الآداب المعنوية للصلاة، الإمام الخميني: في نبذة من آداب لباس المصلي

الفصل الثاني

في الاعتبارات القلبية لستر العورة (قال الشهيد قدّس سرّه: "وأما ستر العورة فاعلم أن معناه تغطية مقابح بدنك عن أبصار الخلق فإن ظاهر بدنك موقع نظر الخلق فما رأيك في عورات باطنك ومقابح سرّك التي لا يطلّع عليها إلا ربك فاحضر تلك المقابح ببالك وطالب نفسك بسترها وتحقق أنه لا يستر عن عين الله تعالى ساتر وإنما يسترها ويكفرها الندم والحياء والخوف فتستفيد بإحضارها من مكانها في قلبك انبعاث جنود الخزف والحياء من مكانها فتذل به نفسك وتسكن تحت الخجلة وتقوم بين يدي الله قيام العبد المجرم المسيء الآبق ندم فرجع إلى مولاه بانكسار رأسه من الحياء والخوف " .

إذا رأى السالك نفسه حاضرا في محضر الحق المقدس جلّ وعلا بل وجد باطنه وظاهره وسره وعلنه عين الحضور . كما روي عن الكافي والتوحيد أن الصادق عليه السلام قال: "إن روح المؤمن لأشدّ اتصالا بروح الله من اتصال شعاع الشمس بها " بل ثبت بالبرهان القوي المتين في العلوم العالية أن جميع دائرة الوجود من أعلى مراتب الغيب إلى أدنى مراتب الشهود هي عين التعلق والروابط ومحض التدلي والفقر إلى القيوم المطلق جلّت عظمته، ولعلة أشير إلى هذا المعنى في الآية المباركة: "يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد" (فاطر 15) فإذا كان موجود من الموجودات في حال من الحالات وآن من الآنات وحيثيّة من الحيثيّات غير متعلّق بعزّ القدس الربوبي يخرج عن بقعة الإمكان الذاتي والفقر ويدخل في حريم الوجوب الذاتي والغني، وعلى العارف بالله والسالك إلى الله أن يكتب هذا المطلب الحق البرهاني وهذه اللطيفة الإلهية العرفانية في لوح القلب بواسطة الرياضات القلبية ويخرجها من حد العقل والبرهان إلى حد العرفان حتى تتجلى في قلبه حقيقة الإيمان ونوره، فان أصحاب القلب وأهل الله لا يقفون في حد الإيمان بل يقدمون منه إلى منزل الكشف والشهود وهو يحصل بالمجاهدة الشديدة والخلوة مع الله والعشق لله، كما في مصباح الشريعة أن الصادق عليه السلام قال: "العارف شخصه مع الخلق وقلبه مع الله لو سها قلبه عن الله طرفة عين لمات شوقا إليه، والعارف أمين ودائع الله وكنز أسراره ومعدن نوره ودليل رحمته على خلقه ومطية علومه وميزان فضله وعدله ، قد غني عن الخلق والمراد والدنيا ولا مؤنس له سوى الله ولا نطق ولا إشارة ولا نفس إلا بالله لله من الله مع الله".

وبالجملة إذا رأى السالك نفسه بجميع شؤونه عين الحضور يستر جميع عوراته الظاهرية والباطنية لحفظ المحضر وذلك إذ وجد أن كشف العورات الباطنية في محضر الحق أقبح وأفضح من كشف العورات الظاهرية بمقتضى الحديث " إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم" .. وهذه العورات الباطنية والذمائم الأخلاقية وخبائث العادات والأحوال الرديئة الخلقية هي التي تسقط الإنسان عن لياقة المحضر وأدب الحضور وهذه هي المرتبة الأولى من هتك الستور وكشف العورات، وليعلم إن الإنسان إن لم يستر نفسه بحجاب الستارية والغفارية من الحق جلّ وعلا ولم يقع تحت اسم الستّار والغفار مع طلبة الغفارية والستارية. فبعد انطواء ساتر الملك وارتفاع حجاب الدنيا فربما تهتك ستوره في محضر الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين عليهم السلام ولا يعلم قباحة كشف تلك العورات الباطنية وفضاحتها ونتن سوى الله .

