وأما القسم الثاني منها وهو ما كان ملكاًَ للأمّة الإسلامية فهو أيضاً أمور عديدة:

 

الأمر الأوّل

 

الأراضي المفتوحة عنوةً

والمراد منها أنّ وليّ الأمر إذا دعا المسلمين إلى جهاد أعداء الإسلام فجاهدهم المسلمون وقاتلوهم إلى أن ظفروا بهم فما كان من الأموال المنقولة الّتي حواها عسكر العدو فبعد إخراج خمسها وما كان منها من الأنفال يقسّم الباقي بين المقاتلين، ولا كلام لنا الآن فيها، وأمّا الأراضي الّتي كانت بأيدي الأعداء واستولى عليها الإسلام بهذا الجهاد فهذه الأراضي وهكذا دورهم وبيوت تجارتهم وكسبهم فهذه كلّها قد فتحلها المسلمون بالقتال وتكون مفتوحةً بالسيف، فهذا هو المراد بالأراضي المفتوحة عنوةً وتكون كلّها لأمّة الإسلام.

والعنوة ـ بفتح العين ـ ما أخذ عن خضوع وتذلّل، قال الله تعالى: ﴿وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ﴾: أي خضعت وذلت، فهذه الأراضي حيث تؤخذ من أيدي الكفّار بعد ما ذلّوا بغلبة جند الإسلام عليهم فقد فتحت وأخذت عنوةً، فلذلك يطلق عليها المفتوحة عنوة.

وبعد ذلك فاللازم أوّلاً نقل كلمات أصحابنا الأخيار ثُمّ البحث عن مقتضى أدلّة المسألة، فنقول:

1ـ قال الشيخ المفيد (قدس سرّه) في المقنعة: وكلّ أرض أسلم أهلها طوعاً تركت في أيديهم... وكلّ أرض أُخذت بالسيف فللإمام تقبيلها ممّن يرى من أهلها وغيرهم، وليس يجب قسمتها بين الجيش ويقبّلها الإمام بما يراه صلاحاًَ ويطيقه المتقبّل من النصف والثلث والثلثين[1].

فقوله (قدس سرّه): «وكلّ أرض أخذت بالسيف» حيث وصف الأرض المذكورة بأنّها أُخذت فلا محالة تكون الأرض مأخوذة من يد الكفّار واقعة في يد المسلمين فتكون ملكاًَ لهم، وما يؤخذ من المتقبّل لها من النصف أو الثلث والثلثين يكون من عوائد الأرض وملكاً للمسلمين بيد الإمام الّذي هو وليّ أمرهم. وبالجملة فهو (قدس سرّه) وإن لم يصرّح بأنّها ملك المسلمين إلاّ أنّه يكون إليه ماله بشرح ما عرفت.

2ـ وقد تعرّض لهذه الأرض شيخ الطائفة (قدس سرّه) في كتبه:

ألف: فقال في باب أحكام الأرضين من زكاة النهاية: الأرضون على أربعة أقسام: ضرب منها يسلم أهلها عليها طوعاً من قِبل نفوسهم من غير قتال، فتترك في أيديهم، ويؤخذ منهم العشر أو نصف العشر وكانت ملكاً لهم... .

والضرب الآخر من الأرضين ما أُخذ عنوة بالسيف، فإنّها تكون للمسلمين بأجمعهم، وكان على الإمام أن يقبّلها لمن يقوم بعمارتها بما يراه من النصف أو الثلث أو الربع، وكان على المتقبّل إخراج ما قد قبِل به من حقّ الرقبة وفيما يبقى في يده وخاصّة العشر أو نصف العشر، وهذا الضرب من الأرضين لا يصحّ التصرّف فيه بالبيع والشراء والتملّك والوقف والصدقات، وللإمام أن ينقله من متقبّل إلى غيره عند انقضاء مدّة ضمانه، وله التصرّف فيه بحسب ما يراه من مصلحة المسلمين وهذه الأرضون للمسلمين قاطبة، وارتفاعها يقسّم فيهم كلّهم، المقاتلة وغيرهم، فإنّ المقاتلة ليس لهم على جهة الخصوص إلاّ ما تحويه العسكر من الغنائم.

ثُمّ ذكر أرض الصلح أو الجزية وأرض الأنفال قسمين ثالثاً ورابعاً، فراجع[2].

فقد صرّح بأن الأرض المأخوذة عنوة ملك لجميع المسلمين بيد الإمام وأنّ منافعها للمسلمين قاطبة، وأنها لا يصح بيعها ولا إيقاع التصرفات المخرجة لها عن ملكهم عليها.

وقال أيضا في باب بيع المياه والمراعي من متاجر النهاية والأرضون على أقسام أربع: قسم منها أرض الخراج، وهي كل أرض أخذت عنوة بالسيف وعن قتال، فهي أرض للمسلمين قاطبة لا يجوز بيعها ولا شراؤها والتصرف فيها بإذن الناظر في أمر المسلمين، وللناظر أن يقبلها بما شاء من ثلث أو ربع أو نصف أو أقل أو أكثر مدة من الزمان، وله أن ينقل من متقبل إلى غيره ويزيد عليه وينقص إذا مضى مدة زمان القبالة، ليس عليه اعتراض في ذلك.

ثم ذكر أرض الصلح أو الجزية وأرض من أسلم أهلها عليها طوعاً وأرض الأنفال، وذكر حكم كل قسم منها، فراجع[3].

فهنا أيضاً صرّح بأنّ الأرض المأخوذة بالسيف الّتي عبّر عنها بأرض الخراج للمسلمين قاطبة وأنّها لا يجوز بيعها ولا شراؤها وأنّها بيد الناظر في أمر المسلمين الّذي هو الإمام أو المنصوب من قِبله، ولا محالة يكون منافعها وخراجها لمالكها أعني المسلمين.

ب: قال في كتاب الزكاة من المبسوط: فصل في حكم أراضي الزكاة وغيرها. الأرضون على أربعة أقسام حسب ما ذكرناه في النهاية: فضرب منها... ثُمّ ذكر مثل ما أقاده في كتاب الزكاة من النهاية، ولا نرى حاجةً بذكرها[4].

وقال في كتاب الجهاد من المبسوط: فصل في ذكر مكّة هل فُتحت عنوةً أو صلحاً؟ وحكم السواد وباقي الأرضين. ظاهر المذهب أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فتح مكّة عنوةً بالسيف ثمّ آمنهم بعد ذلك، وإنّما لم يقسّم الأرضين والدور لأنّها لجميع المسلمين كما نقوله في كلّ ما يفتح عنوةً إذا لم يمكن نقله إلى بلد الإسلام، فإنّه يكون للمسلمين قاطبة، ومنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) على رجال من المشركين فأطلقهم، وعندنا أنّ للإمام أن يفعل ذلك، وكذلك أموالهم منّ عليهم بها لما رآه من المصلحة.

