(فصل من كتاب تحت عنوان:  قيادة الإمام الصادق (عليه السلام) ، يجمع محاضرات سماحة الإمام الخامنئي (دام ظله) حول حياة بعض الأئمة الأطهار عليهم السلام)

وتحمّل الإمام الصادق (عليه السلام) مسؤولية مواصلة المسيرة في ظروف معقّدة وصعبة للغاية.

 فالانتفاضات تنشب في طول البلاد وعرضها، والولاة منهمكون بجمع الأموال والثروات الطائلة، والطاعون والقحط يضرب مناطق واسعة منها خراسان والعراق، والجهاز الحاكم يبطش دون رحمة، ويخلق حالة من الذل والخنوع بين الناس. والمنشغلون بالعلوم الإسلامية من فقه وحديث وتفسير لم يكن خطرهم غالباً يقلّ عن خطر الساسة والحكّام، وهم الذين يفترض بهم أن يكونوا ملاذ الناس وملجأهم، كثير من هؤلاء كانوا يدبّجون الفتاوى ليرضوا السلطان والولاة. وكثير منهم كانوا يشغلون أنفسهم ويشغلون الناس بتوافه الأمور، ويثيرون النزاعات الكلامية الفارغة التي لا تمتّ بصلة إلى الإسلام وإلى معاناة الجماهير.مهمة الإمام الصادق (عليه السلام) في هذه الظروف المظلمة هي ما ذكرناه بشأن مهمة الإمامة، وتتلخص في طرح الفكر الإسلامي الصحيح، أي تبيين الإسلام كما جاء في القرآن وسنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مع مكافحة كل الانحرافات والتشويهات الجاهلة والمغرضة، وكذلك التخطيط لإقامة نظام العدالة الإسلامية، وصيانة هذا النظام في حالة إقامته.

 كلا المهمتين: المهمة الفكرية والمهمة السياسية، تشكّلان خطراً كبيراً على النظام الحاكم. ليست المهمة السياسية وحدها تثير سخط السلطة، فالمهمة الفكرية أيضاً تلغي تلك الأفكار والمفاهيم المنحرفة التي قدمها السلطان و وعّاظه باسم الدين إلى المجتمع. من هنا فإن العملية الفكرية لها الأولوية، لأنها تقضي على الزيف الديني الذي يستند إليه الجهاز الحاكم في مواصلة ظلمه. من جهة أخرى فإن الأوضاع السائدة مستعدة للفكر الشيعي الثوري، والحرب والفقر والاستبداد عوامل تغذّي روح الثورة، أضف إلى ذلك عامل الأجواء التي وفّرها نشاط الإمام الباقر (عليه السلام) في المناطق القريبة والنائية.

 إن الاستراتيجية العامة للإمامة هي النهوض بثورة توحيدية علوية. ومتطلّباتها هي:

 أولاً: إيجاد تحمل فكر الإمامة وتهضمه، وتتطلع بشوق إلى تطبيقه.

 وثانياً: إيجاد مجموعة منظّمة مجاهدة مضحّية.

 وهذه المتطلّبات تستلزم بدورها نشر الدعوة في جميع أرجاء العالم، وإعداد الأرضية النفسية لتقبّل الفكر الإسلامي الثائر في جميع الأقطار، وتستلزم أيضاً دعوة أخرى لإعداد افراد مضحّين متفانين يشكلون التنظيم السرّي للدعوة.

 وهذا هو سرّ صعوبة الدعوة على طريق الإمامة الحقّة. فالدعوة الرسالية التي تستهدف القضاء على الطاغوت، وعلى التفرعن والتجبّر والعدوان والظلم في المجتمع، وتلتزم بالمعايير الإسلامية، لابدّ أن تستند إلى إرادة الجماهير وقوّتها وإيمانها ونضجها. خلافاً لتلك الدعوات التي ترفع شعار محاربة الطغاة، وهي تمارس في الوقت نفسه أعمال الطغاة والظلمة في حركتها، دون أن تتقيّد بمبادئ أخلاقية واجتماعية. فمثل هذه الدعوات لا تواجه صعوبات الدعوات الرسالية الهادفة، وهذا هو سرّ عدم تحقق أهداف حركة الإمامة على المدى العاجل، وهو أيضاً سرّ الانتصار السريع للحركات الموازية لحركة الإمامة (مثل حركة العباسيين).

 الظروف المساعدة والأرضية المناسبة التي وفّرها نشاط الإمام السابق ــ الباقر (عليه السلام) ــ أدّت إلى أن يظهر الإمام الصادق (عليه السلام) ــ في جوّ العذاب الطويل الذي عانى منه الشيعة ــ بمظهر الفجر الصادق الذي ينتظره أتباع أهل البيت في أيامهم. والإمام الباقر (عليه السلام) ذكر بالإشارة والتصريح ما يركز هذا المفهوم.

 عن جابر بن يزيد الجعفي: ((سئل الإمام الباقر (عليه السلام) عن القائم فضرب يده على أبي عبد الله (عليه السلام) وقال: هذا والله ولدي قائم آل بيت محمد (صلّى الله عليه وآله))).

 والقائم هنا طبعاً غير قائم آل محمد في آخر الزمان، وهو المهدي (عليه السلام) الذي تواترت الروايات لدى كل المسلمين أنه يظهر في آخر الزمان، وأنه الخليفة الثاني عشر من خلفاء رسول الله. القائم هنا بمعناه اللغوي ينطبق على كل من ينهض بوجه الظلم والاستبداد، وهو اصطلاح معروف في مدرسة أهل البيت، ولا يعني ذلك أن يكون القائم بالسيف بالضرورة. بل إنه يقوم بهجوم ثقيل خطير، سواء في اسلوب النشاط الفكري أو التنظيمي أو بأية صورة أخرى تستهدف مقارعة الظالمين ومهاجمتهم. فالإمام الباقر (عليه السلام) يركّز هنا على مفهوم نهوض الإمام الصادق (عليه السلام) بمسؤولية كبيرة تجاه السلطة القائمة، ولا يركّز على النتيجة.. بل في رواية أخرى يتحدّث بلغة تكاد تكون يائسة من إمكان انتصار حركة الإمامة على الوضع السياسي القائم.

 ومن الروايات التي يركّز الإمام الباقر (عليه السلام) على الدور الذي سينهض به الإمام الصادق (عليه السلام) ما رواه أبو الصباح الكناني قال: ((نظر أبو جعفر إلى ابنه أبي عبد الله فقال: ترى هذا؟ هذا من الذين قال الله تعالى: {ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين})).

 ولعل تصريحات الإمام هذه هي التي أشاعت فكرة قيام الإمام الصادق وخلافته بين الشيعة، وجعلت أصحاب الباقر والصادق (عليهما السلام) يترقبون ساعة الصفر بين آونة وأخرى.

 في رجال الشيخ الكشي رواية يمكن أن نفهم منها هذه الحالة السائدة بين أتباع أهل البيت آنذاك:

 روى ابن مسكان عن زرارة، أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل من أصحابنا مختفٍ عن غرامة. فقال: أصلحك الله، إن رجلاً من أصحابنا كان مختفياً من غرامة، فإن كان هذا الأمر قريباً صبر حتى يخرج مع القائم، وإن فيه تأخير صالح غرامةً؟ فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): يكون، فقال زرارة: يكون الى سنة؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): يكون إن شاء الله، فقال زرارة: يكون الى سنتين؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): يكون إن شاء الله، فخرج زرارة فوطّن نفسه على أن يكون الى سنتين فلم يكن، فقال: ما كنت أرى جعفراً إلاّ أعلم مما هو.

 وعبارة ((هذا الأمر)) في عرف أتباع اهل البيت كناية عن المستقبل الموعود لهم، أي استلزام زمام الحكم او القيام بما يقرّبهم من ذلك كالثورة المسلحة مثلاً. والقائم هو الذي يقود تلك العلمية.

 وفي رواية أخرى يذكر هشام بن سالم، وهو ايضاً من وجوه الشيعة المعروفة، أن زرارة قال له: لا ترى على أعوادها غير جعفر، قال: فلما توفي أبو عبد الله (عليه السلام) أتيته فقلت له: تذكر الحديث الذي حدّثتني به؟ وذكرته له، وكنت أخاف أن يجحدنيه، فقال: إني والله ما كنت قلت ذلك إلاّ برأيي.

