«دروس في الحكومة الإسلامية»؛ الدرس التاسع والأربعون: الروايات الواردة في ملكية الأراضي المفتوحة عنوةً

وأمّا الروايات الواردة في المقام فهي عديدة:

1ـ منها صحيحة محمّد بن علي بن أبي شعبة الحلبي قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن السواد ما منزلته؟ فقال: هو لجميع المسلمين، لمن هو اليوم ولمن يدخل في الإسلام بعد اليوم ولمن لم يُخلق بعد، فقلت: الشراء من الدهاقين؟ قال: لا يصلح إلاّ أنّ تشتري منهم على أن يصيّرها للمسلمين، فإذا شاء ولّي الأمر أن يأخذها أخذها، قلت: فإن أخذها منه؟ قال: يردّ عليه رأس ماله وله ما أكل من غلّتها بما عمل[1].

فمورد السؤال وموضوع الحكم هو السواد الّذي قد ظهر ممّا مرّ من كلمات الأعلام أنّه أرض العراق الّتي فتحها عمر بن الخطّاب عنوةً فحكم الإمام (عليه السلام) بأنّه لجميع المسلمين بحيث لو اشتراه أحد لم يخرج عن كونه لهم، بل لا يتصوّر ولا يصحّ الاشتراء إلاّ بأن يصير بعد الاشتراء أيضاً ملكاً للمسلمين.

فدلالة هذه الصحيحة على أنّ أرض العراق ـ وهي أرض مفتوحة عنوةً ـ ملك لجميع المسلمين واضحة، وإذا انضمت إليها صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن سيرة الإمام في الأرض الّتي فُتحت بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قد سار في أهل العراق بسيرة فهي [فهم ـ ئل] إمام سائر الأرضين... الحديث[2]. كان المستفاد منهما أنّ كلّ حكم كان على أرض العراق كان حكماًَ لسائر الأرضين أيضاً، فلا محالة تكون الأراضي المفتوحة بيد خلفاء الجور كلّها محكومة بحكم أرض العراق وملكاً لجميع المسلمين وواقع الأمر أنّ جميع الأراضي المفتوحة عنوةً قد فُتحت بيد هؤلاء الطواغيت إلاّ خصوص ما فُتحت في زمن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) من مثل خيبر ومكّة، وأمرهما واضح، فتكون نتيجة الأمر أنّ جميع الأراضي المذكورة ملكٌ للمسلمين قاطبة.

2ـ ومنها ما رواه الشيخ بسندٍ صحيح عن صفوان بن يحيى عن أبي بردة بن رجا قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): كيف ترى في شراء أرض الخراج؟ قال: ومَن يبيع ذلك؟! هي أرض المسلمين. قال: قلت يبيعها الّذي هي في يده، قال: ويصنع بخراج المسلمين ماذا؟ ثُمّ قال: لا بأس اشترى حقّه منها ويحوّل حقّ المسلمين عليه ولعلّه يكون أقوى عليها وأملأ بخراجهم منه[3]. وفي سند الحديث أبو بردة بن رجا، ولم يُذكر بمدحٍ ولا ذمّ، إلاّ أنّه ذكر في ترجمته أنّه روى ثلاث روايات رواها عنه صفوان بن يحيى، وحيث إنّ صفواناً أحد الثلاثة الّذين قال الشيخ في العدّة إنّهم لا يروون إلاّ عن ثقة، فلا محالة يكون الحديث صحيح السند.

وأمّا مدلوله فبعد السؤال عن رأيه (عليه السلام) في شراء أرض الخراج أجاب بقوله: «مَن يبيع ذلك؟ هي أرض المسلمين» وجملته الأولى استفهام إنكاري مدلوله النهي عن بيعها، وظاهر جملته الثانية أنّها ملك للمسلمين وهو المطلوب، كما أنّه الوجه لإنكار بيعها الّذي أفاده في الجملة الأولى.

وما أفاده (عليه السلام) في ذيل الحديث من تجويز الشراء إنّما هو تجويز شراء حقّ مَن كانت الأرض بيده، فهو بيع حقّه لا أصل رقبة الأرض فهو أيضاً تأكيد لكون العين ملك المسلمين وليس منافياً له.

ثُمّ إنّ موضوع الحكم بالملكية هو أرض الخراج، وواضح أنّها عبارة أخرى عن الأرض المفتوحة عنوةً فإنّها الّتي يضرب عليها الخراج.

3ـ ومنها صحيحة يعقوب بن شعيب ـ المروية في الكافي والتهذيب ـ عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: وسألته عن المزارعة، فقال: النفقة منك والأرض لصاحبها، فما أخرج الله منها من شيء قسّم على الشطر [الشرط ـ يب] وكذلك أعطى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أهل خيبر حين أتوه، فأعطاهم إيّاها  على أن يعمروها [يعمروا ـ يب] ولهم النصف ممّا أخرجت[4].

بيان الدلالة: أنّه (عليه السلام) بيّن أوّلاً حقيقة المزارعة بقوله: «النفقة منك والأرض لصاحبها» فأفاد أنّ الأرض ملكٌ لصاحبها يعطيها المزارع، ثُمّ طبّق هذا المعنى على فعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأهل خيبر، ومعلوم أنّ المزارع هناك كان أهل خيبر فلازمه أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عدّ مالك الأرض وصاحبها، ومن الواضح أن أرض خيبر أرض خراجية فلا محالة تكون الأرض الخراجية ملكاً للمسلمين وقد أُسندت إلى النبي الأعظم لكونه إمام المسلمين ووليّ أمرهم، فالصحيحة تامّ الدلالة في أرض خيبر نفسها، وبإلغاء الخصوصية منها يُعرف أنّ ما فيها هو حكم كلّ أرض خراجية، وقد مرّ أنّ الأرض الخراجية عبارة أُخرى عن المفتوحة عنوةً.

ولا مجال للنقاش في دلالتها إلاّ أن يقال: إنّ مدلولها أنّ المالك هو شخص الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لا المسلمون فلا دلالة فيها بالاستقلال نعم تحمل على إرادة أنّه وليّ أمر المسلمين بقرينة سائر الأخبار.

4ـ ومنها ما رواه الشيخ والصدوق عن أبي الربيع الشامي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لفا تشتر من أرض السواد شيئاً إلاّ مَن كانت له ذمّة فإنّما هو فيء للمسلمين.