أيها العزيز لا تقس أوضاع عالم الآخرة بهذا العالم فإن هذا العالم لا يتسع لظهور نعمة من نعم ذاك العالم أو نقمة من نقماته، هذا العالم مع ما فيه من سعة السموات والعوالم لا يتسع لظهور حجاب من الحجب الملكوتية السفلى التي من جملتها عالم القبر فكيف بالملكوت الأعلى الذي يكون عالم القيامة أنموذجا منه . ففي الحديث المفصّل والذي رواه الشيخ الشهيد الثاني رضوان الله عليه في منية المريد عن الصديقة الكبرى سلام الله عليها قالت: "سمعت أبي صلى الله عليه وآله يقول: إن علماء شيعتنا يحشرون فيخلع عليهم من خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم وجدّهم في إرشاد عباد الله حتى يخلع على الواحد منهم ألف ألف خلعة من نور .. إلى أن قالت عليها السلام: إن سلكا من تلك الخلع لأفضل مما طلعت عليه الشمس ألف ألف مرة" . هذا بالنسبة إلى النعيم، وأما بالنسبة إلى العذاب فقد روى الفيض رحمه الله في العلم اليقين عن المرحوم الصدوق بإسناده عن الصادق عليه السلام في ضمن حديث " إن جبريل عليه السلام قال لرسول الله صلى الله عليه وآله: فلو أن حلقة من السلسلة التي طولها سبعون ذراعا وضعت على الدنيا لذابت الدنيا من حرّها ولو أن قطرة من زقّومها وضريعها قطرت في مياه أهل الدنيا لمات أهلها من نتنها " نعوذ بالله من غضب الرحمن .

فيلزم على السالك إلى الله أن يبدّل أوصافه وأخلاقه السيّئة إلى الأوصاف والأخلاق الكاملة ويفنى في بحر الأوصاف الكمالية للحق، هذا البحر المتلاطم غير المتناهي ويبدّل الأرض المظلمة الشيطانية بأرض بيضاء مشرقـة ويجد فـي نفسه " وأشرقت الأرض بنـور ربها " ( الزمر 69 ) ويحقق في مملكة وجوده مقام أسماء الجمال والجلال للذات المقدسة فيقع في هذا المقام في ستر الجمال والجلال ويتخلّق بأخلاق الله ويستر مقابح التعينات النفسية والظلمات الوهمية فإذا تحقق هذا المقام يقع موردا للعنايات الخاصة للحق جلّ جلاله ويؤيده الحق بلطفه الخفيّ الخاص ويستره تحت حجاب كبريائه على نحو لا يعرفه غيره وهو أيضا لا يعرف غير الحق "إن أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري" وفي الكتاب المقدس الإلهي إشارات كثيرة في هذا الموضوع لأهله كما في قوله تعالى: "الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور " (البقرة 257 ) إن أهل المعرفة وأصحاب السابقة الحسنى يعلمون أن جميع التعينات الخلقية والكثرات العينية ظلمات والنور المطلق لا يحصل إلا بإسقاط الإضافات وكسر التعينات التي هي أصنام طريق السالك فإذا اضمحلت وانطمست ظلمات كثرات الفعلية والوصفية في عين الجمع تكون جميع العورات مستورة ويتحقق الحضور المطلق والوصول التام.

والمصلي في هذا المقام كما أنه مستور بالحق فهو مصلّ بصلاة الحق ولعل صلاة معراج خاتم الرسل صلى الله عليه وآله وسلم كانت بهذه الطريقة في بعض المقامات والمدارج، والله العالم .

