المرحوم الدكتور الشيخ عباس علي عميد الزنجاني

المشكلة الأساس للحكومة في تاريخ البشرية، تتمثل في إيجاد الموازنة بين قدرة الدولة وحقوق الأمة، فكان المفكرون وعلماء السياسة والحقوق في التاريخ، يبحثون عن معادلة من شأنها عقد المصالحة بين القدرة المطلقة للدولة، والصلاحيات والحريات والحقوق الفردية المطلقة. وإذا دققنا النظر في هذا التعبير، سنجد التناقض فيه واضحاً، فالقدرة والصلاحيات اللامحدودة للدولة من جهة تتناقض مع الحقوق والحريات الفردية اللامحدودة من جهة أخرى. وهذا التناقض الذي يعني التضاد بين اقتدار الدولة والحقوق الفردية، يعد المشكلة الأساس للهيكل السياسي للحكومة.

وطوال القرون والأعصار، كان المفكرون يبحثون عن مشروع جديد معقول ومقبول لحل هذا التناقض، ليمكن من خلاله إعطاء الحد الأعلى للقدرة والسلطة للدولة، بشكل يتم فيه التضحية بالحد الأدنى من الحريات والحقوق الفردية، وبالعكس أي تأمين الحد الأعلى للحرية والحقوق الفردية، لسلب أقل مقدار من قدرة الدولة وصلاحياتها. ونلاحظ أن المشروع دقيق بالكامل، لكنه من الناحيتين النظرية والعملية صعب للغاية. فمنذ سقراط وأفلاطون وأرسطو وحتى الآن، كان البحث مستمراً في الفكر السياسي العلماني، وكذلك في المشاريع التي يطرحها الأنبياء الكبار، لا يجاد طريق للحل.

 

الحاكمية بالمفهوم الإلهي

وهذان الخطان كانا موجودين في تاريخ الأفكار السياسية، ولكن للأسف، فان التعصب الغربي الأعمى في دراسة تاريخ الأفكار السياسية لم يهتم بالخط السياسي للأنبياء، حيث لا نجد حتى مصدراً واحداً اهتم بنظرات الأنبياء.

النبي إبراهيم (ع) عاش قبل 19 ـ 20 قرناً قبل الميلاد، وطرح نظرية الحكومة الإلهية المبنية على الكتاب المقدس. وكان لإبراهيم (ع) صدام واسع مع نمرود، فالأخير شيد نظاماً ودولة استكبارية، والنبي ابره يم طرح مشروعاً جديداً مقابل النظام النمرودي، ووصل التضاد بين الخطين حداً، كان فيه نمرود يرى أن العلاج الوحيد هو القضاء التام على إبراهيم (ع). كما ثار موسى (ع) ضد فرعون مصر، وطرح نظرية إنقاذ المستضعفين، وتفويض الحاكمية للناس. في حين أن هو ميروس (الشاعر اليوناني المعروف) طرح سلسة أفكار باهتة في القضايا السياسية، وذلك قبل سبعة قرون من الميلاد. بينما طرح موسى (ع) في القرن الثالث عشر قبل الميلاد وإبراهيم (ع) في القرن العشرون قبل الميلاد، أفكاراً سياسية عميقة قابلة للتنفيذ.

وكذلك إذا درسنا حياة الأنبياء في التاريخ، سنلاحظ أن جذور الأفكار السياسية المستندة إلى الوحي والغايات الإلهية، تتمتع بقدم وأصالة أكبر. وعلى أية حال، فإن هذين الفكرين تحركا بصورة متوازية، وكانا يبحثان عن مشروع جديد، يصالح بين اقتدار الدولة والحقوق والحريات الفردية.