وعبارة الصدوق هكذا: ولا يشترى [ولا تشترى ـ خ ل] من أراضي أهل السواد شيئاً إلاّ مَن كانت به ذمّة فإنّما هي فيء للمسلمين[5].

ولا يبعد اعتبار سنديهما إلى أبي الربيع الشامي خليد بن أوفى إلاّ أنّ أبا الربيع لم يوثّق، نعم له كتاب روى عنه عبد الله بن مسكان الّذي هو من أصحاب الإجماع، وروى عنه الصدوق في من لا يحضره الفقيه الّذي ضمن وثاقة أخباره، وربما يكتفي بهما في اعتبار السند.

وأمّا دلالته فموضع الدلالة هو قوله (عليه السلام): «هي فيء المسلمين». وبيانه: أنّ الفيء هو ما يرجع إلى المسلمين مثلاًَ ممّن لا يحقّ أن يكون المال لديه، فإذا كانت الأرض فيئاً لهم فهي بأيديهم وملكٌ لهم، فمدلول الحديث أنّ أرض السواد يعني أرض العراق فيء وملكٌ للمسلمين، وقد مرّ أنّ أرض العراق مفتوحة عنوةً فهي ملكٌ للمسلمين. وبضميمة صحيحة محمّد بن مسلم الماضية الدالّة على أنّ أرض العراق إمام لسائر الأرضين يثبت ملكية الأراضي المفتوحة عنوةً بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بيد أهل الجور بل مطلقاً كما مرّ.

5 ـ ومنها ما رواه الشيخ في التهذيب عن محمّد بن شريح قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن شراء الأرض من أرض الخراج فكرهه وقال: إنّما أرض الخراج للمسلمين، فقالوا له: فإنّه يشتريها الرجل وعليه خراجها، فقال: لا بأس إلاّ أن يستحيي من عيب ذلك[6].

ومحمّد بن شريح الحضرمي وإن كان ثقة إلاّ أنّ في السند بكار بن أبي بكر وعليّ بن الحرث وهما مجهولان فالسند غير معتبر.

وموضع الدلالة قوله (عليه السلام): «إنّما أرض الخراج للمسلمين» فإنّ ظاهره أنّ أرض الخراج ملك للمسلمين ولا ينافيه تجويز شرائها فإنّه في معنى أن يصير الأرض بيد المشتري كما كانت بيد البائع عليها الخراج، فدلالته تامّة.

هذه هي الأخبار الدالّة على أنّ الأرض المفتوحة عنوة ملكٌ للمسلمين وقد عرفت تمامية دلالتها.

ثُمّ إنّ هنا أخباراً أخر تدلّ على أنّ الأرض المفتوحة عنوة بيد وليّ الأمر يأخذ منها الخراج ويصرفه في مصارفه المقرّرة من غير تصريح على أنّها ملكٌ للمسلمين:

1ـ فمنها ما رواه الشيخ في الصحيح عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي قال: ذكرت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام) الخراج وما سار به أهل بيته، فقال: العشر ونصف العشر على مَن أسلم تطوّعاً، تركت أرضه في يده وأخذ منه العشر ونصف العشر فيما عمر منها، وما لم يعمر منها أخذه الوالي فقبّله ممّن يعمره وكان للمسلمين، وليس فيما كان أقلّ من خمسة أوساق شيء، وما أُخذ بالسيف فذلك للإمام [إلى الإمام ـ ئل] يقبّله بالّذي يرى كما صنع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بخيبر، قبّل أرضها ونخلها، والناس يقولون: لا تصلح قبالة الأرض والنخل إذا كان البياض أكثر من السواد، وقد قبّل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خيبر، وعليهم في حصصهم العشر ونصف العشر[7]. ورواه الحميري أيضاً في الصحيح في قرب الإسناد عنه[8].

وموضع الاستدلال فقراته الثانية الواردة فيما أُخذ بالسيف من الأراضي فهو المأخوذ عنوة وحكم (عليه السلام) عليه بأنّه بيد الإمام بما أنّه وليّ الأمر بقرينة الاستشهاد بفعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أرض خيبر يقبّله بالّذي يرى من الخراج، ولفظة «للإمام» يراد منها «إلى الإمام» كما في الوسائل بقرينة سائر الأخبار، وبملاحظة أنّ بداهة الخراج من الأموال المجعولة لأن تصرف في مصالح المسلمين.

2ـ ومنها ما رواه الكليني والشيخ بإسناده عن الكليني عن عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد بن عيسى عن عليّ بن أحمد بن أشيم عن صفوان بن يحيى وأحمد بن محمّد بن أبي نصر قالا: ذكرنا له الكوفة وما وضع عليها من الخراج وما سار فيها أهل بيته، فقال: مَن أسلم طوعاً تركت أرضه في يده وأخذ منه العشر ممّا [في ما ـ يب] سقت السماء والأنهار ونصف العشر ممّا [فيما ـ يب] كان بالرشا [نادراً ـ يب] فيما عمروه منها، وما لم يعمروه منها أخذه الإمام فقبّله ممّن يعمره وكان للمسلمين، وعلى المتقبلين في حصصهم العشر ونصف العشر، وليس فيما أقلّ من خمسة أوساق شيء من الزكاة، وما أخذ بالسيف فذلك إلى الإمام يقبّله بالذي يرى كما صنع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بخيبر، فقبّل سوادها وبياضها ـ يعني أرضها ونخلها ـ والناس يقولون: لا يصلح قبالة الأرض والنخل: وقد قبّل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خيبر، وعلى المتقبّلين سوى قبالة الأرض العشر ونصف العشر في حصصهم. وقال: إنّ أهل الطائف أسلموا وجعلوا عليهم العشر ونصف العشر، وإنّ أهل مكّة دخلها [لمّا دخلها ـ يب] رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عنوةً فكانوا [وكانوا ـ يب] أُسراء في يده فأعتقهم وقال: اذهبوا فأنتم الطّلقاء[9].

وموضع الاستشهاد في هذا الحديث أيضاً قوله «وما أخذ بالسيف...» ودلالته مثل الصحيحة السابقة، واللفظ هنا «إلى الإمام» فلا مجال لطرح الشبهة المندفعة.

