التأصيل للمشروع الإسلامي

مجموعة محاضرات ألقاها سماحة القائد في شهر رمضان، عام: 1974م.

القسم الأول:  الإیمان

 

الجلسة الأولى

 

الإيمان (1)

 

الخميس 2 رمضان المبارك 1394 هجرية

 

28/6/1353 هجرية شمسية                   

 

الرهبان المسيحيون توجهوا إلى الرهبانية كي لا تمسهم لوثة الذنوب والآثام. لجأوا إلى المغارات والكهوف والقرآن يقول عنهم: (وَ رَهْبَانِیَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَیْهِمْ)[1]، أَما العالِم المسلم فليس في منهجه رهبانية، ليس فيه حالة انعزال أو فرار من الساحة الاجتماعية. العالِم الإسلامي سعيه دائمًا لإنقاذ الغريق[2]. المسلم الواعي إسلامه مقرون بالمسؤولية.. وهذا الاقتران هو اقتران اللازم بالملزوم. يسعى دائمًا لمدّ يد العون لمن يحتاج.. للغريق.. للمريض، لمن ضلّ الطريق، وهذا لا ينسجم مع الفرار من الساحة. ‌يجهّز نفسه بالتقوى، أي بالدرع الذي يقيه من إصابة سهام الآثام، ويدخل الساحة بكل ما فيها من ذنوب، لينقذ الآثمين والمذنبين. ‌هذه هي التقوى بإيجاز.

 

هل هذا المفهوم من التقوى يستطيع أن يكون عامل نجاح وانتصار؟

 

نعم، بكل بساطة نستطيع أن نفهم أنه عامل انتصار، وعامل غلبة على العقبات. من أراد أن يكافح مرضًا من الأمراض في منطقة لا يستطيع أن يحقق ما يريد إذا كان خائفًا من إصابته بذاك المرض، الخوف من الإصابة يمنعه من دخول الساحة الموبوءة. لابدّ له أن يحصّن نفسه، ثم يدخل تلك الساحة بثقة واطمئنان لينتصر على المرض، ويفلح في الوصول إلى غايته. هذه هي التقوى، وهذه هي نتيجتها.. الفلاح والنجاح. ولنقف عند الآيات: يقول سبحانه: (وَ اتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ # واتَّقُوا النَّارَ الَّتِی أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِینَ)[3].

 

(وَأَطِیعُوا اللهَ والرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) من الواضح أن إطاعة الله لا تنفصل عن إطاعة الرسول،‌ لماذا إذن هذا التأكيد على إطاعة الله وإطاعة الرسول، أليس في ذلك تكرار؟

لا، لأن الأمر في الآية لو اقتصر على إطاعة الله، واكتفت بالقول: «أطيعوا الله» ولم تذكر إطاعة الرسول باعتبارها مصداقًا لإطاعة الله سبحانه، لظهر في الجبهة المعادية للرسالة مَن يدعي أنه يطيع الله. بمقدور أي شخص أن يدعي الإيمان والطاعة والتدين والتقوى. في عصر الرسول(ص) كان رهبان المسيحية وأحبار اليهود يدّعون أنهم أبناء الله!! (وَ قَالَتِ الْیَهُودُ والنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ)[4] كان رسول الله يعلن أنه عبدٌ لله، وهؤلاء يدّعون أنهم «أبناء الله»! طبعًا هؤلاء حين يخلون إلى أنفسهم يعلمون أنهم في ادعائهم هذا كاذبون، لكنهم يريدون أن يتظاهروا أمام الناس بأنهم لله مطيعون. إذن لابدّ من معيار يفصل بين هؤلاء المدّعين، والمطيعين الحقيقيين. هذا المعيار هو إطاعة الرسول، أي إطاعة المنهج الذي جاء به الرسول من عند الله، وإطاعة تعاليم النبي. لا يمكن أن يكون الشخص مطيعًا لله سبحانه إذا لم يلتزم بلوازم هذه الإطاعة وهي السير على منهج ما جاء به الرسول في رسالته: (أَطِیعُوا اللهَ والرَّسُولَ).

(لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي لعل رحمة الله تنالكم. قارنوا بين المفهوم الشائع للرحمة وبين مفهومها القرآني. الشائع هو أننا إذا أذنبنا وأسأنا وعصينا الله، ولم نعمل بما علينا من واجب والتزام وتكليف، وإذا لم نحذر من الدخول في دائرة الممنوعات الإلهية، فإننا نعقد الأمل على شيء واحد، وما هو؟ إنه رحمة الله!! أي إن المفهوم الشائع لرحمة الله هو تحققها في حالة العصيان وارتكاب الذنوب والموبقات!!، ولذلك يردد بعضهم القول: إن أيدينا خالية من العمل الصالح، ولا نرجو إلاّ رحمة الله! أي إنهم يرون رحمة الله مختصة بمن ابتعد عن العمل الصالح، بينما المنطق القرآني يرى عكس ذلك يقول:(أَطِیعُوا اللهَ والرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) رحمة الله لا تنزل على الأمة إلاّ حين تلتزم بالرسالة، وتؤدي ما عليها من واجبات.

ملايين المسلمين يرون بأعينهم ما يحلّ ببلدانهم من تدمير ونهب وسيطرة وإذلال، ثم يجلسون منتظرين رحمة ربّ العالمين!!

لا، مثل هذا الانتظار للرحمة مخالف لسنة ربّ العالمين في الكون، الآية تؤكد أن الرحمة لابدّ أن يسبقها إطاعة الله والرسول. والإطاعة تتجلّى في المؤمنين الذين يحكّمون الرسالة في أمورهم: (فَلَا ورَبِّكَ لَا یُؤْمِنُونَ حَتَّى یُحَكِّمُوكَ فِیمَا شَجَرَ بَیْنَهُمْ ثُمَّ لَا یَجِدُوا فِی أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَیْتَ وَیُسَلِّمُوا تَسْلِیمًا)[5].. هذا هو الإنسان المؤمن المطيع لله ورسوله، وهذه هي الأمة المؤمنة المطيعة..‌ عندئذ تشملهم الرحمة، ويحظون بالسؤدد والعزّة. حين تسير الأمة على طريق سُموّها وكمالها، وتكسر قيود أسرها، عندئذ تشملها رحمة ربّ العالمين: (أَطِیعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).

(وَ سَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ والأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِینَ)[6] إنه ميدان سباق، والأمر فيه بالمسارعة. في الآية الكريمة ذكر لعلامةٍ من علامات التقوى: يسارعون في ميدان المغفرة، وذكر لنتيجةٍ من نتائج التقوى: (جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ) وسيليها ذكر العلامات الأخرى.

أيها الإنسان الذي تتهافت مسرعًا على المال والمتاع، يا مَن تحاول جاهدًا أن تسبق الآخرين حين يلوح لك بارق من حصول على قطعة أرض أو ثروة أو أسهم في شركة حتى ولو كان على حساب قِيَم الشرف والفضيلة.. ‌سارع إلى هدف أكبر.. إلى جنة عرضها السماوات والأرض.

القرآن يأمرك أن تدخل حلبة السباق، لتتقدم على الآخرين، لا يأمرك بالقعود والجلوس، الدين لا يأمر بالتواني والتخلّف، لا يطلب منك أن تعطّل طاقاتك في حَلَبة السباق. من قال لك ذلك باسم الدين، فهو كاذب. الدين يطلب منك أن تسارع.. ولكن من أجل أي هدف؟! من أجل هدف كبير وعظيم يتناسب مع عظمة الإنسان. الإنسان أعظم من أن يكون مقصده ماديًا صغيرًا تافهًا، لأن الله كرّمه، ‌ولابد أن يكون مقصده على قدر هذه الكرامة. ‌فهو مطالب لأن يكون سبّاقًا (إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وجَنَّةٍ).. إلى جنة تصغر أمامها السماوات والأرض. انظروا إلى التعبير القرآني، يقول سبحانه إنك حين تهمّ بالحركة في ميدان السباق فلا هدف يتناسب مع كرامتك وعظمتك أقلّ من «مغفرة الله».