وأمّا أرض السواد فهي أرض المغنومة من الفرس الّتي فتحها عمر، وهي سواد العراق... والّذي يقتضيه المذهب أنّ هذه الأراضي وغيرها من البلاد الّتي فُتحت عنوةً أن يكون خمسها لأهل الخمس، فأربعة أخماسهما تكون للمسلمين قاطبة، للغانمين وغير الغانمين في ذلك سواء، ويكون للإمام النظر فيها وتقبيلها وتضمينها بما شاء، ويأخذ ارتفاعها ويصرفه في مصالح المسلمين وما ينوبهم من سدّ الثغور ومعونة المجاهدين وبناء القناطر وغير ذلك من المصالح، وليس للغانمين في هذه الأرضين خصوصاً شيء، بل هم والمسلمون فيه سواء. ولا يصحّ بيع شيء من هذه الأرضين ولا هبته ولا معاوضته ولا تمليكه ولا وقفه ولا رهنه ولا إجارته ولا إرثه، ولا يصحّ أن يبنى دور أو منازل ومساجد وسقايا ولا غير ذلك من أنواع التصرّف الّذي يتبع الملك، ومتى فعل شيء من ذلك كان التصرّف باطلاً وهو باقٍ على الأصل.

وعلى الرواية الّتي رواها أصحابنا أنّ كلّ عسكرٍ أو فرقةٍ غزت بغير أمر الإمام فغنمت يكون الغنيمة للإمام خاصّةً هذه الأرضون وغيرها ممّا فُتحت بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ ما فتح في أيّام أمير المؤمنين (عليه السلام) ـ إن صحّ شيء من ذلك ـ يكون للإمام خاصّة وتكون من جملة الأنفال الّتي له خاصّة لا يشركه فيها غيره[5].

وكلامه هنا قد قرّر أنّ في المفتوحة عنوةً الخمس وباقيها للمسلمين قاطبة وهي بيد الإمام تصرف منافعها في مصالح المسلمين، ولا يجوز التصرّفات الموقوفة على الملك أو الناقلة للعين فيها، وهي كلّها ما يستفاد من كلماته الأخر. إلاّ أن في ذيل كلامه هنا شبهة اختصاص ما فُتح بيد سلاطين الجور من هذه الأراضي والعقارات بشخص الإمام من جهة أنّها من مصاديق الأنفال، وسيأتي إن شاء الله تعالى البحث عنها.

ج: وقد تعرّض لهذه الأراضي في مواضع متعدّدة من كتاب الخلاف:

1/ج: فقال في المسألة 10 من كتاب الزكاة كلّ أرض فُتحت عنوةً بالسيف فهي أرض لجميع المسلمين، المقاتة وغيرهم، وللإمام الناظر فيها تقبيلها ممّن يراه بما يراه من نصف أو ثلث، وعلى المتقبّل بعد إخراج حقّ القبالة العشر أو نصف العشر فيما يفضل في يده وبلغ خمسة أوسق. وقال الشافعي: الخراج والعشر يجتمعان في أرض واحدة، يكون الخراج في رقبتها والعشر في غلّتها، قال: وأرض الخراج سواد العراق، وحدّه من تخوم الموصل إلى عبّادان طولاً، ومن القادسية إلى حلوان عرضاً، وبه قال الزهري وربيعة ومالك والأوزاعي والليث بن سعد وأحمد وإسحاق ـ إلى أن قال: ـ وأمّا مذهب أبي حنيفة فإن الإمام إذا فتح أرضاً عنوةً فعليه قسمة ما ينقل ويحوّل كقولنا، وأمّا الأرض فهو بالخيار بين ثلاثة أشياء: بين أن يقسّمها بين الغانمين أو يقفها على المسلمين وبين أن يقرّها في يد أهلها المشركين ويضرب عليهم الجزية بقدر ما يجب على رؤوسهم، فإذا فعل هذا تعلّق الخراج بها إلى يوم القيامة ولا يجب العشر في غلّتها إلى يوم القيامة القيامة، فمتى أسلم واحد منهم أخذت تلك الجزية منه باسم الخراج، ولا يجب العشر في غلّتها وهو الّذي فعله في سواد العراق... دليلنا إجماع الفرقة والأخبار الّتي أوردناها في كتاب تهذيب الأحكام مفصّلة مشروحة.

ثُمّ استدلّ بصحيحة محمّد الحلبي ورواية أبي الربيع الشامي الآتيتين إن شاء الله تعالى[6].

فهو (قدس سرّه) هنا قد صرّح بأنّ الأرض المفتوحة عنوةً بالسيف لجميع المسلمين، وأمرها إلى الإمام فيتقبّلها ممّن يراه بما يراه، ولا محالة يكون خراجها الّذي لها عائدة لمالكها ـ أعني جميع المسلمين ـ وظاهره أنّها دائماً تكون وتبقى على هذه الحالة فتكون أرضاً خراجية أبداً لا تخرج عن ملك المسلمين.

2/ ج: وقال في المسألة 15 من كتاب الفيء وقسمة الغنائم من الخلاف: مال الغنيمة لا يخلو من ثلاثة أحوال: ما يمكن نقله وتحويله إلى بلد الإسلام مثل الثياب والدراهم والدنانير والأثاث والعروض، أو يكون أجساماً مثل النساء والولدان، أو كان ممّا لا يمكن نقله كالأرض والعقار والبساتين. فما يمكن نقله يقسّم بين الغانمين بالسوية...[7].

في المسألة 18 قال: ما لا ينقل ولا يحوّل من الدور والعقارات والأرضين عندنا أنّ فيه الخمس فيكون لأهله والباقي لجميع المسلمين مَن حضر القتال ومَن لم يحضر، فيصرف منافعه إلى مصالحهم. وعند الشافعي أنّ حكمه حكم ما ينقل ويحوّل، خمسه لأهل الخمس والباقي للمقاتلة الغانمين، وبه قال ابن الزبير. وذهب قوم إلى أنّ الإمام مخيّر فيه بين شيئين: بين أن يقسّمه على الغانمين، وبين أن يقفه على المسلمين، وذهب إليه عمر ومعاذ والثوري وعبد الله بن المبارك وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنّ الإمام مخيّر فيه بين ثلاثة أشياء: بين أن يقسّمه على الغانمين، وبين أن يقفه على المسلمين، وبين أن يقرّ أهلها عليها ويضرب عليها الجزية باسم الخراج... وذهب مالك إلى أنّ ذلك يصير وقفاً على المسلمين بنفس الاستغنام والأخذ من غير إيقاف الإمام، فلا يجوز بيعه ولا شراؤه دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم... .