إلاّ أنّ في السند عليّ بن أحمد بن أشيم وهو من أصحاب الرضا (عليه السلام) إلاّ أنّه مجهول الحال، مضافاً إلى أنّ في الحديث إضماراً، لكنّه غير مضرّ لعظم مكانة صفوان والبزنطي فإنّهما لا يسألان غير الإمام، مضافاً إلى أنّ قولهما في السؤال : «... وما سار فيها أهل بيته» شاهد على أنّ المسؤول كان من أهل البيت (عليه السلام)، وليس ببعيد أن يكون هو الرضا (عليه السلام) وأن يكون هذا الحديث متحداً مع الصحيحة السابقة.

3ـ ومنها مرسل حمّاد بن عيسى عن بعض أصحابنا عن العبد الصالح [أبي الحسن الأوّل ـ يب] (عليه السلام) ـ الّذي رواه الكليني والشيخ ـ والحديث طويل، وفيه: والأرضون [الأرض ـ يب] الّتي أخذت عنوةً بخيلٍ ورجال [بخيل وركاب ـ يب] فهي موقوفة متروكة في يد مَن يعمرها ويحييها ويقوم عليها على [... صلح ـ يب] ما يصالحهم الوالي على قدر طاقتهم من الحقّ [... من الخراج ـ يب]النصف أو الثلث أو الثلثين، وعلى قدر ما يكون لهم صلاحاً [... صالحاً ـ يب] ولا يضرّهم [بهم ـ يب] فإذا أخرج منها ما أخرج بدأ [... فإذا خرج منها ابتدأ ـ يب] فأخرج منه العشر من الجميع ممّا سقت السماء أو سقي سيحاً ونصف العشر ممّا سقي بالدوالي والنواضح...] ويؤخذ بعدُ ما بقي من العشر فيقسّم بين الوالي وبين شركائه الّذين هم عمال الأرض وأُكرتها، فيدفع إليهم أنصباؤهم على ما [على قدر ما ـ يب] صالحهم عليه، ويؤخذ [ويأخذ ـ يب] الباقي فيكون بعد ذلك [فيكون ذلك ـ يب] أرزاق أعوانه على دين الله وفي مصلحة ما ينوبه من تقوية الإسلام وتقوية الدين في وجوه الجهاد [وجه الجهاد ـ يب] وغير ذلك ممّا فيه مصلحة العامّة، ليس لنفسه من ذلك قليل ولا كثير... الحديث[10].

وهذا المرسل المبارك قد عمل به الأصحاب، فمن ناحية السند معتبر. وموضوعه الأراضي الّتي أخذت عنوةً، وقد صرّح بأنّها بيد الوالي يجعل عليها الخراج ويكون مصرف خراجه ما في مصلحة عامّة المسلمين، إلاّ أنّه ليس فيه تعرّض لأنّ نفس الأرض تكون للمسلمين، اللّهمّ إلاّ أن يقال: إنّ توصيف هذه الأراضي بوصف «الّتي أخذت عنوةًَ بخيلٍ...» فيه دلالة على أنّ هذه الأراضي مأخوذة من مالكيها، وليس المراد بالأخذ إخراجها عملاً عن أيديهم فإنّه خلاف ما فيه من قوله: «فهي موقوفة متروكة في يد مَن يعمرها ويحييها ويقوم عليها» فالأراضي تترك في أيديهم عملاً، فلا محالة يكون المراد بأخذها إخراجها عن ملك مالكيها، وحيث إنّ خراجها يصرف في مصلحة عامّة المسلمين فتدخل في ملك المسلمين حتّى ينتج كون خراجها لهم.

والإنصاف أنّ هذا الوجه قويّ وبه يخرج هذا المرسل، بل وخبر أحمد بن محمّد ابن أبي نصر البزنطي أيضاً عن الأخبار المشتملة على مجرّد ذكر وجوب جعل الخراج على هذه الأراضي وتكون ثلاثتها من قبيل ما سبقتها من الروايات الخمسة.

فالحاصل أنّ هذه الأخبار الّتي فيها معتبرات السند قد دلّت على أنّ الأراضي المأخوذة عنوةً ملكٌ لعامة المسلمين بجعل عليها الخراج ومصرف خراجها مصلحة عامّة المسلمين.

وقد يتوهّم وجود روايات مدلولها أنّ الأرض الخراجية ملكٌ لأهل الذمّة ومَن عليه الخراج، وهذه الأخبار على طائفتين:

الطائفة الأولى: ما تدلّ على ملكيّتهم بتعبير أنّ الأرض لهم، وهي روايات:

منها ما رواه الشيخ بسندٍ صحيح والصدوق أيضاً بسندٍ صحيح عن محمّد بن مسلم ورواه الشيخ أيضاً بسندٍ موثّق عن محمّد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الشراء من أرض اليهود والنصارى، فقال: ليس به بأس، قد ظهر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على أهل خيبر فخارجهم على أن يترك الأرض بأيديهم يعملونها ويعمرونها، فلا أرى بها بأساً لو أنّك اشتريت منها شيئاً، وأيّما قومٍ أحيوا شيئاً من الأرض وعملوها فهم أحقّ بها وهي لهم[11].

وهذا اللفظ لفظ الموثّق، وإنّما اخترناه لاحتمال الإضمار في صحيح الشيخ وصحيح الصدوق، وإن كان الظاهر أن لا إضمار في التهذيب فإنّ الظاهر رجوع الضمير إلى أبي عبد الله (عليه السلام) المذكور في الخبر المتقدّم عليه، مضافاً إلى أنّ مثل محمّد بن مسلم الفقيه المعروف الّذي هو من أصحاب الإجماع لا يسأل طبعاً عن غير الإمام (عليه السلام) بل من المحتمل جدّاً أن يكون الحديث مأخوذاً عن أصله وقد سبق منه ذكر الإمام (عليه السلام) صريحاً فاكتفى به واقتصر على المجيء بالضمير الراجع إليه. وهكذا الكلام بعينه في صحيح الصدوق في من لا يحضره الفقيه.

وكيف كان، فالجملة المذكورة أخيراً ـ بعد تجويز شراء أرضهم ـ في صحيح الشيخ هكذا: «وأيّما قوم أحيوا شيئاً من الأرض أو عملوه فهم أحقّ بها وهي لهم» وفي صحيح الصدوق هكذا: «وإيّما قوم أحيوا شيئاً من الأرض فعمروه فهم أحقّ به وهو لهم».

