الولادة والنشأة

ولد الشهيد آية الله الدكتور محمد مفتح عام 1307هــ.ش [1928] في مدينة همدان من عائلة علمائية.

والده المرحوم حجة الإسلام الحاج الشيخ محمود مفتح كان من وعاظ همدان ومعروفاً بالزهد والتقوى، قضى خمسين عاماً من عمره المبارك في الوعظ والإرشاد وخدمة أهل بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام).

كان الشهيد مفتح منذ نعومة أظفاره يرافق والده إلى مجالس وعظه، ويستشعر حبّ والده لأهل البيت (ع) بكل وجوده. ثم إلى جانب دراسته الابتدائية في المدارس الحكومية، درس الشهيد مفتح مقدمات اللغة العربية على يد والده، ثم التحق بمدرسة المرحوم آية الله آخوند ملاّ علي وواصل دروسه الحوزوية.

ونظراً لموهبته وحبّه الوافر للتحصيل العلمي، فقد استطاع الشهيد اجتياز المرحلة الدراسية بسرعة بحيث هاجر إلى قم عام 1322هــ ش [1943م] لمواصلة الدراسة ولمّا يبلغ الخامسة عشرة من عمره. 

تكامل الشخصية، بدء الكفاح، التحرك نحو الوحدة

وفور وصوله إلى قم أقام في حجرة في دار الشفاء، وعكف على تحصيل العلوم الدينية على يد كبار الأساتذة أمثال الإمام الخميني (قده) والعلامة الطباطبائي، وآية الله الداماد، وآية الله حجت، و...، وأنهى دورة كاملة من بحث الخارج ونال درجة الاجتهاد، وأصبح جامعاً للمنقول والمعقول، وبدأ التدريس في الحوزة، بحيث نالت دروسه خصوصاً الفلسفة منها شهرة وأضحت مورد إقبال فضلاء الحوزة.

وإلى جانب الدروس الحوزوية، أكبّ الشهيد على تحصيل العلوم الجديدة وتخطّى المراحل الدراسية المختلفة، ونال بعد مدّة وجيزة شهادة الدكتوراه في الفلسفة. وعلى الرغم من الوضع المعيشي الصعب للشهيد ــ كسائر طلبة الحوزات ــ بحيث اضطر إلى تخصيص جزء من وقته لسدّ معاش أسرته، وكذا وضعه الدراسي في الحوزة والجامعة، لكن هذه الصعاب والجهود لم تشكل عائقاً أمام الشهيد لخوض غمار النشاطات الاجتماعية والسياسية، بل على العكس من ذلك كان من العناصر الفعّالة جداً في النشاطات الاجتماعية والسياسية بالحوزات العلمية، بل من الوجوه الطليعية في هذه النشاطات، وبالذات فيما يرتبط بنهضة الإمام الخميني (قده) من تدوين ونشر البيانات إلى إقامة المجالس والتظاهرات و...

وكانت لنشاطات الشهيد هذه، واحاطته بشؤون الحوزة والجامعة، دور كبير في أن يدرك مدى أهمية الوحدة بين هاتين المؤسستين، وأن يشعر بكل وجوده بالمؤامرات الاستعمارية لفصل هاتين الشريحتين. وإيماناً منه بالوحدة دخل هذا الميدان وسعى جاهداً لإفشال هذه المؤامرة. لهذا ــ ورغم كونه مدرساً معروفاً في الحوزة العلمية بقم ــ بدأ التدريس في المدارس الثانوية بمدينة قم، وبذلك خطا أول خطوة عمليّة في هذا الطريق.

وعلاوة على ذلك أقدم الشهيد على تأسيس مركز لطلبة الحوزات والمدارس في قم، وكانت تعقد فيه الجلسات الأسبوعية، ويشارك فيها عدد كبير من طلبة الحوزة والمدارس، يتم خلالها تعرّف بعضهم ببعض والتباحث في أمور دينهم. وقد تعاون الشهيد المظلوم الدكتور بهشتي تعاوناً كبيراً وحميماً مع هذا المركز.