 من مجموع ما تقدم نفهم ان الإمام الصادق (عليه السلام) كان في نظر أبيه وفي نظر الشيعة مظهر آمال الإمامة والتشيع. وكأن سلسلة الإمامة قد ادّخرته ليجسد مساعي الإمام السجاد والإمام الباقر (عليهما السلام). كأنه هو الذي يجب أن يعيد بناء الحكومة العلوية والنظام التوحيدي، يجب أن ينهض نهضة إسلامية أخرى. الإمامان السابقان طويا المراحل الصعبة الشاقة لهذا الطريق اللاحب، وعليه أن يقطع المرحلة الأخيرة، والظروف ــ كما ذكرنا ــ قد تهيّأت، والإمام استثمر هذه الظروف لينهض برسالته الجسيمة.

 منذ استلام المسؤولية حتى الوفاة، قضى 33 عاماً في جهاد متواصل، وخلال هذه الأعوام كانت الظروف في مد وجزر، مرة تتجه لصالح مدرسة أهل البيت، ومرة أخرى تعاكسها، مرة تبعث على التفاؤل وعلى أن النصر قريب، ومرة أخرى تشتد الضغوط وتختنق الأنفاس، فيخيّل الى أصحاب الإمام أن كل الآمال قد تبدّدت. والإمام الصادق (عليه السلام) في كل هذه الأحوال ماسك بدفة القيادة بعزم وتصميم، يجتاز بالسفينة عبر هذه الأمواج المتلاطمة الممزوجة بالأمل واليأس، لا يفكر إلاّ بما يجب قطعه في المستقبل من أشواط، باعثاً الجد والنشاط والايمان في اتباعه للوصول الى ساحل النجاة.

 ويلزمنا أن نشير هنا الى ظاهرة مؤسفة تواجه كل الباحثين في حياة الإمام الصادق (عليه السلام)، وهي الغموض الذي يكتنف السنين الأولى لبدايات إمامة الصادق (عليه السلام) التي اقترنت بأواخر أيام بني أمية. كانت حياة صاخبة متلاطمة مليئة بالحوادث الجسام، يمكن أن نفهم بعض ملامحها من خلال مئات الروايات. غير أن المؤرخين والمحدثين لم يعرضوا لنا هذه الفترة بشكل مرتّب منسجم مترابط، ولابد للباحث أن يعتمد على القرائن، وأن يلاحظ التيارات العامة في ذلك الزمان، ويقرن كل رواية بما حصل عليه من معلومات مسبقة، ليفهم محتوى الرواية وتفاصيلها.

 ولعل أحد أسباب هذا الابهام يكمن في سرية حركة الإمام وأتباعه.. فالتنظيم السري القائم على أسس صحيحة يجب أن تبقى المعلومات عنه سرية مخفية، وأن لا يطّلع عليها من هو خارج التنظيم. ولا تنتشر هذه المعلومات إلاّ بعد أن تحقق الحركة انتصارها. ومن هنا تتوفر لدينا معلومات وافية عن تفاصيل الاتصالات السرية في حركة العباسيين، لأن حركتهم انتصرت. ولا شك أن حركة أهل البيت لو قدّر لها أن تنتصر وتستلم زمام الأمور، لأطّلعنا على أسرار تنظيمها الواسع.

 وثمة سبب آخر يمكن أن يكون عاملاً في هذا الغموض، هو أن المؤرخين كانوا يدوّنون عادة ما يرضي السلطان، ولذلك نرى في كتبهم تفاصيل حياة الخلفاء ولهوهم ولعبهم وسهراتهم ومجالس طربهم، بينما لا نرى شيئاً يؤبه له بشأن الثائرين والمظلومين والمسحوقين، لأن مثل هذه المعلومات تحتاج من الباحث أن يتحرّى ويبحث ويخاطر، بينما حياة الخلفاء مادة جاهزة، وغنيمة باردة تكسب الرضا وتستدر العطاء.

 والمؤرخون الخاضعون للخلافة العباسية استمروا يكتبون على هذا المنوال مدة خمسمائة سنة بعد حياة الإمام الصادق (عليه السلام)، ومن هنا لا يمكن أن نتوقع العثور على شيء معتدّ به من المعلومات عن حياة الإمام الصادق (عليه السلام) او أي إمام من أئمة الشيعة في مثل هذه المصادر.

 الطريق الوحيد الذي يستطيع أن يهدينا الى الخط العام لحياة الإمام الصادق (عليه السلام) هم اكتشاف المعالم الهامة لحياة الإمام من خلال الأصول المتناثرة العامة لفكر الإمام وأخلاقه. ثم نبحث في القرائن والأدلة المتناثرة التاريخية والقرائن الأخرى غير التاريخية لنتوصل الى التفاصيل.

 معالم حياة الإمام الصادق (عليه السلام)

 والمعالم الهامة البارزة في حياة الإمام الصادق (عليه السلام) وجدتها من منظار بحثنا تتلخص بما يلي:

 1ــ تبيين مسألة الإمامة والدعوة إليها.

 2ــ بيان الأحكام وتفسير القرآن وفق ما ورثته مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

 3ــ إقامة تنظيم سرّي إيديولوجي ــ سياسي.

 وطريقة بحثنا أن ندرس كل واحد من هذه المعالم، ونضع في النهاية فهرساً لنشاطات الإمام (عليه السلام)، وأن يكون ذلك قدر المستطاع باسلوب المؤرّخين لا باسلوب المحدّثين.

 1ــ تبيين مسألة الإمامة والدعوة إليها

 هذا الموضوع يشكل أبرز خصائص دعوة أئمة أهل البيت، منذ السنوات الأولى التي أعقبت رحيل النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله). كانت مسألة إثبات إمامة أهل البيت (عليهم السلام) تشكّل طليعة الدعوة في كل أعصار الإمامة.. هذه المسألة نشاهدها أيضاً في ثورة الحسين بن علي (عليهما السلام)، ونشاهدها بعد ذلك أيضاً في ثورات أبناء أئمة أهل البيت، مثل زيد بن علي. ودعوة الإمام الصادق (عليه السلام) لم تخرج عن هذا النطاق أيضاً.

 قبل أن نستعرض وثائق هذا الموضوع، يجب علينا أن نعرف أولاً مفهوم ((الإمامة)) في الفكر الإسلامي. وما معنى الدعوة إلى الإمامة؟

 كلمة ((الإمامة)) تعني في الأصل القيادة بمعناها المطلق، وفي الفكر الإسلامي تطلق غالباً على مصداقها الخاص، وهو القيادة في الشؤون الاجتماعية، الفكرية منها والسياسية.

 وأينما وردت في القرآن مشتقات لكلمة الإمامة (إمام، أئمة)، فيراد بها هذا المعنى الخاص لقيادة الأمة. ففي بعض المواضع يقصد بها القيادة الفكرية، وفي مواضع أخرى يراد بها القيادة السياسية، أو الاثنتين معاً.

 بعد رحيل النبي (صلّى الله عليه وآله) وظهور الانشقاق الفكري والسياسي بين المسلمين اتخذت كلمة الإمامة والإمام مكانة خاصة، لأن مسألة القيادة السياسية شكّلت المحور الأساس للاختلاف. والكلمة كان لها في البداية مدلولها السياسي أكثر من أي مدلول آخر، ثم انضمّت إليها بالتدريج معانٍ أخرى، حتى أصبحت مسألة ((الإمامة)) تشكّل في القرن الثاني أهم مسائل المدارس الكلامية ذات الاتجاهات الفكرية المختلفة، وكانت هذه المدارس تطرح آراءها بشأن شروط الإمام وخصائصه، أي شروط الحاكم في المجتمع الإسلامي، وهو معنى سياسي للإمامة.

 إن الإمامة في مدرسة أهل البيت ــ التي يرى أتباعها أنهم يمثلون أنقى تيار فكري إسلامي ــ لها المعنى نفسه، ونظرية هذه المدرسة بشأن الإمامة تتلخص فيما يلي:

 الإمام والزعيم السياسي في المجتمع الإسلامي يجب أن يكون منصوباً من الله، بإعلان من النبي. ويجب أن يكون قائداً فكرياً ومفسّراً للقرآن وعالماً بكل دقائق الدين ورموزه، ويجب أن يكون معصوماً مبرّأً من كل عيب خلقي وأخلاقي وسببي. ويجب أن يكون من سلالة طاهرة نقية و…

 وبذلك فإن الإمامة كانت في العرف الإسلامي خلال القرنين الأول والثاني تعني القيادة السياسية، وفي العرف الخاص بأتباع أهل البيت تعني، إضافة إلى القيادة السياسية، القيادة الفكرية والأخلاقية أيضاً.

 فالشيعة تعترف بإمامة الفرد حين يكون ذلك الفرد متمتعاً بخصائص هي ــ إضافة إلى قدرته على إدارة الأمور الاجتماعية ــ مقدرته على التوجيه والإرشاد والتعليم في الحقل الفكري والديني، والتزكية الخلقية. وإن لم تتوفر فيه هذه المقدرة لا يمكن أن يرقى إلى مستوى ((الإمامة الحقة)). وليس بكافٍ ــ في نظرهم ــ حسن الإدارة السياسية والاقتدار العسكري والفتوحات وأمثالها من الخصائص التي كانت معياراً كافياً لدى غيرهم.