في المسألة 19 قال: سواد العراق ما بين الموصل وعبّادان طولاً، وما بين حلوان والقادسية عرضا فُتحت عنوةً فهي للمسلمين على ما قدّمنا القول فيه. وقال الشافعي: كانت غنيمة للغانمين فقسّمها عمر بين الغانمين ثُمّ اشتراها منهم ووقفها على المسلمين ثُمّ آجرها منهم، وهذا الخراج هو أجرة. وقال الثوري وابن المبارك: وقفها عمر على المسلمين. وقال أبو حنيفة: هذه الأرضون أقرّها عمر في يد أهلها المشركين وضرب عليهم الجزية باسم الخراج، فهذا الخراج هو تلك الجزية وعنده لا يسقط ذلك بالإسلام. وقال مالك: صارت وقفاً بنفس الاستغنام. دليلنا: ما قلناه في المسألة الأولى سواه[8].

فهو (قدس سرّه) حكم فيما لا ينقل ولا يحوّل من الغنيمة ـ أعني الدور والعقارات والأرضين ـ بأنّ فيها الخمس لأهله وأنّ الباقي منها بعد إخراج الخمس لجميع المسلمين، وأنّ منافعها تصرف إلى مصالحهم، وادّعى عليها إجماع الفرقة وأخبارهم، وحيث إنّه عدّها من أقسام الغنيمة وقد صرّح في المسألة الأولى من كتاب الفيء وقسمة الغنائم بقوله: «كلّ ما يؤخذ بالسيف قهراً من المشركين يسمّى غنيمة بلا خلاف»[9] فهذه الأراضي والدور والعقارات تكون مفتوحة عنوةً حكم عليها بالأحكام المذكورة.

ثُمّ هو (قدس سرّه) قد تعرّض لحكم سواد العراق في المسألة الأخيرة قال بأنّها فُتحت عنوةً فتكون للمسلمين على ما تقدّم.

3/ج: وقال في المسألة 23 من كتاب السير من الخلاف: كلّ أرض فُتحت عنوةً بالسيف فهي للمسلمين كافّة لا يجوز قسمتها بين الغانمين، وإنّما يقسّم بينهم ما سوى العقارات والأرضين من الأموال. وبه قال مالك والأوزاعي، إلاّ أنّهما قالا: تصير وقفاً على المسلمين بالفتح. وقال الشافعي: يجب قسمتها بين الغانمين كما يقسم غير الأرضين. وقال أبو حنيفة: الإمام مخيّر، إن شاء قسّم وإن شاء أقرّ أهلها فيها وضرب عليهم الجزية وإن شاء أجلاهم وجاء بقومٍ آخرين من أهل الذمّة فأسكنهم إيّاها وضرب عليهم الجزية.

وأصل هذا الخلاف سواد العراق الّتي فتحت في أيّام عمر، فعند الشافعي أنّه قسّمها بين المقاتلة ثُمّ استطاب أنفسهم واشتراها. وعند مالك أنّه وقفها. وعند أبي حنيفة أنّه أقرّ أهلها فيها وضرب عليهم الجزية وهي الخراج. دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وقد مرّت في كتاب الزكاة[10].

فقد حكم هنا بمجرّد أنّ الأرض المفتوحة عنوةً للمسلمين وسكت عن سائر أحكامها.

3ـ وقال الفقيه الأقدم أبو الصلاح الحلبي (المتوفّى سنة 447ﻫ) في مبحث الجهاد من الكافي في البحث عن مغانم المحاربين: القسم الثاني من الغنائم، أراضي المحاربين خمس، فأرضٌ أسلم أهلها عليها، وأرضٌ أخذت عنوةً بالسيف، وأرض صولح أهلها عليها، وأرضٌ سلّمها أهلها من غير حرب أو جلوا عنها، وأرضُ المرتدين وكفّار التأويل والمحاربين.

فأمّا الأرض الّتي أسلم أهلها فهي لهم وملكٌ في أيديهم، وعليهم فيما يخرجه من الأصناف الأربعة الزكاة فحسب...

وأمّا الأرض المأخوذة عنوةً فيلزم الناظر تقبيلها بما يراه مدّة معلومة، ويشترط على متقبّلها إخراج الزكاة من أصل ما يخرجه من الأصناف الأربعة إلى أهلها، وأخذ ما بقي عن شرط القبالة فيصرف إلى أنصار الإسلام... وله صرف ذلك في مصالح الإسلام وسدّ ثغوره وتقويته بالخيل والسلاح على أعدائه، ولا يجوز لأحد أن يعترض عليه في ذلك.

ثُمّ ذكر حكم أرض صولح عليها وهي أرض الجزية، وحكم أرض الأنفال، وصرّح أنّ أرض الكفّار المتأوّلين والمرتدين وبغاة المحاربين باقية على ما كانت عليه من قبل الحرب، فراجع[11].

فهو (قدس سرّه) قد جعل الأرض المأخوذة عنوةً موصوفة بوصف المأخوذة وهي تدلّ على أنّها أخذت من الكفّار المحاربين ولم يصرّح بأنّها ملك جميع المسلمين إلاّ أنّه حكم بأنّ ما يؤخذ من عوائدها بعد شرط القبالة الّذي لمتقبّلها يصرف بيد الناظر في مصالح الإسلام، فيدلّ هذا الحكم أنّ نفس الأرض ملكٌ للمسلمين حتّى يصرف عوائدها فيهم، والعوائد هنا هي الخراج كما هو واضح.

4ـ وقال الشيخ حمزة بن عبد العزيز الديلمي المعروف بسلاّر (المتوفّى سنة 448 ﻫ) في ذيل كتاب الخمس من المراسم: ذكر الجزية، وهي تشتمل على ذكر مَن تجب عليه الجزية ومبلغها ولمن هي؟ إنّما هي تجب على بالغ الذكر من اليهود والنصارى والمجوس خاصّة، فمَن عداهم من الكفّار لا ذمّة له... ذكر حكم من أسلم، كلّ مَن أسلم سقطت عنه الجزية، وإسلامه على ضربين: طوعاً وكرهاً. فإن أسلم طوعاً فأرضه تترك في يده، فإذا عمرها فعليه فيها ما يجب من الزكاة في الغلاّت ـ من العشر أو نصف العشر ـ وما لم يعمره قبّله الإمام لمن يعمره، وعلى المتقبّل حصّة العشر أو نصف العشر في الأوساق. وإن أسلم كرهاً بالسيف فللإمام لأن يوجّر أرضه أيضاً مَن شاء منهم ومن غيرهم، وليس له قسمتها في الجيش الّذين حاربوهم، ويقبّلها الإمام بما يراه صلاحاً من النصف والثلثين والثلث[12].