كما كان تعاونه هو والشهيد بهشتي في مدرسة (الدين والعلم). بقم خطوة أخرى على هذا الطريق. وكانت للشهيد مفتح نشاطات أخرى، كتربية الجيل المثقف، ونشر المعارف الإسلامية، والكفاح ضد الحكومة الملكية، والسعي إلى إقامة حكومة إسلامية.

فرغم مشاغله ونشاطاته الاجتماعية الكثيرة، لم يغفل الشهيد عن فضح النظام الطاغوتي الحاكم في إيران في كل فرصة سنحت له، خصوصاً من على المنابر؛ ولهذا فقد منع مرات عديدة من ارتقاء المنبر ونفي مرات أخرى.

ومع بدء قيام الإمام الخميني (قده)، كان الشهيد مفتح إلى جانبه في قيامه هذا، فاعتُقل مرات عديدة نتيجة ارتقائه المنابر في مدن آبادان وخرمشهر والأهواز و... ونفي عدة مرات، إلاّ أن الشهيد لم يتراجع لحظة واحدة عن دعمه لثورة الإمام (قده)، وكلّما سنحت له فرصة يبدأ بفضح النظام، إلى أن اعتقل في النهاية ونفي ومُنع من دخول محافظة خوزستان.

ومن أجل وضع الأسس الفكرية للثورة الإسلامية أقدم الشهيد على تشكيل جلسات تحت عنوان (المجمع العلمي للدراسات الإسلامية)، ودعا فيه الفضلاء والكتاب للتباحث وتدارس أهم القضايا الإسلامية والسياسية، ثم طباعتها في كتب أو على شكل مقالات. واستطاع هذا المجمع ــ رغم عمره القصير ــ نشر كتب قيّمة مثل:

(الإسلام طليعة الثورات، الدنيا وخطر السقوط، الشيعة والحكام المستبدون، نظرة أمير المؤمنين (ع) للكون وإدارة العالم، الدعاء عامل تقدم أم جمود، نتائج الاستعمار، زوجات النبي (ص)، الزيارة خرافة أم حقيقة، فتى النيل أو رجل الثورة، الخرافة والخدعة).

لكن عندما أحسّ الساواك بخطورة هذا العمل على سياسات النظام، أقدم على تعطيل هذه الجلسات رغم الاحتجاجات الكثيرة.

ومضافاً إلى كل هذه النشاطات، كانت للشهيد كتابات في مجلات إسلامية نظير (مكتب اسلام، مكتب تشيع، معارف جعفري)، كما ساهم مع آية الله حسين نوري الهمداني في ترجمة تفسير مجمع البيان للطبرسي.

وللشهيد مؤلفات عدة، منها كتاب في علم المنطق باسم (روش انديشه) أي أسلوب التفكير، وكذا حاشية على (الأسفار) لملا صدرا حيث كانت ثالث حاشية للكتاب، وذلك ما دلّ على عمق الفكر الفلسفي لدى الشهيد.

وكذا يمكن عدّ مساهمته في تأسيس جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، وتأسيس مدرسة حقّاني، وكتابة البيانات المختلفة باسم فضلاء ومدرسي الحوزة العلمية، و... من نشاطاته الأخرى.

هذه النشاطات الواسعة للشهيد، لم تكن بمنأى عن مراقبة النظام واستنكاره لها واتخاذ المواقف تجاهها؛ فقد ضرب الشهيد ضرباً مبرحاً أثناء الهجوم على المدرسة الفيضية، ومنع من مزاولة نشاطاته مرات عديدة.

لكن في نهاية الأمر، وعندما عجز النظام عن وضع حدّ لنشاطات الشهيد، وشعر بالتأثير البليغ في أعماله وأقواله على مستوى الحوزات والمدارس الثانوية بقم، أقدم النظام على إخراجه من التربية والتعليم، ونفيه إلى إحدى المناطق الجنوبية الحارة. 