 فمفهوم الإمامة لدى اتباع أهل البيت ــ إذن ــ يتجه إلى إعطاء إمامة المجتمع صفة قيادة ذلك المجتمع في مسيرته الجماعية والفردية. فالإمام رائد مسيرة التعليم والتربية وقائد المسيرة الحياتية. ومن هنا كان ((النبي)) (صلّى الله عليه وآله) إماماً أيضاً، لأنه القائد الفكري السياسي للمجتمع الذي أقام دعائمه. وبعد النبي تحتاج الأمة إلى إمام يخلفه ويتحمل عبء مسؤولياته، (بما في ذلك المسؤولية السياسية). ويعتقد الشيعة أن النبي نصّ على خلافة علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ثم تنتقل الإمامة بعده إلى الأئمة المعصومين من ولده.

 ولابدّ من الإشارة إلى أن تداخل المهام الثلاث للإمامة: القيادة السياسية، والتعليم الديني، والتهذيب الأخلاقي والروحي في الإمامة الإسلامية ناشئ من عدم وجود تفكيك بين هذه الجوانب الثلاثة في المشروع الإسلامي للحياة البشرية. فقيادة الأمة يجب أن تشمل قيادتها في هذه الحقول الثلاثة أيضاً، وبسبب هذه السعة وهذه الشمولية في مفهوم الإمامة لدى الشيعة كان لابد أن يعيّن الإمام من قبل الله سبحانه.

 نستنتج مما سبق أن الإمامة ليست، كما يراها أصحاب النظرة السطحية، مفهوماً يقابل ((الخلافة)) و ((الحكومة)) أو منصباً منحصراً بالأمور المعنوية والروحية والفكرية، بل إنها في الفكر الشيعي ((قيادة الأمة)) في شؤون دنياها، وما يرتبط بذلك من تنظيم للحياة الاجتماعية والسياسية (رئيس الدولة). وأيضاً في شؤون التعليم والإرشاد والتوجيه المعنوي والروحي، وحلّ المشاكل الفكرية وتبيين الإيديولوجية الإسلامية. ((قيادة فكرية)).

 وهذه المسالة الواضحة أضحت ــ مع الأسف ــ غريبة على أذهان اكثر المعتقدين بالإمامة، ولذلك نرى من الضروري عرض بعض النماذج من مئات الوثائق القرآنية والحديثية في هذا المجال:

 في كتاب ((الحجة)) من ((الكافي)) حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) يذكر فيه بالتفصيل ما يرتبط بمعرفة الإمام ووصف الإمام، ويتضمّن معاني عميقة ورائعة.

 من ذلك ما ورد بشأن الإمامة بأنها: ((هي منزلة الأنبياء، وإرث الأوصياء، إن الإمامة خلافة الله، وخلافة الرسول، ومقام أمير المؤمنين (عليه السلام) وميراث الحسن والحسين (عليه السلام)، إن الإمامة زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا، وعزّ المؤمنين، إن الإمامة أسّ الإسلام النامي، وفرعه السامي، بالإمام تمام الصلاة والزّكاة والصيام والحج والجهاد، وتوفير الفيء والصدقات، وإمضاء الحدود والأحكام، ومنع الثغور والأطراف)).

 وحول الإمام أنه:

 ((النجم الهادي، والماء العذب، والمنجي من الردى، والسحاب الماطر، ومفزع العباد في الداهية، وأمين الله في حلقه، وحجّته على عباده، وخليفته في بلاده، والداعي إلى الله، والذاب عن حرم الله، ونظام الدين، وعزّ المسلمين، وغيظ المنافقين، وبوار الكافرين)).

 كل ما كان يمارسه النبي (صلّى الله عليه وآله) من مسؤوليات ومهام يتحملها علي (عليه السلام) والأئمة من ولده.

 وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق (عليه السلام) نرى تأكيداً على إطاعة ((الأوصياء)) وتوضّح الرواية أن الأوصياء هم أنفسهم الذين عبّر عنهم القرآن بأولي الأمر.

 مئات الروايات المتفرقة في الأبواب المختلفة تصرّح أن مفهوم الإمام والإمامة في الفكر الشيعي ما هو إلا القيادة وإدارة شؤون الأمة المسلمة، وأن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) هم الأصحاب الحقيقيون للحكومة. وتدل جميعاً بما لا يقبل الشك على أن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في ادّعائهم الإمامة كانوا لا يقتصرون بالمطالبة على المستوى الفكري والمعنوي، بل كانوا يطالبون بالحكومة أيضاً. ودعوتهم على هذا النطاق الواسع الشامل إنما هي دعوة لحركة سياسية عسكرية لاستلام السلطة.

 هذه الحقيقة ظلت خافية على الباحثين في العصور التالية، بينما كانت في فهم أصحاب الأئمة والمعاصرين لهم من أوضح الحقائق، حتى أن ((الكميت)) في إحدى قصائده الهاشميات يصف أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بأنهم ساسة يقودون الناس بطريقة تختلف تماماً عن الطريقة التي يمارسها الحكام الظلمة الذين يعاملون الناس كالبهائم.

 نعود إلى الموضوع الأصلي وهو أن بيت القصيد في دعوة الإمام الصادق (عليه السلام) وسائر أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كان يدور حول ((الإمامة)). ولإثبات هذه الحقيقة التاريخية، أمامنا روايات متضافرة تنقل بوضوح وصراحة عن الإمام الصادق (عليه السلام) ادّعاءه الإمامة. وكما سنوضح فيما بعد، أن الإمام حين يعلن دعوته هذه كان يرى نفسه في مرحلة من الجهاد تستدعي أن يرفض بشكل مباشر صريح حكّام زمانه، وأنه يعلن نفسه بأنه صاحب الحق الواقعي، وصاحب الولاية والإمامة. ومثل هذه التصّدي يعني عادة اجتياز سائر المراحل الجهادية السابقة بنجاح. ولابدّ أن يكون الوعي السياسي والاجتماعي قد انتشر في قاعدة واسعة، وأن الاستعداد محسوس بالقوة في كل مكان، وأن الأرضية الإيديولوجية قد توفرت في عدد ملحوظ من الأفراد، وأن جمعاً غفيراً آمن بضرورة إقامة حكومة الحق والعدل، وأن يكون القائد ــ أخيراً ــ قد اتخذ قراره الحاسم بشأن هذه المواجهة الساخنة. وبدون هذه المقدمات فإن إعلان إمامة شخص معين وقيادته الحقة للمجتمع أمر فيه تعجّل ولا جدوى منه.

 المسألة الأخرى، التي لابدّ من التركيز عليها في هذا المجال، أن الإمام ما كان يكتفي في بعض الموارد بإثبات إمامته وحسب، بل يذكر إلى جانب اسمه أسماء أئمة الحق من أسلافه أيضاً، أي إنه يطرح في الحقيقة سلسلة أئمة أهل البيت بشكل متصل غير قابل للتجزئة والانفصال.

 هذا الموقف يشير إلى ارتباط جهاد أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وتواصله من الأزمنة السابقة إلى عصر الإمام الصادق (عليه السلام). إن الإمام الصادق (عليه السلام) يقرر إمامته باعتبارها النتيجة الحتمية المترتبة على إمامة أسلافه، وبذلك يبين جذور هذه الدعوة وعمقها في تاريخ الرسالة الإسلامية، وارتباطها بصاحب الدعوة الرسول الأكرم (عليه أفضل الصلاة والسلام). ولنعرض بعض نماذج دعوة الإمام:

 أروع رواية في هذا الباب عن ((عمرو بن أبي المقدام))، وفيها تصوير لواقعة عجيبة.

 في يوم التاسع من ذي الحجة إذ اجتمع الحجاج في عرفة لأداء منسك الوقوف، وقد توافدوا على هذا الصعيد من كل فج عميق.. من أقصى خراسان حتى سواحل الأطلنطي.. والموقف حساس وخطير، والدعوة فيه تستطيع أن تجد لها صدى في أقاصي العالم الإسلامي. انضمّ الإمام (عليه السلام) إلى هذه الجموع الغفيرة المحتشدة، ليوصل إليها كلمته، يقول الراوي: رأيت الإمام قد وقف بين الجموع ورفع صوته عالياً ليبلغ أسماع الحاضرين ولينتقل إلى آذان العالمين وهو ينادي:

 ((أيها الناس، إن رسول الله كان الإمام ثم كان علي بن أبي طالب، ثم الحسن ثم الحسين ثم علي بن الحسين ثم محمد بن علي ثم…)) فينادي ثلاث مرات لمن بين يديه، وعن يمينه وعن يساره ومن خلفه، اثني عشر صوتاً.