فهو (قدس سرّه) قد ذكر حكم أرض من أسلم طوعاً وأنّها تترك في يده، ثُمّ ذكر حكم أرض مَن أسلم كرهاً بالسيف وأنّ الإمام يؤجّر أرضه فمقابلته بين أرضيهما بالتعبيرين شاهدة على أنّ أرض من أسلم كرها بالسيف لا تترك في يده بل تؤجر بيد الإمام وبما يراه صلاحاً، فيستفاد منه أنّ أرض من أسلم بالسيف تؤخذ منه وتكون بيد الإمام، فلم يصرّح بأنّها للمسلمين إلاّ أنّه المناسب لكونها بيد إمام المسلمين.

5ـ وقال القاضي ابن البرّاج (المتوفّى سنة 481 ﻫ) في كتاب الخمس من المهذّب: باب أحكام الأرضين. الأرضون تنقسم أربعة أقسام: أوّلها قسم يسلم أهلها عليها طوعاً، وثانيها أرض افتتحت بالسيف عنوةً، وثالثها كلّ أرض صالح أهلها عليها، ورابعها أرض الأنفال، ونحن نفرد لكلّ واحدٍ منها باباً إن شاء الله تعالى:

باب ذكر الأرض الّتي يسلم أهلها عليها: الأرض إذا أسلم أهلها عليها طوعاً من غير حرب تركت في أيديهم وكانت ملكاً لهم...

باب ذكر الأرض المفتتحة بالسيف عنوةً: الأرض إذا فتحت عنوة كانت لجميع المسلمين، للمقاتل منهم وغير المقاتل، وارتفاعها يقسّم بينهم... وللإمام أن يقبّلها بما يراه لمن يعمرها... وله التصرّف في هذه الأرض بما يراه صلاحاً للمسلمين...

ثُمّ ذكر حكم أرض الصلح الّتي هي أرض الجزية وحكم أرض الأنفال وتعيينها، فراجع[13].

فقد صرّح بأنّ الأرض المفتوحة عنوةً ملكٌ لجميع المسلمين وأنّها بيد الإمام وعوائدها تقسّم بين المسلمين.

وقال أيضا في باب الغنائم من المهذّب: وما لا يختصّ بمقاتل دون غيره ويكون لجميع المسلمين فهو كلّ ما اغتنمه المسلمون ما لم يحوه العسكر من الأراضي والعقارات وغير ذلك، فإنّ جميعه لكافّة المسلمين، المقاتل منهم وغير المقاتل والغائب منهم والحاضر على السواء[14].

وهو كما ترى مؤكّد لما سبقه واقتصر فيه على ذكر مجرّد كونها لكافّة المسلمين.

6ـ وقال السيّد أبو المكارم ابن زهرة (المتوفّى سنة 585ﻫ) في كتاب الجهاد من الغنية: وما لم يحوه العسكر من غنائم مَن خالف الإسلام من الكفّار من أرضٍ وعقارٍ وغيرها فالجميع للمسلين المقاتل منهم وغير المقاتل والحاضر والغائب، وهذه الأرض المفتتحة عنوةً بالسيف...

ثُمّ تعرّض لأرض الصلح الّتي هي أرض الجزية وأرض الأنفال، فراجع[15].

فقد بيّن المراد بالمفتوحة عنوةً وحكم بوضوح أنّها للمسلمين قاطبة ولازمه أن يكون عوائدها أيضاً لهم.

7ـ وقال الشيخ أبو الحسن الحلبي (الّذي هو من أعلام القرن السادس الهجري) في كتاب الجهاد من إشارة السبق: وتقسم الغنيمة المنقولة بين المجاهدين... وما لا يمكن نقله من العقارات والأرضين فيء لجميع المسلمين بحاضرهم وغائبهم ومقاتلهم وغيره، والأرض إمّا أن تكون مفتّحة بالسيف عنوةً فلا يصحّ التصرّف فيها ببيع ولا هبة ولا غيرهما بل حكمها ما ذكرناه، وإلى الإمام تقبيلها والحكم فيها بما شاء ويلزم المتقبّل بعد أداء ما عليه من حقّ القبالة الزكاة إذا بلغ ما بقي له النصاب.

ثُمّ تعرّض لأرض الصلح الّتي هي أرض جزية ولأراضي الأنفال ولأرض أسلم أهلها عليها، فراجع[16].

فتراه قد حكم على الأرض والعقارات المفتوحة عنوةًَ أنّها ملك لجميع المسلمين وبيد الإمام، ولا يجوز التصرّف الناقل فيها.

8ـ وقال الكيدري (الّذي هو من أعلام القرن السادس الهجري) في الفصل السابع من كتاب الزكاة من إصباح الشيعة ـ عند التعرّض لحكم الأقسام الأربعة للأرض ـ: وكلّ أرض أخذت بالسيف عنوةً فهي للمسلمين قاطبة للمقاتلة وغيرهم يقبّلها الإمام ممّن يقوم بعمارتها بما يراه... فلا يصحّ التصرّف في هذا النوع بالبيع والوقف وغير ذلك، وللإمام التصرّف فيه حسب ما يراه من مصلحة المسلمين، وأن ينقله من المتقبّل إلى آخر إذا انقضت مدّة زمانه، وارتفاع ذلك يصرف إلى المسلمين ومصالحهم[17].

فقد صرّح كما ترى بأنّ الأرض المفتوحة عنوةً لقاطبة المسلمين وبيد الإمام وبأنّ عوائدها تصرف إلى مصالح المسلمين وبأنّه لا يجوز التصرّف فيها تصرّفاً ناقلاً كالبيع والوقف.