 

الهجرة إلى طهران، تأسيس مراكز الكفاح ضد النظام

بعد انقضاء فترة النفي، منع الشهيد مفتح من الدخول إلى قم، فاضطر إلى السكن في طهران العاصمة، ممّا خلق جواً من الاستياء الشديد لدى طلاب الحوزة العلمية، فحاول النظام أن يمتص هذه النقمة من جهة ويخضع الشهيد لسيطرته التامة من جهة ثانية، فسمح له بالتدريس في كلية الإلههيات بطهران. فبدأ الشهيد مرحلة جديدة من الكفاح العلمي والسياسي والاجتماعي ضد النظام الطاغوتي.

واستطاع الشهيد من خلال القاء الدروس في الجامعة، وإمامة الجامعة فيها، وإلقاء الدروس والمحاضرات وإقامة الأنشطة المختلفة في مساجد متعددة بطهران من اجتذاب الشباب إلى الإسلام والمعارف الإسلامية.

 

مسجد جاويد، متراس للنضال ضد الظلم والإلحاد والالتقاط والانحراف

وبقبوله لإمامة مسجد جاويد عام 1352هــ ش، أقام الشهيد قاعدةً أخرى لاجتماع القوى الثورية، ومتراساً آخر للدفاع عن الإسلام الأصيل، وفتح جبهةً جديدة لمحاربة النظام الطاغوتي؛ فبدأ نشاطه بتأسيس مكتبة عامة في المسجد، ثم شكل جلسات مختلفة في أصول العقائد الإسلامية والفلسفة والاقتصاد وتفسير القرآن ونهج البلاغة واللغة العربية وتاريخ الأديان وعلم الاجتماع لطلبة وطالبات الجامعات، كما شكل جلسات أخرى لتلامذة المدارس، وبذلك خطا خطوات مؤثرة في توعية الجماهير وإعداد الأرضية اللازمة في سبيل تحقيق أهداف الثورة الإسلامية.

كما دعا شخصيات ثورية معروفة أمثال الشهيد باهنر إلى التدريس في المسجد، وشخصيات كبيرة أخرى أمثال الشهيد مطهري وولي أمر المسلمين الخامنئي (دام ظله) إلى القاء المحاضرات فيه.

وبمرور الزمان وازدياد نشاطات الشهيد مفتح أصبح مسجد جاويد مركزاً مهماً للكفاح. وشعر النظام بالخطر من استمرار نشاطات هذا المسجد، فأقدم في 3/9/1353هــ ش ــ وإثر محاضرة لقائد الثورة الإسلامية في المسجد يوم شهادة الإمام الصادق (ع)، وقد حضرها الآلاف من الجامعيين ــ على اعتقال الشهيد مفتح وكذا قائد الثورة الإسلامية آية الله العظمى الخامنئي (دام ظله)، وإغلاق المسجد. وقضى الشهيد شهرين كاملين في السجن تحت وطأة التعذيب النفسي والجسدي الشديدين. 

مسجد (قبا) قلب الثورة النابض

بعد عامين من إطلاق سراحه، وحينما عرض عليه إمامة مسجد بالقرب من حسينية الإرشاد، وجد الشهيد مفتح فرصة جديدة لمعاودة نشاطاته ضد النظام، فقبل العرض وسمّى هذا المسجد بمسجد (قبا)، ليذكر المجاهدين بأول مسجد بني في الإسلام على يد رسول الله (ص) ويحيي فيه المعارف الإسلامية الأصيلة.

بدأ نشاطه بتأسيس مكتبة عامة في المسجد وصندوق للقرض الحسن، وكذا إقامته مخيماً صيفياً للتلاميذ في باحة المسجد. كما أقام أول معرض للكتب الإسلامية في طهران. وكان لمحاضراته دور كبير في توعية الجماهير، وبذلك أصبح هذا المسجد إثر نشاطات الشهيد مفتح قاعدة رصينة في جهاد الشعب الإيراني ضد النظام الطاغوتي، وقد بلغت نشاطاته في هذا المسجد حدّاً بحيث جذبت إليه الجماهير الثورية بصورة منقطعة النظير خلال شهر رمضان المبارك في الأعوام 56 ــ 1357هــ ش، وألقت الرعب في قلوب أزلام النظام. 

