مقدمة

حياة الشخصيات الكبرى صفحات ذهبية وبارزة في التاريخ تشد إليها أنظار الأجيال المبصرة للحقيقة، والضمائر الحية والنقية لأبناء الإنسانية.

كان الشهيد آية الله سيد مصطفى الخميني (قدّس سرّه) كوكباً ظل نوره القدسي مشعلاً يهتدي به أنصار الإمام (قدّس سرّه) والسائرون على خطّه إلى حين انبلاج فجر الثورة في سماء إيران التي كانت ملبّدة بالظلام.

دراسة الآثار العلمية والنشاطات السياسية والسجايا الأخلاقية للشهيد مصطفى الخميني (قدّس سرّه) حسنة مؤجّلة إذ بقيت الكثير من آفاق شخصيته مجهولة حتى بعد مرور عشرين سنة على استشهاده.

كان هذا الرجل، الذي قال فيه إمام العارفين: انه كان أملاً لمستقبل الإسلام، فقيهاً متعمقاً ذا أساس راسخ، وفي علم الأصول عميق الغور ومتضلع ومبدع، إضافة إلى كونه فيلسوفاً ناقداً وعميق الفهم ومفسراً. وقد استطاع بفكره الواسع استيعاب القرآن وتفسيره بأفق جديد.

ومع أنّ الأيدي الأثيمة الجائرة تسببت في طمس الكثير من آثار هذا الفقيه المجاهد إلاّ ان المتبقّي منها يعد بحد ذاته سبيلاً موثوقاً للتعرف على مدى عظمته العلمية ونبوغه الفائق.

استشهد العلاّمة  سيد مصطفى الخميني في الأول من شهر آبان عام 1356 للهجرة الشمسية بنحو غامض في النجف الأشرف على يد جلاوزة السافاك (مديرية مخابرات وأمن النظام الشاهنشاهي) وكانت شهادته حسب التعبير العرفاني لوالده الجليل سماحة الإمام الخميني، من الألطاف الإلهية الخفية وبمثابة حلقة وصل بين الخامس عشر من خرداد عام 1342 والثاني والعشرين من بهمن عام 1357.

يوم قال سيد مصطفى: «سنقدّم المزيد من الشهداء على طريق الحرية، وأن ثمرة النصر لا تأتي إلاّ بالصمود» طالما كان يأمل حينها أن يكون هو أحد هؤلاء الشهداء، ولكن لعله لم يكن يحسب أن سيغدو بمثل هذه السرعة حاملاً راية شهداء فصل انتصار الثورة. ومع كل هذا لم تنل شخصيته السياسية والعلمية نصيبها المطلوب من التحليل والدراسة.

الشهيد مصطفى الخميني(ره) في كلام القائد الخامنئي (حفظه الله)

كان النجل الأكبر لسماحة الإمام(رض) يتمتع بخصائص بارزة، فهو بالإضافة إلى الجانب العلمي أظهر براعة واستعداداً باهراً في الفقه والأصول والعلوم العقلية على مستوى الحوزة العلمية.

لقد طالع الشهيد جميع الكتب المهمّة في عهده. لقد كان شخصية شمولية ومتعددة الجوانب.

وكان يبدو أن جميع الصفات الايجابية كانت تنمو في شخصيته نحو التطوّر والتكامل.

لقد سطعت شخصية الإمام الخميني(ره) أمام أنظار الشعب الإيراني كالشمس المشرقة في صبره وتحمله فقدان نجله السيد مصطفى. ومعنى هذا أنّ تكريم منزلة ومكانة السيد مصطفى تمثل في الواقع احتراماً لسماحة الإمام(رض) وتكريماً للقيم الإسلامية والثورية.

 

محطات علمية في حياة الشهيد

* ولد في مدينة قم المقدسة يوم 12 رجب 1349 هـ ق.

* ابتدأ دراسته في المدارس العصرية الحديثة في السابعة من عمره.

* بسبب شغفه الشديد للدراسة في الحوزة العلمية، انضم إلى مسلك العلم والعلماء ولم يتجاوز الثانية عشر من عمره.

* أنهى مرحلتي المقدمات والسطوح في مدة تقل عن تسع سنوات.

* شرع حضور بحث الخارج في الواحدة والعشرين من عمره.

* بلغ مرتبة الاجتهاد ولم يتجاوز سن الثلاثين.

* ألقى دروس بحث الخارج في النجف الأشرف لمدة تسع سنوات وتربى على يده جمع من الفضلاء.

* اشتهر بذكائه الخارق وذاكرته القوية وتضلّعه في مختلف العلوم.

* كانت له اليد الطولى في علم المعقول وكان له تعمق وتبحر في التفسير والتاريخ وعلم الرجال.

* خلف كتباً كثيرة في مختلف المجالات العلمية.

 

مجتهد بمعنى الكلمة

 

مقتطفات من مذكرات آية الله سيد عباس خاتم اليزدي

...عند قدومي من يزد إلى قم لأجل الدراسة حصل نوع من المعرفة بيني وبين السيد مصطفى، إلا أن معرفتي به تعمّقت أثناء وجودنا في النجف الأشرف.

كان سيد مصطفى معروفاً بسعة مؤهلاته وقوّة ذاكرته، وكنّا آنذاك نعرفه عن بُعد بهذا المقدار، كان متوهج الذكاء وشديد التواضع، وسريع التفاعل مع طلاب العلوم الدينية على الخصوص.

كان الإمام يشعر بحالة من الغربة الحقيقية في النجف؛ فالفضلاء لم يحيطوا به كما كان ينبغي. كان يتردد عليه بعض الطلبة الذين تحدوهم رغبة عميقة إلى التعلم. الشبان الذين أحاطوا بالإمام هم أولئك الطلاب الذين قدموا من إيران إلى النجف وراء التوجهات السياسية للإمام. وهناك تجلّت شخصية المرحوم سيد مصطفى في الجانب السياسي وفي مجال علمه وفضله؛ إذ كان ناشطاً في كلا المجالين السياسي والعلمي.

في الجانب العلمي يمكن القول انه كان عالماً بمعنى الكلمة؛ فقد كان عالماً حقاً في أبواب الفقه، والأصول، والفلسفة، والأدب العربي، والأدب الفارسي، وقد كان مجتهداً في درجة عالية من الاجتهاد، أي كان مجتهداً بمعنى الكلمة، ويمكن القول انه قل نظيره في عصره في باب الفقه والأصول.

إحدى السجايا التي كانت فيه هي شدّة حبّه للإمام وحرصه على عدم حصول أي إزعاج له. ذكر في أحد الأيام، أنّه دخل على الإمام يوماً فقال له الإمام: لقد جاءت رسالة من الحاج مهدي الحائري ابن المرحوم الحاج الشيخ عبدالكريم الحائري بعثها من أمريكا ويقول فيها: لو إنني أعلم شخصاً على وجه الأرض يمكنني أن أعرض عليه سؤالي هذا لما عرضته عليك؛ تقديراً لكثرة مشاغلكم ولأنكم تعيشون في النجف ظروف النفي والغربة، ولكني لا أعرف على وجه الأرض شخصاً أسأله سواكم. وكان في رسالته يسأل عن معنى عبارة لابن العربي.

يقول: ناولني الإمام الرسالة وقال لي: انظر ما فيها.

وبعد أن قرأتها سألني الإمام عن فحوى الإجابة، فعرضت عليه الجواب، فقال: هذا هو الصحيح.

 

لقد كان سيد مصطفى بارعاً حقّاً في الفقه والأصول، كما انه كان بارعاً في علم الرجال أيضاً.

أستاذ في شتّى العلوم

آية الله محمد حسن قديري

المرحوم آية الله سيد مصطفى الخميني (قدس سره الشريف) من روّاد هذا الطريق، بل ومن قادة الأمة الإسلامية، ومصداق لهذه الآية المباركة. لقد استقبل مفهوم «ربّنا الله» عن اخلاص وظل يُنافح عنه بصلابة حتى نهاية عمره الشريف، ولم يكن يخشَ الطاغوت، وواجه كل مصاعب الحياة بإيمان بالله وعزم راسخ. ويمكن القول بحق انه عاش سعيداً ومات سعيداً. اسأل الله أن يحشره مع أجداده الطاهرين.

ومع إنني لا أدّعي الإحاطة بكل أبعاد حياته ونشاطاته السياسية والاجتماعية والعلمية وسلوكه الأخلاقي والعملي والعرفاني، ولكن بما إنني عاشرته مدّة في النجف الأشرف وكنت معجباً به، أرى من حقّه عليَّ أن أتحدث عمّا أعرفه عنه.

أنا أرى أنّ المرحوم سيد مصطفى كان من الأركان الأساسية في النهضة الإسلامية، وكان له دور مؤثر في تلك النهضة وديمومتها، وكان استتار دوره أمراً طبيعياً بسبب أنّ دوره الفاعل كان في مرحلة الكبت أولاً، وثانياً لأن الشمس الساطعة لوالده الكريم حينذاك كانت تغني عن اشراقات الشموس الأخرى؛ وإلاّ فانَّ الخدمة التي أداها المرحوم سيد مصطفى للنهضة في عهده لم تكن أقل مما قدّمه الآخرون؛ فقد كان نصير الإمام وعضده، وكان هو المعين له في غربته، بل كان هو أنيسه الوحيد.

أتذكر جيّداً إنني كنت في مدرسة المرحوم آية الله البروجردي في النجف الأشرف، حين بلغنا في عصر أحد الأيام خبر قدوم الإمام من تركيا إلى العراق وأنّه في الكاظمية، واتصل المرحوم سيد مصطفى بدار المرحوم آية الله العظمى الخوئي هاتفياً طالباً تهيئة دار لسماحة الإمام. فتوجهنا في اليوم نفسه إلى بغداد ووصلنا ليلاً إلى الكاظمية إلى حيث الفندق الذي نزله الإمام؛ فكان سماحته في غرفة، وفي غرفة أخرى كان سيد مصطفى وحده مستيقظاً، وكانت عمامة الإمام في غرفة السيد مصطفى.

لم نستطع مقابلة الإمام في تلك الليلة. وفي صباح اليوم التالي ذهب الإمام برفقة سيد مصطفى لزيارة ضريح الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام. وهناك التقى به عدد من العلماء وبقوا في رفقته.

وقد سمعت من الإمام نفسه أنه قال عن أهمية وجود سيد مصطفى إلى جانبه أثناء وجوده في تركيا: «كان وجود سيد مصطفى إلى جانبي في تركيا ضرورياً بالنسبة لي». أضف إلى أن وجوده معه في النجف أزال عنه مشاعر الغربة. وكان هو الأمين على أسراره في شؤون النهضة، وهو ثقته وموضع اعتماده. وهو وان كان لا يتدخل في الأمور ظاهرياً، لكنه في الحقيقة هو الذي يتولى إدارة الشؤون السياسية والاجتماعية للإمام.

وخلاصة القول هو انه لولا وجود سيد مصطفى إلى جانب الإمام لكثرت عليه المشاكل، وان للسيّد مصطفى حقاً على الثورة. وإذا كان سماحة الإمام قد قال إنّ مصطفى كان أملاً لمستقبل الإسلام، فانه لم يكن يُثني على مجرد رجل عالم أو عابد أو عارف، بل كان يشير بذلك إلى دوره الفاعل في الثورة.

كان سيد مصطفى عالماً ومجتهداً، وكان يبدي اهتماماً كبيراً للعبادات والزيارات، ويساعد المساكين والمعوزين، وكان ملاذاً لأصحاب الإمام الذين لم يكن لهم ملاذ يومذاك إلاّ أميرالمؤمنين(ع) ودار الإمام.

وفي مجال البحث كانت له اليد الطولى، ومع براعته في النقاش إلاّ أنه كان منصفاً في قبول الحق؛ فان رأى المقابل على صواب أذعن لرأيه.

كان استاذاً كفوءاً في مختلف العلوم. ومن جملة الذكريات العالقة في ذهني منه، هو انني رافقته عند الذهاب إلى كربلاء سيراً على الأقدام حيث كُنّا وصلنا إلى بساتين كربلاء وقضينا تلك الليلة هناك، وتحلّق حوله رفاق السفر، وتقرر أن يعرض له كل واحد منهم سؤالاً في أحد أبواب العلوم.

ولا أنسى أنهم عرضوا عليه أسئلة في شتى مجالات العلوم وكان هو يجيب عنها، واستمر ذلك المجلس حوالي أربع ساعات. وفي الحقيقة إني لازلت إلى الآن أتعجب عند استذكار ذلك الموقف، وان يكون لمثل هذا الشخص كل تلك الكفاءة في الإجابة على تلك الأسئلة كافّة بدون مطالعة.

آثار العلامة الشهيد سيد مصطفى الخميني

 

بسم الله الرحمن الرحيم

كان الشهيد سيد مصطفى الخميني رحمة الله عليه من النوابغ والشخصيات البارزة في الحوزات العلمية، وقد بلغ مدارج رفيعة في طريق العلم والعمل.

كان وارثاً للنبوغ الذاتي لسماحة الإمام(قده) وكان مثالاً له في الجلال والهيبة.

وكان متصلاً من جهة الأم بأسرة الثقفي المشهورة بالعلم والعمل. جدّه لأمه هو آية الله «آقا ميرزا محمد الثقفي» صاحب تفسير «روان جاويد»، و«الحاشية على درر الفوائد» الذي كتبه آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري، وجدّه الأعلى هو الميرزا «أبو الفضل الطهراني» مؤلف كتاب «شفاء الصدور في شرح زيارة عاشوراء»، وهو ابن الميرزا «أبو القاسم كلانتر» الذي كتب تقريرات الشيخ الأعظم الأنصاري رحمة الله عليه، والمسمّاة بـ«مطارح الأنظار».

