إنّ الوصول دفعة واحدة إلى الإخلاص الكامل لمن كان محجوباً أمر نادر الحدوث، ولا ينبغي التعويل وترك المجاهدة لتحصيله، كأن يجلس السالك ويصرّ على الدعاء حتّى يبلغه؛ لهذا يحتاج السالك إلى عبور مراتب المجاهدة ومراحل التصفية حتّى يصل إليه. ولأنّ العمل هو أوّل ما يظهر من باطن النفس، فإنّ تصفيته من الشوائب تعدّ المرحلة الأولى على هذا الطريق.

 

•درجات الإخلاص

1- عدم رؤية استحقاق الثواب

من درجات الإخلاص تصفية العمل عن رؤية استحقاق الثواب والأجر، وفي المقابل يشوبها بطلب الأجر ورؤية استحقاق الأجرة والثواب. وهذا لا يخلو عن مرتبة من الإعجاب بالعمل، ولا بدّ للسالك من تخليص نفسه منه.

 

أ- منشأ رؤية الاستحقاق: إنّ رؤية الاستحقاق هي من نقصان المعرفة بحال العابد نفسه وبحقّ الخالق تعالى شأنه. وهذا ينشأ أيضاً من الشجرة الخبيثة الشيطانيّة التي مرجعها رؤية النفس وعملها والإنّيّة والأنانية. فالإنسان المسكين ما دام في حجاب رؤية أعمال نفسه، ويراها من عند نفسه، ويرى نفسه متصرّفاً في الأمر، فلن ينجو من هذا المرض، ولا ينال هذه التصفية والتخليص.

 

ب- العلاج: لا بدّ للسالك أن يجهد، ويُفهم القلب بالرياضات القلبيّة والسلوك العقليّ والعرفانيّ، أنّ جميع الأعمال من الهبات الإلهيّة والنعم التي أجراها الحقّ تعالى على يد العبد، فإذا تمكّن التوحيد الفعليّ في قلب السالك، فلن يرى العمل من عند نفسه ولا يطلب الثواب، بل يرى الثواب تفضّلاً، والنعم ابتدائيّة.

 

ج- شواهد من النصوص: قد ذُكرت هذه اللطيفة الإلهيّة كثيراً في كلمات الأئمّة والأطهار عليهم السلام، خصوصاً الصحيفة السجّاديّة، تلك الصحيفة النورانيّة التي نزلت من سماء عرفان العارف بالله والعقل النورانيّ سيّد الساجدين عليه السلام ؛ لخلاص عباد الله من سجن الطبيعة، وتفهيمهم أدب العبوديّة والقيام في خدمة الربوبيّة، كما في الدعاء الثاني والثلاثين منها؛ إذ يقول عليه السلام: "لك الحمد على ابتدائك بالنعم الجِسام، وإلهامك الشكر على الإحسان والإنعام"(1). وفي موضع آخر يقول عليه السلام: "إذ جميع إحسانك تفضّل، وإذ كلّ نعمك ابتداء"(2). وفي مصباح الشريعة المنسوب إلى الإمام الصادق عليه السلام يقول: "وأدنى حدّ الإخلاص بذل العبد طاقته، ثمّ لا يجعل لعمله عند الله قدراً فيوجب به على ربّه مكافأة لعمله بعمله"(3).

 

2- عدم الاستكثار والفرح بالعمل

الدرجة الأخرى للإخلاص، تصفية العمل من الاستكثار والفرح به، والاعتماد وتعلّق الخاطر به. وهذا أيضاً من مهمّات سلوك السالك؛ لأنّ الاستكثار يمنع السالك من قافلة السالكين إلى الله، ويحبسه في سجن الطبيعة.

 

أ- منشأ الاستكثار والفرح بالعمل: هذا أيضاً ينبت من الشجرة الخبيثة الشيطانيّة، ومنشؤه حبّ النفس الذي هو إرث من الشيطان، الذي قال: ﴿خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ (الأعراف: 12)؛ وهذا من جهل الإنسان بمقامه، ومقام معبوده جلّت عظمته.

 

ب- العلاج: إذا كان المسكين الممكن (الفقير الوجود) يعرف مقام نقصه وعجزه وضعفه ومسكنته، ويعرف مقام عظمة الحقّ ومجده وكماله، فلا يرى عمله عظيماً أبداً ولا يحسب نفسه قائماً بالأمر؛ فالمسكين يتوقّع من ركعتين لا تساوي صلاة سنة منهما في سوق أهل الدنيا، بضعة توامين (عملة إيرانيّة). توقّعات غير متناهية! هذا إذا كانت صحيحة ومجزية. وهذا هو العجب واستكثار العمل الذي هو مبدأ لكثير من المفاسد الأخلاقيّة والفعليّة، يطول ذكرها.