خطوة عملية نحو تعميق وانتشار الثورة الإسلامية عالمياً

من جملة نشاطات الشهيد مفتح في سبيل اعطاء الثورة الإسلامية بعداً عالمياً، هو جمع التبرعات وإعانة إخوانه الشيعة في لبنان، خلال الحروب الداخلية التي أشعلها الكيان الصهيوني بمعية الحكومات الرجعية في المنطقة من أجل قمع الشيعة والثوار الفلسطينيين في لبنان. وكان يعتقد بأن العمل الأساس لأجل ارتقاء أوضاع الشيعة في لبنان هو الارتقاء بالمستوى التعليمي والثقافي لهم، ولهذا أعدّ الشهيد برنامجين أحدهما قصير الأمد والآخر طويل الأمد لهذا الأمر؛ ففي برنامجه القصير الأمد يسعى إلى تأمين وسدّ احتياجات عوائل الشهداء الشيعة في لبنان، وقد نجح في جمع التبرعات وإرسالها إلى لبنان وسدّ جانب من احتياجات الشيعة هناك.

أمّا برنامجه الطويل الأمد فكان يركز على تأسيس وإقامة مجمعات ومراكز تعليمية في لبنان، بهدف انقاذ الشيعة من حالة التخلّف التي يعيشونها، وبدأ عمله بشراء قطعة أرض هناك، إلاّ أن انتصار الثورة الإسلامية في إيران والوظائف والمسؤوليات الثقيلة التي وضعت على كاهله، ومن ثم شهادته، حالت دون إكمال هذا المشروع. كما قدم مساعدات وتبرعات مادية وغيرها إلى الإيرانيين الفارين من ظلم النظام إلى بيروت الذين كانوا يعانون الحرمان وقسوة العيش بسبب الحرب الداخلية. 

خطوة عملية نحو الوحدة بين الشيعة والسنة

من جملة الخطوات المؤثرة للشهيد مفتح على طريق الوحدة بين الشيعة والسنة، هي دعوته لمؤلف كتاب (الإمام علي "ع") عبد الفتاح عبد المقصود لزيارته إيران والالتقاء بالعلماء والتعرف بالتراث الثقافي للشيعة.

وقد كان لزيارة عبد الفتاح المقصود إلى إيران وإلتقائه كبار العلماء والتعرف بالتراث الثقافي للشيعة بالغ الأثر على نفس المؤلف بحيث كتب بعد عودته إلى بلده عن حياة الصديقة الزهراء (ع) وزينب (ع).

 

 

 

ولم ينسَ الشهيد مفتح خلال لقائه المؤلف فضح ماهية النظام البهلوي في إيران وكشف جرائمه بحق الشعب الإيراني المسلم، وكان لهذا العمل أثر في نفس المؤلف انعكس على محاضراته في بلده بفضحه النظام البهلوي الحاكم في إيران! 

شهر رمضان عام 1356هــ ش، صوم لجهاد أكبر

كانت سياسة أمريكا في ذلك العام مبنية على الدفاع عن (حقوق الإنسان) بما يتناسب مع أهدافها التوسعية! وعلى هذا الأساس تم طرح مشروع (الانفتاح السياسي) من قبل الشاه بأمر من أسياده الأمريكان. وما كان من الشهيد مفتح كسائر المجاهدين إلاّ واستغل هذه الحماقة من العدو أحسن استغلال، فأقدم في رمضان عام 1356 [1977م] على إقامة جلسات ومحاضرات في مسجد قبا ودعوة الشخصيات الممنوعة من ارتقاء المنبر إلى القاء المحاضرات، وبذلك خطا خطوات مؤثرة في فضح ماهية النظام، ممّا أدى إلى خلق حالة من الحماس والغليان في طهران. ويمكن القول إن هذه المجالس والبرامج كانت مقدمة لمرحلة جديدة من الثورة الإسلامية والتي أدت فيما بعد إلى قيام أهالي تبريز ويزد وشيراز و...

