لقاء مع الجريح المجاهد حسين محمّد المقداد (وائل سلامة)

حنان الموسويّ سرور

 

"صيدٌ ثمين بانتظاري، طيورٌ وفيرةٌ تحوم حول الشِّباك، عليَّ فقط اختيار الأنسب. انتقيت الطائر الأرفع، من سيكون لاصطياده الصدى الأكبر. جررت أنفاسي بين جوعٍ وتعب. جهّزت العبوة وعزلتها، بانتظار لحظة الصفر...".

 

* عِلمٌ وفداء

حين حصلت على منحة بعد شهادة البكالوريا، تمكّنتُ من تلقّي العلوم في الجامعة الأميركيّة. وقد تزامنت دراستي مع تطوّعي في العمل التعبويّ، وصرت أتنقّل بين المحاور في محيط مدينة بيروت. مع قدوم الحرس الثوريّ إلى لبنان، ولأنّي من عشّاق روح الله الإمام الخمينيّ قدس سره، تفرّغت ضمن صفوف المجاهدين في حزب الله عام 1990م. سكب الله نوره في مهجتي حين اختارني أحد القادة المجاهدين لأداء مهمّة خاصّة ضدّ العدوّ الإسرائيليّ.

 

* مهمّة أمنيّة عسكريّة

"أهلاً بكم في مطار بن غوريون"، عبارة لفتتني حين وطئت قدماي أرض تل أبيب. كانت أوّل ما وقعت عليه عيناي. توجّهت نحو موظّفة الجمارك لتختم جواز سفري البريطانيّ. صعقها ردّي على سؤالها عن سبب مجيئي إلى تل أبيب بأن لا شأن لها بذلك، وأنّ الأمر لا يعنيها. بعدها صمتت، وفي الصمت الكلام الأثمن، تلك الثقة لاذت بفرحٍ مفقود، في بالي أنّ هذه الأرض المقدّسة لا تُصان إلّا بالدماء، والموت الراكض في أحياء فلسطين سيُقضى عليه، ولن يبقى محتلٌّ واحد على تلك الأرض.

كان الهدف تصفية قائدٍ عسكريّ في مهمّة خاصّة، أمنيّة عسكريّة. بعد تجوال دام خمسة أيّام فيها، قسّمت خلالها الخرائط إلى مربّعات، وتفقّدت طرقاتها واستطلعت كلّ شبرٍ فيها، إلّا أنّني لم أجد ضالّتي. بعدها انتقلت إلى مدينة القدس، وهناك بعد مضيّ أيّامٍ أربعةٍ تهجّأتُ حروف عشقها، وآلاف "الله أكبر" عشتها، كان الله بين الناس يحضن خوفهم، ويُطمئن روعهم بسبب الغاصب. ووجدت هدفي الذي أصبو إليه.

وبينما أضع اللمسات الأخيرة قبيل تنفيذ العمليّة، حصل خلل تقنيّ وإذ بالعبوة تنفجر! بعد شهرٍ عدت إلى وعيي في مشفى حدّاثا مقطّع الأعضاء، فاقد العينَين، عشرات الآلات قد وُصِلت بجسدي، وبجانبي محقّق محتلٌّ إسرائيليّ، أولى عباراته ما زالت ترنُّ في مسمعي: "أنت كنز الذهب، هديّة السماء لنا، سنستعيد الطيّار رون آراد بفضلك". ولكن أمله خاب.

 

* تحقيقٌ وتعذيبٌ

حقّق معي اثنا عشر محقّقاً حول المهمّة التي جئت من أجلها، لكن دون جدوى، فقد عقدت العزم على عدم الاعتراف. نُقِلت بعدها إلى مشفى آخر، وبقيت وحيداً طيلة أشهر أعاني من التعذيب وقلّة النوم. كانت فترة صعبة واستمرّت إلى أن حُرّرتُ في عمليّة تبادل للأسرى في 24 حزيران عام 1998م، مقابل أشلاء جنود العدوّ الذين قضوا في عمليّة أنصاريّة.

 

* تحريرٌ وحياة

بعد عودتي إلى لبنان رجعت إلى الحياة، خضعت لعلاج طويلٍ في المشفى، ولا أزال حتّى الآن.

اخترقت الجروح جسدي، لكنّ روحي ما فتئت مهيّأة تضجُّ بالحياة والتفاؤل، لذا التحقت بجامعة "آزاد" وحصلت على شهادة ماجستير في الفلسفة، وبعدها ماجستير آخر في الموارد البشريّة، ثمّ انتقلت إلى جامعة " عليهما السلامIU" وحصلت على شهادة الماجستير في اختصاص الإدارة، وحاليّاً أحضّر للدكتوراه، كما أنّني أشغل منصب معاون مسؤول الجامعات الخاصّة في التعبئة التربويّة تطوّعاً.