وموضع الاستدلال هو نفس هذه الجملة الأخيرة، فإنّه (عليه السلام) حكم أوّلاً بجواز شراء أرضهم وذكر بعده جعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للخراج على أرض خيبر الّتي لا شبهة في أنّها مأخوذة ومفتوحة عنوةً، وذكرها قرينة على أنّ مورد السؤال هو الشراء من أراضيهم الخراجية الّتي قد جعلها وليّ أمر المسلمين بأيديهم، وبعد ذلك أعاد ذكر جواز اشترائها وذكر أخيراً قوله: «وأيّما قومٍ أحيوا شيئاً من الأرض فهم أحقّ بها وهي لهم» فيدلّ بوضوح على أنّ هؤلاء القوم أهل الذمّة أيضاً، حيث إنّهم عمروا وأحيوا أراضيهم فهم أحقّ بها وهي لهم، وجملة «وهي لهم» معناها أنّها ملكٌ لهم.

هذا بالنسبة لجملة الموثق. ومثله الكلام في صحيح التهذيب وصحيح من لا يحضره الفقيه أيضاً.

2ـ ومنها ما رواه الشيخ في التهذيب بإسناده الصحيح عن الحسين بن سعيد عن حمّاد بن شعيب عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن شراء الأرضين من أهل الذمّة، فقال: لا بأس بأن يشترى منهم، إذا عملوها وأحيوها فهي لهم، وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين ظهر على خيبر وفيها اليهود خارجهم على أمر وترك الأرض في أيديهم يعملونها ويعمرونها[12].

ومحلّ الكلام فيه سؤالاً وجواباً بقرينة ذكر أراضي خيبر هو الشراء من الأراضي الخراجية. وقوله (عليه السلام) بعد تجويز اشترائها «إذا عملوها وأحيوها فهي لهم» دليلٌ واضح على أنّها ملكٌ لهم كما مرّ الآن بيانه، فدلالته واضحة.

وأمّا سنده فما ذكرناه هو المذكور في التهذيب طبعة النجف الأشرف المحقّقة بتحقيق السيّد الخرسان ونقل أنّ نسخته هكذا في الطبعة القديمة، وعليه فحمّاد بن شعيب لم تثبت وثاقته فيكون الحديث غير معتبر السند، إلاّ أنّ المذكور في الوسائل الباب الرابع من كتاب إحياء الموات وهكذا المذكور في الوافي في باب حكم أرض الخراج وأرض أهل الذمّة عند نقلهما لهذا الحديث عن الشيخ يكون السند هكذا: الحسين بن سعيد عن حمّاد عن شعيب عن أبي بصير، وهكذا ذكر في التهذيب المطبوع أخيراً بتعليق الغفاري[13]. ويكون سند هذا الحديث في الاستبصار في باب شراء أرض أهل الذمّة[14] أيضاً مثل الوسائل والوافي. فعلى جميع ذلك فالظاهر خطأ نسخة حمّاد بن شعيب، وعلى النسخة الصحيحة فحمّاد هو ابن عيسى الثقة الجليل وشعيب هو شعيب بن يعقوب العقرقوفي الّذي يروي عنه حمّاد بن عيسى على ما في ترجمة شعيب، وأيضاً شعيب هو ابن أخت أبي بصير يحيى ابن القاسم فيكون ذكره قرينة على أنّ المراد بأبي بصير في الحديث يحيى بن القاسم الأسدي الّذي قال فيه النجاشي: «ثقة وجيه» وتكون الرواية صحيحة السند، وإن أُغمض عن قرينية نقل الوافي والوسائل فلا شبهة في أنّ سند الاستبصار سندٌ معتبر يكفي في صحّة السند.

3ـ ومنها ما رواه الكليني في باب شراء أرض الخراج من السلطان عن زرارة قال: قال: لا بأس بأن يشتري أرض أهل الذمّة، إذا عمروها وأحيوها فهي لهم[15].

وتقريب الدلالة: أنّ موضوع الحكم بجواز الاشتراء أرض أهل الذمّة وهي منصرفة إلى أراضيهم الخراجية، ولا أقلّ من أنّ إطلاقها يشمل ما كانت من الأراضي الخراجية بأيديهم وقد ذيّله بأنّهم إذا عمروها وأحيوها فهي لهم، فيدلّ الذيل على أنّ الأراضي الخراجية الّتي بأيديهم ممّا يعمرونها ويحيونها تكون لهم، وهو المطلوب.

وأمّا سنده ففيه معلّى بن محمّد الّذي قال فيه النجاشي: إنّه مضطرب الحديث والمذهب، وعلى أنّه حديث مضمر لم يعلم أنّ قائله الإمام (عليه السلام)، إلاّ أن يقال: إنّ كون المضمر زرارة الفقيه العظيم الّذي من أصحاب الإجماع شاهد على أنّه لا يروي إلاّ عن الإمام ومعلّى بن محمّد وإن قال فيه النجاشي: إنّه مضطرب الحديث، إلاّ أنّه زاد عليه قوله: «وكتبه قريبة» فأفاد أنّ له كتباً وأنّ كتبه قريبة من كتب الأصحاب، وهو نحو إيماء إلى إمكان الاعتماد عليه. ويؤيّده أنّ المنقول عن ابن الغضائري أنّه قال: «المعلّى بن محمّد البصري أبو محمّد نعرف حديثه وننكره يروي عن الضعفاء ويجوز أن يخرج شاهداً» فهو مع طول باعه في تضعيف الرواة لم ينصّ على ضعفه بل قال: «يجوز أن يخرج حديثه شاهداً».

هذه هي الطائفة الأولى من الأخبار.

 (الطائفة الثانية) ما تدلّ على جواز شراء أرض الخراج ممّن هي في يده فهو يبيعها والمشتري يشتريها، وبما أنّ البيع حقيقته تمليك عين ماله بعوض فيدلّ هذه الأخبار على أنّ الأرض الخراج ملكٌ له. وهذه الطائفة أيضاً روايات:

1ـ منها ما رواه الكليني والشيخ في الصحيح عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن شراء أرض أهل الذمّة، فقال: لا بأس بها فتكون [فيكون ـ يب] إذا كان ذلك بمنزلتهم تؤدّى عنها [يؤدّى ـ يب] كما يؤدّون... الحديث[16].