وقد أعلن الشهيد في أواخر هذا الشهر المبارك أنه سيصلي صلاة عيد الفطر في أراضي قيطرية بشمال طهران، وكانت هذه الخطوة الأولى لإحياء فريضة عيد الفطر المبارك في أرض مفتوحة وكذا خطوة أولى على التعبئة المليونية لجماهير حزب الله.

وفي صبيحة يوم العيد تحركت الجماهير المؤمنة صوب منطقة قيطرية، فبلغت حتى الساعة السابعة موعد إقامة الصلاة خمسين ألف مصلٍّ إلاّ أنها كانت محاصرة من قبل قوات الشرطة والجيش المدججة بالسلاح. هذا الاجتماع الذي لم يسبق له مثيل ألقى رعباً شديداً في قلوب الشاه وأذنابه، وقد تطرق الشهيد في خطبتي صلاة العيد إلى فضح ماهية النظام البهلوي والكيان الصهيوني، وكذا إلى توحيد الصفوف وضرورة الكفاح المنظّم والشامل بزعامة الإمام الخميني (ره). وكانت هذه المرة الأولى التي يذكر فيها الإمام الخميني (ره) بالتبجيل علناً وفي هكذا اجتماع جماهيري. 

شهر رمضان عام 1357هــ ش، إعداد لأعظم حركة جماهيرية في القرن

بعد القيام الملحمي لأهالي قم وتبريز ويزد و... وارتفاع مستوى الوعي السياسي وكذا الروح التضحوية لدى الناس، بات النظام عاجزاً أكثر ممّا مضى عن مواجهة التحركات الشعبية.

 ومع حلول شهر رمضان الكريم عام 1357هــ ش، بدأت الأزقة القريبة من مسجد قبا تمتلئ بالمستمعين منذ الليلة الأولى، وأصبح هذا المسجد مركزاً للمحاضرات والبرامج الثورية وفضح ممارسات ومؤامرات النظام الطاغوتي، ولم تنطل خدعة تغيير مجلس الوزراء، وتحويل التاريخ الملكي إلى التاريخ الهجري الشمسي على الجماهير الواعية. وكان الشهيد مفتح أول من فضح النظام في فاجعة سينما ركس بمدينة آبادان وذلك في الليلة الأولى من وقوعها.

وإضافة إلى الشهيد مفتح، كانت لشخصيات معروفة أخرى كالشهيد الدكتور محمد باهنر، وقائد الثورة الإسلامية آية الله العظمى الخامنئي (دام ظله) والسيد پرورش دور في ذلك العام في طرح أسس ومبادئ الثورة الإسلامية وفضح سياسات النظام.

ورغم محاصرة المسجد من قبل أزلام النظام، إلاّ أن الجماهير المؤمنة كانت تجتمع حتى قبل الإفطار في مسجد قبا، وتفطر هناك وتنتظر ساعات حتى بدء البرامج. وفي أواخر الشهر أعلن الشهيد مفتح أنه سيقيم صلاة العيد كالعام الماضي في منطقة قيطرية، وسوف يتحرك صباح العيد مكبّراً من مسجد قبا صوب منطقة قيطرية.

وحلّ يوم العيد وتحركت الجماهير المؤمنة خلف الشهيد مكبّرة صوب منطقة قيطرية، وأقيمت صلاة العيد بإمامته وبحضور أكثر من مائة ألف مجاهد.

وبعد انتهاء الصلاة، وقف الشهيد خلف مكبرة الصوت، وبدأ بفضح النظام وسياساته القمعية، وبعد ذلك أعلن الشهيد مفتح يوم (16 شهريور) عطلة عامة تكريماً للشهداء الذين سقطوا خلال شهر رمضان.