 ورواية أخرى عن ((أبي الصباح الكناني)) أن الإمام الصادق (عليه السلام) يصف نفسه وأئمة الشيعة بأن لهم ((الأنفال)) و((صفو المال))..

 عن أبي الصباح قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): ((يا أبا الصباح، نحن قوم فرض الله طاعتنا، لنا الأنفال ولنا صفو المال، ونحن الراسخون في العلم، ونحن المحسودون الذين قال الله في كتابه)).

 و ((صفو المال)) هو من الأموال ذات القيمة الرفيعة في غنائم الحرب، وكان لا يقسم كما تقسم الغنائم بين المجاهدين، كي لا يستأثر به أحد دون آخر ويكون كرامة كاذبة لأحد من الناس، بل إنه يبقى لدى الحاكم الإسلامي يتصرف به لما يحقق مصلحة عامة المسلمين. وكان الحكام الظلمة يستأثرون بهذا المال ويجعلونه مختصاً بهم غصباً. والإمام يصرّح بأن ((صفو المال)) يجب أن يكون لهم، وهكذا الأنفال. وهذا يعني أنه يعلن نفسه بصراحة حاكماً شرعياً للمسلمين مسؤولاً عن استثمار هذه الأموال وفق ما يراه تحقيقاً لمصلحة الأمة.

 وفي حديث آخر يذكر الإمام الصادق (عليه السلام) أسماء أسلافه من الأئمة (عليهم السلام) واحداً واحداً، ويشهد بإمامتهم ووجوب طاعتهم، وحين يصل إلى نفسه يسكت، والمخاطبون يعلمون جيداً أن ميراث العلم والحكم بعد الإمام الباقر (عليه السلام) وصل إلى الإمام الصادق. وبذلك يعلن الإمام (عليه السلام) حقه في قيادة الأمة باسلوب يجعله مرتبطاً بجدّه علي بن أبي طالب (عليه السلام).

 وفي أبواب كتاب الحجة من ((الكافي)) وكذلك في الجزء 47 من ((بحار الأنوار)) أحاديث كثيرة من هذا القبيل، تتحدث بصراحة أو بكناية عن ادّعاء الإمامة والدعوة إليها.

 ولإثبات هذه الحقيقة التاريخية أمامنا شواهد عن شبكة منظمة لدعوة الإمام (عليه السلام) في جميع أرجاء العالم الإسلامي، والوثائق الكثيرة المتوفرة في هذا المجال تجعل وجود هذه الشبكة أمراً حتمياً لا مراء فيه. وهذه الشواهد تبلغ من الكثرة والوثوق بحيث يمكن أن نستدل بها على موضوعنا استدلالاً قاطعاً، ولو لم يتوفر حديث صريح واحد في هذا المجال.

 نحن في هذا المجال أمام ظواهر تاريخية ثابتة:

1ــ ثمة ارتباط منظم فكري ومالي بين الأئمة (عليهم السلام) وأتباعهم، وكانت الأموال تحمل من أطراف العالم إلى المدينة كذلك والأسئلة الدينية تتقاطر عليها.

 2ــ اتساع الرقعة الموالية لآل البيت (عليهم السلام) خاصة في البقاع الحساسة من العالم الإسلامي.

 3ــ تجمّع عدد غفير من المحدثين والرواة الخراسانيين والسيستانيين والكوفيين والبصريين واليمانيين والمصريين حول الإمام (عليه السلام).

 فهل أن هذه الظواهر المنسجمة المتناسبة مع بعضها قد حدثت بالصدفة؟

 ولابد أن نضيف أن هذه الظواهر حدثت في ظل سيطرة سياسية كانت جادةً كل الجد في إلغاء حتى اسم علي وآل علي (عليه السلام)، بل سبّ علي على المنابر، وتسليط أنواع البطش والارهاب على اتباعهم. فكيف أمكن في مثل هذا الجو خلق قاعدة شعبية عريضة موالية لآل البيت تطوي آلاف الأميال للوصول الى الحجاز والمدينة لتُتَلمذ على أئمة أهل البيت (عليه السلام) وتأخذ عنهم فكر الإسلام في الحياة الفردية والاجتماعية، وتتحدث معهم في موارد كثيرة وعن مسائل الثورة على الوضع الفاسد، او بعبارة الروايات، تتحدث معهم عن مسائل القيام والخروج؟!!

 فلو كان دعاة أهل البيت يقتصرون في حديثهم على علم الأئمة (عليهم السلام) وزهدهم، فلماذا يدور الحديث في وسط هؤلاء الاتباع دائماً عن الثورة المسلحة؟

 ألا يدل كل ذلك على وجود شبكة منظمة للدعوة الى إمامة أهل البيت (عليه السلام) بالمعنى الكامل للإمامة، أي الفكرية والسياسية؟

 وهنا يطرح سؤال عن سبب سكوت التاريخ عن وجود مثل هذه الشبكة المنظمة في دعوة أهل البيت (عليه السلام)، ولماذا لم يذكر التاريخ صراحة شيئاً عنها؟

 والجواب ما أشرنا اليه مسبقاً، يكمن في التزام أصحاب الأئمة بالمبدأ الحركي الحكيم المسمّى بالتقية، الذي يحول دون نفوذ أي عنصر أجنبي في تنظيم الإمام. كما يكمن ايضاً في عدم استطاعة الحركة الجهادية الشيعية من تحقيق أهدافها ومن استلام زمام الحكم.

 لو أن بني العباس لم يستولوا على السلطة لبقيت دون شك كل نشاطاتهم السرية وذكريات دعوتهم، مرّها وحلوها، حبيسة في الصدور، دون أن يعلم بها أحد ودون أن يسجلها التاريخ.

 ومع ذلك، ليست قليلة هي الروايات التي تصرح الى حدّ ما بوجود دعوة واسعة لإمامة أهل البيت (عليهم السلام). ونكتفي برواية تقول:

 قدم رجل من أهل الكوفة الى خراسان، فدعا الناس الى ولاية جعفر بن محمد (عليهما السلام)، ففرقة أطاعت وأجابت، وفرقة جحدت وأنكرت، وفرقة ورعت ووقفت.. ثم تقول الرواية: فخرج من كل فرقة رجل فدخلوا على أبي عبد الله (عليه السلام) فكان المتكلم منهم، الذي ورع ووقف. فقال: أصلحك الله، قدم علينا رجل من اهل الكوفة فدعا الناس الى طاعتك وولايتك، فأجاب قوم وأنكر قوم وورع قوم ووقفوا. قال الإمام (عليه السلام): فمن أي الثلاث أنت؟ قال: من الفرقة التي ورعت ووقفت. قال: فأين كان ورعك ليلة كذا وكذا (وذكّره بسقوطه في موقف شهواني)، فارتاب الرجل.

 الداعية كما ترى من أهل الكوفة، ومنطقة الدعوة خراسان، واسم الرجل مكتوم، ودعوته الى إمامة جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام) وولايته وطاعته.

 ثمة وثائق أخرى تبين محتوى دعوة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم الى الإمامة، تعرضها المناقشات والمجادلات بينهم وبين خصومهم السياسيين (الأمويين والعباسيين). هذه المنازعات كانت تدور أحياناً بلغة الاستدلال الكلامي والديني، وأحياناً بلغة الأدب الرفيع المتمثل بالشعر. وكان كل الحِجاج يقوم على أساس اثبات حق الإمامة السياسية والحكم لأئمة اهل البيت (عليهم السلام)، ومقارعة المتربّعين ظلماً وغصباً على كرسي حكومة المسلمين. إن عصر الإمام الصادق (عليه السلام) ــ لمعاصرته حركة بني العباس وانتصار هذه الحركة ــ كان مفعماً بهذا اللون من الحِجاج.

 كان شعراء بني العباس يحاولون اثبات حق الحكم لبني العباس استناداً الى الأدلة نفسها التي يقدمها عادة الطامعون الى السلطة والمتشبثون بكرسي الحكم. ويقف شعراء الشيعة مقارعين لحججهم مستدلين على زيف الحكم العباسي من منطق إسلامي، يقوم على أساس رفض الظلم والاجرام والخيانة بحق الأمة الإسلامية.

 وللحِجاج الشعري بين العباسيين والعلويين أهمية في هذا المجال، لما كان ينهض به الشعر آنئذ من دور كبير في التعبير عن العواطف والأفكار، ولما كان يؤديه في القاعدة الشعبية من تأثير. يذكر صاحب كتاب ((العباسيون الأوائل)) دور الأدب في القرنين الأول والثاني فيقول:

 ((.. كان الأدب يؤثر في النفوس ويكسب عواطف الناس وميولهم الى هذه الفئة او تلك، وكان الشعراء والخطباء بمثابة جريدة العصر، يعبر كل منهم عن رأي سياسي ويدافع عن حزب معين، مبرزاً الدليل تلو لدليل على صحة دعواه، مفنّداً آراء الخصوم بكلام مؤثر واسلوب بليغ)).