والسؤال الذي يُطرح هنا، إلى أي مدى تم ضمان مسألة الحريات في الحكومة الإسلامية، أو بتعبير آخر، نظام الحكومة الإلهية، أو نظام ولاية الفقيه؟ وهو السؤال نفسه الذي يطرح بشأن الفكر العلماني والأنظمة الديمقراطية. وهذا يعني أن البشرية لم تصل بعد إلى خط النهاية، ولا النهج العلماني ولا النهج الديني، لكي يتم حل المشكلة حلاً عملياً، بصورة تتم فيها التضحية بالحد الأدنى لقدرة الدولة من اجل الحريات الفردية، والحد الأدنى في حقوق الحريات الفردية من اجل اقتدار وصلاحيات الدولة.

وفي القضايا المتعلقة بالحكومة الإسلامية والنظام السياسي الإسلامي، فان ذلك السؤال يُطرح بدقة. في البدء يجب أن نبحث في نظرية ولاية الفقيه باعتبارها نظريةً فقيه مقبولة، ثم نجر بها عملياً.

إن دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية يعد تجربة مفيدة في المجالين، لأننا استطعنا بواسطة هذا المشروع أن نضع المادة الخامسة من الدستور إلى جانب المادة السادسة، ونصل إلى تلفيق منطقي بين الحاكمية الإلهية وحاكمية الأمة[1]. والمؤسف أن الإعلام الغربي الشامل الذي حاول إظهار النظام الإسلامي بالمظهر السيئ، خاصة من خلال استغلال مصطلح ولاية الفقيه وكلمة الولاية، حملنا ـ من حيث نريد أو لا نريد على الانفعال، وإلا فالمسألة من الناحية النظرية واضحة للغاية. وإذا كانت الديمقراطية مصطلحاً غربياً (يونانياً) ذا اتجاه فكري علماني فان هذا النوع من الديمقراطية لا وجود له في النظام الإسلامي، لأن الأساس الأول في النظام الإسلامي ومبنى شكله السياسي للمسلمين ينبع من معتقدهم وإيمانهم، والفكر والعمل السياسي يعدان انعكاساً للإيمان. ومن هنا فان الديمقراطي القائمة على الفكر العلماني لا وجود لها هنا. ولكن إذا افترضنا أن الديمقراطية أسلوبا من أساليب إدارة المجتمع، قائماً على الرأي العام ونظاماً يستلهم شكله من رأي الأمة، فان هذا المعنى من الديمقراطية، مرتكز في قلب الفكر السياسي الإسلامي والنظام السياسي الإسلامي فالنظام السياسي في عصر الغيبة، أي نظام ولاية الفقيه، قائم على الانتخاب ويعتمد على الرأي العام، هذا أولا وثانياً فان أساس مرضاة لأنه مرضي من الجميع، أي أن الأمة بمختلف طبقاتها ارتضت حكومة الإمام وقيادته فالديمقراطية ـ إذن ـ بمعنى الاعتماد على رأي الأمة، موجودة بدقة في النظام الإسلامي.

المعنى الثالث للديمقراطية، والشائع اليوم في العالم، يطلق على المجتمع الذي له إدارة سياسية تضمن الحد الأعلى من الحقوق والحريات الفردية. وبالنظر لأهمية حقوق الإنسان في الإسلام، فانه يمكن تخصيص موقع كبير للديمقراطية بهذا المعنى في النظام السياسي إسلامي.

وعند دراسة الفكر السياسي والاطلاع على الحكومة الإسلامية، يجب الالتفات إلى هذه النقطة، وهي أن الإسلام، في الوقت الذي يقوم نظامه على الاعتقاد بحاكمية الله تعالى، فانه ينظر إلى الإنسان والمجتمع بمنظار إنساني. ومن هذا المنظار لا بد وان تصطبغ الحكومة بصبغة شعبية، فتتجلى إرادة الله تعالى في إدارة الإنسان، وينبغي الإشارة هنا إلى عبارة وردت في نهج البلاغة، يقول الإمام علي (ع) :"فانهم "أي : الناس" صنفان، إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق"[2]. فالناس من جهة نظر الحكومة الإسلامية صنفان، الأول هو اخوة في الإيمان، والثاني ليسو اخوة لنا في الإيمان، ولكنهم بشر مثلنا. وهذه الرؤية فرضت على الإنسان أصولا، تتمثل في احترام النظام السياسي الإسلامي والدولة الإسلامية لآراء الناس. وبالطبع فان موضوع نظام الإمامة بالأصالة هو موضوع آخر، ويحتاج إلى بحث مستقل.

