وأما السنة:

1ـ فربما يستدل على جواز الصلح بما مر عن العلاّمة في التذكرة بقوله: (وصالح رسول الله (صلى الله عليه وآله) سهيل بن عمرو بالحديبية على وضع القتال عشر سنين)[1] وهو محل كلام بل منع، وذلك أن صلح الحديبية كان في سنة الستّ من الهجرة، كما يشهد له ما في مجمع البيان في تفسير سورة الفتح عند ذكر عمرة القضاء حيث قال: وكذلك جرى الأمر في عمرة القضاء في السنة التالية للحديبية وهي سنة سبع من الهجرة في ذي القعدة وهو الشهر الذي صدّه فيه المشركون عن المسجد الحرام ـ يعني في السنة السابقة سنة صلح الحديبية ـ فخرج النبي (صلى الله عليه وآله) ودخل مكة مع أصحابه معتمرين وأقاموا بمكة ثلاثة أيام ثم رجعوا إلى المدينة[2]. فسنة صلح الحديبية سنة الست، وقد صرّح مجمع البيان كما عرفت بأن آيتي قتال المشركين وأهل الكتاب نزلتا في سنة تسع في سورة براءة، فلا محالة ترجع دعوى النسخ إلى أن آية الأمر بالميل إلى السلم نُسخت بعد نزول سورة البراءة.

فالاستدلال بوقوع صلح الحديبية غير تام إلا أن نكون فارغين عن عدم نسخ آية الصلح، ولعل عليه بناء استدلال العلامة (قدس سره).

2ـ ويمكن الاستدلال لجواز معاهدة الصلح مع العدو بما كتبه أمير المؤمنين (عليه السلام) في عهده الشريف إلى مالك الأشتر النخعي ففيه: ولا تدفعنّ صلحاً دعاك إليه عدوّك ولله فيه رضاً فإن في الصلح دعةً لجنودك وراحةً من همومك وأمناً من بلادك[3].

وقد عرفت في كلماتنا السابقة أن سند العهد من الشيخ الطوسي والنجاشي قدس سرهما معتبر، ودلالته على جواز الصلح إجمالاً واضحة، وحيث إنه صادر من الأمير (عليه السلام) زمن فعلية ولايته وتصدّيه (عليه السلام) لأمر إدارة أمور الأمة خارجاً فلا مجال لتوهّم كونه منسوخاً بل هو دليل معتبر أيضاً على أن آية الدعوة إلى الصلح غير منسوخة كما حقّقناه، وحيث إن العهد المبارك عهدٌ له كتبه للأشتر وهو ولي أمر مصر من ناحية ولي أمر المسلمين، فما تضمّنه من الأمر بالصلح إنما هو وظيفة شرعية لولاة أمور المسلمين، وهو أمرٌ يفعله ولي أمر الأمة ويراه مشروعاً ولذا أمر به من ولاه.

3ـ وقد مر عن مجمع البيان في رد دعوى نَسخ آية الأنفال وتقوية عدم النَّسخ قوله: وهذا هو الصحيح لأن قوله: ﴿اقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ﴾ والآية الأخرى نزلتا سنة تسع في سورة براءة وصالح رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفد نجران بعدها[4].

ومرجع ما أفاده أيضاً إلى الاستدلال لجواز الصلح وعدم فسخه بفعله (صلى الله عليه وآله) بعد نزول آيات البراءة فهو أيضاً استدلال لمشروعية الصلح بالسنّة مدّعياً أيضاً أنها دليل عدم نسخ الآية.

أقول: والحق أن هذا الاستدلال غير تام، وذلك أن ما ذكره من مصالحة وفد نجران هو الصلح المعقود مع وفد نجران الذين جاؤوا لمباهلة النبي (صلى الله عليه وآله)، وعبارة نفس مجمع البيان في الحكاية عن مفاد هذا الصلح هكذا:

فقال الأسقف (يعني من الوفد): يا أبا القاسم إنا لا نباهلك ولكن نصالحك فصالحنا على ما ننهض به، فصالحهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) على ألفي حلّة من حلل الأواقي، قيمة كل حلة أربعون درهماً، فما زاد أو نقص فعلى حساب ذلك، وعلى عارية ثلاثين درعاً وثلاثين رمحاً وثلاثين فرساً إن كان باليمن كيد، ورسول الله (صلى الله عليه وآله) ضامن حتى يؤدّيها، وكتب لهم بذلك كتاباً[5].

