شهر رمضان شهر الفرص المباركة

2008-08-27

 

بسم الله الرحمن الرحيم

كان الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أقبل شهر رمضان يدعوا الناس إلى التهيّؤ والاستعداد لاستقبال هذا الشهر العظيم والمبارك، فيقول: {قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة}. إذ تشير إحدى الروايات أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان في خطبة الجمعة الأخيرة من شهر شعبان يُنبّه الناس للإستعداد لاستقبال شهر رمضان المبارك قائلاً: (قد أقبل إليكم شهر رمضان).

وإذا ما أردنا أن نعرّف شهر رمضان المبارك بجملة واحدة فإنّنا نقول: هو شهر الفرص؛ لِمَا يحمله هذا الشهر المبارك من فرص كثيرة لي ولكم، فإذا ما اغتنمنا هذه الفرص فإننا سنتزوّد بكثير من الصفات والبركات العظيمة. لذا فإنني سأخصص الخطبة الأولى لتوضيح هذا الموضوع والتحدّث باختصار عن بركات شهر رمضان وما يحمله من فرص عظيمة.

قال الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبته التي أشرنا إليها عن شهر رمضان: (شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله) وهي جملة تحتاج في حدّ ذاتها إلى تدبّر وتأمل.

فالله تعالى لم يجبر جميع الناس على الاستفادة من هذه الضيافة، بل جعلها فريضة علينا لكنه تركنا مختارين في الاستفادة من هذه الضيافة أم لا. إذ لا يجد البعض فرصة للاهتمام بهذه الضيافة؛ لغفلتهم وانغماسهم في أهوائهم الدنيوية والمادية إلى درجة أنّ شهر رمضان يمرّ عليهم دون أن يشعروا به، شأنهم في ذلك شأن من يُدعى إلى ضيافة كثيرة الخير والبركة لكنه لا يجد فرصة حتى للنظر في بطاقة الدعوة، فمثل هؤلاء يخرجون من هذه الضيافة خالي الوفاض تماماً.

البعض الآخر يعلم بهذه الضيافة لكنهم لا يذهبون إليها، وهم مَنْ حرمهم الله من لطفه وعنايته, فلم يصوموا هذا الشهر المبارك دون عذر شرعي، أو أنهم لم يوفّقوا لتلاوة القرآن أو الاستفادة من أدعية هذا الشهر المبارك، وجزاء من لا يذهب إلى هذه الضيافة معلوم.

أما أغلب المسلمين ـ أمثالنا ـ فإنّنا نلبّي هذه الدعوة لكننا نتفاوت في مقدار ما نستثمره منها، إذ يغتنم بعضنا هذه الفرصة فيستفيد منها بأكبر قدر ممكن.

ولعلّ ترويض النفس لتحمّل الصيام ومشقّة الجوع والعطش، أهم ما نستفيد من هذه الضيافة الإلهية؛ لِمَا يحمله الصيام من بركات وصفات معنوية تزيد الإنسان إيماناً ونوراً.

فالبعض يصوم هذا الشهر الفضيل ويستفيد من هذه الضيافة الإلهية، لكنهم وإضافة إلى ما يجنونه من بركات هذا الصيام، فإنهم يغذّون أنفسهم بتلاوة القرآن الكريم بتدبير وتأمل في أيام وليالي هذا الشهر المبارك؛ لِمَا تحمله هذه التلاوة في حالة الصيام والانقطاع إلى الله والأنس بالقرآن ومخاطبة الحق تعالى في ليالي هذا الشهر الفضيل من لذّة تفوق أي لذة أخرى يمكن أن يتذوقها الإنسان من تلاوة القرآن في الأيام والليالي العادية.

كما يستفيد الصائمون أيضاً من مخاطبة الله تعالى والتضرع والدعاء إليه وكشفهم لمكنونات النفس وأسرار القلب, من خلال أدعية شهر رمضان، كدعاء أبي حمزة الثمالي وأدعية الأيام والليالي وأدعية السحر فإنها كلام مع الله تعالى؛ لأن التضرع إلى الله والطلب منهم يُعدّ تقرّباً لذاته المقدسة، من هذا تتضح المكاسب التي يمكن أن يجنيها الصائم من هذه الضيافة الإلهية.

أما أهم الأعمال في هذا الشهر المبارك فهو اجتناب الذنوب، إذ نجد في نفس الخطبة التي أشرنا إليها أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) يسأل الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) عن أفضل الأعمال في شهر رمضان، فيجيب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): (الورع عن محارم الله).

فاجتناب الذنوب والورع عن المحارم مقدمة على جميع الأعمال الحسنة؛ لِمَا يؤديه ذلك من تطهير للنفس وصفاء للقلب.

إذن في هذا الشهر المبارك، صيام، وتلاوة قرآن ودعاء وذكر، واجتناب للذنوب، وكل هذه الأعمال تقرّب الإنسان من كماله الأخلاقي الذي يدعو إليه الإسلام؛ لأنها تطهّر قلب الإنسان من الضغينة والحقد وتحيي في نفسه روح التضحية والفداء، والأخذ بأيدي المحرومين والضعفاء، وتدفع الإنسان إلى الإيثار في الأمور المادية، لذا فإننا نرى أنّ الجريمة تقلّ كثيراً في شهر رمضان، وتزداد أعمال الخير وتسود المحبة بين أفراد المجتمع أكثر من أي وقت آخر، وليس هذا إلاّ ببركة هذه الضيافة الإلهية.