2ـ ومنها ما رواه الشيخ في الموثّق عن محمّد بن مسلم وعمر بن حنظلة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن ذلك فقال: لا بأس بشرائها فإنّها إذا كانت بمنزلتها في أيديهم يؤدّى  [تؤدّى ـ ئل] عنها كما يؤدّى عنها[17].

ولفظ «ذلك» المذكور في السؤال إشارة إلى شراء أرض اليهود والنصارى الخراجية كما يشهد به جوابه (عليه السلام) بإيجاب أداء الخراج عنها، مضافاً إلى أنّ هذه الرواية وقعت في التهذيب بعد موثّق محمّد بن مسلم الّذي ذكرناه في الطائفة الأولى تحت الرقم1 وكان السؤال فيه عن شراء أرضهم فسبقه قرينة على أنّ الإشارة إشارة إلى نفس المذكور في ذاك الموثٌق.

3ـ ومنها ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمّد بن مسلم قال: سألته عن شراء أرضهم فقال: لا بأس أن تشتريها فتكون إذا كان ذلك بمنزلتهم تؤدّى فيها كما يؤدّون عنها[18].

والإضمار فيها غير مضرّ باعتباره لوقوعه أيضاً في التهذيب بعد خبرين كان أولاهما سؤالاً عن أبي عبد الله (عليه السلام) فهذا الصحيح أيضاً سؤال عنه، مضافاً إلى ما مرّ من أنّ مثل محمّد بن مسلم الفقيه الّذي هو من أصحاب الإجماع لا يسأل غير الإمام (عليه السلام).

فمورد السؤال في هذه الصحاح الثلاث هو شراء أرض الخراج بقرينة إيجاب أداء الخراج على المشتري عن الأرض كما يؤدّيه البائع عنها، فلا محالة تكون الأرض خراجية اشتراها، وقد مرّ أنّ بيعها دليلٌ على أنّ البائع كان مالكاً لها.

فهاتان الطائفتان من الروايات قد يمكن أن يقال بدلالتهما على أنّ أرض الخراج ملكٌ لمن يعمرها وهي في يده ببيان ما مرّ وتجعل معارضة للأخبار الماضية الدالّة على أنّها للمسلمين.

والحقّ أنّ ملاحظة عدّة من الأخبار الدالّة على أنّ الأرض المفتوحة عنوةً ملك للمسلمين توجب شرحاً لهاتين الطائفتين وإن لا تنعقد معارضةً في البين، فمثلاً في صحيحة محمّد الحلبي بعد ما أفاد الإمام الصادق (عليه السلام) أنّ أرض العراق المفتوحة عنوةً ـ الّتي هي إمام سائر الأرضين المفتوحة عنوة ـ ملكٌ لجميع المسلمين فبعد ذلك جوّز شراءها بقوله (عليه السلام): «لا يصلح إلاّ أن تشتري منهم على أن يصيّرها للمسلمين، فإذا شاء وليّ الأمر أن يأخذها أخذها» فأفاد (عليه السلام) أنّ الشراء لا يسلب أصل هذا المبيع عن مالكه الأصلي، بل إنّ شراءها إنّما يصحّ بشرط أن يجعلها ويراها المشتري بعد شرائها للمسلمين بحيث لا تخرج عن ولاية وليّ الأمر بل بعد شرائها أيضاً يكون ولايته عليها باقية، فإذا شاء أن يأخذها أخذها، غاية الأمر أنّه إذا أخذها يردّ على المشتري رأس ماله ـ كما في ذيل الصحيحة ـ فالاشتراء وإن وجب للمشتري حقّاً على الأرض إلاّ أنّ الأرض بعد الاشتراء أيضاً للمسلمين.

فهذه الصحيحة تشرح مفاد قولهم (عليهم السلام): «أيّما قومٍ أحيوا شيئاً من الأرض فهي لهم» باق مفاد اللام فيه ليس معنى الملكية بل مجرّد حقّ يثبت لأهل الذمّة الّذين يعمرونها ويحيونها وتشرح أيضاً أن حقيقة البيع تقع على نقل هذا الحقّ إلى المشتري، وقد حقّق أهل التحقيق أنّ البيع غير متقوّم بنقل الأعيان بل يطلق عند العقلاء على نقل بعض الحقوق أيضاً، وبعد هذا الشرح لا تنعقد بين الأخبار معارضة أصلاً.

وهكذا الأمر إذا لاحظنا مصحّحة أبي بردة بن رجا فإنّ أبا عبد الله (عليه السلام) بعد أن منع بيعها بقوله (عليه السلام): «مَن يبيع ذلك؟ هي أرض المسلمين» فبعد هذا ذكر طريق حلّ لبيعها بقوله: «لا بأس اشترى حقّه منها ويحوّل حق المسلمين عليه ولعلّه يكون أقوى عليها وأملأ بخراجهم منه» فأراد أنّ البيع والاشتراء إنّما يقعان على حقّ الدهقان الّذي بيده الأرض على الأرض وهذا الحقّ ينتقل إلى المشتري ويكون عليه الخراج مثل الدهقان.

فهذه المصححة أيضاً تكون شارحة للطائفتين من الأخبار، وبعد هذا الشرح لا تنعقد معارضة في البين.

ومثلهما المقال إذا لوحظ خبر أبي الربيع الشامي ورواية محمّد بن شريح، فلاحظ.

ومن هذا المعنى الّذي ذكرنا وشرحناه تعرف أنّه لا يجوز بيع عين هذه الأراضي المأخوذة عنوةً بل هي أراضي للمسلمين قاطبةً ويؤخذ عليها الخراج ممّن كانت بيدها، فإنّ الأخبار العديدة الّتي دلّت على أنّها ملك للمسلمين قد منعت عن بيع أعيانها، وإنّما جوّزت بيع حقّ الدهقان وصرّحت بأنّها بعد الاشتراء أيضاً تكون للمسلمين وبأنّها فيء للمسلمين وإنما يجوز بيعها واشتراؤها بحيث تبقى على ما كانت عليه قبل الاشتراء تبقى على كونها للمسلمين وعليها الخراج.