بعد انتهاء المراسيم تحركت الجماهير في تظاهرة عفوية صوب جنوب طهران مردّدة شعارات مناهضة للنظام. وبذلك انتهت أول تظاهرة جماهيرية عظيمة في جنوب طهران، وأعلن حينها عن اجتماع يوم الخميس صباحاً في قيطرية. وفي اليوم الموعود وعندما وصل الشهيد مفتح بمعيّة الجماهير إلى منطقة قيطرية، وجد المنطقة محاصرة من قبل قوات الجيش المدججة بالسلاح. فعزم الشهيد على التحرك مع الجماهير في تظاهرة صوب جنوب طهران. وبالفعل تحركت الجماهير وهي تردّد شعارات (نصر من الله وفتح قريب) و(الله أكبر) و(إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً). إلا أن قوات الجيش بدأت بإطلاق الغازات المسيلة للدموع، فقاومتها الجماهير بإشعال الحرائق. وفي الطريق هاجم مجموعة من عملاء النظام بحراب البنادق، الشهيد مفتح، فجرحوه بشدة وسقط الشهيد على الأرض، فحملته الجماهير إلى أحد المنازل القريبة، إلاّ أن الشهيد أوصاهم بالاستمرار في التظاهرة، وقال: "الشخص ليس مهماً، إنّما المهم هو الهدف، فاذهبوا وواصلوا التظاهرات".

في اليوم (السابع عشر من شهريور) أعلن النظام الساعة الخامسة صباحاً، الاحكام العرفية في اصفهان وإحدى عشرة مدينة أخرى من ضمنها طهران. إلا أن الشهيد لم يأبه بهذه الأحكام، وخرج من بيته متوجهاً إلى المستشفى لزيارة جرحى صدامات اليوم الماضي، وفي طريق عودته إلى المنزل اعتقل من قبل الساواك، ونقل إلى سجن مكافحة الشغب، وتعرض إلى تعذيب شديد لعلمهم بدوره الرئيسي في التظاهرات الماضية. لكن بعد شهرين من اعتقاله، وإثر اشتداد حدّة الثورة، اضطر النظام إلى فتح أبواب السجون، وكان الشهيد مفتح من جملة من أطلق سراحهم. 

تأسيس أهم محور في الجهاد ضد الطاغوت، والتحرك صوب توحيد صفوف الثوار المسلمين

رغم أن دور العلماء الثوريين كان بارزاً في أحداث الثورة، إلاّ أنهم كانوا يفتقرون إلى جمعيات منظمة ومنسجمة لتوحيد نشاطاتهم وكفاحهم؛ لهذا قرر الشهيد مفتح بمعيّة الشهيد مطهري وعلماء آخرين تأسيس "رابطة العلماء المجاهدين بطهران"، وقد حملت هذه الرابطة باقتراح من الشهيد مفتح وبأمر من الإمام الخميني (ره) على عاتقها إعلان وتنظيم مسيرات يومي التاسع والعاشر من محرم بطهران.

كما أقامت هذه الرابطة جلسات منظمة بحضور الشهيد مفتح، وآية الله مهدوي كني، والشهيد بهشتي، وآية الله موسوي أردبيلي وذلك بهدف عرض برنامج تحقيقي شامل حول الإسلام بالاستفادة من المتون الإسلامية الأصيلة. إلاّ أنه لم يكتب لها الاستمرار بسبب تصاعد وتيرة الثورة وتحمّل هذه الشخصيات لمسؤوليات ثقيلة في الثورة. 

عودة الإمام وانتصار الثورة الإسلامية

وعندما قرّر الإمام العودة إلى إيران ليقود الثورة من الداخل، تم تشكيل لجنة لاستقبال الإمام وعُيّن الشهيد مفتح بدعم من الشهيد مطهري مسؤولاً عليها، بحيث تمّ استقبال الإمام بتلك الصورة الملحمية التي شاهدها الجميع من على شاشات التلفزيون. ثم أمر الإمام الشهيد بتمشية أمور الشعب قبل تعيين الحكومة المؤقتة، فكان أهلاً للمسؤولية حقيقاً بها وذلك لإيمانه الراسخ بالثورة الإسلامية.

وإضافة إلى عضويته في مجلس قيادة الثورة، وتصدّيه لمسؤولية اللجان الثورية في المنطقة الرابعة بطهران، وافق الشهيد مفتح على رئاسة كلية الإلهيات بجامعة طهران وذلك بعد طلب الجامعيين منه واستشارة الشهيد مطهري.