وصل: عن مصباح الشريعة : قال الصادق عليه السلام: "أزين اللباس للمؤمنين لباس التقوى وأنعمه الإيمان" . قال الله عز وجل: " ولباس التقوى ذلك خير " ( الأعراف 26 ) . وأما اللباس الظاهر فنعمة من الله يستر عورات بني آدم وهي كرامة أكرم الله بها عباده ذرية آدم لم يكرم غيرهم وهي للمؤمنين آلة لأداء ما افترض الله عليهم وخير لباسك ما لا يشغلك عن الله عزّ وجلّ بل يقرّبك من شكره وذكره وطاعته ولا يحملك فيها إلى العجب والرياء والتزين والمفاخرة والخيلاء فانها من آفات الدين ومورثة القسوة في القلب، فإذا لبست ثوبك فاذكر ستر الله عليك ذنوبك برحمته والبس باطنك بالصدق كما ألبست ظاهرك بثوبك وليكن باطنك في ستر الرهبة وظاهرك في ستر الطاعة واعتبر بفضل الله عز وجل حيث خلق أسباب اللباس لتستر العورات الظاهرة وفتح أبواب التوبة والإنابة لتستر بها عورات الباطن من الذنوب وأخلاق السوء ( في الكافي بإسناده إلى معاوية بن وهب قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: "إذا تاب العبد توبة نصوحا أحبّه الله فستر الله عليه في الدنيا والآخرة، فقلت: وكيف يستر عليه ؟ قال: يُنسي ملكيه ما كتبا عليه من الذنوب و (ثم خ ل ) يوحي إلى جوارحه اكتمي عليه ذنوبه ويوحي إلى بقاع الأرض اكتمي عليه ما كان يعمل عليك من الذنوب فيلقى الله حين يلقاه وليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب " ) ولا تـفضح أحدا حيـث ستـر الله عليك أعظم منه (إن الستّارية من أوصاف اله تعالى وطوبى لعبد تخلّق بأخلاق الله .. وقد شدّد النكير في الروايات على من كان بصدد إفشاء عيب من أخيه المؤمن كما قال الصادق عليه السلام: "من أطلّع من مؤمن على ذنب أو سيئة فأفشى ذلك عليه ولم يكتمها ولم يستغفر الله له كان عند الله كعاملها وعليه وزر ذلك الذي أفشاه عليه وكان مغفورا لعاملها وكان عقابه ما أفشى عليه في الدنيا مستور عليه في الآخرة ثم يجد الله أكرم من أن يثنّي عليه عقابا في الآخرة " .

وقال عليه السلام: "من روى على مؤمن رواية يريد بها شينه وهدم مروّته ليسقط من أعين الناس أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان فلا يقبله الشيطان " . والروايات في ذلك أكثر من أن تذكر.

وذكر المحدّث القمّي في السفينة في مادة عيب عن سفيان بن عيينة (( * - ابن عيينه بضم عينه أبو محمد سفيان بن عيينه ابن أبي عمر أن الكوفي المكي تابعي التابعين كان جدّه أبو عمران من عمّال خالد بن عبد الله القسري فلّما عزل خالد عن العراق وولى يوسف بن عمر طلب عمّال خالد فهرب منه إلى مكة فنزلها وولد سفيان سنة 107 ذكره الخطيب في تاريخه وأثنى عليه، وقال: كان له في العلم قدر كبير ومحلّ خطير وأدرك نيّفاً وثمانين نفساً من التابعين وسمع ابن شهاب الزهري وعمرو بن دينار وأبا إسحاق السبيعي ثم ذكر جماعة كثيرة من نظرائهم (انتهى) . وهو عندنا كسفيان الثوري وينقل منه بعض الكلمات الحكيمة التي ينبغي أخذها فان الحكمة ضالة المؤمن يأخذها حيث وجدها . حكي أنه كتب إلى أخ له: أما آن لك يا أخي إن تستوحش من الناس ولقد أدركنا الناس وهم إذا بلغ أحدهم أربعين سنة جن (أي ستر) عن معارفه وصار كأنه مختلط العقل من شدّة تأهّبه للموت وكان إذا أعطاه الناس شيئا قال أعطوه لفلان فإنه أحوج مني .

وقال خصلتان يعسر علاجهما: الطمع فيما بأيدي الناس وإخلاص العمل لله. ويقول: إذا كان نهاري نهار سفيه وليلي ليل جاهل ماذا أصنع بالعلم الذي كتبت ؟ . توفّي في غرّة رجب سنة 198 (فصح) بمكة ودفن بالحجون بتقديم الحاء المهملة على الجيم موضع بمعلاة مكة ومعلاة مقبرة بها دفنت خديجة رضي الله عنها )) . قال في قوله تعالى: إلا أمم أمثالكم .. ما في الأرض آدمي إلا وفيه شبه من بعض البهائم ، فمنهم من يقدم إقدام الأسد ومنهم من يعدو عدو الذئب ومنهم من ينبح نباح الكلب ومنهم من يتطوّس كفعل الطاووس، ومنهم من يشبه الخنزير، فانه لو ألقي إليه الطعام الطيّب تركه وإذا قام الرجل عن رجيعه ولغ فيه، وكذلك نجد الآدميين من لو سمع خمسين حكمة لم يحفظ واحدة منها فإن أخطأت مرة واحدة حفظها ولم يجلس مجلسا إلا رواه عنه .. ثم قال : فاعلم يا بنيّ انك إنما تعشر البهائم والسباع فبالغ في الاحتراز . قال المحدث القمي بعد نقل هذا الكلام أقول وأحسن من هذا ما قال أمير المؤمنين عليه السلام: "إن الأشرار يتتبّعون مساوئ الناس ويتركون محاسنهم كما يتتبّع الذباب المواضع الفاسدة من الجسد ويترك الصحيح " ) . واشتغل بعيب نفسك واصفح عمّا لا يعنيك حاله وأمره واحذر أن تفني عمرك لعمل غيرك ويتّجر برأس مالك غيرك وتهلك نفسك فإن نسيان الذنوب من أعظم عقوبة الله تعالى في العاجل وأوفر أسباب العقوبة في الآجل وما دام العبد مشتغلا بطاعة الله تعالى ومعرفة عيوب نفسه وترك ما يشين في دين الله فهو بمعزل عن الآفات خائض في رحمة الله عز وجل يفوز بجواهر الفوائد من الحكمة والبيان وما دام ناسيا لذنوبه جاهلا لعيوبه راجعا إلى حوله وقوته لا يفلح إذا أبدا " .