 

النظام السياسي في دستور الجمهورية الإسلامية

إن محل ابتلائنا، هو النظام السياسي في عصر الغيبة، والذي نعبر عنه بنظام ولاية الفقيه، حيث تطرح هنا أيضا قضايا الرأي العام وحقوق الحريات واحترام الإنسان. وقد جاء في المادة 14 من دستور الجمهورية الإسلامية:" على حكومة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وعلى المسلمين أن يعاملوا الأشخاص غير المسلمين بالأخلاق الحسنة والقسط والعدل الإسلامي، وأن يحفظوا حقوقهم الإنسانية"[3]. وهذه المادة تستند إلى الآية الشريفة:{لا ينهاكُمُ اللهُ عن الذينَ لم يقاتلوكُمْ في الدين ولم يخرجوكُمْ من دياركُمْ أن تبروهم وتُقسطوا إليهم أن اللهَ يحب المقسطين}[4]. وفي الحقيقة فان توصية الإسلام بالتعامل بأسلوب الإحسان، وليس أسلوب العدل والقانون فقط، لها جانب أخلاقي وإنساني أوسع من القانون.

والتأكيد على المادة 14 من الدستور، هو أفضل طريق لحل مشكلة إيجاد التوازن بين قدرة الدولة وحقوق الأمة، على وفق المباني الفقهية في النظام السياسي الإسلامي. ونلاحظ هنا أننا حين نطرح قضية الديمقراطية، نطرحها بمفهومها الإسلامي. ويجب أن لا نتصور بما أن هذا المصطلح غربي، فيجب أن لا نستخدمه في مجال المفاهيم الإسلامية. اكرر هنا ثانية، بأن الديمقراطية بمعنى نوع من الفكر والأسلوب الإداري المبني على فصل الدين عن السياسة، ليس لها أي مكان في الفكر السياسي الإسلامي، أما بمعنى قيام النظام السياسي على آراء الناس وحفظ الحقوق والحريات في إطار الدستور، فهو أمر مسلم به، والمعنى الوارد في المادة 57 من الدستور حول إطلاق الولاية، هو هذا بالضبط.

إن الولاية في الفقه، هي نوع من التصرف القائم على المصلحة وأساس في النظام الإسلامي وفي جميع مجالات الولاية، فان قضية المصلحة تطرح مبنى مسلماً به. من هنا فان الولاية القائمة على المصلحة تشتمل على حقوق الفرد والمجتمع أيضا. وكلما اتسعت رؤية المصلحة، اتسعت معها مساحة الولاية. فنحن في الكثير من قضايا حياتنا نعتقد بالولاية ونلتزم بها عملياً، حتى غير المسلمين أيضا، ينظمون قسماً من حياتهم وبرامجهم الفردية والاجتماعية على أساس الولاية، حتى الفرد الأوربي فهو في الكثير من مراحل حياته يحسب للولاية حسابها ويهتم بها، أي انه يؤمن بولاية بعض الأشخاص، مثلاً إيمانه بولاية الخبير، فلا يقول أبداً أن الالتزام برأي الخبير هو ديكتاتورية.