وقد عرفت أنّ هذا المعنى هو المراد بالأخبار المتعدّدة الّتي أجازت اشتراء الأراضي الخراجية.

وحيث إنّ اللازم على هذه الأراضي أن تكون ملكاً لقاطبة المسلمين وأن تبقى خراجية فكما لا يجوز بيع أعيانها كذلك لا يجوز وقفها ولا هبتها ولا أيّ تصرّف فيها يوجب انتقالها عن ملك المسلمين، ولمّا كان هذا الحكم هو حكمها الشرعيّ البتّي فلا محالة لا يقدم وليّ أمر المسلمين بنقل أعيانها عن ملك المسلمين بأيّ وجهٍ أصلاً.

وقد عرفت التأكيد على أنّ لها هذه الخاصّة في كلمات جمع من أصحابنا الكرام الّذين أوردنا كلماتهم، فتذكّر.

نعم قد عرفت دلالة الأخبار المذكورة على أنّ لمن بيده أرض خراجية حقّاً عليها هو المنشأ لجواز إقدامهم ببيعها.

ويستفاد أيضاً أنّ لمن بيده أرض الخراج حقّاً عليها طوائف أخر من الأخبار:

(الطائفة الأولى) ما تدلّ على أنّ له إجارة الأرض الخراجية الّتي بيده ففي صحيحة داود بن سرحان المروية عن المشايخ الثلاثة عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الرجل تكون له الأرض عليها خراج معلوم وربما زاد وربما نقص فيدفعها إلى رجل على أن يكفيه خراجها ويعطيه مائتي درهم في السنة، قال: لا بأس[19].

وبمضمونها صحيح يعقوب بن شعيب ورواية أبي الربيع[20] وخبر سعيد الكندي[21] وخبر الفيض المختار[22].

بيان دلالة هذه الطائفة أنّ الإجارة موقوفة عند العقلاء وفي الشريعة على أن يكون المؤجر مالكاً لمنفعة العين الّتي يؤجرها والملك موضوع للحقوق المترتبة عليه.

 (الطائفة الثانية) ما تدلّ على أنّ لصاحب هذه الأراضي أن يضعها مجّاناً بيد مَن يريد بحيث يكون أخذها منه بعد انقضاء القرار بيده، ولا معنى له إلاّ أنّ أمر الأرضي بيده وهو عبارة أخرى عن ثبوت حقّ له فيها ففي مصحّحة أبي بردة بن رجا قال: سألت ابا عبد الله (عليه السلام) عن القوم يدفعون أرضهم إلى رجل فيقولون كلها وأدّ خراجها، قال: (عليه السلام): «لا بأس به إذا شاؤوا أن يأخذوها أخذوها[23].

ومثلها رواية إبراهيم بن ميمون ورواية أبي الربيع[24] وصحيح الحلبي[25] وصحيح آخر له[26]، فراجع.

(الطائفة الثالثة) ما تدلّ على أنّ جواز أخذ الأراضي الخراجية الّتي بيد أهل الذمّة مشروط برضاهم، ولا معنى له إلاّ أنّ لهم عليها حقاً لابدّ من رعايته. ففي معتبر إسماعيل بن الفضل الهاشمي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل اكترى أرضاً من أرض أهل الذمّة من الخراج وأهلها كارهون وإنّما تقبّلها من السلطان [يقبّلها السلطان ـ يب] لعجز أهلها عنها أو غير عجز، فقال: إذا عجز أربابها عنها فلك أن تأخذها إلاّ أن يضارّوا، وإن أعطيتهم شيئاً فسخت أنفس أهلها لكم [بها ـ كا] فخذوها... الحديث[27].

فالاكتراء للأرض [أو اشتراؤها ـ كما في نسخة نقلها الوسائل في أبواب عقد البيع ـ الّذي هو أيضاً على ما عرفت بمعنى الاكتراء] وإن كان من السلطان إلاّ أنّه (عليه السلام) شرط جوازه بعجز أهل الذمّة عن عمارتها أو تحصيل رضاهم بإعطاء شيء لهم.

ولعلّ المتتبّع يقف على أخبار أخر متّحدة المضمون لإحدى الطوائف أو دالّة بوجهٍ آخر على ثبوت حقٍّ لمن بيده الأرض.

تتمّة وتعميم: هل الأرض المأخوذة عنوةً الّتي للمسلمين عامّة تشمل ما فُتحت أيّام خلفاء الجور؟ أم هي مختصّة بخصوص ما فُتحت في أيّام الدولة الحقّة كزمن النبي وأمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليهما وآلهما وأمّا ما فُتحت أيّام الجائرين فهي من مصاديق الأنفال وملك خاصّ للإمام المعصوم (عليه السلام)؟

مقتضى إطلاق كلام جلّ مَن مرّت عباراتهم التعميم، إلاّ أنّ للشيخ في جهاد المبسوط عبارة ربما يكون ظاهرها الاختصاص، فإنّه بعد ذكر أنّ أرض السواد وغيرها من البلاد الّتي فُتحت عنوة للمسلمين قاطبة قال: وعلى الرواية الّتي رواها أصحابنا أنّ كلّ عسكر أو فرقة غزت بغير أمر الإمام فغنمت يكون الغنيمة للإمام، خاصّةًَ هذه الأرضون وغيرها ممّا فُتحت بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ ما فُتح في أيّام أمير المؤمنين (عليه السلام) ـ إن صحّ شيء من ذلك ـ يكون للإمام خاصّة ويكون من جملة الأنفال الّتي لا يشركه فيها غيره[28].

وقد مرّ أنّ العلاّمة في جهاد التذكرة والمنتهى نقل هذه العبارة عنه من دون إظهار نظر في مفادها.

وسند الشيخ (قدس سرّه) في هذا الاختصاص كما ذكر في عبارته إنّما هو الرواية الخاصّة الّتي رواها أصحابنا، وهي كما مرّ عند البحث عن مصاديق الأنفال رواية العبّاس الورّاق عن رجلٍ سمّاه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا غزا قومٌ بغير إذن الإمام فغنموا كانت الغنيمة كلّها للإمام، وإذا غزوا بأمر الإمام فغنموا كان للإمام الخمس[29].