 شعراء البلاط العباسي كانوا يجتهدون في اثبات حق العباسيين في الخلافة باعتبار ارتباطهم بالنبي عن طريق العمومة، مستدلين على ذلك بأن الارث لا ينقل الى أبناء البنت مع وجود الأعمام، فالخلافة بعد النبي من حق العباس عم النبي ومن بعده أبناؤه من بني العباس: 

 قال مروان بن أبي حفصة:

         أنّى يكون وليس ذاك بكائــن         لبني البنــات وراثــة الأعمــام

 وقال ابان بن عبد الحميد اللاحقي:

         فأبنــاء عــباس همُ يرثونــه         كما العمُ لابن العم في الارث قد حجب

 منطلقين من عاطفة الشعور بالظلم للرد على هذه الأدلة، بالمنطق نفسه، وأحياناً بمنطق آخر للاستدلال على حق أئمة أهل البيت في الإمامة. من ذلك استدلالهم بحديث غدير خم كقول السيد الحميري:

       من كنــت مولاه فهــذا لــه           مولى فلم يرضوا ولم يقنعــوا

 ويردّ محمد بن يحيى بن أبي مرّة التغلبي على استدلال الشاعر العباسي بشأن وراثة الاعمام فيقول:

        لِمَ لا يكون وإن ذاك لكــائــن           لبنــي البنات وراثة الاعمــام

        للبنت نصف كامل من مــــاله          والعــم متروك بغير سهــــام

        مــا للطليــق وللتراث وإنمــا          صلّى الطلـــيق مخافة الصمصام

 

ويرى دعبل أن كل ما حلّ بأهل البيت (عليهم السلام) من مصائب إنما هو لأنهم ورثوا النبي، فتكالب على الارث الطامعون، واضرّوا بمن له الحق في الإمامة:

        أضرّ بهــم ارث النبــي فأصــبحوا       تساهم فيهم خــيفة ومنــون

        دعتهم ذئــــاب من أمية وانتــحت        عليهم دراكاً ازمة وسنــون

          وعــاثت بنو العباس في الدين عيثة        تحكّم فيــها ظالــم وخؤون

        وسَمّوا رشيــداً ليــس فيــهم لرشده       وها ذاك مأمــون وذاك أمين

        فمــا قبلت بالرشد منهــم رعــــاية       ولا للولــي بالأمــانة ديــن

 وليس من العسير على الباحث في العصر العباسي الأول أن يجد مئات النماذج من المحاورات والمناظرات السياسية بلغة الشعر في هذا المجال. وكان شعراء الشيعة وخصومهم يقيمون الحجج على دعواهم. وليس من المهم أن نعرف في هذه المواجهة مقدار صحة هذه الحجج واستقامتها، ولكن من المهم أن نعرف المحور الذي يدور حوله النزاع، والحق الذي يدعيه الجانبان.

 هناك حق يدعيه كل جانب، وهذا الحق هو وراثة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في الحكم وفي قيادة المسلمين.

 ليس النزاع بين الجانبين العلوي والعباسي في وراثة الخصال الأخلاقية والمعنوية والفكرية للنبي (صلّى الله عليه وآله). ليس الخلاف في أحقية هذا او ذاك في وراثة هذه الخصال. لأن هذه الخصال لا تشكل حقاً يتنازع عليه الفريقان. النزاع حول ((حق)) يدّعيه الجانبان. وقد رأينا أن الشعراء في زمن الإمام الصادق (عليه السلام) يدافعون عن حق الإمام في قيادة الأمة المسلمة وفي حكم المجتمع الإسلامي، ويخوضون حرباً ضد من ليست لهم صلاحية حكومة المسلمين، ولذلك شواهد كثيرة في شعر القرن الثاني الهجري.

 وقبل أن نختتم هذا القسم من المناسب أن نشير الى لغة حِجاج أخرى، هي لغة الرسائل. هذه الرسائل الاحتجاجية كانت تتضمن من جهة أهداف الفرقاء بشكل واضح دون لبس، وكانت تجد لها من جهة أخرى صدىّ شعبياً بعد انتشار مضمونها، وتأثيراً قوياً على الأنصار والخصوم. نذكر من ذلك رسالة محمد بن عبد الله بن الحسن ذي النفس الزكية الى المنصور العباسي. هذا العلوي الثائر يذكر بصراحة ووضوح أنه يطلب نزع الخلافة من خصومه لتكون في أبناء علي (عليه السلام)، يقول:

 ((وإن أبانا علياً كان الوصي وكان الإمام، فكيف ورثتم ولايته وولده أحياء؟!)).

 ويبدو أن هذه الاستدلال أورده العلوي ردّاً على استدلال العباسيين في وراثتهم الخلافة، لأن بني العباس لم تكن لهم حجة سوى هذا الارث المزعوم، فأراد عليهم الطريق ويردّ عليهم بنفس منطقهم. ويلاحظ في العبارة أن ذا النفس الزكية يركز على إمامة علي (عليه السلام) انطلاقاً من فهمه لمعنى الإمامة، ثم يركز على طبيعة دعوة البيت العلوي التي يمثلها هذا الثائر.

 2ــ بيان الأحكام وتفسير القرآن وفق ما ورثته مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله):

 هذا النشاط يمكن ملاحظته في حياة الإمام الصادق (عليه السلام) بشكل متميّز عما نراه في حياة أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، حتى سمّي فقه الشيعة باسم ((الفقه الجعفري)). حتى الذين يغضّون الطرف عن النشاط السياسي للإمام الصادق (عليه السلام) يجمعون على أن الإمام كان يدير أوسع، او واحدة من أوسع الحوزات الفقهية في زمانه. والذي بقي مستوراً عن أعين أغلب الباحثين في حياة الإمام، هو المفهوم السياسي ومفهوم المواجهة لهذا اللون من نشاطات الإمام، وهذا ما سنتعرض له الآن.

 لابد أن نذكر أولاً، أن منصب الخلافة في الإسلام له خصائص متميزة تجعل الحاكم متميزاً عن الحكام في أنظمة الحكم الأخرى. فالخلافة ليست جهازاً سياسياً فحسب، بل هي جهاز سياسي وديني. وإطلاق لقب الخليفة على الحاكم الإسلامي يؤيد هذه الحقيقة، فهو خليفة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في كل ما كان يمارسه الرسول من مهام دينية ومهام قيادية سياسية في المجتمع.

 والخليفة في الإسلام يتحمل المسؤوليات السياسية والمسؤوليات الدينية معاً. هذه الحقيقة الثابتة دفعت الخلفاء الذين جاءوا بعد الخلفاء الأولين والذين كانوا ذوي حظ قليل في علوم الدين، او لم يكن لهم منه حظ أصلاً، دفعتم الى سدّ هذا النقص عن طريق رجال دين مسخّرين لهم. فاستخدموا فقهاء ومفسرين ومحدثين في بلاطهم، ليكون جهازهم الحاكم جامعاً ايضاً للجانبين الديني والسياسي.

 والفائدة الأخرى من وجود وعاظ السلاطين في الجهاز الحاكم، هي إن الحاكم الظالم المستبد كان قادراً متى ما أراد أن يغيّر ويبدّل أحكام الدين وفقاً للمصالح. وكان هؤلاء المأجورون يقومون بهذه العملية ارضاءً لأولياء نعمتهم، تحت غطاء من الاستنباط والاجتهاد ينطلي على عامة الناس.

 الكتّاب والمؤرخون المتقدمون ذكروا لنا نماذج فظيعة من اختلاق الحديث ومن التفسير بالرأي كانت يد القوة السياسية فيها واضحة، وسنشير الى جانب منها في أقسام حديثنا التالية. هذا العمل الذي اتخذ غالباً في البداية (حتى أواخر القرن الهجري الأول) شكل وضع رواية او حديث، راح تدريجياً يأخذ طابع الفتوى. ولذلك نرى في أواخر عصر بني أمية وأوائل عصر بني العباس ظهور فقهاء كثيرين استفادوا من أساليب رجراجة في أصول الاستنباط، ليصدروا الأحكام وفق أذواقهم التي كانت في الواقع أذواق الجهاز الحاكم.

 هذه العملية نفسها أُنجزت ايضاً في حقل تفسير القرآن. فالتفسير بالرأي اتجه غالباً الى إعطاء مفاهيم عن الإسلام لا تقوم على أساس سوى ذوق المفسّر ورأيه المستمدّ من ذوق الجهاز الحاكم وإرادته.