أدّى النبوغ الذاتي للعلاّمة الشهيد إضافة إلى جدّه ومثابرته في الدراسة إلى بروزه المفاجئ في الأوساط العلمية، حتى اعتبره جميع علماء وفضلاء الحوزة العلمية في قم خلال مدّة وجيزة شخصاً كفوءاً وممن تعقد عليه الحوزة آمالها.

ومع أن العلامة الشهيد لم يكن عمره عام 1343 ـ حين إلقاء القبض عليه ونفيه إلى تركيا من قبل نظام الشاه، بعد نفي أبيه ـ قد تجاوز الرابعة والثلاثين، ولكن يستشف من مجمل كتاباته انه ألف عدّة كتب خلال هذه الفترة القصيرة. والكتب التي ألّفها العلامة الشهيد في قم هي كالآتي:

1ـ كتاب الإجارة: وقد جاء مشروحاً بالتفصيل في دفترين.

2ـ كتاب القواعد الحكمية: وهو كتاب عن القواعد العامة للفلسفة، ويبدو انه كان كبيراً ومشروحاً بالتفصيل، ولهذا السبب جاء ذكره في الكثير من مؤلفات الشهيد ويتضمن مواضيع فلسفية شتّى.

 

3ـ كتاب القواعد الفقهية: يبدو أنّ العلامة الشهيد قد بحث عدداً من القواعد الفقهية على حدة، وهو يشير في مؤلفاته إلى وجود مثل هذه الكتابات، ويمكن الإشارة من جملتها إلى قاعدة «لا ضرر» و«لا تُعاد».

4ـ حاشية على الأسفار الأربعة.

وقد درس الأسفار على يد أكابر عصره في هذا الفن؛ وكان أستاذه في قسم من الأسفار آية الله السيد أبو الحسن رفيعي القزويني. وهو الأستاذ الذي درس عنده الإمام الراحل(ره) في سنوات شبابه شرح المنظومة بين عامي 1304 ـ 1308 هـ. ش. وقد أثنى على المواضيع التي وردت في ذلك الكتاب بـ« أقول: أنها في غاية الجودة».

كما ودرس الشهيد قسماً آخر من الأسفار عند العلاّمة الأكبر فيلسوف عصرنا، العارف الواصل الإمام الراحل، حشرهُ الله مع النبي الأكرم. وإلى جانب دراسته دوّن في حاشيته آراءه وتحقيقاته.

5 ـ حاشية على «المبدأ والمعاد»:وهو كتاب من تأليف صدر المتألهين.

وهذه الحواشي إضافة إلى قلّتها، تَلف معظمها أثناء عملية التجليد، حتى فقدت فائدتها.

6 ـ رسالة في بحث قضاء الصلوات.

7 ـ رسالة في بحث الخلل في الصلاة: وهذه الرسالة كتبت في قم، ولم نحصل عليها. كما انه كتب رسالة أخرى تحمل نفس الاسم في النجف الأشرف، وسنتحدث عنها بمزيد من التفصيل في ختام هذه المقالة.

 

8 ـ الفوائد الرجالية: وهو كتاب ألّفه في بعض بحوث علم الرجال. والمؤلَّف في كتبه الأخرى يحيل القارئ إلى تلك المباحث.

من البديهي أنّ تعيين البحوث والفهارس المحتملة للكتب المفقودة لهذا الشهيد تستلزم التقصي التام في آثاره الأخرى، نأمل آن تُبذل مثل هذه الجهود على يد الطلبة الراغبين في هذا المجال.

الكتب التي ألّفها العلامة الشهيد في منفاه:

في عام 1343 وبعد اعتقال الإمام الراحل ونفيه إلى تركيا، أصبحت مهمّة تنسيق العمل الثوري وتوجيه الثورة الإسلامية الكبرى على عاتق نجله الشاب، الذي أبدى كفاءة في هذا المضمار، دفعت بالسلطة الحاكمة إلى اعتبار وجوده وحرّيته في العمل مغايرة لأهدافها؛ فسجنته ونفته إلى جوار الإمام.

 

اغتنم سيد مصطفى الفرصة التي أتيحت له في المنفى للدراسة واستلهام الفيض من أستاذه. وكما نقل الشهيد نفسه انه كانت هنالك بين الأب والابن نقاشات علمية ساخنة جعلت شرطة الأمن في تركيا يتوهمون أنّ جدالاً وقع بينهما، فيسارعون إلى تفقد الوضع في تلك الغرفة.

بادر سماحة الإمام (س) خلال فترة النفي في تركيا ـ والتي لم تدم طويلاً ـ إلى تدوين كتابه «تحرير الوسيلة» الذي قلّ نظيره، في حين لم يكن تحت تصرّفه من الكتب الفقهية إلا كتابي «وسيلة النجاة» و«العروة الوثقى»، ولم يكن معه من الكتب الروائية إلاّ دورة من كتاب «وسائل الشيعة».

هذه النقطة المهمّة التي تعكس تبحر سماحة الإمام (س) في المسائل الفقهية، تتضح ومن بداية رسالة «الواجبات في الصلاة» التي كتبها آية الله الشهيد أثناء وجوده في تركيا.

يتضمن كتاب «تحرير الوسيلة» دورة كاملة في المسائل الفقهية التي لا وجود لبعض أبوابها لا في «العروة الوثقى» ولا في «وسيلة النجاة» والتي كتبها في نص منفصل. ولكن ليس من الصعب على من يطالعها أن يدرك أنّ الكثير من البحوث الفقهية المهمة التي وردت في «تحرير الوسيلة» لا وجود لها في أيٍّ من الكتابين الفقهيين اللذين كانا تحت تصرف الإمام، وعلى الرغم من هذا فقد دوّن كتابه ذلك مع ذكر الكثير من الفروع.

خلّف العلاّمة الشهيد أثناء فترة وجوده في تركيا رسالتين:

9 ـ الواجبات في الصلاة: عرض في هذه الرسالة أقوالاً مختلفة واحتمالات شتّى استند في أكثرها إلى ذاكرته.

أشار العلامة الشهيد في هذا الكتاب إلى بعض الأحداث التاريخية، ومنها: قدوم ممثلين عن نظام الشاه إلى سماحة الإمام وأعلامه بقرار إخراجه من تركيا.

10 ـ الفوائد والعوائد: وتتضمن هذه الرسالة معلومات متفرقة في مواضيع الأصول، والفقه، والكلام، والعرفان. وتتضمن أيضاً جملاً مقتضبة ولكنّها تستعصي على الفهم في مجال الدراسة والتمحيص. وقد أورد في هذا الكتاب على سبيل المثال بحث استصحاب الكُلّي وأقسامه، واستدل على عدم إمكانيّة حصول مثل هذا الاستصحاب.

وبحث في فائدة أخرى موضوع المعاد الجسماني، وفي فائدة أخرى موضوع الدعاء، وتحدث في فائدة أخرى عن الثواب والعقاب.

وتنطوي إحدى هذه الفوائد على موضوع مثير لا تتطرق إليه كتب الأصول عادة، وهو تأثير الظروف الزمانية والمكانية في تغيير الأدلة والحُجج. يقول في هذا الصدد: بعد تصرّم عهود طويلة على مختلف العلوم واتضاح حقيقة وقوع الكثير من الأخطاء فيها، لم يعد بالإمكان انجاز التحقيقات العلمية لوحدها وبدون استشارة المختصين الآخرين، ولو أنّ أحداً أدلى برأيه بدون الاستنارة بآراء الآخرين واستشارتهم، لا يعتبر رأيه ذلك حجّة عند العقلاء.

 

إنّ رأياً كهذا لابدّ وان يقود إلى تقليص التشتت في الآراء، ويؤدي إلى نضوج وتكامل الوضع العلمي في الحوزات.

أشار في ختام هذه الفائدة إلى تاريخ تدوينها وهو يوم 22 جمادى الأولى.

كتب العلامة الشهيد في النجف الأشرف:

بعد مغادرة سماحة الإمام ونجله لتركيا وتوجهه صوب النجف الأشرف، بدأ الشهيد العزيز نشاطه السياسي على شتّى الأصعدة.

فمن جهة وجود الإمام في العراق وفي مهد الحوزات العلمية الشيعية العريقة، قد أثار حسّاسية فئة من الجهلة الذين سعوا إلى عزله عن سائر علماء النجف، وإظهاره وكأنه رجل حريص على نيل منصب المرجعية.

ومن جهة أخرى كانت سعة علاقات السيد الإمام مع إيران والبلدان الإسلامية وغير الإسلامية تستلزم إيجاد تنسيق واسع بين الشخصيات الثورية وأنصار النهضة الإسلامية. وكان ذلك التنسيق ينتهي بأجمعه إلى العلامة الشهيد سيد مصطفى، وكان حضوره إلى جانب الإمام بمثابة حلقة الوصل بين الإمام ومختلف الشخصيات.

كما ودأب المرحوم سيد مصطفى إلى كسر طوق العزلة عن الإمام، وتعريفه كمجتهد بارع، وفقيه متبحّر في مختلف العلوم الإسلامية.

أدّى حضوره في حلقات درس الأساتذة الكبار في النجف إلى شد الأنظار إليه وإلى أستاذه ووالده سماحة الإمام (س)، ونتج عنه كثرة توافد الطلبة على درس الإمام.

كان لأسلوب الإمام في التدريس، والتحقيق في المواضيع، وتقصي مختلف الآراء والأدلة، وإحاطته بجميع القواعد العامّة، وتبحّره في العلوم العقلية، ودراسته لكتب وآراء الأساتذة والشخصيات المعاصرة، إضافة إلى كثرة الأسئلة والأجوبة بينه وبين تلاميذه، دوراً في إضفاء نكهة خاصّة على درس الإمام (س)، وهذا ما كان يُعتبر ظاهرة فريدة في الحوزات العلمية في العراق يومذاك.

بالإضافة إلى النشاط السياسي الذي كان يمارسه العلامة الشهيد، وتصدّيه لمسؤولية مكتب الإمام، كان منهمكاً بالتدريس وتدوين الكثير من الكتب؛ فقد درّس أثناء إقامته في النجف دورة كاملة في الأصول، وتزامناً مع التدريس كان يدوّن آراءه الخاصّة التي انتهت به إلى تصنيف كتابه الشريف «تحريرات في الأصول».

11 ـ تحريرات في الأصول:

طبع هذا الكتاب في إيران على يد أحد تلاميذه وهو حجة الإسلام والمسلمين سيد محمد سجّادي، ويتضمن بحوثاً في علم الأصول من البداية وحتى موضوع الاستصحاب التعليقي.

وبما أنّ المؤلف قد أخذ بنظر الاعتبار في هذا الكتاب، أقوال أكثر الكتب الأصولية السابقة، لهذا أصبح كتابه هذا بمثابة شرح للكتب الأصولية، وكنقد على آراء الأصوليين أيضاً.

يعكس هذا الكتاب تبحّر مؤلفه في علم الأصول والعلوم العقلية الأخرى. ويُعد ـ بلا ريب ـ من أكثر الكتب الأصولية أهمية عند المعاصرين، وأعتقد لو أنه طبع بنحو لائق، ورفعت منه الأخطاء والنواقص وأضيفت إليه الفهارس، لما وجد أساتذة الأصول أنفسهم في غنيً عن مراجعته.

في نفس الوقت الذي التزم فيه العلامة الشهيد منتهى الدقّة والتفصيل في تقصّي المسائل الأصولية، تجنّب أيضاً ذكر البحوث غير المهمّة في كتابه، بل وعرض في بعض المواضع عناوين مستجدّة، ويمكن الإشارة على سبيل المثال إلى بحث التمسك بالعام في الشبهات المصداقية والمفهومية.

شرح العلامة سيد مصطفى في مواضيع كثيرة من كتابه، آراء أستاذه الأعظم سماحة الإمام الخميني (س)، وسعى إلى نقدها وتمحيصها في موارد متعددة.

وقد استأثرت الآراء الفقهية للعديد من العلماء باهتمام العلاّمة الشهيد وتناولها عدة مرّأت بالدراسة والنقد. وأولئك العلماء والآيات العظام هم كالآتي:

1 ـ قائد الثورة الإسلامية الكبير سماحة الإمام الخميني(ره).

2 ـ آية الله البروجردي، وقد دَرَسَ مؤلف الكتاب ـ سيد مصطفى ـ على يده الفقه، وربما الأصول أيضاً.

3 ـ آية الله الشيخ محمد حسين الغروي الأصفهاني، المعروف بالكمباني.

4 ـ آية الله ضياء الدين العراقي.

5 ـ آية الله النائيني.

6 ـ آية الله الحاج عبدالكريم الحائري.

7 ـ آية الله حجّة الكوهكمري الذي كان يعبّر عنه أحياناً بـ «جد أولادي».

8 ـ آية الله الميرزا محمد الثقفي الذي كان يسمّيه في بعض المواقف بـ«جدي المحشّي».

9 ـ آية الله السيد أبو القاسم الخوئي الذي يعبّر عنه أحياناً بـ «بعض المعاصرين».

10 ـ آية الله الشيخ محمد رضا الأصفهاني.

11 ـ آية الله الميرزا حبيب الله الرشتي الذي يعتبره العلامة الشهيد من أكبر فقهاء الشيعة.

إضافة إلى الكثير من الأساتذة المعاصرين والمتقدّمين ممن استأثروا باهتمامه.

وفضلاً عن اهتمامه بكتب المتأخرين، درس أيضاً آراء المتقدمين كالشيخ الأنصاري، والآخوند صاحب الكفاية وحواشي كتبهم، وكذلك القوانين وهداية المسترشدين والفصول.