9ـ وقال ابن إدريس (المتوفّى سنة 598ﻫ) في كتاب الزكاة من السرائر: باب أحكام الأرضين وما يصحّ التصرّف فيه منها بالبيع والشراء وما لا يصحّ، الأرضون على أربعة أقسام: ضربٌ منها أسلم أهلها عليها طوعاًَ من قِبل نفوسهم من غير قتال مثل أرض المدينة فيترك في أيديهم... وهي ملك لهم ... والضرب الثاني من الأرضين ما أخذ عنوةً بالسيف ـ عنوةً (بفتح العين) وهو ما أخذ عن خضوع وتذلّل، قال الله تعالى ﴿وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ﴾ أي خضعت وذلّت ـ فإنّ هذه الأرض تكون للمسلمين بأجمعهم، المقاتلة وغير المقتالة، وكان على الإمام لمن يقوم بعمارتها بما يراه من النصف أو الثلث أو الربع إلى غير ذلك، وكان على المتقبّل إخراج ما قبِل به من حقّ الرقبة، يأخذه الإمام فيخرج منه الخمس يقسّمه على مستحقّيه: والباقي منه يجعله في بيت مال المسلمين يصرف في مصالحهم، ومن سدّ الثغور وتجهيز الجيوش وبناء القناطر وغير ذلك... وهذا الضرب من الأرضين لا يصحّ التصرّف فيه بالبيع والشراء والوقف والهبة وغير ذلك ـ أعني نفس الرقبة ـ فإن قيل: نراكم تبيعون وتشترون وتنفقون أرض العراق وقد أخذت عنوةً، قلنا: إنّما نبيع ونقف تصرّفنا فيها وتحجيرنا وبناءنا، فأمّا نفس الأرض لا يجوز ذلك فيها[18].

ثُمّ تعرّض لحكم أرض الصلح الّتي هي أرض الجزية وأرض الأنفال.

فهو (قدس سرّه) قد حكم بأنّ الأرض المفتوحة عنوةً لقاطبة المسلمين، وبأنّ فيها الخمس يخرج من خراجها، وبأنّها لا يجوز التصرّفات الناقلة لعين الأرض فيها، وبأنّ هذه الأرض بيد الإمام (عليه السلام) يقبّلها مَن يريد ويصرف عوائدها في مصالح المسلمين.

وقال أيضاً في باب قسمة الفيء وأحكام الأسارى من كتاب الجهاد من السرائر: كلّ ما غنمه المسلمون من المشركين... بعد إخراج الخمس... على ضربين: ضربٌ منه للمقاتلة خاصّة دون غيرهم من المسلمين، وضربٌ هو عامٌ لجميع المسلمين مقاتلهم وغير مقاتليهم، فالذي هو لجميع المسلمين فكلّ ما عدا ما حواه العسكر من الأرضين والعقارات وغير ذلك فإنّه بأجمعه فيء للمسلمين مَن غاب منهم ومَن حضر على السواء، وما حواه العسكر يقسّم بين المقاتلة خاصّة ولا يشركهم فيه غيرهم[19].

فهنا أيضاً قد تعرّض للأرض والعقارات وغيرها ممّا لم يحوها العسكر وكانت مغنومة من المشركين، ولا محالة تكون مأخوذة عنوةً وبالسيف وقد أفتى بوجوب الخمس فيها وأنّها بعد إخراج الخمس تكون لجميع المسلمين.

10ـ وقد تعرّض المحقّق (قدس سرّه) للمسألة في الشرائع والمختصر النافع:

ألف: فقال في كتاب الجهاد من الشرائع ـ بعد تقسيم غنائم الحرب إلى أقسام ثلاثة ـ الطرف الخامس في أحكام الغنيمة، والنظر في الأقسام، وأحكام الأرضين المفتوحة، وكيفية القسمة...: الثاني في أحكام الأرضين: كلّ أرض فُتحت عنوةً كانت مَحياة فهي للمسلمين قاطبة والغانمون في الجملة، والنظر فيها إلى الإمام، ولا يملكها المتصرّف على الخصوص، ولا يصحّ بيعها ولا هبتها ولا وقفها، ويصرف الإمام حاصلها في المصالح مثل سدّ الثغور ومعونة الغزاة وبناء القناطر، وما كانت مواتاً وقت الفتح فهو للإمام خاصّة ولا يجوز إحياؤه إلاّ بإذنه إن كان موجوداً...

ثُمّ تعرّض لأرض الصلح وقسّمها قسمين، ولأرضٍ أسلم أهلها عليها طوعاً، فراجع[20].

ب ـ وقال في كتاب الجهاد من المختصر النافع: النظر الثالث في التوابع، وهي أربعة:... الثالث في أحكام الأرضين: وكلّ أرض فُتحت عنوةً وكانت مُحياة فهي للمسلمين كافّة، والغانمون في الجملة، لا تباع ولا توقف ولا توهب ولا تملك على الخصوص، والنظر فيها إلى الإمام يصرف حاصلها في المصالح، وما كان مواتاً وقت الفتح فهو للإمام لا يُتصرّف فيه إلاّ بإذنه.

ثُمّ تعرّض لقسمي أرض الصلح ولأرضٍ أسلم أهلها طوعاً وللأرض الموات بالأصل أو بالعرض، فراجع[21].

فما أفتى به في كتابيه متّحد لمّا مر في كلمات غيره إلاّ أنّه صرّح بأنّ خصوص المُحياة من الأرض تكون مفتوحة عنوةً وللمسلمين، وأمّا الأراضي الموات وقت الفتح فهي للإمام[22].

11ـ وقد تعرّض أيضاً العلاّمة للمسألة في كتبه ذكر منها ما يلي:

ألف: قال في كتاب الجهاد من القواعد ـ بعد تقسيم غنائم الحرب إلى ما ينقل وما لا ينقل وما هو سبي ـ: الثاني ما لا ينقل يخرج منه الخمس، إمّا بإفراز بعضه أو بإخراج خمس حاصله، والباقي للمسلمين قاطبة لا يختصّ به الغانمون، مثل الأرض، فإن فُتحت عنوة: فإن كانت مُحياة فهي [فيء ـ خ] للمسلمين قاطبة لا يختصّ بها الغانمون والنظر فيها إلى الإمام، ولا يصحّ بيعها ولا وقفها ولا هبتها، ولا يملكها التصرّف فيها على الخصوص، ويقبّلها الإمام لمن يراه بما يراه حظّاً للمسلمين، ويصرف حاصلها في مصالحهم كسدّ الثغور وبناء القناطر ومعونة الغزاة وأرزاق الولاة والقضاة وما أشبهه، ولو ماتت لم يصحّ إحياؤها لأنّ المالك لها معروف وهو المسلمون كافّة. وما كان منها مواتاً حال الفتح فللإمام خاصّة لا يجوز إحياؤها إلاّ بإذنه[23].

فقد فصّل في المفتوحة عنوةً فجعل مواتها للإمام (عليه السلام) ومُحياتها للمسلمين قاطبة بعد إخراج خمسها أو خمس حاصلها، وحكم بأنّها لا يصحّ التصرّفات الناقلة للملك فيها، وبأنّ هذه الأرض بيد الإمام لم يصرف حاصلها في مصالح المسلمين.