وقد مرّ أن الرواية وإن كانت بنفسها غير معتبرة السند إلاّ أنّ الأصحاب عملوا بها، وينجبر ضعف سندها بعمل الأصحاب، وتكون دليلاً على تقييد إطلاقات أن غنيمة الحرب بعد إخراج الخمس تقسّم بين المقاتلين[30]، فهاهنا أيضاً يقال: إنّ أدلّة كون الأرض المفتوحة عنوةً لقاطبة المسلمين أيضاً مطلقة تشمل ما إذا كان الفتح في حكومة سلاطين الجور إلاّ أنّ الرواية الخاصّة المعتبرة دليل على تقييدها واختصاصها بما إذا كان الحرب بإذن الإمام العدل، وأمّا إذا كان الغزو بغير إذن الإمام كان الأرض المغنومة عنوةً مثل الغنيمة المنقولة كلّها للإمام (عليه السلام) وهي كما مرّ من مصاديق الأنفال.

لكنّ الحقّ هنا هو القول بالتعميم وذلك لما مرّ من أنّ صحيح محمّد الحلبي قد نصّ على أنّ السواد الّتي هي أرض العراق لقاطبة المسلمين ومضافاًَ إلى أنّ أرض العراق قد فُتحت في خلافة عمر بن الخطّاب فهي بنفسها من الأراضي المفتوحة زمن خليفة الجور، فقد عرفت أنّه وردت صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن سيرة الإمام في الأرض الّتي فُتحت بعد رسول الله فقال: إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قد سار في أهل العراق بسيرة فهي إمام سائر الأرضين... الحديث[31]. فقد أفاد أنّ أرض العراق الّتي فُتحت بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إمام لسائر الأرضين الّتي فُتحت بعده وحكمها جارٍ في الأرضين الأخر، وإذا كان حكمها بنصّ صحيحة الحلبي أنّها لقاطبة المسلمين فيكون سائر الأرضين المفتوحة بعده أيضاً لقاطبة المسلمين.

فبين الأراضي المفتوحة عنوةً والغنائم المنقولة فرق، وهو أنّه ليس في الغنائم المنقولة سوى الإطلاقات المحكومة بالتقييد وهذا بخلاف الأراضي فإنّ فيها دليلاً خاصّاً على أنّها أيضاً لقاطبة المسلمين، وهذا الدليل الخاصّ يؤكّد الإطلاقات ويوجب تقييد الغنيمة المذكورة في رواية الورّاق المحكومة بأنّ كلّها للإمام بخصوص الغنيمة المنقولة.

وأمّا المسير لإجراء حكم المفتوحة بإذن الإمام عليها بتكلّف أنّ ما نقل في بعض التواريخ من استشارة عمر لأمير المؤمنين وحضور ابنه الحسن في حرب إيران وقبول عمّار إمارة العساكر وقبول سلمان تولية المدائن شاهد على إذنه (عليه السلام) بهذا الجهاد. فهو غير مستقيم لعدم ثبوت شيء منها بسند معتبر وعدم استلزام شيء منها لأنّ يكون الجهاد بإذن الإمام وأمره فلعلّه أبرز نظره الموافق إلاّ أنّ كل أمر الجهاد كان بإذن عمر وأمره، ولعلّ ابنه وعمّار أو سلمان قد أذن أمير المؤمنين بأن يفعلوا ما فعلوا لوجود مصلحةٍ تقتضيه.

المسألة الثانية: قد عرفت أنّ الأرض المفتوحة عنوةً لا يجوز بيع عينها ولا سائر التصرّفات الناقلة فيها، فهل هذا الحكم مختصّ بحال الحضور أو يعمّها وحال غَيبة الإمام (عليه السلام)؟

إطلاق كلام مَن تقدّمت كلماتهم وهكذا غيرهم من الأصحاب عموم الحكم لحال الغَيبة أيضاً، إلاّ ما مرّ في كلام الشهيد في الدروس فإنّه لمّا حكم بعدم جواز هذه التصرفات قال: نعم في حال الغَيبة ينفذ ذلك.

وقال المحقّق الثاني في جامع المقاصد تعليقاً على قول العلاّمة: «ولا يصحّ بيعها ولا وقفها ولا هبتها»: هذا في حال ظهور الإمام (عليه السلام)، وأمّا في حال الغَيبة فينفذ ذلك كلّه كما صرّح به في الدروس وصرّح به غيره[32].

أقول: لا ينبغي الارتياب في أنّ مقتضى الأدلّة المتقدّمة هو تعميم المنع، وذلك لا لمجرّد أنّها ملكٌ قاطبة المسلمين ولا يجوز بيع ملك الغير ـ كما في مجمع البرهان ـ وذلك أنّه قد يجوز بيع مال الغير كبيع ما وقف على المسجد من ثمرة البساتين مثلاً وكعين مال الزكاة إذا اقتضت المصلحة بيعه فتأمّل، بل لأنّ الأدلّة الماضية كما عرفت قد دلّت على عدم جواز بيعها، وهي مطلقة من جهة زمان حضور الإمام (عليه السلام) أو غَبيته.

وفي مجمع البرهان الاستدلال لجواز بأنّ الظاهر أنّ هذه التصرّفات متداولة بين المسلمين في زمان الحضور والغيبة بين العامّة والخاصّة في الأراضي المشهور بأنّها مفتوحة عنوةًَ إلى الآن، من غير إنكار أحد ذلك، وإجراء أحكام المسجد على ما جعل مسجداً وأحكام الملكية في غيره ممّا بيعت[33]. ثُمّ استشكله باحتمال أن يكون ما نراه الآن مسجداً قد وقف في أرض كانت مواتاً حال الفتح، وهكذا الأمر فيما كان في يد أحد يداًَ مالكية ثُمّ عقّبه بأنّ ما ادّعى أنّها مفتوحة عنوةً هي أرض العراق وهو لم يعلم إلاّ ببعض التواريخ مع عدم تواتر ناقليه وعدم ثبوت عدالتهم، بل وقع بين علماء العامّة أيضاً الخلاف في كونها مفتوحة عنوةً كما في التذكرة، بل يحتمل أن تكون من الأنفال لعدم كون فتحها بإذن الإمام (عليه السلام)[34].