دوّن العلامة الشهيد أثناء إقامته في النجف الأشرف عدّة كتب فقهية، وكان في نيّته تأليف مجموعة واسعة من البحوث الفقهية.

كان يعبّر عن المجموعة الفقهية التي دوّنها على مدى فترة طويلة باسم «الكتاب الكبير». إلاّ أن استشهاده قد أدّى ومع الأسف إلى عدم إتمام هذه المجموعة، كما هو الحال بالنسبة لمجموعة الأصول والتفسير أيضاً، ولكن غدا استشهاده من جهة أخرى سبباً لتأجيج لهيب الثورة الإسلامية في إيران.

أما الكتب التي في متناول أيدينا من مؤلفات الشهيد العزيز فهي:

12 ـ كتاب الصوم: طبع هذا الكتاب على يد اثنين من تلاميذه وهما: حجة الإسلام سيد محمد سجّادي، ومحمد علي رازي زاده ( عليبور). وقد ألّف العلامة الشهيد هذا الكتاب في أعقاب تدريسه لمباحث الصوم في أحد أشهر رمضان المبارك. وهذا هو الكتاب الفقهي الوحيد من كتبه التي درّسها، أما كتبه الفقهية الأخرى فقد ألّفها لأجل التحقيق فقط لا للتدريس.

تناول في هذا الكتاب الذي يضم بحثين هما النيّة والمفطّرات، شرح بعض الآراء ونقدها، وقدّم في بحوثه هذه آراءاً متعددة.

سار المؤلف في كتابه هذا وفقاً لكتاب «العروة الوثقى»، وضمّنه فروعاً أخرى من كتب مفصلة كـ«جواهر الكلام» و «تذكرة الفقهاء». وهو يعارض في بحوثه الفقهية الاستدلالات العقلية بشدّة، وكثيراً ما يتجنّب الإتيان بأي استدلال عقلي في المسألة، ويعوّل في مقابل ذلك على الفهم العرفي لما كان سائداً على عهد الأئمة المعصومين(ع)، مع السعي لتحديد المرتكزات العرفية على وجه الدقّة في تأثيرها على فهم الروايات.

13 ـ كتاب الطهارة: ويضم 514 صفحة مكتوبة بخط اليد، اعتباراً من أول مبحث المياه وحتى آخره، ومن بداية موضوع النجاسات وأحكامها وحتى فروع بحث الميتة (وهي النجاسة الرابعة الوارد ذكرها في هذا الكتاب).

تاريخ تدوين الكتاب غير محدد على وجه الدقّة، وجاء فقط في الصفحة 420 ـ التي جاءت مع ما سبقها من الصفحات وحتى بداية الكتاب في مجلد واحد على حدة ـ العبارة التالية: «الظاهر ان الفراغ من هذا التسويد كان في النصف الثاني من العشر التاسع من القرن الحاضر، 1394...»، ممّا يدلّ على ان هذا الكتاب هو عبارة عن مسودات بحث الطهارة وقد كتبه في حدود عام 1394 هـ. ق.

دَرَسَ العلامة الشهيد بحث الطهارة عند سماحة الإمام (س) بمدينة قم. ويُحتمل ان يكون قد ألّف كتاباً في هذا المضمار قبل ان ينفى.

ونظراً لحضوره في دروس الإمام، فان الكثير من مواضيع هذا الكتاب تهتم بالآراء الفقهية للإمام الراحل.

إحدى ميزات بحوث العلامة الشهيد في كتبه الفقهية هي عدم تكرار البحوث المختصة بالرجال والأصول في قضايا الفقه، بمعنى انه كان يتحاشى إدخال مواضيع الأصول أو الرجال وما فيها من استدلالات وردود، في العلوم الأخرى. ولهذا السبب أضحت كتبه الفقهية خالية من الزوائد، وتتسم معظم مواضيعها بالتركيز وعمق التخصص وسعة الفائدة.

إضافة إلى السمة المذكورة، فانّ أسلوبه في التركيز وحذف التوضيحات إلاّ في الموارد الضرورية، جعل كتبه العلمية بعيدة المنال على إفهام الطلبة، ومحصور فهمها على نطاق الأساتذة المتخصصين، والمطلعين على هذه العلوم؛ أي أنّه ـ بتعبير آخر ـ لم يسخّر قلمه للطلبة والفضلاء في المستويات الدنيا، وإنما دوّن مواضيعه للحوزات العلمية، وللعلماء الكبار، ولأجل تقدّم العلم.

وكما سبقت الإشارة، فقد اقتصر في كتاب الطهارة على بحث النجاسات الأربعة: البول، والغائط، والمني، والميتة، من بين النجاسات.

14 ـ كتاب البيع: وهذا الكتاب قد جعل في عدّة مجلدات، ولكن من المؤسف ان الموجود حالياً هو المجلد الأول فقط والذي يقع في 518 صفحة، وينتهي عند بحث «تعاقب الأيدي». ولا يوجد من جزئه الثاني إلا بحث «ولاية الفقيه». ويبدو أنّ هذا الكتاب فُقد في إيران أثناء الانتقال من العراق إلى إيران.

يتضمن هذا الكتاب ـ الذي كان نظر مؤلفه فيه إلى آراء أستاذه الأعظم، الفقيه المحقق في هذا العصر، سماحة الإمام (س) وكان ترتيبه وفقاً لترتيب كتاب «البيع» للإمام وللشيخ الأنصاري ـ مواضيع قيّمة في بحوث المعاملات، وهو من الكتب الثمينة في بحث البيع.

وكما يُستشف من نصوص الكتاب، قلما كان العلامة الشهيد يراجع المصادر الأصلية في درج أقواله، وإنّما يكتفي على الأغلب بنقل أقوال المتأخّرين. ولعل سبب ذلك يعود إلى أنّ الاعتماد والتعويل على إجماع وشهرة الفقهاء في بحوث المعاملات هو أقل مما في بحوث العبادات، مثلما أشار الكاتب نفسه في موضعٍ ما من كتاب البيع، بأنَّ الإجماع الذي يستقيه العلماء اللاحقون من السابقين بدون تعمّق في الدراسة، لا يُعتَدُّ به. كما ان مثل هذا الإجماع لا يمكن إثباته في مسائل من قبيل «لزوم الصيغة في البيع»، بل وحتى إن وُجد إجماع، لا يمكن الركون إليه؛ لأنه لو كانت هناك مسألة بالغة الأهمية، وموضع ابتلاء ونهى الشارع عنها، لكانت قد بَلَغتنا بالتأكيد.

وهذا الكتاب ـ كما هو الحال بالنسبة لسائر كتب الشهيد ـ لم يُنَقَّح ( باستثناء صفحاته الأولى). ولهذا فان عباراته المغلقة المعقّدة بما تنطوي عليه من مواضيع صعبة ومختزلة، تستلزم دقّة خاصّة من القارىء.

15 ـ كتاب الخيارات: وهذا الكتاب تعرّض لنفس المصير الذي تعرّض له كتاب البيع؛ لأن هذا الكتاب يتألف من 958 صفحة، فُقِد منه من الصفحة الأولى وحتى صفحة 540، والمتبقّي منه يبدأ من وسط موضوع مستند خيار العيب، وإلى آخر الكتاب.

من حسن الحظ أنّ هذا الكتاب مدوّن في آخره تاريخ 17 محرم 1396، وهذا التاريخ يتزامن تقريباً مع تاريخ انتهاء درس الخيارات الذي كان الإمام الخميني (س) يلقيه في النجف الأشرف. وهذا ما يدل على أنّ العلامة الشهيد كان منهمكاً في تدوين هذا الكتاب بالتزامن مع دراسته له على يد سماحة والده المحقق.

لا نقدم هاهنا أية إيضاحات حول الكتاب، وإنما نكتفي بذكر نقطة أوردها المؤلف في ختام كتابه، قال:

«هذا تمام الكلام فيما يتعلق بهذه المسألة، وقد فرغنا عنه في أيام العطلة لأجل تسخير حكومة العراق ـ خذلها الله تعالى ـ طلاب العلوم الدينية وهدم أساس الحوزة العلمية في النجف الأشرف. وقد كانت من الأيام السالفة أعداء الدين مريدين أمثال هذه الجنايات والكوارث المهلكة؛ إلاّ أنّ الله تعالى من ورائهم محيط؛ فان الإسلام يبلغ حد الشعر ولا ينقطع. وكل ذلك ممّا يرجع إلى فتور مراجع العراق، ومستند إلى عدم رشدهم. ولو كان مرجع العراق في هذه الأيام حسب ما يترائى من أشباه المسائل العصرية السيد المحقق الخميني الوالد ـ مد ظلّه ـ لما كان الأمر كما وقع. وفي المسألة تفصيل يحتاج إلى بسط البحث حول شرائط زعيم المذهب ـ وعليك أنت أن تستشف التفاصيل من هذا الكلام المجمل ـ سحر ليلة الاثنين من شهر محرم الحرام من ليلة يوم السابع عشر من سنة 1396».

16 ـ المكاسب المحرّمة: ورد اسم هذا الكتاب ضمن كتب الشهيد، ولكن من غير الواضح هل أنه ألّفه في قم أم في النجف الأشرف، وليس لهذا الكتاب أي أثر. وتوجد ثمة قرائن تشير إلى انه ألّف في النجف الأشرف.

17 ـ الخلل في الصلاة: دوّن هذا الكتاب في 182 صفحة. وبما ان بحوث الخلل في الصلاة كثيراً ما تتداخل مع البحوث الأصولية وقواعد: «لا تعاد»، و«الفراغ والتجاوز»، و«حديث الرفع»، فان البحوث المعمّقة للمؤلف فيه تنُمُّ عن تبحرّه في الفقه والأصول.

اشرنا في الفقرات السابقة إلى أنّ العلامة الشهيد كتب رسالة في حديث «لا تعاد»، وهو في كتابه هذا يحيل القارئ إلى بحوثها.

دأبَ آية الله الشهيد على تنظيم أبواب وفروع هذا الكتاب بشكل مستقل حتى بات من غير الواضح هل أنّ هذه البحوث ـ التي بلغت إلى بحث «الخلل الواقع في القيام» ـ كتبت وفقاً لدروس الفقه التي كان يلقيها سماحة الإمام (س) في النجف الاشرف أم لا؟ فان كان تدوين هذا الكتاب مقروناً بحضوره درس الإمام، يمكن الادعاء حينها أنّ هذه الكتابات هي خاتمة مؤلفاته، سيما إذا لاحظنا أنّ بعض مواضيعه غير تامة وخالية من ذكر أي تاريخ.

18 ـ الحاشية على العروة الوثقى: يضم هذا الكتاب مواضيع في الاجتهاد والتقليد، وبعضاً من مواضيع كتاب الطهارة ( المياه، والنجاسات)، وموضوع الصوم (حتّى الارتماس) وتقع في حوالي 90 صفحة. جاءت هذه الحاشية على صيغة الفتاوى، وكُتب معظمها بدون ذكر الاستدلال. وفي بعض مواردها يحيل القارئ إلى كتب أخرى تضم مواضيع مشابهة.

يبدو أنّ كتابة هذه الحواشي جاءت ضمن بحوث فقهية وفي أعقاب تدوين «الكتاب الكبير»؛ لأنَّ الشهيد قد ترك أيضاً كتاباً في الطهارة وكتاباً في الصوم ذُكرا في هذه المجموعة، وبحوث هذه التعليقات مقاربة لبحوث تلك الكتب.

وأما إذا كان تدوين حواشي هذا الكتاب قد جاء مقارناً لتدوين كتب مفصّلة في بحوث مشابهة، فُيحتمل أن يكون للعلامة الشهيد رسالة في موضوع الاجتهاد والتقليد، ولكن لا اثر لها فعلاً.

19 ـ تحرير العروة الوثقى: يقع هذا الكتاب في 69 صفحة ابتداءً من بحث التقليد والاحتياط وحتّى بحث كيفية تنجس الأجسام الطاهرة. ويحتمل أن يكون قد كتبه بالتزامن مع كتابته لحواشي العروة. أما الحافز لتأليف هذا الكتاب فقد ذكره الشهيد في مطلع كلامه، وهو انه بعد أن حصل مجال بعد التخلص من الأحداث المختلفة عزم على تهذيب كتاب «العروة الوثقى» لمؤلفه سيد محمد كاظم اليزدي، بسبب ما يشتمل عليه هذا الكتاب من تفريعات وأمثلة كثيرة لا داعي لها، إضافة إلى وجود التكرار الممّل في الكثير من المسائل، وهو ما انتهى به إلى تصنيف كتاب في الفتاوى مطابق لفتاويه.

أكد في هذا الكتاب، وفي كتاب حاشية العروة أيضاً على شرط «الورع في مرجع التقليد» لاجتماع المرجعية والزعامة في الحاضر، وقال: في بعض الظروف التي لا تتحقق شروط الزعامة والمرجعية على حد سواء، وكان تهافت في تحقق بعضها دون بعض، يجب عند ذاك ترجيح شروط الزعامة على المرجعية. وبَيَّن هذا الكلام بشأن التقليد، وذكر أنّ شروط الزعامة مقدّمة حتى على الأعلمية.

20 ـ الحاشية على تحرير الوسيلة: كتاب تحرير الوسيلة من الكتب الدقيقة والشائكة في فقه الإمامية، وكان الإمام قد كتبه ـ كما سبقت الإشارة ـ أثناء نفيه في مدينة «بورصا» التركية.