وما هي «المغفرة»؟ مغفرة الله ليست من جنس ما يتداول بين الناس أن يغفر بعضهم لبعض إساءاتهم. المتداول هو أن إنسانا قد يسيء إلى إنسان، فيطلب منه العفو والمغفرة. وذاك قد يغفر له وقد لا يغفر. وقد يرتكب شخص جريمة فيطلب العفو والمغفرة ممن أجرم بحقهم. وقد تفرض الحكومة على شخص ضرائب فيطلب ذلك الشخص أن يُعفى منها أو من بعضها، عايشنا هذا اللون من العفو والمغفرة فظننا أن مغفرة الله من هذا القبيل، يظلم أحدهم ويذنب ويفسد في الأرض، ثم يرى أن الله سيغفر له لتضرّعٍ أدّاه أو قطرة دمعٍ ذرفها، هل هذه مغفرة الله في قوله سبحانه: (وَ سَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ) أم هي شيء آخر؟

إن الغفران يعني التئام جرح وملء فراغ. قد تُصاب ذراعك بجرح عميق، عندئذ يعطوك ضمادًا وأدوية كي يلتئم الجرح، لكي ينمو ما حول الجُرح ويملأ الشقّ الذي تركه في الجسم.

هذا مَثَل ضربناه للتشبيه، إذ إن روحكم مثل جسم، ينزل بها جُرح مع كل ذنب، ذلك لأن الروح من شأنها أن تتسامى وتتكامل. وكل ذنب يعيق الروح خطوة عن الحركة على طريق السموّ والكمال.

الذنوب كبيرها وصغيرها تُنزل جرحًا بالروح وتشكل عقبة في مسير الإنسان نحو «غاية الآمال». هذا الذنب يحتاج الآن إلى غفران.

ما معنى الغفران؟ إنه يعني معالجة هذا الجرح وإزالة آثاره. هذا هو الغفران. ويتم هذا بتلافي ما أنزله الذنب في الروح من انتكاس، ودفعها نحو السموّ والارتفاع.

ولنضرب مثلًا آخر. تصوّروا أنكم ركبتم سيارة نحو مقصد معين. ولو أنكم توقفتم أكثر من اللازم في منتصف الطريق، فإنكم ستكونون قد تأخرتم عن الوصول، ماذا تفعلون لتلافي هذا التأخير، ستزيدون من سرعتكم في السير، وسوف تمتنعون عن المزيد من الاستراحة، وتغذّون السير دون توقف، لتتلافوا هذا التأخير. ولا يحصل هذا التلافي بالجلوس في مقهى على قارعة الطريق وترديد القول: ربّ إني أخطأت وتهاونت.. هذا لا ينفعكم شيئًا، لابد من الإسراع في الحركة لتلافي ذلك التأخير. ومثل ذلك طلب مغفرة ربّ العالمين.

هذا بالنسبة إلى المذنب واستغفاره، ‌أما بالنسبة لربّ العالمين فهو «الغفّار»: (وَإِنِّی لَغَفَّارٌ)[7] ، لا يردّ توبة التائبين، بل يقبل التوبة من عباده: ( لِّمَن تَابَ وآمَنَ وعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى).. يضمّد جرح المجروحين، حين يعودون إليه، ويعمّقون إيمانهم به، ويهتدون إلى طريق الكمال، ويتسابقون على هذا الطريق.. هذا هو المفهوم السامي للمغفرة. لا تأتي المغفرة من الله سبحانه دونما سعي من أجل نيل هذا اللطف الإلهي.

كلّنا نطمع أن يغفر لنا ربّنا ويدخلنا جنته، في دعائنا نعرب عن هذا الطموح.. بل أكثر من ذلك نذكر ما نأمل الحصول عليه في الجنة من نِعمَ.. من الحور العين ولحم الطير إلى غير ذلك. لكن الله سبحانه يقول إن هذه الجنّة «أعدت للمتقين» إنها لهذه المجموعة من البشرية.

ومن هم المتقون؟ (الَّذِینَ یُنفِقُونَ فِی السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ)[8].. في العُسر واليُسر. هذا من شروط التقوى. الإنفاق هو بذل المال، ولكن أن يكون البذل يسدّ حاجة حقيقية.

فقد يبذل أحدهم الملايين، وقد يكون ظاهر هذا البذل في سبيل الخيرات، لكنه لا يسدّ ثغرة ولا يلبّي حاجة، فيكون صاحبه من الأخسرين أعمالًا في تعبير القرآن الكريم: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِینَ أَعْمَالًا # الَّذِینَ ضَلَّ سَعْیُهُمْ فِی الْحَیَاةِ الدُّنْیَا وهُمْ یَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ یُحْسِنُونَ صُنْعًا)[9].