 من هنا انقسمت العلوم الإسلامية: الفقه والحديث والتفسير منذ أقدم العصور الإسلامية الى تيارين عامين:

 التيار الأول: تيار مرتبط بجهاز الحكومة الظالمة الغاصبة، ويتميز بتقديم الحقيقة في موارد متعددة قرباناً على مذبح ((المصالح)) التي هي في الواقع مصالح الجهاز الحاكم، ويتميز ايضاً بتحريف أحكام الله لقاء دراهم معدودات.

 والتيار الثاني: التيار الأصيل الأمين الذي لا يرى مصلحة أرفع وأسمى من تبيين الأحكام الإلهية الصحيحة، وكان يصطدم ــ شاء أم أبى ــ في كل خطوة من خطواته بالجهاز الحاكم ووعاظ السلاطين، ولذلك اتجه منذ البدء اتجاهاً شعبياً في إطار من الحيطة والحذر.

 انطلاقاً من هذا الفهم نعرف بوضوح أن اختلاف ((الفقه الجعفري)) مع الفقهاء الرسميين في زمن الإمام الصادق لم يكن اختلافاً فكرياً عقائدياً فحسب، بل كان يستمد وجوده من محتواه الهجومي المعارض ايضاً.

 أهم أبعاد هذا المحتوى اثبات خواء الجهاز الحاكم، وفراغه من كل مضمون ديني، وعجزه عن إدارة الشؤون الفكرية للأمة، وبعبارة أخرى، عدم صلاحيته للتصدي لمنصب ((الخلافة)). والبعد الآخر تشخيص موارد التحريف في الفقه الرسمي.. هذه التحريفات القائمة على أساس فكر ((مصلحي)) في بيان الأحكام الفقهية ومداهنة الفقهاء للجهاز الحاكم. والإمام الصادق (عليه السلام) بنشاطه العلمي وتصدّيه لبيان أحكام الفقه والمعارف الإسلامية، وتفسير القرآن بطريقة تختلف عن طريقة وعاظ السلاطين قد اتخذ عملياً موقف المعارضة تجاه الجهاز الحاكم. الإمام (عليه السلام) بنشاطه هذا قد يلغي كل الجهاز الديني والفقهي الرسمي الذي يشكل أحد أضلاع حكومة الخلفاء، ويفرّغ الجهاز الحاكم من محتواه الديني.

 ليس بأيدينا سند ثابت يبيّن التفات الجهاز الأموي الى هذا المحتوى المعارض لما قام به الإمام الصادق (عليه السلام) من نشاط علمي فقهي، ولكن أغلب الظن أن الجهاز الحاكم العباسي ــ وخاصة في زمن المنصور الذي كان يتمتع بحنكة ودهاء وتجربة اكتسبها من صراعه السياسي الطويل مع الحكم الأموي قبل وصوله الى السلطة ــ كان يعي المسائل الدقيقة في نشاطات البيت العلوي. وكان الجهاز الحاكم العباسي يفهم الدور الفاعل الذي يستطيع أن يؤديه هذا النشاط العلمي بشكل غير مباشر.

 والتهديدات والضغوطات والمضايقات التي كانت تحيط بنشاطات الإمام الصادق (عليه السلام) التعليمية والفقهية من قبل المنصور المنقولة الينا في روايات تاريخية كثيرة ناتجة من هذا الالتفات الى حساسية المسألة. وهكذا اهتمام المنصور بجمع الفقهاء المشهورين في الحجاز والعراق في مقر حكومته ــ كما تدل على ذلك النصوص التاريخية العديدة ــ فإنه ناشئ عن هذا الالتفات ايضاً.

 في حديث الإمام (عليه السلام) وتعاليمه لأصحابه ومقرّبيه كان يستند الى ((خواء الخلفاء وجهلهم)) ليستدل على أنهم في نظر الإسلام لا يحق لهم أن يحكموا. ونحن نشهد هذه الصيغة من الهجوم على الجهاز الحاكم بوضوح وصراحة في دروسه الفقهية.

 يروى عنه قوله (عليه السلام): ((نحن قوم فرض الله طاعتنا وأنتم تأتمّون بمن لا يُعذر الناس بجهالته)).

 أي أن الناس انحرفوا بسبب جهل حكامهم وولاة أمورهم، وسلكوا سبيلاً غير سبيل الله. وهؤلاء غير معذورين لدى الله. لأن إطاعة هؤلاء الحكام كانت عملاً انحرافياً، فلا يبرّر ما يستتبعها من وقوع في الانحرافات.

 في تعليمات الأئمة (عليهم السلام) قبل الإمام الصادق (عليه السلام) وبعده نرى ايضاً تركيزاً على ضرورة اقتران القيادة السياسية بالقيادة الفكرية والايديولوجية. ففي رواية عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) عن جدّه الإمام محمد الباقر (عليه السلام) قال: ((إنما مثل السلاح فينا مثل التابوت في بني اسرائيل، أينما دار التابوت دار الملك (تأمل بدقة المعنى الرمزي في التعبير) وأينما دار السلاح فينا دار العلم.. وفي رواية أخرى: حيثما دار السلاح فينا فثمَّ الأمرُ (الحكم))).

 ويسأل الراوي الإمام: فيكون السلاح مزايلاً (مقارناً) للعلم؟

 قال الإمام: لا. أي أن قيادة المجتمع المسلم يجب أن تكون في من بيده السلاح والعلم معاً.

 الإمام (عليه السلام) إذن يرى أن علم الدين وفهم القرآن  بشكل صحيح شرط من شروط الإمامة، ومن جهة أخرى فهو بنشاطه العلمي، وجمع عدد غفير من مشتاقي علوم الدين حوله، وتعليمه الدين بشكل يختلف تماماً عن الطريقة المعتادة لدى العلماء والمحدثين والمرتبطين بجهاز الخلافة، يثبت عملياً أصالة المحتوى الديني لمدرسته، وزيف الظاهر الديني الذي يتقمّصه جهاز الخلافة ومن لفّ لفّه من علماء بلاطه. وعن هذا الطريق المهاجم المتواصل العميق الهادئ يضفي على جهاده بعداً جديداً.

 وكما ذكرنا من قبل، فإن الحكام العباسيين الأوائل الذين قضوا سنين طوالاً قل تسلّمهم السلطة في نفس أجواء الجهاد العلوي والى جانب أنصار العلويين، كانوا على علم بكثير من الخطط والمنعطفات، وكانوا متفهّمين لدور الهجوم والمواجهة الذي يؤديه هذا النشاط في الفقه والحديث والتفسير أكثر من أسلافهم الأمويين. وقد يكون هذا السبب هم الذي دفع المنصور العباسي في مواجهاته مع الإمام الصادق (عليه السلام) أن يمنع الإمام زمناً من الجلوس في حلقات التدريس وعن تردّد الناس عليه. حتى أن المفضل بن عمر يقول: ((إن المنصور قد كان همّ بقتل أبي عبد الله (عليه السلام) غير مرة، فكان اذا بعث اليه ودعاه ليقتله فاذا نظر اليه هابه ولم يقتله، غير أنه منع الناس عنه ومنعه من القعود للناس، واستقصى عليه أشد الاستقصاء، حتى أنه كان يقع لأحدهم مسألة في دينه في نكاح او غير ذلك فلا يكون علم ذلك عندهم، ولا يصلون اليه فيعتزل الرجل وأهله، فشق على شيعته وصعب عليهم..)).

 3ــ إقامة تنظيم سري ايديولوجي ــ سياسي

 مرّ بنا أن الإمام الصادق (عليه السلام) قاد في أواخر العصر الأموي شبكة اعلامية واسعة استهدفت الدعوة الى إمامة آل علي (عليهم السلام) وتبيين مسألة الإمامة بشكلها الصحيح. وهذه الشبكة نهضت بدور مثمر وملحوظ في أقاصي بقاع العالم الإسلامي، وخاصة في العراق وخراسان لنشر مفاهيم الإمامة.

 ونشير هنا الى جانب صغير من هذه المسألة. مسألة التنظيمات السرية في الحياة السياسية للإمام الصادق (عليه السلام) وباقي الأئمة من أهم المسائل وأكثرها حساسية، وهي في الوقت نفسه من أغمض فصول حياتهم وأشدها ابهاماً. وكما ذكرنا، لا يمكن أن نتوقع وجود وثائق صريحة في هذا المجال، حيث لا يمكن أن نتوقع من الإمام او أحد أصحابه أن يعترف صراحة بوجود هذه التنظيمات ــ السياسية ــ الفكرية.