وبعد صدور هذا الكتاب الشريف، استرعى إليه انتباه الكثيرين بسبب حسن ترتيبه وفتاويه، وخاصة البحوث المهمة التي فقدت رونقها في الحوزات العلمية ـ وهو ما كانت تفتقد إليه الكتب المفصلة وشبه المفصّلة في العصر الأخير ـ فكتبت عليه الكثير من التعليقات والحواشي. وانكبّ عدد من الأساتذة الكبار في الحوزات العلمية على كتابة شروح وتعليقات عليه، واعتبر منهجاً دراسياً لبعض دروس الخارج.

من جملة الحواشي والتعليقات المهمة على هذا الكتاب، هو ما كتبه العلامة الشهيد، ولكن من المؤسف أنّ هذه المجموعة متشتتة وناقصة، شأنها شأن الكثير من مؤلفاته الأخرى.

يتألف هذا الكتاب ـ الحاشية ـ من: 61 صفحة حول بحث المياه (كامل تقريباً)، وبضع صفحات حول الخلل في الصلاة، و 56 صفحة في بحث الصوم (النيّة، والقول في ما يجب الإمساك عنه، حتّى الثامن، باستثناء الخامس منه)، و41 صفحة حول النكاح (من مسألة 11 إلى 23)، و119 صفحة في المكاسب المحرمة (وهو كامل)، و49 صفحة في البيع إلى بحث البلوغ، و129 صفحة في الخيارات ( إلى المسألة الثانية من أحكام الخيار).

اتخذت هذه التعليقات صيغة الشرح والإشكال، وهي ذات طابع استدلالي. وفي ختام بحث الخيارات جاء تاريخ 1396. وفي وسط بحث الصوم ضبط تاريخه على الشكل التالي:

«قد تم الفراغ يوم الثلاثاء من الأسبوع الأخير من شهر رمضان العام 1394 في النجف الأشرف على مهاجرها آلاف الثناء والتحية، ونسأل الله أن يوفّقنا لإتمامه في ساير شهور الصيام إن شاء الله تعالى».

يشير المؤلف في كتابه هذا إلى مؤلفاته الأخرى في شتّى المواضيع الفقهية باسم «كتابنا الكبير». وهذا ما يؤكد صحة النقطة التي سبقت الإشارة إليها بأن العلامة الشهيد كان ينوي إيجاد تناسق بين كتبه الفقهية ليجعل منها كتاباً كبيراً في الفقه.

21 ـ تفسير القرآن الكريم: يبدأ هذا التفسير من فاتحة القرآن الكريم حتى الآية 26 من سورة البقرة، ونشر في أربعة مجلدات على يد حجة الإسلام والمسلمين سيد محمد سجّادي. وتم تدوين هذا الكتاب بالتزامن مع تدريس القرآن في النجف الأشرف في مسجد الشيخ الأنصاري(ره).

وهذا الكتاب الذي يُعد تفسيراً فريداً في صياغته، من أكثر التفاسير التي كتبت منذ صدر الإسلام وحتى الآن شمولاً وتفصيلاً ؛ حيث يعالج المؤلف في هذه المجموعة كل آية من عدّة وجوه وجوانب:

1 ـ من حيث الخط: يبحث في هذا المجال كيفية رسم خط الكلمات القرآنية. فتناول مثلاً كيفية كتابة «بسم الله» و «الرحمن» و «الذين» و «استوى».

2 ـ الصرف: اهتم في هذا المضمار بالبحوث الصرفية المتعلّقة بكل آية، ومع أي رأي من الآراء الصرفية يتطابق صرف تلك الآية.

3 ـ النحو والإعراب: يُعنى هذا الباب بالأوجه التي يستفيدها النُحاة من صياغة الآيات وإعرابها.

4 ـ اللغة: يبحث في هذا الباب معنى كل كلمة بشكل دقيق.

5 ـ المعاني والبيان: يتناول في هذا الباب الإبداع والرقّة الأدبية التي وردت في الآيات القرآنية والتي تتحدث عنها كتب المعاني والبيان.

6 ـ التجويد والقراءة: قد تطرّق في هذا التفسير إلى علم القراءة ـ الذي وضع خصيصاً للاستفادة من القراءة القرآنية ـ بشكل يعكس إلمام المؤلف.

7 ـ تاريخ وأسباب نزول الآيات.

8 ـ الفقه وأصول الفقه: تحدث في هذا التفسير بإسهاب عمّا في كل آية من فقه وأصول. فهو على سبيل المثال قد تحدّث بعد ذكر الآيتين 23 و 24 من سورة البقرة: {وان كنتم في ريب ممّا نزّلناه على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله أن كنتم صادقين فان لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدّت للكافرين} عن مدى جواز الاستعانة بغير الله، وهل يجوز السجود على المعادن، وهل يصدق لفظ الأرض على الأحجار المعدنية أم لا؟ ويعود السبب في ترابط هذه المسألة الفقهية بهذه الآية الكريمة إلى أنّ الحجارة أرض، وان المقصود من الحجارة في الآية الكريمة هو نوع من الحجر المعدني استناداً إلى ما رواه ابن مسعود.

وبحث في المسألة الأصولية، هل في الآيات المذكورة دليل على نفي مفهوم الشرط أم لا؟ لأنه لا يمكن التعويل على مفهوم الشرط في الآية الأولى؛ إذ مفهوم الشرط فيها، أن لم يكن ثمة شك في نزول الآية، إذن لا تأتوا بسورة مثل القرآن. وفي الآية الثانية: إذ استطعتم الإتيان بمثل القرآن، إذن فلا تتقوا نار جهنّم.

وقال بشأن «الأسماء كلها» بما أن التأكيد خلاف الأصل؛ إذن ذكر «كلها» دليل للقائلين بأن الجمع المحلّى بالألف واللام لا يعطي معنى العموم.

وكذلك كلمة «الأسماء» التي تعني العلائم، وتعني مسمّياتها أيضاً. إذن لفظ الواحد استخدم في عدّة معاني، وقد يرى البعض في ذلك دليلاً على أن الكلمة الواحدة في الجملة ربّما تحمل عدّة معانٍ.

وذكر أيضاً بما أنّ الباري تعالى قد كلّف الملائكة بما لا طاقة لهم عليه، لعل البعض يستدل من خلال ذلك على أنّ تكليف العاجز صحيح. إضافة إلى مسائل أخرى تقع خارج نطاق هذا المجمل.

9 ـ الكلام: الكثير من المباحث الكلامية متّصلة بالآيات الإلهية بما يتناسب وعلم الكلام والمعارف القرآنية، ولهذا السبب نرى أنّ معظم كتب التفسير تمتزج بالبحوث الاعتقادية. وقد أشار العلاّمة الشهيد في تفسيره إلى مباحث علم الكلام المتعلّقة بالآيات وأفاض في شرحها. فتحدث مثلاً في ختام الآية الشريفة {مالك يوم الدين} عن دليل ثبوت هذه الصفة للباري تعالى، وعن ثبوت المعاد لأجل محاسبة العباد ومجازاتهم، وعن اختصاص المعاد بذوي العقول والمستحقّين للجزاء، وعن «يوم الدين» وهل هو متحقق حالياً حتى تكون مثل هذه الصفة لله تعالى.

10 ـ الفلسفة: أوجد الشهيد عبر تعمّقه في الفلسفة الإلهية علاقة بين آيات القرآن الكريم والكثير من المواضيع الفلسفية، وبحث في هذا التفسير طبيعة هذه العلاقة. نشير في ما يلي إلى أمثلة من هذه المسائل.

جاء في ذيل الآية: {إياك نعبد وإياك نستعين} بشأن حصر العبادة التكوينية في الله تعالى، وان الاستعانة لا تكون إلاّ بالله، وإبطال نظرية الجبر الأشعري، واثبات رأي الأشاعرة في أنّ القدرة متزامنة مع الفعل لا مقدمة عليه.

وجاء بعد ذكر الآيتين 28 و 29 من سورة البقرة بخصوص حدوث النفس والآراء المختلفة فيها، لأن الآية المذكورة جاء فيها: {وكنتم أمواتاً فأحياكم} والحال أن المخاطب مفرد، إذن من الممكن أن تتحول الصورة السابقة إلى حياة، وتنفخ فيها الروح.

ويُستفاد من هذه الآية أيضاً تأثير الواجب وصلته بالحياة والممات. كما انَّ لهذه الآية صلة ببحث إعادة المعدوم.

ويفهم أيضاً من الآية الشريفة: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض} ان العالي يفعل للداني. وهذا يتعارض مع القواعد الفلسفية.

وأشار إلى أنّ الآية {ثم استوى إلى السماء} لها تعلق بتعدد الإرادة والفعل الإلهي الذي يختلف بشأنه الحكماء وأصحاب الظاهر. وينطلق من هذه الآية لبحث تناهي أبعاد العالم ووقوعه بين مرتبتين عُليا وسفلى، إضافة إلى مسائل أخرى تتعلق بهاتين الآيتين.

11 ـ العرفان: وكما سبقت الإشارة في الفقرات السابقة فان بعض مواضيع العرفان لها صلة بالآيات القرآنية الشريفة، وان العلامة العارف قد درس هذه الصِلات بدقّة.

فقد شرح ـ على سبيل المثال ـ في ختام الآية: {نسبّح بحمدك} وبعد نقله لقول صاحب الفصوص وحاشية سماحة الإمام(ره) في تنزيه الموجودات، رأيه فيها. وعرض في أعقاب الآيات التي تتحدث عن خلق آدم(ع) مواضيع عرفانيّة كثيرة عن آدم وحوّاء، وهبوطهما.

ليس للعلامة الشهيد كتاب خاص في العرفان، ولم يذكر هو وجود مثل هذا الكتاب. والمواضع العرفانية الوحيدة التي تركها الشهيد هي تلك الواردة في كتاب التفسير، ومقاطع أخرى قصيرة ضمن كتاب «العوائد والفوائد».

12 ـ علم الحروف: تناول العلامة الشهيد ضمن تفسيره لبعض الآيات، موضوع علم الأعداد والحروف، ونظرة تلك العلوم للآيات الكريمة، ويذكر العلوم الغريبة أحياناً.

ونكتفي نحن هنا بذكر فقرات من رأيه في هذه العلوم: «اعلم أنّ علم الحروف والأعداد من العلوم الشريفة، وهو يتكفّل العلوم الغريبة، ولها المبادئ العلمية والمحاسبات الدقيقة، وله الأرباب والأصحاب، يشتغلون به في الأزمنة الطويلة. وفيها الكتب الكثيرة المطبوعة وغير المطبوعة. ومنها يشتق علم الجفر والرمل، ولا شبهة في أن الجفر من العلوم الشريفة وقد وردت فيه الآثار والأخبار».

13 ـ الأخلاق: أشير ضمن هذا التفسير في مواضع متعددة إلى جوانب أخلاقية ونصائح مفيدة، وبيّن فيها أيضاً فلسفة الأخلاق، والمواضيع الأخلاقية العلمية والروايات وما شابه ذلك.

وبالإضافة إلى ما تكرر ذكره في هذا التفسير، اهتم أيضاً بمواضيع متفرّقة أخرى من قبيل علم العروض، والموسيقى بشأن الآية {بسم الله الرحمن الرحيم}.

يشتمل هذا التفسير على الكثير من القضايا التي تهتم بها علوم القرآن. واثبت العلامة من خلال عرضه لهذه المسائل والبحوث قدرته على الكثير من الإبداع والابتكار في هذا المجال أيضاً.

وفي أعقاب ذكرنا للنقاط السالف ذكرها، نؤكد أنّ الشهيد المرحوم انتهج أسلوباً آخر في التفسير، وهو تفسير الآيات وفقاً لمختلف المسالك؛ أي يبيّن كيفية تفسير الآية من قبل الفقيه واستناداً إلى عقليته الفقهية، وكيفية تفسيرها من قبل المتكلم، وكيف يفسّرها الفيلسوف في ضوء المعطيات الفلسفية، وكيف يفهم العرفاء المراد من الآية، وحتى أنّه يضع نصب عينيه أحياناً المشرب الأدبي أو الإخباري.

استغرقت كتابة هذا التفسير مدة طويلة، إذ جاء في نهاية مبحث «بسم الله الرحمن الرحيم» تاريخ ليلة الثلاثاء 14 صفر 1390، ويبدو انه أضيفت إليها مواضيع أخرى بعد ذلك، وورد في نهاية المجلد الرابع تاريخ «سحر يوم الجمعة من جمادى الأولى 1397».

22 ـ دروس الأعلام ونقدها: هذا عنوان لكُتيّب يتألف من 70 صفحة ينقل فيه بعض دروس أكابر مدينة النجف، وملاحظاته النقدية عليها.

يذكر في بداية هذا الكتيّب انه حضر ـ بعد نفيه من تركيا إلى العراق ـ دروس أكابر العلماء في النجف لأسباب مختلفة، وانّه قد دوّن بعضاً منها، وأورد في ختامها ما خطر في ذهنه من ملاحظات نقدية بشأنها.

أمّا أعلام النجف الذين نقل أقوالهم في هذا الكتيّب أثناء حضوره دروسهم، فهم خمسة أشخاص، وأسماؤهم وفق ترتيبها في الكتاب كالتالي:

1 ـ آية الله العظمى سيد محمود الشاهرودي(قدّس سرّه). وقد جاءت دروس السيد الشاهرودي المتعلّقة بالعلم الإجمالي في ستة فصول من الكتّيب.

2 ـ سماحة الإمام الخميني (قدّس سرّه)، ورد ذكر دروسه في البيع، والمعاطات في أحد عشر فصلاً.

3 ـ آية الله العظمى الخوئي(قدّس سرّه)، ورد ذكر دروسه في الأصول، وفي اجتماع الأمر والنهي، في خمسة فصول.