ب: وقال في كتاب الجهاد من إرشاد الأذهان: المطلب الثالث في الأرضين، وهي أربعة: الأوّل المفتوحة عنوةً للمسلمين قاطبة، ويتولاّها الإمام، ولا يملكها المتصرّف على الخصوص، ولا يصحّ بيعها ولا وقفها ويصرف الإمام حاصلها في مصالح المسلمين... ومواتها وقت الفتح للإمام خاصّة ولا يجوز إحياؤها إلاّ بإذنه[24].

فقد فصّل بين الأرض المُحياة من المفتوحة عنوةً والموات منها، فحكم بأنّ الموات منها للإمام، والمُحياة للمسلمين قاطبة، وهي بيد الإمام، ويصرف حاصلها في مصالح المسلمين، ولا يجوز التصرّف الناقل فيها.

ج ـ وقال في كتاب الجهاد من التذكرة ـ بعد تقسيم غنائم الحرب إلى ما ينقل كالأمتعة وما هو سبي وما لا ينقل كالأراضي ـ: البحث الثالث في أحكام الأرضين:

مسألة 108: الأرضون على أربعة أقسام: الأوّل ما يملك بالاستغنام من الكفّار ويؤخذ قهراً بالسيف، وهي تملك بالاستغنام كما تملك المنقولات، وتكون للمسلمين قاطبة لا تختصّ بها المقاتلة، بل يشاركهم غيرهم من المسلمين، ولا يفضل الغانمون على غيرهم أيضاً، بل هي للمسلمين قاطبة، ذهب إليه علماؤنا أجمع، وبه قال مالك... وقال الشافعي: يقسّم بين الغانمين كسائر الأموال، وبه قال أنس بن مالك والزبير وبلال، وقال الثوري: يتخيّر الإمام بين قسمتها ووقفها وأن يقرّ أهلها عليها ويضرب عليها الخراج يصير حقّاً على رقبة الأرض لا يسقط بالإسلام...[25].

مسألة 109: الأرض المأخوذة بالسيف عنوةً يقبّلها الإمام لمن يقوم بعمارتها بما يراه من النصف وغيره... فلا يصحّ التصرّف في هذه الأرض بالبيع والشراء والوقف وغير ذلك، وللإمام أن ينقله من متقبّل إلى غيره إذا انقضت مدّة قبالته وله التصرّف فيه بما يراه من مصلحة المسلمين، وارتفاع هذه الأرض ينصرف إلى مصالح المسلمين بأجمعهم وفي مصالحهم... إذا عرفت هذا فإنّ هذه الأرض للمسلمين قاطبة إن كانت مُحياة وقت الفتح لا يصحّ بيعها ولا هبتها ولا وقفها، بل يصرف الإمام حاصلها في المصالح كسدّ الثغور ومعونة الغزاة وبناء القناطر وأرزاق القضاة والولاة وصاحب الديوان وغير ذلك من المصالح، وأمّا الموات منها وقت الفتح فهي للإمام خاصّة ولا يجوز لأحد إحياؤه إلاّ بإذنه إن كان ظاهراً... إذا عرفت هذا فإذا زرع فيها أحد أو بنى أو غرس صحّ له بيع ما له فيها من الآثار، وحقّ الاختصاص فيها بالتصرّف لا بيع الرقبة لأنّها ملك المسلمين قاطبة، روى أبو بردة بن رجا أنّه سأل الصادق (عليه السلام): كيف ترى في شراء أرض الخراج... فذكر الحديث بتمامه[26].

فهو (قدس سرّه) في المسألة الأولى قد أفتى بأنّ الأرض المأخوذة بالسيف ملكٌ للمسلمين قاطبة وقال بأنّه ذهب إليه علماؤنا أجمع. وفي المسألة الثانية أكّده بأنّ هذه الأرض بيد الإمام يقبّلها لمن يراه بما يراه ويصرف حاصلها في مصالح المسلمين، وأكّد أيضاً بأنّ هذه الأرض لا يجوز أن يتصرّف فيها بتصرّف ناقل أصلاًَ حتّى أنّ المتقبّل لها لا يجوز له أن يبيع الرقبة لأنّها ملك المسلمين وإنّما له أن يبيع حقّ اختصاصها أو ما له فيها من الآثار.

ثُمّ زاد في المسألة الثانية أنّ ما للمسلمين من المفتوحة عنوةًَ خصوص المُحياة منها وقت الفتح، وأمّا الموات منها وقت الفتح فهي للإمام خاصّة.

وقال أيضاً في جهاد التذكرة في المسألة 110: وأمّا أرض مكّة فالظاهر من المذهب أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فتحها بالسيف ثُمّ آمنهم بعد ذلك، وبه قال أبو حنيفة ومالك والأوزاعي... وأمّا أرض السواد ـ وهي الأرض المغنومة من الفرس الّتي فتحها عمر بن الخطاب ـ وهي سواد العراق... وسمّيت سواداً لأنّ الجيش لمّا خرجوا من البادية رأوا هذه الأرض والتفاف شجرها سمّوها السواد لذلك... قال الشيخ (رحمه الله): الّذي يقتضيه المذهب أنّ ـ فنقل عبارات الشيخ الماضية من جهاد المبسوط في سواد العراق إلى قوله: «لا يشركه فيها غيره» ثُمّ نقل عنه وعن الشافعي وأبي حنيفة وأحمد مساحة سواد العراق وما جعل عليها من الخراج إلى أن قال: ـ وقال بعض الشافعية: إنّ سواد العراق فُتح صلحاً، وهو محكيّ عن أبي حنيفة، وقال بعضهم: اشتبه الأمر عليَّ فلا أدري أفُتح عنوةً أو صلحاًَ؟ ثُمّ اختلفت الشافعية، فقال بعضهم: إنّ عمر جعل الأربعة الأخماس الباقية من الأرض لأهل الخمس عوضاً لهم عن نصيبهم من المنقولات من الغنيمة فصارت الأرض لأهل الخمس والمنقولات للغانمين، وقال بعضهم: إنّه قسّمها بين الغانمين ولم يخصّها بأهل الخمس ثُمّ استطاب قلوبهم عنها واستردّها، فقال الأكثرون: إنّه بعد ردّها وقفها على المسلمين وآجرها من أهلها، والخراج المضروب عليها أجرة منجّمة تؤدّى في كلّ سنة. وهو نصّ الشافعي في كتاب الرهن، قال سفيان الثوري: جعل عمر السواد وقفاً على المسلمين ما تناسلوا. وقال بعضهم: إنّه باعها من أهلها والخراج ثمن منجّم لأنّه لم يزل الناس يبيعون أرض السواد ويشترون من غير إنكار... وقال بعضهم: إنّه وقفها وقفاً لا مؤبّداً محرّماً بل جعلها موقوفة على مصالح المسلمين ليؤدّي ملاّكها على تداول الأيدي وتبدّلها بالبيع والشراء خراجاًُ ينتفع به المسلمون؛ فيجوز بيعها وهبتها ورهنها على الثاني لا الأوّل، ويجوز على الوجهين لأربابها إجارتها مدّة معلومة...