 فهذا مما لا يمكن الكشف عنه. الشيء المعقول هو أن الإمام ينفي بشدة وجود مثل هذا التنظيم السري، وهكذا أصحابه، ويعتبرون ذلك تهمة وسوء ظن فيما لو تعرضوا لاستجواب جهاز السلطة. هذه هي خاصية العمل السري، والباحث في حياة الأئمة (عليهم السلام) ايضاً من حقه أن لا يقتنع بوجود مثل هذا التنظيم دون دليل مقنع. اذن فلابد أن نبحث عن القرائن والشواهد والحوادث التي تبدو بسيطة لا تلفت نظر المطالع العادي، لنبحث عن دلالاتها في هذا المجال. بهذا اللون من التدقيق في حياة الأئمة (عليهم السلام) خلال قرنين ونصف القرن من حياتهم يستطيع الباحث أن يطمئن الى وجود مثل هذه التنظيمات التي تعمل تحت قيادة الأئمة (عليهم السلام).

 ما المقصود بالتنظيم؟ ليس المقصود به طبعاً حزباً منظماً بالمفهوم المعروف اليوم، ولا يعني وجود كوادر منظمة ذات قيادات اقليمية مرتبطة هرمياً، فلم يكن شيء من هذا موجوداً ولا يمكن أن يوجد. المقصود بالتنظيم وجود جماعة بشرية ذات هدف مشترك تقوم بنشاطات متنوعة تتجه نحو ذلك الهدف، وترتبط بمركز واحد وقلب نابض واحد ودماغ مفكر واحد، تسود بين أفرادها روابط عاطفية مشتركة.

 هذه الجماعة كانت في زمن الإمام علي (عليه السلام) (أي خلال السنوات الخمس والعشرون بين وفاة الرسول الأكرم وبيعته للخلافة) كان يجمعها الايمان بأحقية الإمام علي (عليه السلام) في الخلافة، وكانت تعلن وفائها الفكري والسياسي للإمام، غير أنها كانت تحذو حذو الإمام علي (عليه السلام) في عدم إثارة ما يزلزل المجتمع الإسلامي الوليد، كما كانت تنهض بما كان ينهض به الإمام علي (عليه السلام) في تلك السنوات من مهام رسالية تستهدف صيانة الإسلام ونشره، ومحاولة الحدّ من الانحرافات. واتخذت لولائها هذا اسم ((شيعة علي))، ومن وجوههم المشهورة: سلمان وعمار وأبو ذر وأبي بن كعب والمقداد وحذيفة وغيرهم من الصحابة الأجلاء.

 ولدينا شواهد تاريخية تثبت أن هؤلاء كانوا يشيعون بين الناس فكرهم بشأن إمامة علي (عليه السلام) بشكل حكيم. وعملهم هذا كان مقدمة لالتفاف الناس حول الإمام وإقامة الحكم العلوي.

 بعد أن استلم الإمام علي (عليه السلام) مقاليد الأمور سنة 35 هجرية، كان حول الإمام علي صنفان من الناس: صنف عرف الإمام ومكانته وفهم معنى الإمامة وآمن بها، وهم شيعته الذين تربّوا على يد الإمام بشكل مباشر او غير مباشر. وعامة الناس الذين عاشوا أجواء تربية الإمام ونهجه ولكنهم لم يكونوا مرتبطين فكرياً وروحياً بالجماعة التي ربّاها الإمام تربية خاصة.

 ولذلك نجد بين أتباع الإمام صنفين من الأفراد بينهما تفاوت كبير: صنف يضم عماراً ومالكاً الأشتر وحجر بن عدي وسهل بن حنيف وقيس بن سعد وأمثالهم، وصنف من مثل أبي موسى الأشعري وزياد بن أبيه نظرائهم.

 بعد حادثة صلح الإمام الحسن (عليه السلام) كانت الخطوة الهامة التي اتخذها الإمام لنشر فكر مدرسة أهل البيت، ولمّ شتات الموالين لهذا الفكر، اذ اتيحت الفرصة لحركة أوسع بسبب اضطهاد السلطة الأموية. وهكذا كان دائماً، فالاضطهاد يؤدي الى انسجام القوى المضطهدة وتلاحمها وتجذّرها بدل تبعثرها وتشتّتها. واتجهت استراتيجية الإمام الحسن (عليه السلام) الى تجميع القوى الأصيلة الموالية، وحفظها من بطش الجهاز الأموي، ونشر الفكر الإسلامي الأصيل في دائرة محدودة، ولكن بشكل عميق، وكسب الأفراد الى صفوف الموالين، وانتظار الفرصة المواتية للثورة على النظام وتفجير أركانه، وإحلال الحكم العلوي مكانه.. وهذه الاستراتيجية في العمل هي التي جعلت الإمام الحسن (عليه السلام) أمام خيار واحد وهو الصلح.

 ومن هنا نرى أن جمعاً من الشيعة برئاسة المسيب بن نجية وسليمان بن صرد الخزاعي يقدمون على الإمام الحسن (عليه السلام) بعد حادثة الصلح في المدينة، حيث اتخذها الإمام قاعدة لعمله الفكري والسياسي بعد عودته من الكوفة، ويقترحون عليه إعادة قواهم وتنظيماتهم العسكرية والاستيلاء على الكوفة والاشتباك مع جيش الشام، الإمام يستدعي هذين الاثنين من بين الجمع، ويختلي بهما ويحدثهما بحديث لا نعرف فحواه، يخرجان بعده بقناعة تامة بعدم جدوى هذه الخطة. وحين يعود الاثنان الى من جاء معهما يفهمانهم باقتضاب أن الثورة المسلحة مرفوضة، ولابد من العودة الى الكوفة لاستئناف نشاط جديد فيها.

 هذه حادثة مهمة لها دلالات كبيرة حدث ببعض المؤرخين المعاصرين الى اعتبار ذلك المجلس الحجر الأساس في إقامة التنظيم الشيعي.

 والواقع أن الخطوة الأولى لإقامة التنظيم الشيعي لو كانت حقاً قد اتخذت في ذلك اللقاء بين الإمام الحسن (عليه السلام) والرجلين القادمين من العراق، فإن مثل هذه الخطوة قد أوصى بها الإمام علي (عليه السلام) من قبل حين أوصى المقربين من أصحابه بقوله: ((لو قد فقدتموني لرأيتم بعدي أشياء يتمنّى أحدكم الموت مما يرى من الجور والعدوان والأثَرَة والاستخفاف بحق الله والخوف على نفسه، فاذا كان ذلك:

 ــ فاعتصموا بالله جميعاً ولا تفرقوا.

 ــ وعليكم بالصبر والصلاة.

ــ والتقية.

 واعلموا أن الله عز وجل يبغض من عباده (التلوّن). لا تزولوا عن (الحق وأهله) فإن من استبدل بها هلك، وفاتته الدنيا وخرج منها آثماً)).

 هذا النص الذي يرسم بوضوح الوضع المأساوي في العصر الأموي، ويوجه المؤمنين الى التلاحم والتعاضد والتنسيق والانسجام، يعتبر أروع وثيقة من وثائق الجهاز التنظيمي في حركة أهل البيت (عليهم السلام). وهذا المشروع التنظيمي يتبلور في شكله العملي في اللقاء بين الإمام الحسن (عليه السلام) واثنين من الشيعة الخلّص. ومما لاشك فيه أن أتباع أهل البيت لم يكونوا جميعاً مطّلعين على هذا المشروع الدقيق. ولعل هذا يبرّر ما كان يصدر من بعض صحابة الإمام الحسن (عليه السلام) من اعتراض وانتقاد. وكان المعترضون يواجهون قول الإمام الذي مضمون: ((.. من يدري، لعل اختبار لكم ونفعٌ زائلٌ لأعدائكم ..)).

 وفي هذه الاجابة إشارة خفية الى سياسة الإمام وتدبيره.

 خلال الأعوام العشرين من حكومة معاوية بكل ما أحاط فيها البيت العلوي من إعلام مكثّف مضاد، بلغ درجة لعن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) على منابر المسلمين، وبكل ما شهدتها من انسحاب الإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام) من ساحة النشاط العلني المشهود، لا نرى سبباً في انتشار فكر أهل البيت واتساع القاعدة الشيعية في الحجاز والعراق سوى وجود هذا التنظيم.

 ولنلقِِ نظرة على الساحة الفكرية في هذه المناطق بعد عشرين عاماً من صلح الإمام الحسن (عليه السلام).

 في الكوفة نرى رجال الشيعة من أبرز الوجوه وأشهرها. وفي مكة والمدينة بل وفي المناطق النائية نرى أتباع أهل البيت مثل حلقات مترابطة يعرف بعضها ما يلمّ بالبعض الآخر.