والظاهر أن هذا الكتاب لم يكن كتاب صلح مع كفار أهل البيت بل مفاده عقد ذمّة عقده عليهم النبي (صلى الله عليه وآله) والأموال المذكورة فيه هي الجزية التي جعلها عليهم كل سنة.

ويشهد لما ذكرناه أن نسخة هذا الكتاب قد نقلها غير المجمع بتقييد واضح فيه أنها جزية مجعولة عليهم في كل سنة.

ففي كتاب مكاتيب الرسول (صلى الله عليه وآله) بعد أن ذكر أن نجران ـ بفتح النون وسكون الجيم ـ موضع باليمن من مخاليف مكة فُتح سنة عشر من الهجرة[6] وأنه لا خلاف عند المؤرخين في أن وفودهم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكتاب الصلح لهم كانت سنة عشر من الهجرة[7] وبعد ذكر كتابه (صلى الله عليه وآله) إلى أسقف نجران وأهل نجران وفيه: (أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد، وإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم آذنتكم بحرب، والسلام)[8] فمع ذكر هذا كلّه قد نقل أن متن كتابه (صلى الله عليه وآله) لأهل نجران بنص إرشاد الشيخ المفيد قدس سره هكذا:

بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتابٌ من محمد النبي رسول الله ((صلى الله عليه وآله)) لنجران وحاشيتها في كل صفراء وبيضاء وثمرة ورقيق، لا يؤخذ منهم شيء غير ألفي حلّة من حلل الأواقي، ثمن كل حلّة أربعون درهماً، فما زاد أو نقص فبحساب ذلك، يؤدّون ألفاً منها في صفر وألفاً منها في رجل، وعليهم أربعون ديناراً مثواة رسولي[9] (رُسلي شهراً ـ في نسخة اليعقوبي) فما فوق ذلك، وعليهم في كل حدث يكون باليمن من كل ذي عدن عارية مضمونة ثلاثون درعاً وثلاثون فرساً وثلاثون جملاً مضمونة، لهم بذلك جوار الله وذمّة محمد بن عبد الله، فمن أكل الربا منهم بعد عامهم هذا فذمتي منه بريئة[10].

والكتاب كما ترى قريب المضمون مما ذكره المجمع، ونسخ هذا الكتاب مختلفة بحسب نقل الناقلين من شاء الوقوف عليها فليراجع الجزء الثالث من المكاتيب. وهذا النقل صريح في أن الكتاب كتاب عقد الذمّة ولذلك كتب في أواخره: (لهم بذلك جوار الله وذمّة محمد بن عبد الله) مضافاً إلى أنه كإجراء لشقّ الجزية المذكور في كتابه (صلى الله عليه وآله) إليهم الذي نقلنا متنه فلا محالة إن هذه الأموال جزية مجعولة عليهم تؤخذ منهم كل سنة، وزاد عليها أن لا يأكلوا الربا وأن يعطوا الأسلحة والخيل والإبل المذكورة عارية مضمونة إذا حدثت باليمن حادثة.

وبالجملة: فالاستدلال بكتابه لوفد نجران غير تام لكونه كتاب عقد الجزية والذمّة لا كتاب عقد الصلح والمهادنة. هذا.

4ـ وربما ينقدح في الذهن أن يستدل لمشروعية الصلح بما نقل أن أمير المؤمنين (عليه السلام) صالح معاوية بصفّين وأن الإمام المجتبى (عليه السلام) صالحه بعده.

لكنه أيضاً غير تام فإن فيه (أولاً) أن شيئاً من الصلحين لم يكن عن رضاً منهما بل ألجأ إليه قهراً. (وثانياً) أن طرف الصلح كان يعد مسلماً ومحلّ كلامنا ومفاد آية الصلح إنما هو أن يهادن المسلمون الكفار، نعم لو سلّمنا اختيار الإمامين (عليهم السلام) للصلح فلعلّه كان فيهما تأييد لمحلّ البحث.

فتلخّص تمامية دلالة بعض آيات الكتاب الكريم وبعض الأخبار الواردة عن المعصومين عليهم السلام على مشروعية عقد الصلح مع الكفار في الجملة.