4 ـ آية الله الشيخ محمد باقر الزنجاني(قدّس سرّه)، ذكرت دروسه في الاستصحاب في فصلين.

5 ـ آية الله العظمى سيد محسن الحكيم، ورد ذكر دروسه الفقهية في بابي عقد الشركة وعقد المزارعة في خمسة فصول.

من المؤسف أن تاريخ هذا الكتيّب غير متوفّر، ولكن يمكن تخمين سنة تدوينه من خلال نقل الدروس التي حضرها.

كان سيد مصطفى سابقاً لأترابه

مقتطفات من ذكريات حجّة الإسلام والمسلمين رازي زادة (علي بور)

قبل أن يفد الإمام إلى النجف الأشرف، تسللت إلى هناك بشكل غير قانوني بسبب أحداث عام 1342[هـ ش] والاشتباكات التي وقعت خلالها، وحصلتُ على جواز سفر ومكثت هناك. وعلى كل حال حينما قدم السيد الإمام ونجله سيد مصطفى من تركيا، ذهبنا برفقة جمع من الأفاضل إلى الكاظمية لاستقبالهما. التقينا هناك بسيد مصطفى، وتوطدت أواصر العلاقة بيننا. ومنذ أن بدأ بتدريس مادة الأصول، أخذت أحضر دروسه؛ كنت في البداية أحضرها لأجل الاطلاع ولأقدر مدى الفائدة التي اجنيها من درسه في موضوع الأصول. وبعد مدّة تأكد لي أن درسه في غاية الجودة حتى إنني رأيت من الأفضل أن أترك بعض دروسي واصرف همّتي لدراسة الأصول.

وقبل الحضور في درسه كنت في ما مضى أحضر درس سماحة الإمام. وحاولت تركيز جهدي على دراسة الأصول. وحتى إنني كنت أريهُ أحياناً ما أكتبه، فكان هو يصحح لي كتاباتي. وتدريجياً تولّد بيننا نوع من الألفة والمودة، حتى يمكن القول إن علاقتنا في الآونة الأخيرة أخذت طابع الصداقة، وبقي بالنسبة لي كأستاذ طبعاً.

كان سيد مصطفى يتسم بالحلم والأناة، ويتحمّل تلاميذه إلى حد بعيد، ويحثهم على المثابرة. كان من جملة سجاياه الحسنة انه كان يشرح لنا حديثاً أو حديثين قبل الشروع بتدريس الأصول. وكنت أنا أكثر من يخوضون معه في البحث والنقاش، حتى إنني كنت أشعر في بعض المواقف أن تعاملي معه فيه نوع من التطاول، أو إنني كنت استشعر هذا المعنى بعد انتهاء الدرس أحياناً، ولكنه مع كل هذا كان يتحملني. أجل هكذا كانت طباعه.

كان سيد مصطفى في غاية الأدب والرزانة وخاصة أمام الأساتذة، وفي مقابل الإمام الذي هو أستاذه الأول. وكان في قم يدرّس الفلسفة، ويدرّس المنظومة ـ في المنطق ـ، وكان الكثير من الفُضلاء يحضرون درسه. أي انه كان مدرّساً لموضوع شرح المنظومة، وقد ذكر لنا أحد العلماء المعروفين في قم انه قال: كنا ندرس المنظومة ـ في المنطق ـ عند سيد مصطفى. وحينما يقول المنظومة فمعنى هذا أنها تتضمن شرح كتاب «الأسفار الأربعة»، والطلاب الذين كانوا يدرسون المنظومة يتقنون فهم الأسفار، ولهم اطلاع في العلوم النقلية، ويعلمون أن من يدرّس المنظومة إلى أي حدّ استوعب الأسفار.

وعلى كل الأحوال، كان سيد مصطفى يجيد العلوم النقلية، ويحسن آداب اللغة، وكان حاد الذاكرة، وكنا نأخذ عنه الكثير من آداب اللغة، وحتّى عندما كنا نذهب إلى كربلاء سيراً على الأقدام، كانت تجري بيننا نقاشات واسعة وأسئلة وأجوبة. وكان له إلمام بمختلف العلوم، لكنه كان متخصصاً على وجه الدقّة بالفلسفة والعرفان؛ حيث كان يجيد العرفان النظري.

كان له اطلاع واسع في الفقه والأصول وعلم الرجال، وكان أيضاً مفسّراً بارعاً. ومن المعروف أنّ الشخص الذي يريد أن يكون مفسّراً حاذقاً لابدّ وان يكون لديه إلمام بعلوم كثيرة، وإلاّ فستكون نظرته للقرآن من جانب واحد. والمختصون في هذا المجال يعلمون أنّ البعض ينظر إلى القرآن من زاوية فلسفية، والبعض الآخر من زاوية الطبيعة، والبعض الثالث من زاوية تاريخية؛ أي أنّ كل واحد ينظر إليه من زاوية خاصة. ومن الطبيعي أنّ شمولية المعرفة تجعل من المرء مفسّراً جيداً.

حينما انتقل إلى رحمة الله كان عمره 49 سنة. والآن وبعد أن عشت بعده حوالي 20 سنة يخطر في ذهني أحياناً إنني لا ابلغ مصاف سيد مصطفى في العلوم العقلية، ولا استطيع التحدث مثله، ولا أعتقد إنني بلغت منزلته في العلوم النقلية. أي انه كان سابقاً لأترابه بثلاثين أو أربعين سنة. وكانت له سجيّة خاصة، فكان عابداً ويبدو لي انه كان مثابراً على صلاة الليل وزيارة عاشوراء، ولم يكن يتدخل في أعمال الإمام.

من صفات سماحة الإمام انه ما كان يفسح المجال أمام أحد للتدخل في أعماله، لكنه كان يُشرك المرحوم سيد مصطفى فيها، إلا انه كان يتحاشى التدخل لا في قضية الرواتب ولا في الامتحانات، حيث كان يتجنّب التدخل أو حتى التوسط فيها.

يذكر المرحوم مصطفى، إن الإمام حينما كان معتقلاً، جاء السيد الميلاني وقال لي: إنّ لي 12 مستشاراً، أما والدك فيعمل وحده كأميرالمؤمنين.

كان الإمام متيقّظاً، وأتذكر في هذا الصدد إننا كنا في ليالي شهر رمضان نبقى جالسين بعدما يلقي الإمام درسه ويغادر؛ لمواصلة بحث ما عرضه الإمام، وقد فاتنا ذات ليلة إطفاء الأضواء، وفي صباح اليوم التالي جاءني أمر من الإمام لأنبّه الشخص بأنّه لم يطفئ الأضواء الليلة البارحة. ويبدو أنّ الخادم كان قد غادر البارحة بسبب تأخر جلسة البحث. ومعنى هذا أن الإمام كان له إشراف تام على قاعة الاستقبال في داره والتي كنا نلتقي فيها للدرس والنقاش، ومن يكون مشرفاً على الأمور لا يلزمه أن يطلب تدخل غيره.

كان سيد مصطفى طالباً ومنهمكاً بدروسه وأعماله، وكان المرحوم كثير المطالعة أيضاً حيث كان يسهر لياليه حتى الصباح. وكانت حياته في غاية البساطة، وبقي إلى آخر حياته يسكن داراً مستأجرة. وكان الإمام نفسه يسكن حتى آخر حياته في دار مستأجرة.

 

محطات جهادية

* برز دور الشهيد في مواجهة النظام بعد اعتقال الإمام الخميني(رض) عام 1383، فكان له دور مهم في حركة 15 خرداد (12 محرم 1383 هـ. ق)، فقد خطب في أهالي مدينة قم المقدسة، وفي صحن فاطمة المعصومة ى خطاباً حماسياً، هاجم فيه حكومة الطاغوت واستنكر اعتقال الإمام وشرح للجماهير كيفية الاعتقال.

* بعد إبعاد الإمام الخميني إلى تركيا أقدمت السلطة حينها على اعتقال الشهيد يوم 28 جمادى الثانية 1384 هـ. ق بعدما اطلعت على نشاطه المتواصل وعلمت انه عامل أساسي في تقدم التحرك الثوري.

* كان للشهيد خلال فترة اعتقال الإمام تحركات ونشاطات واسعة أقلقت جهاز الأمن الإيراني (السافاك) فأمر الجنرال نصيري بإحضاره، ثم هدّده شخصياً باعتقال إذ لم يكفّ عن نشاطه السياسي والثوري.

* في سجن قزل قلعة سلّموا للشهيد قرار اعتقاله الخطي فكتب تحته بخط يده هذه الجملة: «إنني معترض بشدة على أصل القرار وكيفية تنفيذه. سيد مصطفى الخميني». وبعد ذلك استجوب الشهيد لمدة تسعة أيام من السجن، وهذا مقطع من الأسئلة المكتوبة من قبل جهاز السافاك وأجوبة الشهيد عليها كما جاء في إحدى الوثائق:

السؤال: ما هو هدف والدك من خطابه ضد قضية الحصانة القضائية للرعايا الأمريكيين؟

الشهيد: «إن هذه قضية فُرضت على الشعب، ولها تقريباً حكم بيع الحرية والشخصية والمكانة».

السؤال: ماذا يهدف والدك من التدخل في شؤون الدولة؟

الشهيد: «... التدخل هو من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو من أصولنا الثابتة، ومنكره كافر، وتاركه مرتكب للذنب الكبير، ولو أنّ هذا الذنب تكرّر ثلاث أو أربع مرات، وعلى احتمال خمس مرات يستوجب القتل إذا تخلّل التعزير هذا الذنب...».

* بعد مضي 75 يوماً في السجن أفرج عن الشهيد، وأثناء خروجه من السجن طلب منه الفريق مولوي (رئيس سافاك طهران) أن يرجع إلى مدينة قم ليلاً لئلا يتسبّب رجوعه في حدوث البلبلة والصخب في المدينة، ولكن الشهيد لم يكترث لهذا التحذير لأنه كان يبحث عن أي فرصة يستغلها في سبيل استمرار معارضة نظام الشاه، فعاد إلى مدينة قم المقدسة في نفس يوم خروجه من السجن، فاستقبله الناس بحفاوة بالغة وتحول استقباله تدريجياً إلى مظاهرة هُتفت فيها الشعارات المؤيدة للإمام الخميني(رض).

* بدأ يمهد الأرضية لتحرك جديد ضد نظام الشاه فور عودته إلى قم فأدّى إلى خوف النظام واضطرابه بشكل أكبر مما بعثهم على اعتقاله مرة أخرى بالرغم من انه لم تمض غير أيام على إطلاق سراحه، فهجم عملاء السافاك على بيت الإمام الخميني(رض) واعتقلوا الشهيد، وكان الهجوم على درجة من الوحشية بحيث أن زوجته أسقطت حملها ثم مرضت لفترة طويلة.

نُقل الشهيد إلى نادي رئاسة الوزراء في طهران حيث قضى ليلته، وفي اليوم الثاني أبعد إلى مدينة بورصة في تركيا حيث منفى الإمام الخميني(رض)، وكان أول ما سأله الإمام حينما رآه: هل أرسلوك إلى هنا أم جئت بنفسك؟ فأجاب الشهيد: بل أبعدوني، فقال الإمام: لو كنت قد أتيت بنفسك لأرجعتك من هذا المكان!

* بالرغم من إبعاد الشهيد آية الله سيد مصطفى الخميني مع والده الإمام عن إيران إلا أن ذلك لم يثنه عن مواصلة التحرك في سبيل إسقاط نظام الشاه الخائن بشتى الطرق، فكان على سبيل المثال يلتقي بالشباب وخصوصاً الجامعيين منهم ويراسلهم ويرشدهم إلى التكاليف الملقاة على عواتقهم.* كان يؤمن إيماناً كاملاً بالحركة المسلحة والتدرب على السلاح، فقد تعلم بنفسه شيئاً عن الأسلحة وحث بقية الطلبة وخصوصاً أصدقائه المبعدين من إيران على السفر إلى المعسكرات اللبنانية والفلسطينية وتعلم الفنون العسكرية، وقد هيأ لهم الإمكانيات لذلك قدر المستطاع. لكنه كان يؤمن بأن تكون الحركة المسلحة تحت إشراف «ولاية الفقيه» وفقاً للأصول والموازين الإسلامية.

* لم تقتصر علاقات الشهيد وارتباطاته على المناهضين للحكومة الإيرانية، فقد كانت له علاقات وثيقة بمعارضي نظام البعث في العراق أيضاً، وعلى هذا الأساس أقدمت السلطات العراقية على اعتقاله يوم 11/6/1969 وأخذته إلى بغداد.

 

أهداف الاغتيال

يبدو أنّ النظامين الإيراني والعراقي كانا متواطئين على اغتيال سيد مصطفى الخميني. ويمكن تبيان أهدافهما من وراء هذه الجريمة كالآتي:

 

1 ـ إيذاء سماحة الإمام(رض) نفسياً:

كان نظام الشاه واستجابة للسياسة الأمريكية الجديدة في عهد كارتر، بصدد ايجاد جو سياسي منفتح في إيران يمنح بموجبه الشعب شيئاً من الحرية بهدف خداع الجماهير. واستناداً إلى ما لديهم من سابق تجربة منذ عام 1341 [هـ ش] ـ حين وقف الإمام الخميني(رض) ضد المبادئ السياسية للرئيس كندي، ولم يفسح المجال أمام الشاه لاستغفال الشعب الإيراني، بل وقاد الجماهير لمناهضة سياسة الشاه وأمريكا أكثر من ذي قبل ـ كانوا على معرفة تامة بأنّ الإمام سيقف أيضاً بوجه المبادئ السياسية للرئيس كارتر، وانه سيستثمر الانفتاح السياسي لتعبئة الشعب ولإنضاج حالة الثورة، مما يقود إلى مخاطر جادّة على عرش الشاه.

