر، ثمّ يُستشهد ويُقتل -بالطبع له الأجر الكبير- وبين تلك الجماعة في ذلك العالم المظلم والظالم، التي امتنع وجهاء عالم الإسلام الكبار آنذاك عن مساندتها، ولاموها على تلك الخطوة.

 

لم يكن ثمّة أمل في مساندة أبطال كربلاء من قِبَل أيّ شخص، ومن أيّ جهة كانت، بل يأتي شخص مثل عبد الله بن عبّاس، وآخر كعبد الله بن جعفر ليثنيهم عن المسير. كما امتنع الأصحاب والمخلصون والمحبّون في الكوفة عن مساندتهم. كانوا وحيدين، لا أحد معهم غير قلّة من الأصحاب المخلصين، والعائلة، والزوجة، والأخت، وأبناء الأخت، وأبناء الأخ، والشُّبّان، والرضيع ذي الستّة أشهر. إنّها واقعة عجيبة، ومشهد عظيم في التاريخ قد تراءى أمام أنظار البشريّة.

 

الإمام الحسين عليه السلام، كان يُعدُّ نفسه ليوم كهذا.

 

•دروس كثيرة وعظيمة

درس الحسين بن عليّ عليهما السلام للأمّة الإسلاميّة، هو أن نكون على أهبّة الاستعداد دوماً للدفاع عن الحقّ، ولإحقاق العدل، ومواجهة الظلم، وأن نُقدّم كلَّ ما لدينا في هذا الميدان.

 

بالطبع، فإنّ حياة الحسين بن عليّ عليهما السلام، وعلى مدى خمسين عاماً ونيّف من عمره الشريف، كلّها دروس؛ حياته في مرحلة الطفولة درس، وفي مرحلة الشباب درس، وسلوكه في مرحلة إمامة الإمام الحسن عليه السلام درس، كذلك كان سلوكه بعد شهادة الإمام الحسن عليه السلام.

 

 

لم تكن أعمال الإمام الحسين عليه السلام منحصرة في اليوم الأخير فحسب، لكنّ واقعة كربلاء؛ لما لها من عظمة وبريق، تبقى كالشمس التي يطغى نورها على كلّ الأنوار. فخطاب الإمام الحسين عليه السلام، للعلماء والأجلّاء والصحابة والتابعين في مِنى، والذي ذُكر في كتب الأحاديث، يُعدّ سنداً تاريخيّاً. كما أنّ رسالة ذلك العظيم للعلماء والأجلّاء وأركان الدين في عصره، عندما قال لهم: "ثمّ أيّتها العصابة، عصابةٌ بالعلم مشهورة"(2)، والتي وردت في كتب الأحاديث المُعتبرة، هي سندٌ تاريخيّ مهمّ. إنّ سلوك ذلك العظيم كلّه خطوة بخطوة، وتعامله مع معاوية، ورسالته له، ووجوده إلى جانب والده خلال فترة خلافة أمير المؤمنين عليه السلام القصيرة، هي دروس لنا. لكن تبقى واقعة عاشوراء شيئاً آخر.

 

علينا في ذكرى ولادة هذا العظيم، أن نتعلّم الدرس من الحسين بن عليّ عليهما السلام. ليس باستطاعتنا فعل ذلك بالمستوى وبالمقياس ذاتهما، ولكن يمكننا فعل ذلك في المستويات المتناسبة مع حالتنا، وخُلقيّاتنا، وعاداتنا. علينا تعلّم ذلك.

 

وشهر شعبان يعيد إلينا فرصة إحياء ذكرى هذا الإمام العظيم.

 

•حركة مليئة بالبركات

كان مصير ذلك العظيم الشهادة، لكن لم يكن درسه لنا درس الشهادة فحسب. فهذه الحركة مليئة بالبركات. يمكن في بعض الأحيان أن تنتهي حادثة كحادثة الحسين بن عليّ عليهما السلام بالشهادة، لكن هذه الحالة، وهذه الروحيّة لإقامة دين الله، وكلّ ما ترتّب عليها من بركات، هي أمر مفيد.

 

•المناجاة تحفة عظيمة

واحدة أخرى من بركات هذا الشهر، هو استحباب قراءة المناجاة الشعبانيّة، فهي تُحفةٌ وُضعت في تصرّفنا. صحيح أنّ لدينا العديد من الأدعية، المليئة بالمضامين السامية، لكنّ بعضها أكثر تمايزاً. لقد سألتُ الإمام الخمينيّ العظيم قدس سره يوماً، وقلت له: أيّ دعاء من بين كلّ الأدعية التي وصلت إلينا عن الأئمّة عليهم السلام، أحببته وتعلّقت به أكثر؟ فأجاب قدس سره: دعاء كميل والمناجاة الشعبانيّة. كان الإمام قدس سره صاحب قلبٍ متوجّه إلى الله، كان من أهل التوسّل، أهل التضرّع، أهل الخشوع، أهل الاتّصال بمنشأ الخِلقة، وكان هذان الدعاءان (دعاء كميل والمناجاة الشعبانيّة) بنظره هما الوسيلة الأمثل لبلوغ ذلك. عندما يعود الإنسان لهذين الدعاءين ويدقّق فيهما، يجد كمْ هما متشابهان إلى حدّ كبير؛ مناجاة إنسانٍ خاشع، مناجاة إنسان متوكّلٍ على الله: "كأنّي بنفسي واقفة بين يديك، وقد أظلّها حسنُ توكّلي عليك، فقلتُ ما أنت أهله، وتغمّدتني بعفوك"(3)؛ أي الأمل بالمغفرة الإلهيّة، وبالرحمة الإلهيّة، وبالتوجّه الإلهيّ، وبالهمّة العالية في الطلب من الله: "إلهيّ، هب لي كمال الانقطاع إليك، وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك"(4).

 

هكذا هو شهر شعبان؛ حيث تستغلّ القلوبُ الطاهرة والنورانيّة، وقلوب الشباب، هذه الفرصة، وتستفيد منها لتقوية علاقتها بالله.

 

 

(*) خطاب الإمام الخامنئيّ دام ظله بمناسبة مولد الإمام الحسين عليه السلام، بتاريخ 12/6/2013م.

1.مفاتيح الجنان، القمّي، المناجاة الشعبانيّة.

2.تحف العقول، الحرّاني، ص 237.

3.(م. ن.).

4.(م. ن.).