وأما بيان شرائطه وحدوده فبعهدة كتاب الجهاد. وبهذا نختم الكلام عن البحث في المرحلة الأولى.

المرحلة الثانية: في أنه إذا جاز عقد الصلح والمهادنة مع الكفار بأمره موكول إلى ولي الأمر إثباتاً ونفياً، فعقده للمهادنة واجب الإتباع وليس لغيره أن يعقد الصلح مع الأعداء، اللهم إلا أن يكون مأذوناً من قبله.

والاستدلال له أيضاً بوجهين، أحدهما: أنه مقتضى ثبوت الولاية المطلقة على الأمة لولي أمرهم، فإنه قد مر مراراً أن مقتضاها أن يكون المهام من أمورهم الاجتماعية موكولة إلى ولي أمرهم فإنه لا معنى لولاية أمر أمة بلا قيد إلا أن إلى ولي الأمر وعليه التفكر والعزم على ما كان فيه صلاح أمته ثم إجراء ما رآه مصلحةً فله العزم والإقدام على أمر الصلح مع العدو بالمقدار المشروع، ولازم وكول أمره إليه أن ليس لغيره الإقدام عليه مستقلاً بحيث كان ولي الأمر ملزماً بما أقدم هذا الغير عليه فإنه منافٍ لولايته المطلقة، فإطلاق ولايته يقتضي ثبوت حق عقد الصلح مع الأعداء بالنحو المشروع ونفي هذا الحق عن غيره، اللهم إلا أن يكون مأموراً أو مأذوناً من قبل ولي الأمر.

ولهذا الذي ذكرناه فكل شخص أو جمع فوّض الناس إليه إدارة أمورهم وجعلوه ولي أمرهم ولاية مطلقة فالناس أيضاً يرون هذا الحق ـ أعني العزم والإقدام على المهادنة أو نفيها ـ ثابتاً لولي أمرهم خاصاً به، وسرّه أن هذا الاختصاص مقتضى ثبوت الولاية المطلقة سواء كان منشأ تحقّقها حكم الله وإعطاءه ـ كما في محل بحثنا ـ أم كان منشأه إعطاء الناس كما في الولايات الخارجية غير الإلهية.

ويشير إلى هذا الوجه ما ذكره العلامة في التذكرة في مقام الاستدلال لاشتراط صحّة عقد الصلح بتولية الإمام بقوله: لأنه من الأمور العظام لما فيه من ترك الجهاد على الإطلاق أو في جهة من الجهات، ولأنه فيه من رعاية مصلحة المسلمين والنظر لهم والإمام هو الذي يتولى الأمور العامة[11].

الوجه الثاني للاستدلال: أن يستدل بالأدلة الخاصة فتدل عليه أمور: الأول: أن لازم وكول أمر القتال إليه خاصة ـ كما مرت دلالة أدلة كثيرة عليه ـ أن يكون أمر الصلح أيضاً مختصاً به موكولاً إليه، وذلك أنه إذا كان أمر الصلح أيضاً موكولاً إلى ولي الأمر فلا يلزم محذور، وأما إذا كان لغيره أيضاً حق إنشاء عقد المهادنة مستقلاً لزم إذا أقدم هذا الغير بعقد الهدنة ـ والمفروض أنه عقد صحيح لازم التبعية ـ أن لا يكون لولي الأمر الإقدام بالقتال وهو في معنى عدم وكول أمر القتال إليه خاصة، كما أنه إذا أقدم ولي الأمر نفسه بعقد الصلح والتزم به فإن لم يكن هذا العقد معتدّاً به كان في معنى جواز الإقدام إلى القتال مع بناء ولي الأمر على الصلح وترك القتال وهو أيضاً يؤول إلى عدم وكول أمر القتال إليه. وبالجملة: فلازم اختصاص أمر القتال بولي الأمر أن يختصّ به أمر الهدنة أيضاً، فأدلة وكول أمر القتال إليه تدل بالملازمة على أن أمر الهدنة أيضاً موكول إليه.

