أبو مهدي المهندس على لسان رفيقيه

تحقيق: أروى الجمّال

 يحار محبّوه بوصفه؛ أهو القائد البطل؟ أم المجاهد الشجاع؟ أم الأب الحنون؟ أم الرجل العطوف؟ أم ملجأ المكروبين؟

كثيرةٌ هي الصفات التي اجتمعت في شخص الشهيد الحاج أبو مهدي المهندس رحمه الله، الذي تعبق كلّ قصّة من قصصه بفحوى وعطرٍ خاصّين. في هذا المقال، يقصّ علينا رفيقان من رفاق الجهاد في الحشد الشعبيّ، الشيخ عشم الجبّوريّ والحاج أبو أكبر الخالدي، ذكرياتهما مع الشهيد القائد المهندس.

 

* "سيكرمني الله بالشهادة"

عند حديث الشيخ عشم سبهان الجبّوريّ (آمر لواء 51 في الحشد الشعبيّ) عن القائد الشهيد المهندس، تلمع عينه بالدمع، كأنّما تجول الذكريات بحنينها وشوقها في قلبه في هذه اللحظة، بين شوق الفراق والغبطة بالشهادة يتأرجح قلبه، يتمتم: "عندما وصلني نبأ استشهاده، جلست على الأرض، لم أنبس بكلمة، رغم أنّنا كنّا نتوقّع ذلك في أيّ لحظة"، وأخذ يردّد ما كان يسمعه منه دوماً: "كان يقول دائماً: في يوم من الأيّام سأستشهد، ولن يكون موتي عاديّاً، فلديّ ثقة بالله سبحانه أنّه سيكرمني بالشهادة".

أمام هذه الثقة، مَن هو القائد الشهيد أبو مهدي المهندس؟

تداعت القصص على لسان الشيخ الجبّوريّ، وهذه بعضٌ منها:

 

* الترابيّ المتواضع

تعلّمنا منه التواضع، والجلوس على الأرض للاسترخاء، وأخذ قسط من الراحة فوق التراب. كنّا نتوسّد أيّ شيء نجده لنضعه تحت رؤوسنا أثناء الاستلقاء، وكنّا نتناول الطعام مع المجاهدين، ولم يكن يقبل أن يُميَّز بينه وبين أيّ أحد منهم.

 

* "لا أركب سيّارة مصفّحة"

في إحدى المرّات، أردنا الذهاب بجولة تفقّديّة للمجاهدين في "الشرقاط". أحضرتُ سيّارتي المصفّحة، فتوجّه إليّ قائلاً: أنا لا أصعد في سيّارة مصفّحة، بل أريد سيّارة عاديّة، فما كان منّي إلّا أن لبّيت طلبه. عندما وصلنا إلى هناك، اتّفقنا أن نتناول العشاء في مقرّ اللواء، فما كان منه إلّا أن بدأ يعدّ العشاء بنفسه، وراح يحضّر الشطائر للمجاهدين، وكان حريصاً على أن يتناول الجميع الطعام.

 

* "كنتُ أدعو لكم"

عندما يحين وقت الصلاة، لم يكن يقبل إلّا بتأديتها في أوّل وقتها، حتّى عندما نكون في العمليّات. وبطريقته المعتادة، كان يطيل الصلاة والدعاء، وعندما كنتُ أسأله عن سبب هذه الإطالة، كان يقول: "كنتُ أدعو لكم"!

 

* وحيداً في سيّارة "كورولّا"

كنتُ على موعدٍ لأوّل لقاء بالحاج أبو مهدي في بغداد، في نهاية الشهر الثامن من العام 2014م؛ أي بعد دخول داعش واحتلالهم مناطقَنا، كالموصل وصلاح الدين (وأنا من منطقة صلاح الدين). خطر لي أنّ الحاج أبو مهدي سيأتي بموكبٍ كبير يضمّ عشرات السيّارات، بسبب حساسيّة موقعه ومسؤوليّته، وإذ به يطلّ بسيّارة "كورولّا" وحيداً ودون حماية، فقلت في نفسي: "أين نحن منه؟". كنت حينها أوّل شخص من المذهب السنّيّ يلتحق بالحشد الشعبيّ، وكان لي الفخر أن ألتقي بهذا الرجل العظيم.