هذا فيما يزرع ويغرس من الأراضي، وأمّا المساكن والدور فإن قلنا: إنّ تلك الأراضي مبيعة من أربابها فكذا المساكن والدور، وإن قلنا: موقوفة فوجهان[27].

وغرضنا من نقل كلامه في سواد العراق بهذا الطول أن نستفيد ممّا أفاده من أقوال العامّة فيما سيأتي إن شاء الله تعالى.

د ـ وقال في كتاب الجهاد من المنتهى: البحث الثالث في أحكام الأرضين: الأرضون أربعة أقسام، أحدها يُملك بالاستغنام ويؤخذ قهراً بالسيف، فإنّها تكون للمسلمين قاطبة، فلا يختصّ بها المقاتلة بل يشاركهم غير المقاتلة من المسلمين، وكما لا يختصّون بها كذلك لا يفضّلون، بل هي للمسلمين قاطبة، ذهب إليه علماؤنا أجمع وبه قال مالك. وقال الشافعي: إنّها تقسم بين الغانمين كسائر الأموال. وبه قال أنس بن مالك والزبير وبلال. وقال قوم: إنّ الإمام مخيّر بين القسمة والوقف على المسلمين. ورواه الجمهور عن عليّ (عليه السلام) وعمر، وبه قال الثوري، وقال أبو حنيفة: الإمام مخيّر بين ثلاثة: بين قسمتها ودفعها وأن يقرّ أهلها ويضرب عليهم الخراج يسيراً حقّاً على رقبة الأرض لا يسقط بالإسلام... ثُمّ استدلّ لإثبات مرامه، فراجع[28].

مسألة: وهذه الأرض المأخوذة بالسيف عنوة [يقبّلها ـ ظ] الإمام لمن يقوم بعمارتها بما يراه من النصف أو الثلث... وهذا من الأرضين لا يصحّ التصرّف فيها بالبيع والشراء والوقف وغير ذلك، وللإمام أن ينقله من متقبّل إلى غيره إذا انقضت مدّة ضمانه، وله التصرّف فيه بحسب ما يراه من مصلحة المسلمين، وارتفاع هذه الأرض ينصرف إلى المسلمين بأجمعهم وإلى مصالحهم، وليس للمقاتلة خصوصاً إلاّ ما يحويه العسكر... ثُمّ استدلّ لإثبات مرامه بخبري البزنطي ورواية مصعب بن يزيد الأنصاري، فراجع[29].

فقد أفتى بأنّ الأراضي المفتوحة قهراً بالسيف وهي المفتوحة عنوةً للمسلمين قاطبة وقال: «ذهب إليه علماؤنا أجمع» ثُمّ أفتى بأنّها لا يجوز التصرّفات الناقلة فيها وبأنّها في يد الإمام يأخذ منها الخراج من عوائدها وبأنّ ارتفاع هذه الأرض تصرف إلى مصالح المسلمين.

مسألة: قد بيّنّا أنّ الأرض المأخوذة عنوةً لا يختصّ بها الغانمون بل هي للمسلمين قاطبة إن كانت مُحياة وقت الفتح، ولا يجوز بيعها ولا هبتها ولا وقفها، بل يصرف الإمام حاصلها في المصالح مثل سد الثغور ومعاونة الغزاة وبناء القناطير، ويخرج منها أرزاق القضاة والولاة وصاحب الديوان وغير ذلك من مصالح المسلمين، وأمّا الموات منها وقت الفتح فهي للإمام خاصّة ولا يجوز لأحد إحياؤها إلاّ بإذنه إن كان موجوداً...[30].

وهذا كما ترى تأكيد لما سبق إلاّ أنّه يفيد أنّ أحكام المفتوحة عنوةً الماضية تختصّ بالمُحياة وقت الفتح وإلاّ فالموات خاصّ بالإمام كسائر الأنفال.

مسألة: قد بيّنّا أنّ أرض الخراج وهي المأخوذة عنوةً بالسيف إذا كانت مُحياةً لا يجوز بيعها ولا هبتها ولا وقفها لأنّها أرض المسلمين قاطبة وقفاً عليهم، فلا يتخصص بها أحد على وجه التملك لرقبة الأرض، إنّما يجوز التصرّف فيها ويؤدّى حقّ القبالة إلى الإمام، ويخرج أيضاً الزكاة منها مع اجتماع الشرائط، وإذا تصرّف أحد بالبناء والغرس صحّ له بيعها، على معنى أنّه بيع ما له فيها من الآثار وحقّ الاختصاص بالتصرّف لا بالرقبة، لأنّها ملك المسلمين قاطبة... ثُمّ استدلّ للجواز المدّعى برواية أبي بردة بن رجا وصحيح محمّد بن مسلم وحسن حريز، فراجع[31].

وهذا كما ترى تأكيد أكثر على أنّ الأرض ملكٌ للمسلمين لا يجوز التصرّف الناقل لها عن ملكهم، وإنمّا يجوز بيع حقّه فيها.

مسألة: أرض السواد هي الأرض المغنومة من الفرس الّتي فتحها عمر بن الخطّاب، وهي سواد العراق... وهذه الأرض فُتحت عنوةً... قال الشيخ: الّذي يقتضيه المذهب أنّ هذه الأراضي... ـ فنقل كلام الشيخ المذكور عن الفهرست كما في التذكرة، إلاّ أنّه لم ينقل أقوال العامّة في فتحها عنوةً ولا فيما فعل عمر بها، فراجع ـ[32].

فهذه كلمات العلاّمة في هذه الكتب الأربعة، وقد عرفت أنّه موافق لسائر الأصحاب فيما أفاد، كما ذكرنا ذيل كلّ من مقاطع كلماته.

12ـ وقال الشهيد في جهاد الدروس: تقسّم الغنيمة المنقولة بعد الجعائل والمؤن ثُمّ الخمس بين المقاتلة ومَن حضر قبل القسمة... وما لا ينقل من الأرضين والعقارات فهو للمسلمين قاطبة، والنظر فيه إلى الإمام[33].