وانطلاقاً من هذه الرؤية استقر عزمهم على اغتيال سيد مصطفى لتوجيه ضربة نفسية مؤلمة لسماحة الإمام لا يستطيع بعدها النهوض على قدميه، وتفقده القدرة على مجابهة الشاه.

2 ـ توقّي المخاطر المستقبلية:

كان النظامان العراقي والإيراني واقفين على حقيقة ان سيد مصطفى يحمل نفس الخصائص التي كانت في شخصية الإمام، ومن المؤكد انه سينتهج في المستقبل ذات النهج الذي يسير عليه سماحة الإمام(رض)؛ ولهذا السبب قرّرا تصفيته، لكي لا يواجها في المستقبل خمينيّاً آخر في سن الشباب.

3 ـ إيجاد حالة من الذعر والخوف:

ولكي لا يستغل العلماء المجاهدون والملتزمون حالة انفتاح الأجواء السياسية في إثارة الجماهير، فكّر نظام الشاه في بث الرعب والذعر في الحوزات والأوساط الدينية، وفرض حالة من الكبت على العلماء لتجريدهم من قدرة النشاط السياسي، وإزاحتهم من الساحة حتى تخلو الأجواء أمام التيار القومي وأنصار المجابهة البرلمانية التدريجية، وليتاح للسلطة السيطرة على الأوضاع وفقاً لمشيئة أمريكا، وإنقاذ الشاه من خطر الثورة العارمة ـ التي قد تبيد بحكمه ـ الذي خلقته النهضة الإسلامية.

كان نظام الشاه يعتقد أن اغتيال سيد مصطفى الخميني سيخلق مثل هذه الأجواء ويسيّر الأوضاع السياسية حسب مرامه.

4 ـ تعميم الثقافة الملكية:

كان نظام الشاه يتصور أنّ اغتيال سيد مصطفى الخميني سينزل ضربة مؤلمة بالنهضة الإسلامية تمكنه من إزاحة الثقافة الإسلامية الثورية، ولتحل محلها الثقافة العنصرية البالية والأفكار الملكية، ويتسنى لها السيادة في الساحة الإيرانية.

5 ـ القضاء على منهج التوعية المعادي له في النجف:

كان النظامان الإيراني والعراقي في هلع وذعر جاد من الآراء التجديدية وأساليب التوعية التي كان سيد مصطفى الخميني يمارسها في حوزة النجف. وكانا يعلمان أنّ الأوضاع إذا بقيت تسير على هذا المنوال فلن يمضي طويلاً حتى يفقد المتحجرون وطلاب العافية، وبائعو الدين بالدنيا قدرتهم في السيطرة على الحوزة وتهميش دورها، وستتحول حوزة النجف أيضاً كما هو الحال في حوزة قم إلى معقل للثورة التي سيمتد زلزالها ليهدم عروش بغداد وطهران. ولهذا السبب عقدا العزم على قتل هذا الرجل الحكيم المهذب العارف التقي الورع الذي كان شديد التفاعل مع الجيل الصاعد في الحوزة، ولم يكن يتوانى أو يقصر في العمل على توعيته؛ ظناً منهم أن عملهم هذا سيؤدي بالحوزة إلى الوقوع في الظلمة والانتكاس الكبير، ويمكنهم في النهاية من إطفاء نور الله.

 

 شهادة سيد مصطفى في نظر الإمام(ره)

بعد أن اطّلع سماحته على استشهاد نجله لم يغيّر حتى منهاجه اليومي. وفي الوقت الذي نقل فيه جثمان الشهيد إلى كربلاء، كان هو يحضر صلاة الظهر والعشاء جماعة كعادته يومياً، ثم قصد بعد ذلك دار نجله الشهيد وعزّى أسرته وأمرهم بالصبر، وقال لوالدة الشهيد الثكلى:

«انه أمانة أودعها الله عندنا، الآن أخذه منا، وإنني قد صبرت، فاصبري أنت أيضاً، وليكن صبرك لوجه الله».

حينما ذهب الإمام لأول مرّة إلى مثوى نجله الشهيد، وكانت تحيط به مجموعة من الناس، جلس على الأرض بكل بساطة، ووضع أصبعه على القبر وقرأ سورة الفاتحة بكل طمأنينة، ثم التفت إلى الحاضرين وأوصاهم بقراءة سورة الفاتحة على أرواح سائر العلماء المدفونين هناك.

عزم علماء الحوزة في النجف على إقامة مجالس التأبين على روح المرحوم حتى يوم أربعينه، لكن الإمام(رض) قال لهم في هذا الصدد: «يجب أن لا تعطل الدروس، على السادة أن يبدأوا بالتدريس». وفي ذلك الوقت أعلن لتلاميذ سيد مصطفى ومحبيه: «يجب أن تتحلوا بالروح الخلاقة، عليكم بالصبر في مثل هذه المواقف، ولا تجزعوا. واصلوا دراستكم وبناء ذاتكم».

خلافاً لما كان يتصوره نظام الشاه، بادر سماحة الإمام الخميني(رض) في يوم 10 آبان عام 1356 [هـ ش] أي بعد عشرة أيام من استشهاد نجله، إلى إلقاء خطاب حماسي اعتبر فيه فقدان أعز الناس إليه من الألطاف الإلهية الخفية، وقال:

«... لو كنا على معرفة بالألطاف الإلهية الخفية التي خبّأها الباري تعالى لعباده وانه لطيف بهم، لما جزعنا إلى هذا الحد على هذه الأمور الصغيرة التي لا تحظى بشيء من الأهمية، ولفهمنا ان وراءها مصالحاً وألطافاً».

وعلى الرغم من أوهام نظام الشاه، لم تؤد شهادة المرحوم إلى إخماد لهيب الثورة، بل على العكس جعلتها تزداد وَهَجاً يوماً بعد آخر، وتوّج هذا الوهج والضراوة بالواقعة الكبرى في يوم 19 من شهر ذي في ذلك العام احتجاجاً على مقالة بذيئة نشرت في صحيفة «اطلاعات» بتاريخ 17 من شهر دي 1356 [هـ ش].

سارع أبناء الشعب الإيراني الغيارى بعد سماعهم خبر استشهاد سيد مصطفى إلى إقامة مجالس الفاتحة على روحه. وفي أول مجلس تأبين وتجليل اضطربت مدينة قم، وفي أعقاب ذلك انتفضت المدن الأخرى وأخذت تفضح مثالب النظام. فلجأ العدو إلى استخدام القوّة ونزل إلى الساحة مدججاً بالسلاح، لكن الشعب نزل إلى الساحة أيضاً متدرعاً بدرع واجه به ذلك السلاح بل وابطل مفعوله؛ وذلك هو شعار «الله أكبر».

وتحول الشعار إلى شعور، وامتزج صوت الشعب بالإيمان فتوارى العدو. وهكذا تهاوى ذلك النظام، وكان ذلك في الحقيقة ولادة جديدة للإسلام والمسلمين.

كان نداء الشهيد آية الله سيد مصطفى الخميني هو: «سنقدم الكثير من القرابين على طريق الحرية، والانتصار في نهاية المطاف يأتي كثمرة للصمود».

 

ذكريات حول الشهيد

ذكريات عدد من أنصار الإمام الخميني(ره) عن الشهيد سيد مصطفى الخميني

 

حجة الإسلام والمسلمين المرحوم سيد أحمد الخميني(رض):

كان المرحوم سيد مصطفى الذي يبدو لي شخصاً فذّاً، يأتي إلى والدي أسبوعياً ويقبض نفقة أسبوعه، ولم يكن الإمام يمنحه أيَّ مبلغ إضافي قط، وحينما أراد سيد مصطفى الذهاب إلى الحج، جمع مصاريف الحج من ثمن داره التي باعها في قم، وبقية المبلغ حصل عليه من زوجته.

كان الإمام يقول: لا يحق لأحد الإكثار من استخدام الهاتف هنا. كان يسمح باستخدام الهاتف للمكالمات في داخل النجف فقط، ولم يكن باستطاعتنا الاتصال هاتفياً بكربلاء أو أي موضع آخر؛ لأن الإمام كان قد حرم ذلك علينا.

 

صفة التعبّد:

كان المرحوم مصطفى الخميني(ره) يقول: كان من عادة أبي الذهاب إلى الصحن الشريف الساعة التاسعة مساءً، وقراءة الزيارة الجامعة ثم العودة إلى البيت. وذات ليلة عاصفة وباردة تساقط فيها الثلج، رأيت والدي يستعد للذهاب إلى الصحن الشريف، فقلت له مبتسماً: يا أبه إن أميرالمؤمنين لا فرق لديه بين البعيد والقريب، وأنت بإمكانك قراءة الزيارة الجامعة هنا في البيت. فابتسم الإمام وقال جملة واحدة لكنها ذات قيمة تعدل العالم بأسره، قال: اطلب منك يا مصطفى أن لا تسلب منّا هذا الاندفاع العامّي.

خلّف المرحوم ـ السيد مصطفى ـ وراءه آثاراً في مجال التفسير والأنس بالقرآن تعد شاهداً بليغاً وحيّاً على كونه عارفاً بالقرآن ومفسّراً. لكن المهم هو أن شهادته والتغيير الذي طرأ على أثرها كانت منطلقاً لتحرك انتهى بالإطاحة بالنظام الشاهنشاهي، وإقامة نظام الجمهورية الإسلامية، وجسّدت مدى صلابة الإمام أزاء هذه المصيبة.

حين استشهد سيد مصطفى، قال الإمام عن شهادته: إنها من الألطاف الإلهية الخفية. كان سماحة الإمام يشارك عادة في تشييع جنائز الأكابر والعلماء، ويقصد الموضع المعد للشعائر المتعارفة ثم يعود بعد المشاركة.

وفي يوم تشييع جنازة سيد مصطفى، أدى الإمام نفس ذلك العمل فحسب، أتى إلى ذلك الموضع شارك الحضور وعاد، تعامل مع القضية بشكل عادي وطبيعي وبسعة صدر. والأهم من ذلك هو أن المقبرة التي دفن فيها سيد مصطفى كانت تضم أيضاً أضرحة علماء آخرين وكان سماحة الإمام يمر عليها يومياً حين ذهابه لأداء الزيارة، وبعد عدّة ساعات من دفن المرحوم هناك، أي في نفس تلك الليلة حينما قصد الحرم لأجل الزيارة دخل إلى تلك المقبرة، وقبل أن يذهب لقراءة الفاتحة على قبر ولده للمرة الأولى، ذهب أولاً إلى حيث يدفن العلماء الأكابر وقرأ الفاتحة لأرواحهم، ثم ذهب بعد ذلك إلى قبر سيد مصطفى وقرأ له الفاتحة، وواصل مسيرته.

هكذا كانت مواقف الإمام في صلابته وأناته. وأذكر هنا أنّ الإمام طوال مدّة زعامته للثورة التي استمرت من بعد الانتصار لمدة عشر سنوات، لم يتطرق مرّة واحدة خلال أحاديثه وخطاباته الكثيرة إلى هذه القضية ولم يذكر اسم ولده إلا في البيان الذي كان حول نفس المناسبة، الذي قرّع فيه الرجعيين والمتحجِّرين والقشريين، حيث قال: حينما كان ابني مصطفى صغيراً شرب ذات مرة ماءً من الكوز، فقالوا: يجب تطهير الكوز لأن أباه يتحدث بالفلسفة!

 

حجة الإسلام والمسلمين سيد محمود دعائي:

لدي ذكريات كثيرة عن المرحوم سيد مصطفى، ولكن أرى من الأفضل ذكر تصوراتي العامة عن حياته وعن مواقفه مع الإمام وازاء النهضة في إيران.

كان المرحوم سيد مصطفى من أبناء الذوات والشخصيات الذين يمقتون التكريم والاحترام على أساس كونه من أبناء شخصية ما. ولم يكن هذا يعني طبعاً عدم إدراكه لمكانة والده، بل انطلاقاً من الإدراك المستقل والتمتع بشخصية أصلية، كان المرحوم رجلاً ورعاً ومهذباً مثالياً يطمح إلى أن يكون كما هو، لا كما يمليه نسبه وارتباطاته العائلية، وهذا دليل على اقترابه من درجة الكمال.

فهو مع إدراكه لمدى ما تستحقه شخصية والده الرفيعة من الثناء، كان ينفر ممّا يحظى به من الاحترام والتكريم على أساس كونه ابناً له. وهذا السلوك متحد مع نهج الإمام نفسه حيث لم يكن الإمام يسمح للعلاقات العائلية والعاطفية بالتأثير على قضايا الجهاد أو قضايا الحوزة والأوساط العلمائية.

سعى الإمام منذ البداية أن لا يترعرع نجله خارج إطار الحوزة ولا يُنظر إليه كما يُنظر إلى الآخرين. ونتج عن هذا النمط من التربية أنّ المرحوم استطاع صقل شخصيته في أجواء من الحوزة بعيدة عن التبعية، وان ينال تلك الدرجة العلمية المستقلة بكفاءته وهمته.

لهذا السبب كان الإمام يكنُّ لولده احتراماً وافراً في الجوانب العلمية والأخلاقية، وكان واثقاً بما له من مكانة مستقلة وقيّمة.

لا يخفى أنّ ظروف حياة تلك العائلة وخاصة أثناء فترة نفي الإمام إلى تركيا، سنحت فيها فرصة ثمينة أمام سيد مصطفى لاكتساب العلوم من محضر أبيه فكان بالنسبة للإمام كالأنيس والمستشار العلمي، وزميل الدراسة، وكان وجوده مفيداً للإمام في لحظات الغربة والانقطاع عن الشعب الإيراني، وانقطاع الشعب عن الإمام. وهو قد جنى في تلك الفرصة فوائد جمّة من وجوده إلى جانب أبيه.