تزوّجت بحمد الله من إنسانة متديّنةٍ أشمّ رائحة الودّ بكلّ تصرّفاتها، هي المجاهدة الأولى في عالمي، تخدمني بعينيها وتقوم على رعايتي. أتوجّه لها بكلّ الشكر والامتنان، وأدعو لها بطول العمر. رُزقت بثلاث بنات هنَّ زينة حياتي، يفتخرن بي، علاقتي بهنّ أكثر من ممتازة، أعدهنَّ أن أرعاهنّ حتّى ما بعد زواجهنّ، وأوصيهنّ بالعلم ثمّ العلم ثمّ العلم.

 

* خدمة وعطاء

بعد تحريري، قامت مؤسّسة الجرحى باحتضاني. كان دورها فعّالاً جدّاً ومهمّاً. العاطفة والمسؤوليّة من أبرز صفات القيّمين فيها، رعايتهم لنا كجرحى ممتازة، تشمل الطبابة والتعليم والترفيه وكلّ ما يخطر في البال من تأمين للعيش الكريم، حتّى إنّهم أوكلوا مهمّة تعليمي لمدرّسة رافقتني وقتاً طويلاً، تقرأ لي وتساعدني في مشوار دراستي. جزاهم الله كلّ خير. لم يقصّروا معنا مطلقاً.

 

* درب الرحمن

لا يساورني ندم على ما حصل معي، فعمري كلّه دربٌ إلى الرحمن مضنٍ إن جزعت، وهيّنٌ إن صبرت. حزني أنّي خسرت الشهادة، وأحاول الاستعاضة عن ذلك بخدمة الناس ما استطعت، وبمتابعة علمي. حمدت ربّي على ما عشت، وإن كلّفت بمهمّة أخرى سأؤدّيها بفرح، فالخوف يموت عند الجرح الأوّل. لا مجال للاضطراب في قاموس وجودي، وأشكر الله أنّي سأختم عمري وأنا على هذه الحالة المزدانة برضاه.

أوجاعي لا تستكين، انتشرت في كامل ما تبقّى من جسدي، مضافاً إلى أمراضٍ اجتاحت دمي، كالسكريّ والضغط، غسيل الكلى، وكلُّ ذلك بعين الله.

إن عاد بيَ الزمان لالتحقت بصفوف المجاهدين على الثغور، لألوّن الليل بالنار وأهزم الطاغوت، كي أحظى بالشهادة، فهي الحرقة العظمى في نفسي. أتمنّى أن يكرمني الله بظهور الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف لأستشهد بين يديه. يا ليتني كنت بين المجاهدين المدافعين عن المقدّسات، فهم ممن كرّمهم الله. نظرتي لهم نظرة إكبار وإجلال، فهم من دافعوا عن حقّ أهل البيت عليهم السلام في حياتهم وشهادتهم. أسأل الله لهم العون والعمر المديد، فقد فُتح لهم باب الثواب والأجر، فهم الصابرون، المحامون عن الأعراض.

 

* تسليمٌ واقتداء

المثال الأعلى بالصبر هو أبو الفضل العبّاس عليه السلام. أجد نفسي قريباً جدّاً منه. وأهل بيت النبوّة عليهم السلام بأجمعهم هم القدوة. عقيدتي ازدادت أضعافاً عمّا قبل، فقد سلّمت بيقينٍ أمري وآلامي لله، ولديَّ أملٌ أن يكون عملي مقبولاً.

زرت مقام الإمام الرضا عليه السلام وأحببت المكوث عنده طويلاً، وطلبت من الإمام الحسين عليه السلام أن يسأل الله لي النجاة من ضغطة القبر. المؤمن ممتحن طالما هو في دار الفناء، لذلك أراقب نفسي ألّا أغتاب وأنمّ على أحد، كي أوسّد في لحدي مرتاح الضمير.

 

* أمنيات ورسالة

أتمنّى لقاء الأمين العامّ السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)؛ ضميرنا الحيّ، وعزّتنا، وحبيب القلوب، وتاج الرؤوس.

أمّا للجرحى فأقول: اصبروا ولا تيأسوا، ومن كان منكم قادراً على متابعة طريق العلم فليسلكه، فللعلم درجات عظيمة عند الله، واقضوا حوائج الناس بجراحكم، اخدموهم ما استطعتم بمعرفتكم. أحبّوا جراحكم وافرحوا بها، فهي بابنا إلى الجنّة، نحن الشهداء الأحياء.

أمّا للناس: التفّوا حول المقاومة ولا تتركوها، هي عزّتكم وكرامتكم، وما تضحيات الشهداء والجرحى سوى كرمى لكم.

الفضل في بقائنا وشموخنا للثورة الإسلاميّة في إيران، للإمام الخمينيّ قدس سره والإمام الخامنئيّ دام ظله، هما درّبانا وأسّسا فينا عقيدة رفض الظلم، ونحن صرنا تجربةً يُحتذى بها.

ـــــــــــــــ

الجريح: حسين محمّد المقداد.

الاسم الجهاديّ: وائل سلامة.

تاريخ الولادة: 22/2/1963م.

مكان الإصابة وتاريخها: مدينة القدس، 11/4/1996م.

نوع الإصابة: كفيف مع بتر في الأطراف.

 

المصدر: مجلة بقية الله