واستدلاله راجع إلى دعوى سيرة بين المسلمين مستمرة من زمن المعصومين (عليهم السلام) إلى زماننا على هذه التصرّفات في الأراضي المفتوحة عنوةً ولم يرد إنكار بالنسبة إليها لا من المسلمين ولا من الأئمة العظام سلام الله عليهم، فتكون سيرة متشرعية قابلة للاستناد إليها في جوازها زمن الحضور فضلاً عن الغَيبة.

هذا حاصل ما ذكره من الاستدلال، والجواب عنه (أوّلاً) إلى أنّ مآله ما هو خلاف اتفاق العلماء فإنّه لا خلاف بل الإجماع ـ كما مرّ ـ على عدم جواز هذه التصرّفات بلا إذن الإمام في زمن الحضور. و(ثانياً) ما ذكره هو نفسه من احتمال أن يكون مثل المساجد بل وما عليه يد المالكية من موات الأراضي ولم تثبت السيرة المستمرّة في جواز التصرفات الناقلة فيما يعلم أنّه من المفتوحة عنوةً المُحياة حين الفتح. و(ثالثاً) أنّ أراضي بلاد الإسلام حتّى أراضي العراق كانت تحت لواء الحكومات الجائرة العاملة على فتاوى أهل الخلاف، وقد عرفت أنّ كثيراً منهم يفتون بجواز تقسيم الأرض المفتوحة عنوةً بين المقاتلين، وجمعاً منهم قالوا: إنّ العراق فُتحت صلحاً فتكون أراضيها المفتوحة لمالكيها الأوّلين، فمع احتمال ابتناء السيرة على هذه الأمور لا يكون حجّة فيها.

وأمّا ما ذكره من عدم ثبوت كون أرض العراق مفتوحة عنوةً فهو ضعيف جدّاً لما مرّ من قيام الروايات المعتبرة الإسناد التامّة الدلالة على أنّها فُتحت بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنّها لجميع المسلمين ولا يجوز بيعها وشراؤها.

كما أنّ ما احتمله من كون أرض السواد بل كلّ ما فتحت أيّام خلفاء الجور من الأنفال قد عرفت قيام الدليل الخاصّ على خلافه وعلى أنّ جميع هذه الأراضي أيضاً ملك للمسلمين قاطبة لا يجوز بيعها ولا أيّ تصرف ناقل فيها.

ــــــــــــــــــــــــــ

[1] الوسائل: الباب 21 من أبواب عقد البيع ج12 ص274 الحديث4.

[2] التهذيب: ج4 ص118، عنه الوسائل: الباب 69 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص117 الحديث2.

[3] التهذيب: ج4 ص146، عنه الوسائل: الباب 71 من أبواب الجهاد ج11 ص118 الحديث1.

[4] الكافي: ج5 كتاب المعيشة ص267، التهذيب: ج7 باب المزارعة ص198، عنهما الوسائل: الباب 10 من أبواب المزارعة ج13 ص 203 الحديث2.

[5] التهذيب: ج7 باب أحكام الأرضين ص 147، الفقيه: ج3 ص240، عنهما الوسائل: الباب 21 من أبواب عقد البيع ج12 ص274 الحديث5.

[6] التهذيب: ج7 باب أحكام الأرضين ص148، عنه الوسائل: الباب21 من أبواب عقد البيع الحديث9.

[7] التهذيب: ج4 باب الخراج وعمارة الأرضين ص119، عنه الوسائل: الباب72 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص120 الحديث2.

[8] قرب الإسناد: ص384 الرقم1352.

[9] الكافي: ج3 كتاب الزكاة ص512، التهذيب: ج4 باب وقت الزكاة ص38، عنهما الوسائل: الباب 72 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص119 الحديث1.

[10] الكافي: ج1 باب الفيء والأنفال ص541، التهذيب: ج4 باب قسمة الغنائم ص130، عنهما الوسائل: الباب 41 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص84 الحديث2.

[11] التهذيب: ج4 ص146 الحديث29، وج7 ص148 الحديث4، الفقيه: ج3 ص240 الحديث3876،  عنهما الوسائل: الباب71 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص118 الحديث2.

[12] التهذيب: ج7 ص148 الحديث6.

[13] التهذيب: ج7 ص174.

[14] الاستبصار: ج3 ص110.

 [15] الكافي: ج5 ص282، عنه الوسائل: الباب21 من أبواب عقد البيع ج12 ص274 الحديث2.

 [16] الكافي: ج5 ص283، التهذيب: ج7 باب أحكام الأرضين ص149، عنهما الوسائل: الباب21 من أبواب عقد البيع ج12 ص275 الحديث8.

 [17] التهذيب: ج4 ص147، عنه الوسائل: الباب71 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص19 الحديث3.

 [18] التهذيب: ج8 ص147، عنه الوسائل: الباب21 من أبواب عقد البيع ج12 ص275 الحديث7.

 [19] الوسائل: الباب17 من أبواب المزارعة ج13 ص211 الحديث1.

[20] الوسائل: الباب18 من أبواب المزارعة ج13 ص213 و214 الحديث2و5.

[21] الوسائل: الباب16 من أبواب المزارعة ج13 ص211 الحيدث10.

[22] الوسائل: الباب 15 من أبواب المزارعة ج13 ص208 الحديث3.

[23] الوسائل: الباب17 من أبواب المزارعة ج13 ص212 الحديث 3و2و4.

[24] الوسائل: الباب17 من أبواب المزارعة ج13 ص212 الحديث 3و2و4.

 [25] الوسائل: الباب11 من أبواب المزارعة ج13 ص204 الحديث2.

[26] الوسائل: الباب93 من أبواب ما يكتسب به ج12 ص219 الحديث3.

 [27] الكافي: ج5 ص282، التهذيب: ج7 باب أحكام الأرضين ص150، عنهما الوسائل: الباب72 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص121 الحديث4، والباب21 من أبواب عقد البيع ج12 ص275 الحديث10.

[28] المبسوط: ج2 ص34.

[29] الوسائل: الباب1 من أبواب الأنفال ج6 ص269 الحديث16.

[30] قد مرّ البحث عنها في الكلام عن السادس عشر من الأنفال ص120.

[31] التهذيب: ج4 ص118، عنه الوسائل: الباب69 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص117 الحديث2.

 [32] جامع المقاصد: ج3 ص403.

[33] مجمع الفائدة والبرهان: ج7 ص472ـ474.

[34] مجمع الفائدة والبرهان: ج7 ص472ـ474.