 

ج- شواهد من النصوص: لقد أشار الأئمّة عليهم السلام في الأحاديث إلى ذلك، فعن الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام أنّه قال لبعض ولده: "يا بنيّ... عليك بالجدّ، ولا تخرجنّ نفسك من حدّ التقصير في عبادة الله عزّ وجلّ"(4). وقال عليه السلام في حديث آخر: "كلّ عمل تريد به الله عزّ وجلّ، فكن مقصّراً عند نفسك، فإنّ الناس كلّهم في أعمالهم فيما بينهم وبين الله مقصّرون، إلّا مَن عصمه الله عزّ وجلّ"(5).

 

وعنه عليه السلام: "لا تستكثروا كثير الخير"(6). وفي الصحيفة السجادية الكاملة في وصف ملائكة الله، يقول الإمام زين العابدين عليه السلام: "الذين يقولون إذا نظروا إلى جهنّم تزفر على أهل معصيتك: سبحانك ما عبدناك حقّ عبادتك"(7).

فيا أيّها الضعيف، ففي المقام الذي يعترف فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالعجز والتقصير، ويقول: "ما عبدناك حقّ عبادتك، وما عرفناك حقّ معرفتك"(8)، وهو أعرف خلق الله، وعمله أشدّ نوراً وأعظم من أعمال جميع الناس، وكذا الأئمّة المعصومون عليهم السلام يُظهرون ذاك النحو من القصور والتقصير في المحضر المقدّس، فماذا يتأتّى من بعوضة هزيلة؟!

نعم، إنّ مقام معرفتهم بعجز الممكن (المخلوق) وعزّة الواجب وعظمته -تعالى شأنه- كانت تقتضي تلك الإظهارات والاعترافات. وأمّا نحن المساكين، فمن الجهل والحجب المتنوّعة قمنا بالتكبّر ونعجب بأنفسنا وأعمالنا، فيا سبحان الله! ما أصدق كلام أمير المؤمنين عليه السلام إذ يقول: "عُجب المرء بنفسه أحد حسّاد عقله"(9). فهذا من فقدان العقل، أنّ الشيطان يعمّي علينا أمراً ضروريّاً ولا نقوم بوزنه في ميزان العقل. إنّا نعلم بالضرورة أنّ أعمالنا وأعمال جميع البشر العاديّين، بل أعمال جميع ملائكة الله والروحانيّين في ميزان المقايسة بأعمال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة الهداة عليهم السلام ليس لها قدر محسوس، ولا تعدّ شيئاً، وفي الوقت نفسه، فإنّ الاعتراف بالتقصير وإظهار العجز عن القيام بالأمر من تلك الأعاظم متواتر، بل فوق حدّ التواتر.

وهاتان القضيّتان الضروريّتان تنتجان لنا ألّا نفرح بشيء من أعمالنا، بل علينا إذا قمنا بالعبادة والطاعة طول عمر الدنيا أن نكون خجلين وننكّس رؤوسنا في محضره.

 

(*) من كتاب: الآداب المعنويّة للصلاة، الإمام الخمينيّ قدس سره، الباب الثالث، في سرّ النيّة وآدابها، الفصل الخامس، (بتصرّف)

1.الصحيفة السجّاديّة الكاملة، الدعاء الثاني والثلاثون، دعاؤه عليه السلام بعد فراغه من صلاة الليل.

2.(م.ن)، الدعاء الثاني عشر، دعاؤه عليه السلام في الاعتراف وطلب التوبة إلى الله.

3.مصباح الشريعة المنسوب إلى الإمام الصادق عليه السلام، ص34.

4.من لا يحضره الفقيه، الصدوق، ج4، ص4008.

5.الكافي، الكليني، ج2، ص73.

6.الوافي، الفيض الكاشاني، ج5، ص1009.

7.الصحيفة السجّاديّة الكاملة، (م.ن)، الدعاء الثالث، الصلاة على حَمَلة العرش.

8.بحار الأنوار، المجلسيّ، ج68، ص234.

9.نهج البلاغة، الحكمة 212.

 

المصدر: مجلة بقية الله