الصفة البارزة الأخرى التي شاهدتها في شخصية سيد مصطفى هي الأناة وسعة الصدر في التعامل مع شتى الفئات ومختلف الشخصيات والعلماء الذين كانوا في النجف وكانت لكل منهم صلة مع المرحوم بنحو أو آخر. كان يتصف بسعة الصدر إلى حد يفسح المجال أمامهم جميعاً لإقامة علاقات معه والحصول على الإرشادات والإمكانيات التي كان بوسعه تقديمها لهم.

كنت ذاهباً صباح ذلك اليوم لجلب الخبز ولم تكن الشمس قد أشرقت بعد، فرأيت الحاجّة صغرى ـ التي كنا نحترمها جميعاً ـ تركض حافية وتلطم على رأسها وتصرخ! ذهلت حينما شاهدت ذلك الموقف.صرخت الحاجة صغرى: يا ويلتاه، تعال، أركض يا سيدي. أصابني ذعر شديد وخطرت على ذهني أمور أخرى. فسألتها عما جرى، قالت: إن السيد مريض ـ وكانت تقصد سيد مصطفى ـ فناولت الخبز لمن يوصله إلى البيت، وسرت مضطرباً ودخلت الدار فوجدت السيد مطروحاً على سجادته.

حاولت في بداية الأمر الاتصال بأطباء مستشفى النجف لكنني لم أفلح في ذلك. لم يكن هناك طبيب ماهر يمكن الركون إليه. ذهبت بنفسي إلى المستشفى، لكن الأوضاع لم تكن مهيئة ليرسلوا سيارة أسعاف، كانت تلك اللحظات عصيبة عليَّ. وقررت هناك إيصال هذا الخبر إلى دار الإمام بشكل لا يثير الذعر والقلق؛ فمثل هذه الأخبار يجب إيصالها إلى ذوي الشخص بمنتهى الحيطة والدقّة.

كان هناك أحد طلبة العلوم الدينية، طلبتُ منه أن يذهب إلى دار الإمام ويخبر سيد أحمد فقط ويطلب منه الذهاب إلى دار أخيه فوراً. ذهب ذلك الطالب وأخبر سيد أحمد، وجئنا بسيارة أجرة كانت تشق طريقها بصعوبة عبر الأزقّة الضيّقة، ونقلناه إلى أحد المستشفيات. وبعد أن أجرى عليه الطبيب الفحوصات الأولية أخبرنا، انه ومع كل الأسف قد توفي.

كان واضحاً من خلال الأعراض البارزة على جلده أن موته لم يكن طبيعياً، بل ناتجاً عن حالة تسمّم. كانت تقف قرب المستشفى، سيارة تحمل رقم طهران، وبعد سماع خبر وفاته انطلقت من ساعتها نحو بغداد. كما كان هناك شخص متلبّس بزي علماء الدين ومرتبط بالبلاط، وكان قد تعرّض فيما مضى لسيد مصطفى وأساء إليه مرّات عديدة، هذا الرجل حاول مستميتاً أن يرى الإمام في اللحظات الأولى التي بلغهُ فيها وفاة ولده، ليرى عن كثب حالة الإمام بعد سماعه لخبر الوفاة. ولكن ما تعلمونه من صلابة مواقف الإمام، لم تترك الفرصة أمام أحد لمشاهدة دموعه على فقد ولده. فقد صمد كالطود الشامخ، وبرهن على أن قضية الولد والعلاقات العاطفية المادية لا يمكن أن تثنيه عن السير صوب هدفه. وقد أدى موقف الإمام ذاك إلى إخفاق العدو،من دم سيد مصطفى الذي أريق ظلماً ريّاً كشجرة الثورة، وكان مصدراً لكل هذا العطاء.

أتذكّر ذلك اليوم جيّداً حين جاء سيد أحمد ـ محبوب الإمام وعزيزه الآخر ـ وكان في حيرة من كيفية إبلاغ الخبر لسماحة الإمام.

وما أن دخل الدار حتى صعد إلى الطابق العلوي، وحين شعر الإمام بمجيئه صاح: يا أحمد، ماذا عن مصطفى؟ فأجابه: لا شيء. فسأله ثانية، فلم يجبه. ويبدو أن الإمام حين سأله للمرة الثالثة لم يستطع أحمد إخفاء مشاعره فانفجر باكياً، فقال له الإمام: «إن كان قد مات، قل لي، فان الموت حق». ومع استمرار بكاء سيد أحمد أدرك الإمام حقيقة الأمر.

ومن جملة الذين لم يتركوا الإمام وحيداً في تلك اللحظات المرحوم الشيخ حبيب الله الاراكي وسيد عباس خاتم وكانا من الشخصيات المرموقة ومن المقربين إلى الإمام. ولاحظوا حينها ان الإمام نظر إلى يده لحظات، وبعد أن قال: «لا حول ولا قوة إلاّ بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون» قال: «لقد كان مصطفى أمل مستقبل الإسلام، لكنه كان أمانة وذهب من أيدينا».

والعجيب في الأمر أن أحداً لم يذكر ـ ولا حتى من أفراد عائلة الإمام ـ انه بكى على مصيبة فقد ابنه. كانوا في تلك الفترة يخشون أن تؤدي هذه الصفة التي يتحلّى بها الإمام من الصبر والتحمل إلى الإضرار به، ولهذا السبب كان أحد الخطباء يعرّج على ذكر مصيبة أهل البيت ـ عندما يأتي الناس لمواساة الإمام بفقد ولده ـ لكي يذرف الإمام الدموع بسبب ما يعلمونه من رقّته ازاء مصائب أهل البيت وخاصّة جدته فاطمة الزهراء (عليها السلام).

كان سماحة الإمام نادراً ما يشارك في شعائر الدفن والصلاة على الأموات، إلاّ في حالات استثنائية حينما يكون المتوفى من الشخصيات العلمائية البارزة أو من أصدقائه وأنصاره. وكانت مشاركته بالشكل التالي: كان يأتي قبل نقل الجنازة بخمس دقائق وبعد أن تحمل يسير خلفها عشرين أو ثلاثين متراً ثم يتنحى جانباً ويركب سيّارة أجرة ويعود إلى داره. وفي اليوم الذي شيّعت فيه جنازة ولده مصطفى قام بالعمل ذاته بلا أي تمايز.

خلال جميع هذه الأحداث كان الجميع ينظرون إلى سلوك الإمام هذا بكل دهشة؛ وكيف انه يبدي هذه الدرجة من الصبر والتحمل في سبيل الله ويبقى يسير كالجبل الراسخ من دون أن يتزعزع.

 في الليلة الأولى لدفن المرحوم ذهب الإمام إلى داره لتسلية زوجته وحينما دخل من الباب التي كان سيد مصطفى يخرج منها لاستقباله، رمت زوجته بنفسها عند قدميه وقالت: ماذا أفعل؟ أين مصطفى؟ كان هذا المشهد كافياً ليذيب الصخر الأصم. لكن الإمام حافظ على صلابته ولم يذرف دمعة واحدة، مخاطبها وأعضاء الأسرة بطمأنينة وحزم: «إصبروا، وليكن صبركم قربة إلى الله. لقد كان أمانة وذهب من أيدينا».

هذه الواقعة لم تؤثر على حالة الإمام الروحية والفكرية، بل ولا حتى على برنامجه اليومي. فهو كان قد خصص ساعة من النهار لمطالعة الكتب الجديدة التي تصله. وهو على سبيل المثال طالع جميع كتب المرحوم الدكتور علي شريعتي، وكان مولعاً بمؤلفات الشهيد المطهري، وكان يرتضي آثار المطهري وكتب السيد الطالقاني. وكان يرى بالنسبة لكتب الدكتور علي شريعتي: أن لا داعي لكل هذه الهجمات والاعتراضات الموجهة ضدّها، لأنها لا تحتوي على ذلك الحد من الانحراف.

أتذكر انه كان في تلك الأيام يطالع كتاب سيد جوادي الموسوم بـ«طلوع انفجار».يقول سيد أحمد الخميني: حين عاد الإمام من تشييع الجنازة كانت قد حانت ساعة مطالعته اليومية؛ ففتح الكتاب المذكور، وأخذ يطالعه. وهذا يعكس مدى ولع الإمام بتنظيم منهجه بحيث لا تترك أية حادثة تأثيراً سلبياً على حياته. وطوال تلك المدّة لم يُسمع من الإمام بشأن ولده إلا جملتان:

الأولى قوله: كان مصطفى أملاً لمستقبل الإسلام.

والثانية: كلمته القصيرة التي ألقاها عند بداية شروعه بالتدريس بعد تلك الواقعة وشكر خلالها كل من قدّم له التعازي أو زاره، وجاء في كلمته تلك: إنّنا لا ندرك الكثير من الألطاف الإلهية؛ فلله تعالى ألطاف خفية وأخرى جلية، ولعل هذه الأحداث من جملة ألطافه الخفية التي لا نفهمها الآن ولكنها في الواقع لطفاً ورحمة إلهية، وعلى كل الأحوال فكل ما يأتي من الحبيب محبوب.

 

من جملة الذكريات التي لا أنساها ابداً، موقفان:

الأول: كان يقترن ذكر السيد مصطفى عند الإمام بحالة شعور عاطفي تعتريه، بل وكثيراً ما كان مقروناً بالألم والحسرة.

والآخر: لم أشاهد قط إن الإمام بكت عينه دمعة واحدة على استشهاد ولده مصطفى الخميني. وقد أثارت صلابته هذه الرعب في قلب العدو. كان العدو يتربّص، وقد أرسل بعض من كانوا آنذاك خارج البلد ليحضروا تلك اللحظة ويشاهدوا رد فعل الإمام عند قبر ولده. كان الجميع قد ضجّوا بالبكاء، إلا الإمام فقد بقي شامخاً كالجبل، وتصرف ازاء ذلك الموقف بشكل طبيعي جدّاً، وشق طريقه إلى غرفة المقبرة بين بكاء وضجيج الحاضرين، وسأل ـ بكل صلابة ووقارـ أين قبر مصطفى؟

دلّه الأشخاص الذين كانوا يواصلون البكاء والنحيب، على قبر الشهيد مصطفى؛ فجلس إلى جانب القبر وقرأ سورة الفاتحة.

وكان هناك أيضاً قبر الفيلسوف الكبير المرحوم الكمباني، فأشار الإمام إلى الحاضرين أن يقرأوا على روحه سورة الفاتحة.

كان هناك مراقد شخصيات أخرى طلب الإمام قراءة سورة الفاتحة على أرواحهم. وبقي طوال تلك المدّة كالجبل الأشم لم تدمع عيناه حتى قطرة واحدة، وكان هذا درساً بليغاً لمن شهده.

كان لهذا الموقف سببان:

الأول: إن لا يكون شخصية تابعة.

والثاني: أن لا يُتهم الإمام ـ وهو ما كان يؤكد عليه شخصياً ـ لا يُتهم بوجود عقل موجِّه إلى جانبه يشاركه في اتخاذ القرارات. كان السيد مصطفى يحرص على الابتعاد عن الإمام في قضية اتخاذ القرارات، وحتى في المواقف السياسية، ليتسنى للإمام اتخاذ القرار بمفرده. وكان الإمام يتصرف في هذا السياق بشكل لا يجد معه سيد مصطفى مجالاً للتدخل حتى لو قرر التدخل يوماً ما.

وهذا ما يدفعنا إلى الاعتراف بالشخصية البارعة والمستقلة للحاج سيد مصطفى باعتباره شخصاً ذا رؤية ومسار خاصّين.

 

حجة الإسلام والمسلمين فرقاني:

أتذكّر قضية وقعت ليلة وفاة سيد مصطفى: أحد الوعاظ كان يلتقي عادة مع الإمامَ وهو في طريقه إلى الصحن الشريف ويعرض على سماحته ما لديه من أمور أو يستشيره في بعض القضايا. وفي تلك الليلة جاء وقال لي: لدي قضية هل أعرضها على الإمام أم لا؟ قلت له: اعرضها عليه، وما المانع من عدم عرضها؟ كان الرجل يتحسس حالة الإمام ويخشى أن يسبب له الإزعاج أو الأذى، حيث كانت الأموال التي تأتي من إيران قد تقلّصت وكان الرجل يتصور أن الحالة المادية للإمام ليست على ما يُرام؛ ولهذا السبب استشارني في عرض القضية على الإمام.

سألته عن موضوع القضية فقال: هناك رجل شوشتري وكان شيخاً قارئاً للقرآن وكثير التدين، لديه خمسة أو ستة أطفال صغار وقد أصيب منذ أكثر من سنتين بشلل في يديه ورجليه، وقد كلّفوني أن أعرض حالته على الإمام لأجل مساعدته،فحاجته مُلحة وهو لم يضع قدمه من السرير على الأرض منذ سنتين.

قلت للرجل: لا مانع من عرضك لهذه القضية على الإمام. فتقدم إليه وعرضها على سماحته، فأجابه الإمام: قل للسيد فرقاني ليذكّرني بها غداً. فعاد الرجل وأخبرني. والإمام أيضاً نفسه حينما كان يدخل إلى الصحن الشريف التفت إليَّ وقال: يا سيد فرقاني غداً في التاسعة صباحاً ذكّرني بقضية هذا السيّد. فاستخرجت دفتراً وسجّلت الموعد فيه لكي لا أنساه ـ إذ صادف في الكثير من المواقف انني كنت أنسى المواعيد والأعمال ثم أجد في ما بعد أنّ الإمام قد أداها ولهذا السبب كنت احمل معي دفتراً أسجل فيه أمثال هذه الأمور ـ فكتبت: غداً الساعة التاسعة أذكّر الإمام بالذهاب إلى دار الشوشتري.