وفي ثنايا النظام القائم على أساس الولاية، تكمن المصلحة العامة للمجتمع. من هنا، فان مسألة ولاية الفقيه بالشكل الذي جاء في المادة 57 من الدستور، وبالمعنى الذي ذكر في الدستور المعدل، ليس بمعنى نفي الاختيار والحرية. أي أن جميع الذين اشتركوا في مجلس تعديل الدستور، أقروا هذه المادة، وأضافوا إليها هذا القيد. وفي النتيجة فان الولاية التي تم التعبير عنها في المادة 57 بـ(المطلقة)، هي ولاية قائمة على المصلحة. حتى أن النقطة كانت مطروحة، وهي إن حل مجلس الشورى الإسلامي من صلاحيات ولي الأمر أم لا ؟ ولكن اكثر الذين صوتوا لصالح الولاية المطلقة، كانوا يعتقدون بأن هذا العمل من مصلحة النظام، والشيء الذي ليس فيه مصلحة للنظام، ليس لزاماً تدوينه في الدستور. مثلما يُدون ضمن صلاحيات ولي الأمر، بأن ولي الأمر يأمر بعدم خروج أي شخص من بيته، فبديهي أن شيئاً كهذا لا نجد له مصلحة ملزمة. وإذا وقع شيء كهذا، كما حصل في 10 شباط 1979 (عشية انتصار الثورة الإسلامية) حين أمر الإمام بخروج جميع الناس إلى الشوارع لكسر الأحكام العرفية التي فرضها نظام الشاه، وذلك من أجل المصلحة وتحطيم هيبة الحاكم الطاغوتي. فإذا أوجبت المصلحة ـ يوماً ـ أن يحكم ولي الأمر بعدم الخروج من البيوت، بسبب تلوث البيئة ـ مثلاً ـ ولم يعد كلام الأطباء مؤثراً، فان أمر الولي الفقيه في هذا المجال تحدده المصلحة وليست قضية الدكتاتورية أو التعبيرات المشابهة الأخرى. وحين يكون عنصر المصلحة أرضية للنظام الإسلامي، فان الحكومة ـ شئنا أم أبينا ـ لن تكون على التضاد مع الحقوق والحريات الفردية، لأن الأصل هو مصلحة الفرد والمجتمع.

بالطبع هذا البحث بحاجة إلى توضيح أكثر، لكي يتم بحث المعاملات الدقيقة التي يقدمها الإسلام للمصالحة بين الحد الأعلى لاقتدار الدولة والحد الأعلى للحريات وحقوق الناس.

وربما يسأل بعضٌ، كيف يتم التوفيق بين النظام التشريعي بشكله الحالي، أي البرلمانية مع أساس ولاية الفقيه؟ . وهذا أسلوب، أي أن النظام الإسلامي يستخدم هذا الأسلوب لضمان الحقوق والحريات الفردية، والاستفادة من الأساليب التي جربتها البشرية ليس لها معنى حتى تتطابق مع المصلحة. وهذا لا يسمى فكراً تلفيقياً.

وفي بيان الكثير من جزئيات قضايا النظام، يمكن الاستفادة من عنصري الزمان والمكان. فالشيء المسلم به في النظام الإسلامي هو تحديد أساليب دقيقة لضمان الحد الأعلى من اقتدار الدولة والحد الأعلى من الحريات والحقوق الفردية. وفي العمل تتم تجربة فاعلية هذه الأساليب ولكن هذا لا يعني حتمية وجود آيات وأحاديث تتحدث صراحة عن هكذا أساليب فالثابت في النظام الإسلامي، وهو الأصول، ولكن التفاصيل خاضعة للتحول، وحسب تعبير العلامة الطباطبائي، النظام الإسلامي نظام ثابت في وسط متغير. وهذه الحدود هي جزء من الأساس العام لدور الزمان والمكان في حركة تبيين مفاهيم الأصول الإسلامية التي صرح بها الإمام الخميني(ره).

[1]  دستور الجمهورية الإسلامية في إيران، ترجمة وإصدار منظمة الإعلام الإسلامي، ص26 ـ 27.

[2]  نهج البلاغة، تنظيم د. صبحي الصالح.

[3]  دستور الجمهورية الإسلامية في إيران، ص30.

[4]  سورة الممتحنة، الآية: 8.