الثاني: قوله تعالى: ﴿وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾[12] وذلك أن المخاطب بأن يجنح ويصير إلى الهدنة هو النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) الذي كان ولي أمر الأمة، وحيث إن العقلاء أنفسهم يرون في الولايات الخارجية بينهم وكول أمر الصلح أيضاً إلى ولي الأمر فيفهمون من الآية المباركة أن الله تعالى وشرع الإسلام أيضاً أعطى هذا المقام لولي أمر المسلمين، والمدلول المطابقي للآية الشريفة وإن كانت الجهة الثبوتية وأن ولي الأمر يصح له إنشاء عقد الصلح إلا أنه لما كان أمر الصلح عند العقلاء مفوّضاً إلى ولي الأمر ومختصاً به إثباتاً ونفياً فلا يبعد دعوى أنهم من مثل الآية الشريفة أن شارع الإٍسلام أيضاً قد شرّع عين ما هو عند العقلاء وفوّض أمر الصلح إلى ولي الأمر إثباتاً ونفياً، فبهذا البيان تدل الآية المباركة على المطلوب بكلتا جهتيه إثباتاً ونفياً.

الثالث: قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في عهد مالك: ولا تدفعنّ صلحاً دعاك إليه عدوّك ولله فيه رضاً، فإن في الصلح دعة لجنودك وراحةً من همومك وأمناً لبلادك[13].

ودلالته على أن لمالك قبول الصلح وإنشاء عقده مع العدو واضحة، بل لا يبعد دعوى دلالة نهيه (عليه السلام) له عن دفع الصلح أن أمر دفعه أيضاً خارجاً بيده فنهاه أن يدفعه إذا كان لله فيه رضاً، فبهذا اللحاظ يكون كلامه هذا دالاً على كلتا جهتي المطلوب وتفويض أمر الصلح إثباتاً ونفياً إليه.

ومع الغض عنه فتتم دلالته على جميع المطلوب بالانفهام العرفي الذي مر ذكره آنفاً ذيل آية الصلح، فتذكر.

ثم إن من المعلوم أن مالكاً كان ولي أمر ناحية من نواحي البلاد الإسلامية ـ أعني مصر وما إليها ـ فإذا ثبت له هذا الاختيار يعلم أنه ثابت لولي الأمر الأعظم أمير المؤمنين (عليه السلام) ولكل من كان ولي أمر المسلمين.

ثم إن ما مر من تصدي النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) لأمر إنشاء عقد الهدنة مع مشركي مكة عن الحديبية موافق لما نحن بصدده كما لا يخفى.

فثبت بحمده تعالى أن الأدلة المعتبرة قائمة على جواز عقد الهدنة وعلى أنه مفوض إلى ولي الأمر كما عرفت.

إيضاح تكميلي: وهو أنه كما أن أمر القتال والصلح مفوض إلى ولي الأمر فهكذا كل ما هو من فروع القتال كمسألة تقسيم الغنائم والعزم على ما هو الأصلح في الأسارى وعقد الذمة مع أهل الكتاب ومقدار الجزية وغيرها، ومجمل الدليل عليه أنه مقتضى ولاية ولي الأمر مضافاً إلى قيام أدلة خاصة على كل منها.

وتمام الكلام فيها موكول إلى كتاب الجهاد.

ــــــــــــــــ

 [1] التذكرة: المسألة 205 ج:9 ص:352، وقد مر تحت رقم:4 من أقوال العلماء في المهادنة.

 [2] مجمع البيان: عند تفسير الآية:27 من سورة الفتح.

 [3] نهج البلاغة: الكتاب: 53، تمام نهج البلاغة، العهد:3 ص:938.

 [4] مجمع البيان: عند تفسير الآية:61 من سورة الفتح، وقد مر نقله عند الاستدلال بالكتاب العزيز على المهادنة.

 [5] مجمع البيان: عند تفسير الآية:61 من سورة آل عمران.

 [6] ج:2 ص:498.

[7] ج:2 ص 496.

 [8] ج:2 ص 498.

 [9] أي مسكنهم مدة مقامهم ونزلهم. والمثوى: المنزل من ثوى بالمكان يثوي إذا أقام فيه.

 [10] مكاتيب الرسول: ج:3 ص:154.

 [11] التذكرة: المسألة:205 ج:9 ص:352 ـ 353، وقد مرت العبارة تحت رقم:4 من أقوال العلماء في المهادنة.

 [12] الأنفال: 61.

 [13] نهج البلاغة: الكتاب:53، تمام نهج البلاغة: العهد:3 ص:938.