أدبُ الإخلاص في العبادة (1)(*)

من مهمّات آداب النيّة، وهو في الوقت نفسه من مهمّات جميع العبادات، ومن المقرّرات الكليّة الشاملة: الإخلاص. وحقيقته تصفية العمل من كلّ شائبة سوى الله، وتصفية السرّ عن رؤية غير الحقّ تعالى في جميع الأعمال الظاهريّة والباطنيّة. وكمال الإخلاص ترك الغير مطلقاً، وجعل الإنّيّة والأنانيّة، والغير والغيريّة تحت قدمَيك.

 

•الدين الخالص لله

قال تعالى: ﴿أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾ (الزمر: 3)؛ أي أنّ الله تعالى قد اختار لنفسه الدين الخالص، فإذا كان لشيء من الحظوظ النفسانيّة والشيطانيّة دخل في الدين فلا يكون الدين خالصاً، وما ليس بخالص فإنّ الله لم يختره، وما كانت فيه شائبة الغيريّة والنفسانيّة فهو خارج عن حدود دين الحقّ، قال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ (البيّنة: 5)، وقال تعالى: ﴿وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ﴾ (الشورى: 20). وعن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم : "لكلّ امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى اللَّه ورسوله فهجرته إلى اللَّه ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه"(1).

 

•الهجرة الصوريّة والهجرة المعنويّة

قال تعالى: ﴿وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللَّهِ﴾ (النساء: 100). ويمكن أن تكون هذه الآية المباركة متضمّنةً جميع مراتب الإخلاص، منها: الهجرة الصوريّة التي تقع بالبدن. وهذه الهجرة إذا لم تكن خالصة لله ورسوله، بل كانت للحظوظ النفسانيّة، فليست هجرةً إلى الله ورسوله، وهذه هي مرتبة الإخلاص الصوريّ الفقهيّ.

 

والثانية: الهجرة المعنويّة، والسفر الباطنيّ الذي مبدؤه البيت المظلم للنفس، وغايته الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم الذي مرجعه الحقّ أيضاً؛ لأنّ الرسول بما هو رسول ليس له استقلال، بل هو آية ومرآة وممثّل. فالهجرة إليه هجرة إلى الحقّ تعالى (حبّ خاصّة الله هو حبّ الله).

فحاصل معنى الآية الشريفة بحسب هذا الاحتمال، هو أنّه من هاجر بالهجرة المعنويّة وسافر بالسفر القلبيّ العرفانيّ، وخرج من بيت النفس ومنزل الأنانيّة، وهاجر إلى الله دون رؤية نفسه ونفسانيّته وحيثيّته، فجزاؤه على الحقّ تعالى.

 

•أهمّ مانع للإخلاص

إذا كان السالك في سلوكه إلى الله طالباً لحظّ من الحظوظ النفسانيّة، ولو كان هو الوصول إلى المقامات، بل ولو كان هو الوصول إلى قرب الحقّ بمعنى وصول نفسه إلى الحقّ، فليس هذا السلوك سلوكاً إلى الحقّ، بل السالك لم يخرج بعد من البيت (النفس)، بل هو مسافر في جوف البيت من ركن إلى ركن، ومن زاوية إلى زاوية. فالسفر إذا كان في مراتب النفس وللوصول إلى الكمالات النفسانيّة فليس بسفر إلى الله، بل هو سفر من النفس إلى النفس.

 

•إمكانيّة حصول الإخلاص الحقيقيّ

لا يقدر أحد على أن يسافر السفر الربانيّ دون السفر النفسانيّ غير الكُمّل من أولياء الله. وهذا الشأن للكمّل فقط. ولعلّ الآية الشريفة: ﴿سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ (القدر: 5)، تشير إلى هذه السلامة من التصرّفات الشيطانيّة والنفسانيّة في جميع مراتب السير، في الليالي المظلمة الطبيعيّة التي هي ليلة القدر للكُمّل حتّى طلوع فجر القيامة، الذي هو في عين الكُمّل رؤية جمال الأحديّة.

وأمّا غيرهم فليسوا سالمين في جميع مراتب السير، بل في أوّل السير، لا يخرج أيّ سالك من التصرّفات الشيطانيّة.

فاعلم، أنّ هذه المرتبة من الإخلاص؛ أي السلامة من أوّل مرتبة السير إلى الله إلى آخرها، لا تتيسّر لأهل السلوك والعاديّين من أصحاب المعرفة والرياضة.

 

•علامات الإخلاص

إن آية وعلامة هذا النحو من الخلوص، هي أنّه لا سبيل لغواية الشيطان إليهم، وطمعه مقطوع عنهم تماماً، كما قال تعالى في الآية الشريفة ناقلاً عن ذاك الخبيث: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ*إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ (ص: 82 - 83).

لقد نُسب الإخلاص ههنا إلى ذات العبد لا إلى فعله، وهذا مقام فوق الإخلاص في العمل. ولعلّ المراد من الحديث النبويّ المعروف: "من أخلص لله أربعين صباحاً، جرت ينابيع الحكمة من قلبه إلى لسانه"(2)، هو الإخلاص بجميع مراتبه؛ أي الإخلاص العمليّ والصفاتيّ والذاتيّ، ولعلّه يكون ظاهراً في الإخلاص الذاتيّ، وتكون بقيّة مراتب الإخلاص من لوازمه.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) من كتاب: الآداب المعنويّة للصلاة، الإمام الخمينيّ قدس سره، الباب الثالث، في سر النية وآدابها، فصل الإخلاص.

1.بحار الأنوار، المجلسي، ج67، ص242.

2.مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج1، ص90

 

المصدر: مجلة بقية الله