زهرة بدر الدين

من السهل البحث في مقال علميّ، ولكن من الصعب أن تبحث في شخصيّة رجلٍ عظيمٍ عاش عمره كلّه متوارياً عن أعين الناس، لتتعرّف إلى الجوانب التربويّة والأخلاقيّة من شخصيّته التي تربطه بالله تعالى.

 

اتّسم بشخصيّة لها جنبتان: واحدة عُرف واشتُهر بها، وهي الجنبة العسكريّة؛ بوصفه قائداً عسكريّاً جهاديّاً كبيراً، وجنبة أخرى، وهي التي خَفيت عن الكثير من الناس، والتي تحمل الجوانب الإنسانيّة والأخلاقيّة والمعنويّة، فعنها سيكون الحديث. فمع كلّ البأس والشدّة التي اتّصف بها، كان يقابلها بمثلها رأفةً ورحمةً ورقّةً بين يديّ الله تعالى، ومع أهله ومحبّيه. إنّه العبد المجهول: السيّد مصطفى بدر الدين، الذي كان لنا هذا الحديث مع أفراد أسرته وهم يروون أجمل ذكرياتهم عنه.

 

•كأنصار الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف

ورد في وصف أنصار الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف: "رجال لا ينامون الليل، لهم دويّ في صلاتهم كدويّ النحل، يبيتون قياماً على أطرافهم، ويصبحون على خيولهم، رهبانٌ بالليل ليوثٌ بالنهار، وهم أَطوع له من الأمَة لسيّدها، كالمصابيح كأنّ قلوبهم القناديل، وهم من خشية الله مشفقون، يدعون بالشهادة ويتمنّون أن يُقتلوا في سبيل الله"(1).

تمتّعت شخصيّته بتلك المواصفات، فكان يقوم في الليل بين يدي الله تعالى، تالياً بكثرة لكتابه تعالى بصوت جميل؛ إذ كان يقرأ كلّ يوم دون انقطاع، ومع الحرص على فهمه وتفسيره. وكان أيضاً يتّصف بما ورد في نهج البلاغة في وصف للمتقين: "أَمَّا اللَّيْلَ، فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ، تَالِينَ لِأَجْزَاءِ الْقُرْآنِ، يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلًا، يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ، وَيَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ، فَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً، وَتَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً وَظَنُّوا أَنَّهَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ، وَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ، وَظَنُّوا أَنَّ زَفِيرَ جَهَنَّمَ وَشَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ، فَهُمْ حَانُونَ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ، مُفْتَرِشُونَ لِجِبَاهِهِمْ وَأَكُفِّهِمْ وَرُكَبِهِمْ وَأَطْرَافِ أَقْدَامِهِمْ، يَطْلُبُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي فَكَاكِ رِقَابِهِمْ"(2).

 

•بارّ بوالدته

﴿وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا﴾ (مريم: 32). عملاً بهذه الآية الشريفة، كان السيّد ذو الفقار شديد البرّ بوالدته إلى درجة كبيرة، يحرص على زيارتها، كلّما جاء إلى بيروت ومهما كانت الظروف، ويُقبّل يدَيها ورجلَيها ويُطعمها بيدَيه ويشمّها ويحضنها، وهي أوّل من يتّصل به عند حصول أيّ حدثٍ عسكريّ ليطمأنها إلى صحّته.

 

•إحياء المناسبات العائليّة

على الرغم من انشغالاته الشديدة والحسّاسة، لم ينسَ السيّد ذو الفقار قطّ المناسبات العائليّة وعيد الأمّ، فكان يرسل لعائلته وأمّه الهدايا باستمرار. اهتمّ بدراسة بناته، فكان يصحّح معهنّ أسئلة الامتحانات الرسميّة بعد كلّ مادة، ويصوّب لهنّ الأمور. وكان يُشعر أولاده وأسرته أنّه موجود وحاضر دائماً بينهم، يمارس معهم الدور الطبيعيّ للأب على أكمل وجه. وفي المقابل، كان أولاده حريصين على عدم الإفصاح عن طبيعة عمله أمام زملائهم على مقاعد الدراسة؛ فقد حدث مرّةً أن سألتِ المعلّمة عن عمل كلّ أبٍ، وعندما أجابت إحدى بناته أنّ والدها يعمل في "مهنة ما"، ضَحك بعض الطلّاب وسخروا منها، الأمر الذي جعلها تبكي، ممّا دفع المعلّمة -وكانت تعرف عائلتها- لتقول لها: "ارفعي رأسك وافتخري، أنت ابنة القائد الكبير السيّد ذو الفقار". هذا، وكان يزرع في نفوسهم خصال التواضع وعدم الزهو والافتخار بمنصب والدهم، كما حرص على أن تكون سيّارة نقل أولاده إلى المدرسة سيّارة عاديّة جدّاً كسائر الناس.