إن مقاصد الحديث الشريف وان اتضحت في الجملة في البيانات السابقة ولكن الإشارة إلى بعض إشاراته بعنوان شبه الترجمة موجب لصفاء القلوب .

يقول الإمام عليه السلام : أزين اللباس للمؤمنين هو لباس التقوى وألطفه لهم هو لباس الإيمان، كما قال الله تعالى : ولباس التقوى ذلك خير .. وأما لباس الظاهر فهو من نعم الله تعالى فانه يستر عورة بني آدم ، وهذه الكرامة كرامة خاصة لذرية آدم عليه السلام ولم يعطها سبحانه إلى سائر الموجودات ولكن المؤمنين يصرفون هذه النعمة أيضا في أداء الواجبات الإلهية، وخير لباسك ما لا يغفلك عن الله ولا يشغلك بغير الله بل يقربك إلى شكره وذكره وطاعته، فلا بد لك أن تحترز في مادة اللباس وهيئته مما يوجب الغفلة والبعد عن ساحة قدس الحق وتعلم أن في اللباس بل في جميع الأمور العادية أمورا تغفل الإنسان عن الحق وتشغله بالدنيا وتؤثر في قلبه الضعيف تأثيرات السوء وتبتله بالعجب والرياء والتزين والفخر والكبر وكل ذلك آفات للدين وموجبة لقسوة القلب، وإذا لبست اللباس الظاهر فتذكر أن الله تعالى ستر بساتر رحمته ذنوبك ومعاصيك، وكما أنك لبّست ظاهرك باللباس الظاهري فلا تغفل عن الألبسة الباطنية ولبّس باطنك بلباس الصدق ولا بد لك أن تجعل باطنك في ستر الخوف والرهبة وظاهرك في ستر الطاعة وتعتبر من فضل الله تعالى حيث أنه تعالى أعطى اللباس الظاهر كي تستر به عيوبك الظاهرة وفتح لك أبواب التوبة والإنابة كي تستر بها العورات الباطنية التي هي المعاصي والأخلاق الذميمة. ولا تفضح أحدا كما أن الله سبحانه لم يفضحك فيما أهو أعظم واشتغل بعيب نفسك كي ينفتح لك باب الإصلاح واصفح عما لا يكون معينا لك (أقول: ويمكن أن يكون الاشتقاق من عني فيكون المعنى: واصفح عما لا يفيدك والمعنيان متقاربان ) واحذر أن تفني عمرك لعمل غيرك وتكتب نتيجة أعمالك في صحيفة أعمال غيرك ويتّجر الآخرون برأس مالك وتلقي بنفسك إلى الهلاك لان نسيانك ذنوبك من أعظم العقوبات التي ابتلى الله تعالى الإنسان في الدنيا بها لأنه إذا نسي ذنوبه لم يقم بإصلاح نفسه، ونسيان الذنوب من أوفر أسباب العذاب في الآخرة وما دام العبد مشتغلا بطاعة الحق عز وجل ومشغولا بمعرفة عيوب نفسه وتاركا للأمور التي هي عيب في دين الله فهو بمعزل عن الآفات وغائص في بحر رحمة الله وفائز بجواهر الحكمة والبيان، وما دام العبد ناسيا ذنوبه وجاهلا بعيوبه ومعتمدا على حوله وقوته لا يحصل له الفلاح أبدا .