وقال أيضاً:... ولا يجوز التصرّف في المفتوحة عنوةً إلاّ بإذن الإمام (عليه السلام)، سواء كان بالوقف أو بالبيع أو غيرهما، نعم في حال الغَيبة ينفذ ذلك، وأطلق في المبسوط أنّ التصرّف فيها لا ينفذ. وقال ابن إدريس: إنّما يباع ويوقف تحجيرنا وبناؤنا وتصرّفنا لا نفس الأرض[34].

وهو (قدس سرّه) أيضاً قد حكم بأنّ الأرض المغنومة في الحرب المفتوحة عنوةً للمسلمين قاطبة بيد الإمام، ومنع التصرّف فيها بدون إذنه، إلاّ أنّ ظاهر ذيله جواز التصرّفات الناقلة فيها بإذن الإمام في زمن الحضور وعدم اعتبار إذنه أيضاً في التصرّف فيها في حال الغَيبة. وسيجيء إن شاء الله تعالى الكلام في الأمرين.

هذه كلمات هؤلاء الأساطين من الأصحاب الكرام (قدس سرّهم)، وقد عرفت اتفاق كلمتهم على أنّ مُحياة الأرض المفتوحة عنوةً لقاطبة المسلمين بل ادّعى عليه الإجماع الشيخ (قدس سرّه) في مواضع من الخلاف والعلاّمة في التذكرة والمنتهى، واتفقوا أيضاً على أنّها بيد الإمام وخراجها يصرف إلى مصالح المسلمين.

وقال المحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان في المفتوحة عنوةً: ونقل ـ يعني العلاّمة ـ في المنتهى والتذكرة إجماعنا على كونها للمسلمين قاطبة... وسيظهر كون المراد بما كان له هذا الحكم المعمورة منها حال الفتح والقهر والغلبة، دون مواتها حينئذٍ، فإنّها للإمام (عليه السلام) كسائر الموات الّتي ليست ملكاً لأحد ولم يجر عليها يد الملكية بالاتفاق[35].

وقال صاحب الرياض ـ عند قول الماتن: «فهي للمسلمين كافّة» ـ: إلى يوم القيامة. «والغانمون في الجملة» كشركة باقي المسلمين من غير خصوصيّة، بإجماعنا الظاهر المستفاد من جماعة للمعتبرة المستفيضة...[36].

وقال صاحب الجواهر في كتاب الجهاد ـ ذيل قول الماتن: «فهي للمسلمين قاطبة، والغانمون في الجملة» ـ: بلا خلاف أجده في شيء من ذلك بيننا... بل في الغنية والمنتهى وقاطعة اللجاج للكركي والرياض وموضعين من الخلاف بل والتذكرة على ما حكى عن بعضها الإجماع عليه، بل هو محصّل[37].

ولنكتف بهذا المقدار من نقل كلمات الأعلام ولنرجع بالتفصيل إلى أدلّة المسألة وأن مقتضاها ما هو؟ فنقول: إنّه بملاحظة ما مرّ من كلماتهم لابدّ من البحث عن مسائل:

فنبحث أوّلاً عن أنّ الأراضي المفتوحة عنوةً ملكٌ للمسلمين ثُمّ عن أنّه هل يفرّق في هذا الحكم بين زمان الحضور والغَيبة، ثُمّ عن اختصاص ملكهم بخصوص المُحياة منها وكون الموات منها من الأنفال وملكاً للإمام (عليه السلام)، ثُمّ عن أنّ الدور والأبنية والعقار أيضاً بحكم الأراضي، ثُمّ عن أنّ حكم الأراضي المفتوحة عنوةً هل يختصّ بما أُخذت من الكفّار، ثُمّ عن تعلّق الخمس بنفس الأرض أو خراجها.

فالمسألة الأولى في أنّ الأراضي المفتوحة عنوة ملك للمسلمين، وقد عرفت اتفاق كلمة الأصحاب عليه وأنّ الشيخ في مواضع من الخلاف والعلاّمة في التذكرة والمنتهى ادّعيا إجماع الأصحاب عليه كما أنّ صاحب الجواهر بعد نقله الإجماع عن جمع قال: بل هو محصّل.

إلاّ أنّك خبير بأنّه لا مجال للاستدلال بهذا الإجماع، فإنّه قد وردت هنا أخبار معتبرة السند يحتمل بل يطمأن أنّها أدلّة قول المجتمعين، فالإجماع لا مجال للاستدلال به.

ــــــــــــــــــ

[1] المقنعة: 274.

 [2] النهاية ونكتها: ج1 ص445ـ447.

 [3] النهاية ونكتها: ج2 ص219ـ221.

 [4] المبسوط: ج1 ص235ـ236.

 [5] المبسوط: ج2 ص33ـ 34.

 [6] الخلاف: ج2 ص67ـ70.

[7] الخلاف: ج4 ص189.

 [8] الخلاف: ج4 ص194ـ197.

 [9] الخلاف: ج4 ص181.

 [10] الخلاف: ج5 ص534ـ535.

 [11] الكافي في الفقه: ص259ـ262.

 [12] المراسم: ص142ـ143.

 [13] المهذّب: ج1 ص181ـ183.

[14] المهذّب: ج1 ص186.

[15] الغنية: ص204.

[16] أشارة السبق: ص145.

[17] إصباح الشيعة: ص122.

[18] السرائر: ج1 ص476ـ478.

[19] السرائر: ج2 ص9.

[20] شرائع الإسلام: ج1 ص320ـ323 مطبعة الآداب ـ النجف الأشرف.

[21] المختصر النافع: ص191 طبع مؤسسة البعثة ـ قم.

[22] القواعد: ج1 ص492ـ 493.

[23] القواعد: ج1 ص492ـ493.

 [24] إرشاد الأذهان: ج2 ص347.

[25] التذكرة: ج9 ص119 و183ـ184.

[26] التذكرة: ج9 ص186ـ187.

[27] التذكرة: ج9 ص188ـ 193.

[28] منتهى المطلب: ج2 ص934ـ936 الطبعة الحجرية.

[29] منتهى المطلب: ج2 ص934ـ936 الطبعة الحجرية.

30] نفس المصدر.

[31] نفس المصدر.

[32] منتهى المطلب: ج2 ص936 و937 الطبعة الحجرية.

[33] الدروس: ج2 ص35 الدرس130.

[34] الدروس: ج2 ص40 الدرس131.

[35] مجمع الفائدة والبرهان: ج7 ص470.

[36] الرياض: ج7 ص545.

[37] الجواهر: ج21 ص157.