كنا عادة نأتي إلى صالة الاستقبال في دار الإمام عند الساعة الثامنة صباحاً. وخرجت من منزلي في الساعة السابعة والنصف لأصل قبل الموعد اليومي. وقبل أن أصل شاهدت الأزقّة وقد امتلأت بالشيوخ من طلبة العلوم الدينية، فصعقت لذلك المشهد وقلت في نفسي: أيكون.... كان باب دار الإمام، وطلبة العلوم الدينية مجتمعون هناك! فتقدم اليَّ شيخ وسألني: يا سيد فرقاني هل يأخذون جنازة سيد مصطفى إلى كربلاء؟ فقلت: يا ويلتاه، وارتعدت مفاصلي، وفهمت أنّ سيد مصطفى قد توفي. قلت له: ربّما يأخذون الجنازة إلى كربلاء، لا علم لي.

ولما وصلت إلى باب الدار وجدت سيد أحمد واقفاً هناك حاسراً ويقوم ويجلس ويبكي وينوح ويصيح: آه لقد ذهب أخي، ويلطم على رأسه ولكن بهدوء. وكان هناك أحد الطلبة يصيح ويصرخ، فقال له: بهدوء، لا يلتفت السيد الإمام. عرفت إن الإمام لم يطلع على الخبر بعد، وان كانوا يتدبّرون الأمر لكي لا يصل الخبر إلى سمع الإمام فيحزنه. واتفق الرأي على أن يذهب عدّة أشخاص إلى الإمام ويجلسون عنده ويتساءلون فيما بينهم عن حالة سيد مصطفى، فيقول أحدهم: إنهم اتصلوا هاتفياً الآن وقالوا: إن صحّته لا بأس بها، بينما يقول آخر: أنا كنت قرب الهاتف قبل قليل وقد أخبرني فلان أن اثنين من الأطباء الكبار إرتأوا نقله فوراً إلى بغداد. وهكذا يفهم الإمام إن حالة سيد مصطفى الصحية بلغت حدّاً يستوجب نقله إلى بغداد، ومعنى هذا إن حالته سيّئة. ثم يتحدث شخص آخر قائلاً: لقد سمعت كلاماً آخر وهو ضرورة نقله إلى الخارج بأسرع ما يمكن. وهكذا يسمع الإمام شيئاً آخر، ثم يقولون في نهاية المطاف أنذ طبيباً قد جاء من بغداد ووجد أنذ سيد مصطفى قد توفي. وبهذا الترتيب لا يصل الخبر إلى الإمام فجأة.

هذه الخطة كان قد رسمها سيد أحمد وعيّن أشخاصها وهم: الميرزا حبيب الله الآراكي والسيّد رضواني والسيّد كريمي وسيد عباس خاتم واثنان أو ثلاثة من الشبان الآخرين. وذهب سيد أحمد إلى الإمام وأخبره أن جماعة يستأذنون بالدخول عليه، وأذن الإمام ودخلنا وجلسنا عند الإمام، وبعد التحية والسلام سأل أحدهم: هل لديكم خبر من المستشفى عن حالة سيد مصطفى؟

فقال له الميرزا الأراكي: لقد أخبرونا الآن من المستشفى بضرورة نقله إلى بغداد بأسرع ما يمكن.

ولم يستطع سيد أحمد خنق عبرته، فانفجر باكياً، لكنه التفت إلى حضور والده، فاعرض بوجهه جانباً، ناداه له الإمام: مالَك يا أحمد؟ هل مات سيد مصطفى؟ ان أهل السماء لا يموتون، وأهل الأرض لا يبقون. فقام وتوضّأ وأخذ يقرأ القرآن. وخرجنا نحن إلى باحة الدار وفرشناها، جاء الناس لتقديم التعازي، وخرج الإمام إلى ساحة الدار ووجدها مليئة بالناس، وحضر كافة العلماء العرب، ولا ترى في الحضور إلاّ باكياً، وكان كل واحد من هؤلاء العلماء العرب يقوم ويتكلم بين يدي الإمام ويواسيه ويعلن موالاته.

وما أن استوعبت خبر وفاة سيد مصطفى حتى تذكرت موعد الساعة التاسعة. قلت في نفسي: من ذا الذي يستطيع أن يذكّر الإمام بقضية الشيخ التي حدد لها موعداً في الساعة التاسعة من صباح هذا اليوم؟ وبدأ لي أن أذهب بنفسي وأذكره، لكنني رأيت إنّ الوضع لا يسمح والظرف غير مناسب.

جلس الإمام في باحة الدار وكان يقوم لكل من يمر أمامه وكنت أنا واقفاً عند الباب. لاحظت إن الإمام كان ينظر إليَّ شزراً. تساءلت مع نفسي: لماذا ينظر إليَّ الإمام هكذا؟ هل عمامتي ليست في وضع صحيح؟ أم أن أزرار ثيابي مفتوحة؟ كنت على معرفة بنظرات الإمام، وكان أحياناً يحدّثني نظراته. تقدمت إليه وسألته، يا مولاي، هل من أمر؟ قال: أدنو مني. اقتربت وأدنيت رأسي منه.

قال: ألم يكن من المقرر أن تذكرني في الساعة التاسعة ـ والساعة الآن التاسعة وعشر دقائق ـ بما قاله الشيخ واعظ.

سترت وجهي بيدي حاولت أن أبدو رابط الجأش ولا أبكي أمامه، لا أثير وجدَه، ولكني لم استطع في تلك اللحظة مغالبة عواطفي. قلتُ له: يا سيّدي، أفي مثل هذه الحالة؟ قال: ما هذا الكلام؟ انهض وتعال معي. قام من بين الناس ودخل الغرفة ووضع نقوداً في مظروف وألصقه. وقد تصرّف بشكل لا يثير إليه التفات أي شخص.

ناولني المظروف وقال: تذهب بهذا على الفور وإلى الشيخ الشوشتري وتبلّغه سلامي وتحياتي، وتعود. حدّثتني نفسي إن المعزّين كثير ولن يذهب الإمام إلى المسجد لإقامة الصلاة. إذن سأذهب إلى دار الشوشتري في وقت لاحق.

بعد خمس دقائق سألني الإمام: الم تذهب يا سيد فرقاني؟ قلت: سأذهب. قال: توكّل على الله واذهب الآن. وعلى كل حال سرت في الأزقة حتى وصلت إلى دار الشوشتري. طرقت الباب، فكلمتني أمرأة من وراء الباب قائلة: مَن؟ فأجبتها، فهمت المرأة لأنني كنت أبكي وقلت لها: إنني قادم من دار السيد الخميني ويجب أن أرى سماحة الشيخ وأبلّغه تحيات السيد الخميني.

لطمت المرأة وجهها بيديها وصاحت: يا ويلتاه، الخميني يفكّر في وضعنا في مثل هذا اليوم! (المرأة كانت قد خرجت إلى السوق لشراء شيء وسمعت هناك بوفاة سيد مصطفى، ودارهم كانت قريبة من دار الإمام. وكانت المرأة قد ظنت في نفسها أنّ وفاة سيد مصطفى في مثل هذا اليوم كانت من سوء حظّهم، ومن غير الواضح أنّ الإمام سيلتفت إلى حالتهم بعد سنة أو أكثر).

فتحت الباب ودخلت، فوجدت الشخص في حالة يُرثى لها، لا يستطيع الكلام. اقتربت من سريره، ورأيت أربعة أو خمسة أطفال يتناولون الخبز وماء السكّر. سلّمت عليّ الشيخ فرد علي السلام، قلت له: أرسلني السيد الخميني. فأخذ يصرخ ويضرب على وجهه ورأسه بيده، وقال: وفي هذا الوقت؛ إنّ ولده قد توفي توّاً وقلبه طافح بالحزن؟! قلت: إنني كنت أريد القدوم إليكم عند الظهر إلا أنّ سماحته أكد عليَّ بأنّ آتيكم الآن وأستفسر عن أحوالكم. كان الرجل يصرخ ويصيح وامرأته تفسّر لي كلامه وانه يقول: بلغ سلامي للإمام الخميني، فقلت له: ادع للإمام بطول العمر، فكان الشيخ يرفع بدنه ويضرب به الأرض، فقد كان في حالة انفعال شديدة.

وضعت المظروف أمامه، فتناول تربة ووضعها على جبهته مؤدياً سجدة الشكر لأنه كان عاجزاً عن السجود، وكان يدعو باستمرار. وبعدما عدت إلى دار الإمام سألني ليطمئن قبله: هل ذهبت؟ قلت: نعم.

وبعدما غادر الجميع قام وتوضّأ وقال: أريد الذهاب إلى المسجد. فسارعت وقلت لأحد خدمه: أسرع إلى المسجد وقل لخادم المسجد أن يفرش السجّادة. فذهب ولكنه لم يجد خادم المسجد، فذهب إلى دار أحد الأشخاص ممن كان جاراً للمسجد وجلب منه سجّادة وبسطها للإمام. ولما علم الناس أنّ الإمام قادم للصلاة في المسجد أخذوا يتوافدون عليه من كل صوب وتجمعوا هناك وكانوا يبكون وشكّلوا صفين فاجتاز الإمام بينهما حتى دخل المسجد. وكان العرب متعجبين يقول بعضهم لبعض: «الخميني أبداً ما يبكي!». وبعد انتهاء الصلاة، قُُرِئ مجلس حسيني، فبكى الناس وضجّون بالبكاء.

 

السيدة الحائري:

هناك شكوك حول وفاة سيد مصطفى بالسكتة القلبية؛ فقد كان قوياً ويتمتع بصحة تامة ولم يكن يشكو من أي مرض، ولهذا السبب لم يكن من الممكن وفاته بالسكتة القلبية. في ليلة الثاني من شهر آبان ـ جاء إلى الدار مبكراً على غير عادته في الأيام الأخرى، لأنه كان من المقرر أن يأتي إلى دارنا أحمد مع جماعة آخرين. وبعد انتهاء الزيارة ومغادرتهم، انهمك كعادته بالمطالعة والعبادة (كان عادة لا ينام الليل، وإنما ينام بضع ساعات بعد صلاة الفجر). وفي اليوم التالي حينما ذهبت الجدّة صغرى إلى غرفته لعمل ما لاحظت انه كان وراء الطاولة ويده ملقاة على الكتاب ورأسه مائل ولا يبدي أية حركة.

أرادت الجدّة صغرى إيقاظه لينهض وينام في مكانه لكنّها شعرت انه قد توفي. جاءت إليَّ وأيقظتني، فأسرعت إليه ووجدت أن أظافره صارت بنفسجية اللون وعلى أكتافه أيضاً عدّة بقع ذات لون بنفسجي، فنقلناه من ساعته وبمساعدة بعض الأشخاص إلى المستشفى، لكن الأطباء قالوا: انه قد توفي قبل ساعة، وكان رأيهم انه قد توفي بالسم، إلا أنّ الحكومة اعترضت على هذا الرأي وأمرت بالتغطية على هذه القضية، وحاولت أن تظهر وكأنه توفي السكتة القلبية!

 

حجة الإسلام والمسلمين قرهي:

حينما كان الإمام في النجف، أستُخدِم شخص ليقدم الشاي في دار سماحته. لم تكن ثياب هذا الشخص على قدر كاف من النظافة ـ كانت ثيابه رثّة وقذرة ـ فأمرني سيد مصطفى أن أشتري ثوباً ـ دشداشة ـ وأعطيه لهذا الرجل كلّفت أحد الأشخاص فذهب واشترى قماشاً وأعطاه للخياط فخاطه، وكانت كلفة القماش والخياطة ديناراً وربع الدينار.

دونت المبلغ عندي لأنني كنت مكلفاً بتسجيل كل مبلغ أنفقه، وأقّدم قائمة بالحساب كل بضعة أيام إلى سماحة الإمام. بعد عدّة أيام قدّمت تلك القائمة للإمام. وعندما كنا قادمين من المدرسة أو من المسجد قال لي: انك لا تراعي الدقّة في عملك ـ كنت أعتقد أنني لم افعل ما يخالف الدقّة ـ فسألته: وما الذي فعلته؟ قال: كان يجب أن تعلمني بقضية الثوب، فقلت له: السيد مصطفى هو قال ذلك. قال: أنا الذي ينبغي أن أقول.

كنت على معرفة تامّة بالإمام، وإذا كنت أدين له بالولاء مرّة صرت الآن أدين له ألف مرّة؛ فانّه ومع عمق محبته لسيد مصطفى، ومع ما كان للمرحوم من شخصية، إلاّ انه لا يتعاطف في هذه الأمور حتى مع ولده، فما بالك لو أراد أحد المحيطين به أن يفعل شيئاً.

 

الشهيد مصطفى في كلام الإمام الخميني(قده)

كان مصطفى أمل مستقبل الإسلام. كانت شهادته من الألطاف الإلهية الخفية.

... كنت أتأمل أن يكون هذا المرحوم [آية الله الشهيد سيد مصطفى] خادماً ونافعاً للإسلام والمسلمين، ولكن لا راد لقضائه، وان الله لغني عن العالمين.

نحمد الله أنّ الشعوب الإسلامية وخاصّة في إيران اتجهت صوب التحرك الواعي. وهي غير قائمة أبداً بشخص. ويؤمل أن تبلغ طموحها المرجوّة وهي تطبيق الأحكام الإلهية وقطع أيدي الجبابرة والمترفين في القريب العاجل.

 (صحيفة النور ج 22، ص117)