مقاصد الكتاب الشريف (1)

إنّ الله تبارك وتعالى لسَعة رحمته في عباده، أنزل هذا الكتاب الشريف من مقام قربه وقدسه، وتنزّل به على حسب تناسب العوالم، حتّى وصل إلى هذا العالم الظلمانيّ وسجن الطبيعة، وصار على كسوة الألفاظ وصورة الحروف، لاستخلاص المسجونين في سجن الدنيا المظلم، وخلاص المغلولين بأغلال الآمال والأمانيّ، وإيصالهم من حضيض النفس والضعف والحيوانيّة إلى أوج الكمال والقوّة الإنسانيّة، ومن مجاورة الشيطان إلى مرافقة الملكوتيّين، بل الوصول إلى مقام القرب، وحصول مرتبة لقاء الله، التي هي أعظم مقاصد أهل الله ومطالبهم. 

 

•كتاب الحقّ والسعادة

إنّ هذا الكتاب هو كتاب الدعوة إلى الحقّ والسعادة، وبيان كيفيّة الوصول إلى هذا المقام ومندرجاته إجمالاً ما له دخل في هذا السير والسلوك الإلهيّ أو عين السالك والمسافر إلى الله، وعلى نحو كلّيّ أحد مقاصده المهمّة الدعوة إلى معرفة الله، وبيان المعارف الإلهيّة من الشؤون الذاتيّة والأسمائيّة والصفاتيّة والأفعاليّة، وأكثرها في هذا المقصود هو توحيد الذات والأسماء والأفعال.

 

•السير والسلوك إلى الله

هذا المطلب منقسم إلى شعبتين مهمّتين:

 

1- إحداهما: التقوى بجميع مراتبها المندرجة فيها: التقوى عن غير الحقّ، والإعراض المطلق عمّا سوى الله.

 

2- وثانيتهما: الإيمان بتمام المراتب والشؤون المندرج فيه الإقبال إلى الحقّ، والرجوع والإنابة إلى ذاته المقدّسة، وهذا من المقاصد المهمّة لهذا الكتاب الشريف، وأكثر مطالبه ترجع إلى هذا المقصد إمّا بلا واسطة أو مع الواسطة.

 

•مقاصد القرآن الكريم

وربّ قلوب تتناسب مع التخويف والإنذار، وقلوب لها الألفة مع الوعد والتبشير؛ فلهذه الجهة دعا الناس هذا الكتاب الشريف بالأقسام المختلفة والفنون المتعدّدة والطرق المتشتّتة، والتَّكرار لمثل هذا الكتاب لازم وحتميّ، والدعوة والموعظة من دون تَكرار وتفنّن خارجة عن حدّ البلاغة، وما يتوقّع منها، وهو التأثير في النفوس، لا يحصل من دون تَكرار ومع الوصف.

 

1- قصص الأنبياء عليهم السلام وغاياتها: ومن مقاصد هذه الصحيفة الإلهيّة، قصص الأنبياء والأولياء والحكماء، وكيفيّة تربية الحقّ إيّاهم، وتربيتهم الخلق. فإنّ في تلك القصص فوائد لا تحصى، وتعليمات كثيرة. ومن المعارف الإلهيّة والتعليمات وأنواع التربية الربوبيّة المذكورة والمرموزة فيها ما يحيّر العقل.

 

فيا سبحان الله، وله الحمد والمنّة، ففي قصّة خلق آدم عليه السلام، والأمر بسجود الملائكة، وتعليمه الأسماء، وقضايا إبليس وآدم، التي كرّر ذكرها في كتاب الله، في التعليم والتربية والمعارف والمعالم لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ما يحيّر الإنسان. ولأجل هذه النكتة، كرّرت القصص القرآنيّة، كقصّة آدم وموسى وإبراهيم وسائر الأنبياء، فليس هذا الكتاب كتاب قصّة وتاريخ، بل هو كتاب السير والسلوك إلى الله، وكتاب التوحيد والمعارف والمواعظ والحكم. والمطلوب في هذه الأمور هو التكرار كي يؤثّر في القلوب القاسية، وتأخذ منها موعظته. وبعبارة أخرى، إنّ من يريد أن يربّي ويعلِّم وينذر ويبشر، فلا بدّ له من أن يرزق مقصده بالعبارات المختلفة والبيانات المتشتّتة، فتارة في ضمن قصّة وحكاية، وأخرى في ضمن تاريخ ونقل، وحيناً بصراحة اللهجة، وحيناً بالكناية والأمثال والرموز، حتّى يتمكّن كلّ من النفوس المختلفة والقلوب المتشتّتة من الاستفادة منها. وحيث إن هذا الكتاب الشريف هو لأجل سعادة جميع الطبقات وسلسلة البشر قاطبة، ويختلف هذا النوع الإنسانيّ في حالات القلوب والعادات والأخلاق والأزمنة والأمكنة. 

 

•مثال: قصّة النبيّ إبراهيم عليه السلام

أهل المعرفة مثلاً، يدركون من الآية الكريمة ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا﴾ (الأنعام: 76) إلى آخر الآيات، كيفيّة سلوك النبيّ إبراهيم عليه السلام، وسيره المعنويّ، ويعلمون طريق السلوك إلى الله، والسير إلى جنابه، وحقيقة سير الأنفس والسلوك المعنويّ من منتهى ظلمة الطبيعة التي عبّر عنها في ذلك المسلك بـ﴿جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ﴾ (الأنعام: 76) إلى إلقاء مطلق الإنّيّة والأنانيّة، وترك النفسانيّة وعبادة النفس والوصول إلى مقام القدس، والدخول في محفل الأنس. ﴿وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾ (الأنعام: 79)، إلى آخر إشارة إلى ذلك في هذا المسلك، والسائرون يدركون منها السير الآفاقيّ وكيفيّة تربية خليل الرحمن أمّته وتعليمه إيّاهم. وعلى هذا المنوال، سائر القصص والحكايات، مثل قصّة آدم وموسى ويوسف وعيسى وعلامات موسى مع الخضر، فإنّ استفادات أهل المعارف والرياضات والمجاهدات مع غيرهم متفاوتة.

 

•كتاب لكلّ الأحوال

لا يمكن أن تكون دعوة كتاب الله على نحو واحد لجميع الناس، فربّ نفوس لا تكون حاضرة لأخذ التعاليم بصراحة اللهجة وإلقاء أصل المطلوب بنحو ساذج، ولا تتأثّر بهذا النحو، فلا بدّ من أن تكون دعوة هؤلاء وفق كيفيّــــة تفكيرهم، فيفهم إيّاهــــــم المقصد. وربّ نفوس لا شغل لها بالقصص والحكايات والتواريخ وإنّما علاقتها بلبّ المطالب ولباب المقاصد، فلا يوزن هؤلاء مع الطائفة الأولى بميزان واحد.

 

وتتمّة المقاصد نستعرضها في العدد المقبل، بإذن الله.

 

 

(*) من كتاب: الآداب المعنويّة للصلاة، الإمام الخمينيّ قدس سره، الباب الرابع، في ذكر نبذة من آداب القراءة وقطعة من أسرارها، الفصل الثاني.

 

مجلة بقية الله