 

* "ألم تُحلّ القصّة بعد؟"

كان الحاج رحمه الله ذكيّاً جدّاً في اختيار الأشخاص للمهمّات. عند فكّ الحصار عن مصفى "بيجي"، أردنا فتح الطريق الأوّل هناك، والذي هو شارع بغداد–الموصل. اعترض الدواعش طريقنا لأكثر من ساعتين، حيث كانوا يتحصّنون على يميننا في منطقة "البجواري" خوفاً من إلحاق الخسائر في صفوفهم.

كان الحاج أبو مهدي موجوداً معنا. بعدما أنهى صلاته بهدوء، قال كالمعتاد: "ألم تُحلّ القصّة بعد؟"، فكان الجواب: "لا"، فقال: "نادوا لي على أبو نورس"، ذلك الرجل الشجاع، فقال له الحاج أبو مهدي: "أبو نورس، خلّصنا من هذا الموضوع أنت وجماعتك".

وفعلاً، أخذ أبو نورس عشرةً من جماعته، وبأقلّ من نصف ساعة عادوا ومعهم أسلحة الدواعش، وأعلنوا أنّ الطريق قد فُتحت!

 

* "لِمَ كلّ هذا الطعام؟!"

كان الشهيد أبو مهدي المهندس إنسانيّاً، ومتواضعاً، وحنوناً، ومحبّاً للجميع، وزاهداً في الحياة، ولا يميّز بين الطوائف. ففي أحد الأيّام، دعاه أحد الأشخاص إلى العشاء، واحتراماً للحاج أبو مهدي، قدّم الكثير من أصناف الطعام، فما كان من الحاج أبو مهدي إلّا أن قال له: "لا يجوز أن نأكل هذا الطعام كلّه والكثير من الناس في حالة جوعٍ وحصار، وبعض الناس من إخواننا السنّة تحت سيطرة داعش لا تجد شيئاً لتأكله".

 

* أبو المجاهدين والشهداء

في مشهد آخر يروي أبو أكبر الخالدي (آمر لواء 33 في الحشد الشعبيّ) رفيق سلاح عمل تحت إمرة الشهيد، بعضاً من دروسٍ وعبر:

كان الشغل الشاغل للحاج أبو مهدي هو تثبيت الحشد الشعبيّ وإعطاء المجاهدين حقوقهم، ومعاملتهم كأبناءٍ له. ولم تقتصر علاقته بالمجاهدين خلال حياتهم فقط، وإنّما بعد شهادتهم أيضاً، حيث كان يزور أضرحتهم حرصاً على هذه العلاقة الخاصّة، والتي كانت تدلّ على شعور الأبوّة والعاطفة الجيّاشة تجاههم.

 

* بين المجاهدين في الصفوف الأماميّة

كان الحاج أبو مهدي يحرص دائماً أن يكون بين المجاهدين في الخطوط الأماميّة. ففي معركة "الكرمة" مثلاً، كانت دبّابة "برامز" قريبة منّا، وعدد كبير من المفخّخات، وإذ بنا نتفاجأ بالحاج بالقرب من شبابنا عند خطّ الصدّ أثناء التقدّم. كنّا نطلب منه أن ينتظر قليلاً ريثما يقوم فريق الهندسة ببناء سواتر وقائيّة، ولكنّه كان يأبى إلّا أن يكون بين الشباب في الصفوف الأماميّة، وهذا ما شاهدته بعيني، الأمر الذي كان يدفع المجاهدين ليتهافتوا أمامه لحمايته، وهو ما كان يرفضه أيضاً.

 

* ملجأ المحتاجين والمعوزين

ممّا كان معروفاً عن الحاج أبو مهدي أنّه كان يهتمّ لحال الجرحى كثيراً، فكان يسأل عن أحوالهم، ويطمئنّ عليهم، ويزورهم، ويتكفّل بعلاجهم، كما وكان يعمل على قضاء حوائجهم، وإرسالهم إلى الخارج لتلقّي العلاج، وخاصّة الإصابات الحرجة. كما كان ملجأ لبعض المرضى من خارج الحشد الشعبيّ، وبعض العائلات الفقيرة، حيث كان يقضي لهم حوائجهم، ويؤمّن احتياجاتهم، بشكلٍ سرّيّ.

 

* الشهادة أمنيّة

كان الشهيد أبو مهدي رحمه الله يقول دائماً: "نحن مشاريع شهادة.. إذا لم نستشهد اليوم، فحتماً سيمنّ الله سبحانه وتعالى علينا بالشهادة المباركة". وبالفعل، لقد نال ما تمنّى.

هنيئاً له هذه الخاتمة المباركة.

 

المصدر: مجلة بقية الله