 

•أخلاقه مع الناس

كان يمشي بين الناس كلّما أمكن له ذلك، ويتحدّث معهم، ويهتمّ لشؤونهم. ومرّة وجد رجلاً عجوزاً يحمل غالونات ماء، فطلب من الشباب التوقّف، ثمّ ترجّل من السيّارة وحمل الغالونات عنه وأوصلها إلى منزله. وقد حصل أن التقى بناطور بناية في أحد الأماكن، فرأى أنّ أولاده يبكون من أجل لعبة بين أيديهم، فما كان منه إلّا أن ذهب إلى مكان ما، وسرعان ما عاد وهو يحمل معه العديد من الألعاب، ثمّ أعطى كلّ ولد من أولاد الناطور لعبة، فأدخل بذلك السرور على قلوبهم. ومع ذلك، لم يكن يعرف الناطور من هو هذا الرجل حتّى استشهد، فبكى عليه بكاءً شديداً، وكان يقول: "هذا هو الرجل العظيم الذي لم نكن نعرفه".

كما أنّه علِم مرّة بوجود شخصٍ فقير لا يملك طعام الإفطار في شهر رمضان المبارك، فطلب من زوجته أن تحضّر إفطاراً لائقاً كلّ ليلة، ففعلت ظنّاً منها أنّ هذا الإفطار لمسؤول أو ضيفٍ مهمّ. وبعد انتهاء شهر رمضان، عرفت أنّ هذا الطعام كان لذاك الفقير. كما أنّه لم يقبل إلّا تقديم الطعام الطازج واللذيذ للناطور كلّ ليلة.

كان يكره الظلم عن أيّ شخص صدر، وكان يتألّم إذا سمع بذلك، ويساعد قدر الإمكان دون أن يعرف أحد ذلك.

 

•عاشقٌ للشهادة محبٌّ للحياة

"اعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً، واعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً"(3). انطلاقاً من هذ الحديث، كان السيّد عاشقاً للشهادة، مداوماً على غسلها كلّما توجّه إلى الميدان. وكان صاحب طَهورٍ ووضوء دائماً، بل كان يراعي أغلب المستحبّات بما يتوافق مع وقت العمل، قبل النوم وأثناء عمله، ويتجنّب ما أمكن من المكروهات، ويُدقّق في مصدر كلّ طعام يأكله.

كان السيّد مصطفى يَصلْ نهاره بليله، ويقضي معظمه في العمل، ويختلي بربّه في أوقات خاصّة، وقد يذهب عنه النوم يومين دون أن يبالي، وأحياناً لا ينام أكثر من ثلاث ساعات في اليوم الواحد. ومع ذلك كُلّه، لم ينسَ حياته وعلاقاته الأسريّة، بل كان يعيش ويتنعّم بحياته تماماً كأيّ شخص عاديّ، فقد عاش حياةً طبيعيّة واستثمر النعم الإلهيّة التي منحها الله لعباده، مع زوجته وأولاده وأهله، وحتّى مع نفسه، فكان يمارس الرياضة ويسبح ويغطس ويلعب كرة القدم، كما كان صاحب قلمٍ أدبيّ ويكتب الشعر، ومن جملة ما كتب لأبناء فلسطين: "غضبٌ غضب، نارٌ لهب، يابن المخيّم والنقب، احمل حجارك يا فتى، ارمِ النيازك والشهب".

كما كان يتقن اللغة الإنجليزيّة بطلاقة، كتابةً ونطقاً واستماعاً، وأكمل دراسته الجامعيّة في الجامعة الأميركيّة، وحَاز شهادة الماجستير في العلوم السياسيّة، وكان يجلس على مقاعد الدراسة بين زملاء له لم يعرفوه إلّا بعد استشهاده.

كان مثقّفاً ويحبّ المطالعة والقراءة، حافظاً لأغلب القرآن الكريم، وقد حرَص على حفظه عندما كان في سجن الكويت في سنّ العشرين من عمره، وكان مهتمّاً جدّاً بالتحضير قبل أيّ جلسة يعقدها مع الإخوان؛ يفتح الكتب ويُحضّر ويدوّن كلّ ما له ارتباط وحاجة بموضوع الجلسة. أمّا أناقته في لباسه ومظهره الخارجيّ فلم تغبْ عنه وعمّن يراه، لكن في الوقت نفسه لا يقبل أن يرتدي إلّا ثياباً متواضعة، كما هي ثياب الشباب.

 

•رجل في أمّة

بكاه الكثير عند استشهاده، والذين جاؤوا إلى منزله كانوا يشكون فَقد الأب والراعي والمعين. فهو باختصار كان رجلاً في أمّة، ومدرسة لكلّ مجاهد وإنسان حرّ.

 

سلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيّاً. 

ـــــــــــــ

1.بحار الأنوار، المجلسيّ، ج52، ص307.

2.نهج البلاغة، الخطبة 193.

3.وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج17، ص76.

 

المصدر: مجلة بقية الله