هناك حاجات ماسّة للمجتمع، وضرورة كضرورة الماء والهواء، فإذا أنفقت في غير هذه الحاجات فقد أتلفت مالك. إذن الإنفاق لا يستطيع أن يقوم به إلاّ الأذكياء الواعون.

(وَ لْكَاظِمِینَ الْغَیْظَ) ‌ما معنى كظم الغيظ؟ إنه عدم الانسياق وراء الأحاسيس، إنه تحكيم العقل في الظروف كلها، غير أن الغيظ أحيانًا يقترن بالعقل، فالقرآن يعبّر عن المؤمنين بأنهم: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَیْنَهُمْ)[10] هنا الشدّة من مظاهر الغيظ. حين يقول القرآن الكريم: (وَالْكَاظِمِینَ الْغَیْظَ) فإنه لا يدين غيظ الأمة على من يجب أن تغتاظ منه، بل يطلب أن لا تنطلق مواقف الإنسان وأعماله من الغيظ. ‌وكظم الغيظ غير ترك الشدّة في المواقف اللازمة. إنه السيطرة على الأحاسيس كي يكون العمل مقرونًا بالعقل والإدراك.

(وَالْعَافِینَ عَنِ النَّاسِ) العفو عمّا صدر من الناس من زلاّت. وهذا العفو من التقوى..‌ من مظاهر الإنسان الذي يستهدف أن يعيش في الساحة الاجتماعية لإنقاذ المذنبين. ‌شرط أن يكون ما صدر عن الخاطئ لا يعدو أن يكون زلّة. أما ما كان عن عناد ولجاج فمن الصعب أن يعفو الله عنه، فما بالك بعباد الله، غير أن العفو عن زلات الناس هو من الإحسان: (وَاللهُ یُحِبُّ الْمُحْسِنِین).

ومن علائم المتقين: (وَالَّذِینَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) فالبقاء في عالم الغفلة لا يطول، بل سرعان ما يتنبّه المتقي ويخرج من وادي الغفلة. وفي موضع آخر يقول سبحانه: (إِنَّ الَّذِینَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّیْطَانِ تَذَكَّرُوا)[11] ذكرُ الله حربةٌ بيد المتقين في مواجهة الشيطان. إنه حبل نجاة نعتصم به لننجو من الورطة التي يدبّرها لنا أعداء وعينا. ذكر الله له قيمته الكبرى. «فاستغفروا لذنوبهم» سعوا لأن تلتئم جراح روحهم جرّاء ذنوبهم. وهذا لا يكون إلاّ باللجوء إلى الله سبحانه: (وَ مَن یَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ). السعي من العبد والقبول من الله تعالى.

(وَلَمْ یُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا) فالإصرار يحوّل الزلّة إلى ذنب يصعب علاجه. وهؤلاء الذين لم يصّروا على ما ارتكبوه من ذنب ويسعون للتخلّص من لوثتهم (أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وجَنَّاتٌ تَجْرِی مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِینَ فِیهَا ونِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِینَ): أجر العاملين.. ‌فالعمل من المسائل الهامة في المفاهيم الإسلامية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] ـ الحديد/ 27

[2] ـ إشارة إلى مقطع من أبيات سعدي الشيرازي ما ترجمته: رجل يحمل قلبًا واعيًا جاء من الخانقاه (محل الدراويش) إلى المدرسة. وكسر بذلك عهد الصحبة مع أهل الطريقة (مع الدراويش). قلت ما الفرق بين العالِم والعابد حتى حدا بك أن تختار بدل أولئك (الدراويش) هذا الفريق (من العلماء). قال: ذاك يجر بساطه من الموج (ينقذ نفسه)، وهذا يجهد أن يأخذ بيد الغريق..:

[3] ـ آل عمران/ 130 - 132

[4] ـ المائدة/ 18

[5] ـ النساء/ 65

[6] ـ آل عمران/ 133

[7] ـ طه/ 82

8] ـ آل عمران/ 134 - 136

[9] ـ الكهف/ 103 - 104

[10] ـ الفتح/ 29

[11] ـ الأعراف/ 201