 حين يستشهد بعد أعوام أحد رجال الشيعة وهو ((حجر بن عدي)) ترتفع أصوات الاعتراض في مناطق عديدة من البلاد الإسلامية، على الرغم الارهاب المفروض على كل مكان، ويبلغ الحزن والأسى بشخصية معروفة في خراسان ان يموت كمداً بعد إعلان الاعتراض الغاضب.

 وبعد موت معاوية ترد على الإمام الحسين (عليه السلام) آلاف الرسائل تدعوه أن يأتي الكوفة لقيادة الثورة. وبعد استشهاد الإمام يلتحق عشرات الآلاف بمجموعة ((التوابين))، او ينخرطون في جيش المختار وابراهيم بن مالك ضد الحكم الأموي.

 ومن حق الباحث في التاريخ الإسلامي أن يسأل عن العوامل الكامنة وراء شيوع هذا الفكر والتحرك الموالي لآل البيت (عليهم السلام). هل يمكن أن تتم دون وجود نشاط مكثف محسوب منظّم متحد في الخطة والهدف؟!

 الجواب: لا طبعاً. فالإعلام الهائل، الذي وجهته السلطة الأموية عن طريق مئات القضاة والولاة والخطباء، لا يمكن إحباطه وإفشاله دون إعلام مخطط مرسوم، ينهض به تنظيم منسجم موحّد غير مكشوف. وقبيل وفاة معاوية تزايد نشاط هذه الجهاز العلوي المنظّم وتصاعدت سرعة عمله. حتى أن والي المدينة يكتب الى معاوية ما مضمونه: ((أما بعد، فإن عمر بن عثمان ــ عين والي المدينة على الحسين (عليه السلام) ــ أخبرنا بأن رجالاً من العراق وبعض شخصيات الحجاز يترددون على الحسين بن علي، وتدور بينهم أحاديث حول رفع راية التمرد والعصيان.. فاكتبوا لنا ماذا ترون)).

 بعد واقعة كربلاء وشهادة الإمام الحسين (عليه السلام) تضاعف النشاط التنظيمي لشيعة العراق على أثر الصدمة النفسية التي أصيبوا بها من مقتل الإمام الحسين (عليه السلام)، حيث بوغتوا بهذه الجريمة التي سلبتهم قدرة الالتحاق بركب الحسين وأهل بيته في كربلاء. وكان هذه التحرك مؤطّراً بالألم والحسرة والأسف.

 يقول الطبري: فلم يزل القوم في جمع آلة الحرب والاستعداد للقتال ودعاء الناس في السر من الشيعة وغيرها الى الطلب بدم الحسين، فكان يجيبهم القوم بعد القوم والثغر بعد الثغر، فلم يزالوا كذلك حتى مات يزيد بن معاوية.

 وحقاً ما تقوله مؤلّفة جهاد الشيعة اذ تعلّق على قول الطبري بالقول:

 وظهرت جماعة الشيعة بعد مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) كجماعة منظمة، تربطها روابط سياسية وآراء دينية، لها اجتماعاتها وزعماؤها، ثم لها قواتها العسكرية، وكانت جماعة ((التوابين)) أول مظهر لذلك كله.

 ويبدو من دراسة أحداث التاريخ ورأي المؤرخين في تلك البرهة الزمنية، أن الشيعة كانوا يتولّون مسؤولية القيادة والتخطيط، أما القاعدة العريضة الساخطة على بني أمية، فكانت أوسع من المجموعة الشيعية المنظمة، وكانت هذه القاعدة تنضم الى كل حركة ذات صبغة شيعية.

 من هنا فإن المتحركين ضدّ بني أمية، وإن رفعوا شعارات شيعية، لا ينبغي أن نتصورهم جميعاً بأنهم في عداد الشيعة، أي في عداد الجهاز التنظيمي لأئمة أهل البيت (عليهم السلام).

 انطلاقاً مما سبق، أودّ التأكيد على أن اسم الشيعة بعد شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) أُطلق فقط على المجموعة التي كانت لها علاقة وثيقة بالإمام الحق، تماماً كما كان الحال في زمن أمير المؤمنين (عليه السلام).

 هذه المجموعة هي التي عمدت بعد صلح الإمام الحسن (عليه السلام) إلى تأسيس التنظيم الشيعي بأمر الإمام، وهي التي نشطت في كسب الأفراد إلى التنظيم ودفع أفراد أكثر، لم يرتفعوا في الفكر والنضج العملي إلى مستوى الانخراط في التنظيم، نحو التيار العام للحركة الشيعية.

 والرواية التي أوردناها عن الإمام الصادق (عليه السلام) في بداية هذا الحديث، والتي تذكر أن عدد المؤمنين بعد حادثة عاشوراء لم يتجاوز الثلاثة أو الخمسة، إنما تقصد أفراد هذه المجموعة الخاصة.. أي هؤلاء الذين كان لهم الدور الرائد الواعي في مسيرة حركة التكامل الثورية العلوية.

 وعلى اثر النشاط المتستر الهادئ الذي قام به الإمام السجاد (عليه السلام) توسعت قاعدة هذه المجموعة، وإلى هذا يشير الإمام الصادق (عليه السلام) في الرواية المذكورة: ((ثم لحق الناس وكثروا)). وسنرى أن عصر الإمام السجاد والإمام الباقر والإمام الصادق (عليهم السلام) شهد تحرّك هذا الجمع تحرّكاً أثار الرعب والفزع في قلوب الحكام الظالمين، ودفع هؤلاء الحكام إلى ردود فعل قاسية.

 وبعبارة موجزة، فإن اسم الشيعة في القرنين الأول والثاني الهجريين وفي زمن الأئمة (عليهم السلام) ما كان يُطلق على الذين يحبّون آل بيت النبي (عليهم السلام) أو المؤمنين بحقهم وبصدق دعوتهم فقط، من دون اشتراك في مسيرتهم الحركية. بل إن الشيعة كانوا يتميزون بشرط أساسي وحتمي، وهو عبارة عن الارتباط الفكري والعملي بالإمام، والاشتراك في النشاط الفكري والسياسي، بل والعسكري الذي يقوده لإعادة الحق إلى نصابه، وإقامة النظام العلوي الإسلامي. هذا الارتباط هو نفسه الذي يطلق عليه في قاموس التشيع اسم ((الولاية)).

 جماعة الشيعة كانت تطلق في الواقع على أعضاء حزب الإمامة.. هذا الحزب الذي كان يتحرّك بقيادة الإمام (عليه السلام) وكان يتخذ من الاستتار والتقية خندقاً له مثل كل الأحزاب والتنظيمات المضطهدة التي تعيش في جو الإرهاب. هذه خلاصة النظرة الواقعية لحياة الأئمة (عليهم السلام)، وخاصةً الإمام الصادق (عليه السلام). وكما ذكرنا من قبل لا يمكن أن يكون لمثل هذه المسألة دلائل صريحة، إذ لا يمكن أن نتوقع من بيت سرّي أن يحمل لافتة تقول: ((هذا بيت سرّي))! وكذلك لا يمكن أن نطمئن إلى النتيجة دون قرائن حاسمة.

 من هنا ينبغي أن نتتبّع القرائن والشواهد والإشارات.

 من العبارات العميقة التي تلفت نظر الباحث المدقق في الروايات المرتبطة بحياة الأئمة (عليهم السلام)، أو في كلام مؤلّفي القرون الإسلامية الأولى، عبارة ((باب)) و((وكيل)) و((صاحب السر)) وهي عبارات تطلق على بعض أصحاب الأئمة. فمثلاً، يقول ابن شهرآشوب المحدث الشيعي الشهير في سيرة الإمام السجاد (عليه السلام): ((وكان بابه يحيى بن أم الطويل))، وفي سيرة الإمام الباقر (عليه السلام) يقول: ((وكان بابه جابر بن يزيد الجعفي))، وفي ترجمة الإمام الصادق (عليه السلام) يقول: ((وكان بابه محمد بن سنان)). وفي ((رجال الكشي)) ترد حول زرارة وبريد ومحمد بن مسلم وأبي بصير عبارة: ((مستودع سرّي)). وفي كتب الحديث تروى عن الإمام الصادق (عليه السلام) عبارة ((وكيل)) بشأن المعلّى بن خنيس. وكل واحد من هذه التعبيرات، إن لم تكن صادرة عن الإمام، فإنها دون شك حصيلة دراسة موسعة في حياة الأئمة، نهض بها المؤلفون الشيعة القدامى. واختبار هذه التعبيرات العميقة على أي حال ينطلق من معالم بارزة في حياة أئمة أهل البيت (عليهم السلام). ولو تأملنا في هذه التعبيرات لألفينا أن كل واحد منها يدل على وجود جهاز فعّال مستتر وراء النشاط الظاهري للأئمة (عليهم السلام).