ونظراً إلى إيمان الشهيد الراسخ بالدور المهم لكلية الإلهيات في نمو وتقدم الإسلام والثورة، فقد قرر تحويلها إلى مركز عالمي لنشر الإسلام والأفكار الدينية، فوضع منهجاً تدريسياً جديداً كان الحجر الأساس للثورة الثقافية في إيران الإسلام.

كما كان يؤمن بأن الكلية ينبغي أن تكون مركزاً لطرح الأفكار والعقائد المختلفة ودراستها ومناقشتها، ولهذا أقدم على تخصيص كرسي للفلسفة التطبيقية للأستاذ محمد تقي جعفري، وكرسي لفلسفة التاريخ للشهيد مطهري. وأصبحت الكلية ملتقى للعلماء والمفكرين والجامعيين، ومركزاً للتبادل العلمي والثقافي، يفد إليه وفود من داخل إيران الإسلام وخارجها.

واستمراراً لجهوده في مجال الوحدة بين الحوزة والجامعة، أقدم الشهيد مفتح في ذكرى استشهاد السيد مصطفى الخميني على إقامة ندوة بعنوان "الوحدة بين الحوزة والجامعة" في كلية الإلهيات، كانت هذه الأولى من نوعها في هذا المجال. تحدث خلالها الشيخ هاشمي الرفسنجاني والدكتور حسن حبيبي وزير التعليم العالي آنذاك والشهيد مفتح نفسه. 

الشهادة معراج العاشقين

كان للضربات الموجعة التي تلقّتها أمريكا من الثورة الإسلامية أثرها البالغ على شعوب العالم، ولهذا كانت تشعر بالخطر على وجودها، فعمدت إلى اجهاض الثورة الإسلامية في أيامها الأولى بتدبير شتى المؤامرات، ومن جملتها مؤامرة اغتيال الشخصيات الرئيسية في الثورة والمحيطة بالإمام، ومن جملتهم الشهيد مفتح، فأوكلت مهمة اغتياله إلى جماعة (فرقان) ذات الأفكار المنحرفة.

ففي التاسعة صباحاً من يوم الثلاثاء 27/9/1358هــ ش، وبينما كان الطلبة في الصفوف ينتظرون الشهيد لإلقاء الدرس، توقفت سيارة الاستاذ أمام بوابة الكلية، وترجّل الشهيد مع اثنين من حراسه، وتحرك، ولكن ليس صوب بوابة الكلية هذه المرة، بل صوب باب الجنة وبوابة الرضوان الإلهي! فدخل باحة الكلية، وهنا هاجمته عناصر هذه الجماعة بأسلحتها فاستشهد أحد حراسه على الفور وجرح الثاني جرحاً بليغاً استشهد على أثره في المستشفى، وأصيبت عدة رصاصات الشهيد مفتح، فسقط على الأرض، وبدأ يجرّ بنفسه إلى داخل الصالة، لكن تبعه أحد هؤلاء الخونة وأطلق عدة رصاصات أخرى على رأس الشهيد فيسقط مضرجاً بدمه وتفيض روحه الطاهرة. وكانت جماعة أخرى من هؤلاء الخونة عند بوابة الكلية، تهدّد المارة عبر إطلاقات هوائية بعدم الاقتراب من الكلية، ثم ولّى الجميع هاربين.

وإثر انتشار خبر استشهاد آية الله الدكتور مفتح خيّم الحزن على أرجاء إيران الإسلام، وأقيمت الفواتح المختلفة، وشيع جثمانه الطاهر مع اثنين من حراسه في اليوم التالي.

وقد أصدر الإمام الخميني (قده) بياناً بهذه المناسبة جاء فيه:

"لقد استشهد جناب حجة الإسلام السيد مفتح واثنان من حرس الإسلام الأعزاء (عليهم رحمة الله) وانتقلوا إلى الدار الأبدية، وخلقوا في قلوب جماهيرنا الواعية ملحمة، وأجّجوا نار الثورة الإسلامية أكثر، وأوجدوا تحركاً جديداً في نهضة شعبنا.

 

نسأل الله أن يسكنه في جوار رحمته