فالبعض إذاً يستفيد من هذا الشهر المبارك إلى أقصى حدّ ممكن، بينما البعض الآخر يستفيد من شيء لكنه يحرم نفسه من شيء آخر؛ لذا يجب على جميع المسلمين الاستفادة القصوى من بركات هذه الضيافة الإلهية وطلب رحمة الله ومغفرته، ولا يحصل ذلك إلاّ بالاستغفار لذا فإني أؤكد على الاستغفار؛ الاستغفار من الذنوب, والاستغفار من الخطايا, والاستغفار من الانحراف، سواء كانت من الكبائر أو الصغائر.

فمن المهم أن نطهّر قلوبنا ونفوسنا من الرذائل والذنوب والأحقاد، ولا يحصل ذلك إلاّ بالاستغفار، لذا نجد في كثير من الروايات التأكيد عليه واعتباره أهم الأدعية.

إنّ طلب مغفرة الله تعالى هو نوع من الاستغفار، حتى أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يستغفر الله كثيراً. فالاستغفار لأمثالنا هو استغفار من الذنوب المتعارفة وما تفرزه رغباتنا الحيوانية وأهوائنا النفسية وهي ذنوب واضحة.

في حين يستغفر بعض الناس ليس من هذه الذنوب المتعارفة بل من ترك الأولى؛ أما البعض الآخر من الأفراد فإنهم لا يتركون الأولى، لكنهم يستغفرون أيضاً, وهذا الاستغفار هو استغفار لقصورهم الذاتي والطبيعي في قبال ذات الله المقدسة. وهناك استغفار من عدم المعرفة الكاملة لله تعالى، وهو استغفار الأولياء والصالحين.

إذاً، يجب علينا الاستغفار، وأهم ما نستفيده من هذا الاستغفار هو الابتعاد عن غفلة النفس، إذ إننا كثيراً ما نرتكب الأخطاء بحق أنفسنا، وعندما نستغفر الله تعالى من الذنوب والخطايا تتجسّم أمام أعيننا جميع هذه الذنوب وكل ما ارتكبناه من خطايا واتّباع لأهواء النفس، وتجاوز لحدود الله، وظلم لأنفسنا وظلم للآخرين، مما يُبّعدنا عن غرور النفس والغفلة عنها. كما أنّ الله تعالى قد وعد الناس بقبول التوبة والاستغفار إذا كان حقيقياً نابعاً من صميم القلب، إذ قال:{لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا}(1)، فهذا الاستغفار هو رجوع الى الله، واجتناب للذنوب والخطايا وبالتالي فهو استغفار حقيقي يقبله الله تعالى.

واعلموا أنْ لا فائدة من الاستغفار عندما يكون مجرد لقلقة لسان, كأن يردد الإنسان: استغفر الله، استغفر الله، وفكره وحواسه في مكان آخر، بل لابد أن يكون الاستغفار حقيقياً؛ لأنه نوع من الدعاء والطلب من الله تعالى، وبالتالي يجب أن يكون طلب الرحمة والمغفرة من الله حقيقياً مع الخضوع والتضرع, كأن يقول الإنسان: إلهي لقد أذنبت فاغفر لي وارحمني، وهذا الاستغفار سيتبعه حتماً مغفرة الله ورحمته؛ لأن الله قد جعل باب التوبة والاستغفار مفتوحاً لجميع الناس.

وقد منع الإسلام الإقرار بالذنب والاعتراف به أمام الآخرين، كما هو الحال في بعض الأديان التي تدعوا الناس الى الاعتراف بذنوبهم أمام رجال الدين أو القسيس مثلاً؛ لأن الإسلام لا يرى فائدة في كشف الأسرار والاعتراف بالذنوب أمام الآخرين، إذ يعتقد أنّ الله هو الوحيد القادر على غفران الذنوب وقبول التوبة لا القسيس ولا أي شخص آخر كما هو الحال في بعض الأديان الواهية المحرّفة.

فالآية الكريمة تقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا}(2). أي أنّ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) لا يغفر الذنوب بل يستغفر لهم الله؛ لأنه الوحيد القادر على غفران الذنوب.

إذاً، لا تغفلوا عن الاستغفار في هذا الشهر المبارك خاصة في الليالي ووقت السحر؛ لِمَا لذلك من مكانة عظيمة عند الله تعالى، واهتمّوا بقراءة الأدعية وتدبّروا معانيها أيضاً.

الحمد لله أنّ مجتمعنا مجتمع معنوي، يكثر الدعاء والتوسل والابتهال الى الله بين أفراده، ويستأنس شبابه بذكر الله، وهذه من الفرص العظيمة التي يجب الاستفادة منها. كما أنّ شهر رمضان المبارك هو أحد الفرص التي منحها الله إيّانا؛ لذا علينا الاستفادة منها الى أقصى حدّ ممكن، بأن تتقرّب القلوب الى الله، وتتطهّر بالاستغفار والتوبة، ونتوسل الى الله لقضاء حوائجنا. فهذا الارتباط المعنوي بين شعبنا والله تعالى قد حقق لنا الكثير من المنجزات والمكاسب العظيمة، وشهر رمضان إحدى الفرص لتوثيق هذا الارتباط، فعلينا اغتنامها والاستفادة منها.

أسأل الله تعالى أن يوفق الجميع في هذا الشهر المبارك حتى تتغلب صفاتنا الملائكية على غرائزنا الحيوانية، إذ نمتلك جميعاً نوعين من الصفات: إحداهما ملائكية, وأخرى مادية وحيوانية، حيث تتغلب الصفات المادية على صفاتنا الملائكية عند النزوع الى أهوائنا النفسية.

وإن شاء الله نتمكن في شهر رمضان من تقوية صفاتنا الملائكية والمعنوية؛ حتى تتغلب على صفاتنا المادية، ونجعل من شهر رمضان تمريناً معنوياً يفيدنا طيلة أيام السنة.

ــــــــــــــــ

(1) سورة النساء: 64.

(2) سورة النساء: 64.