مدرسة الإمام الخميني ودورها في صيانة ثقافة عاشوراء

تمهيد

الإسلام دين العقل والتعقل، دين العلم والتدبر؛ فللعقل مكانة سامقة لا تضاهيها مكانة مقابل الجوانب الإنسانية الأخرى، والقرآن الكريم يقابل المعارضين بالاستدلال العقلي والأسلوب المنطقي في إقامة الحجة، كقوله تعالى: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}(1).

ولهذا حرص الإسلام على أن تكون مباني العقيدة قائمة على ركن وثيق من العلم والمنطق والعقل السليم، بل وعمد إلى تفاصيل الحياة الجزئية فأرفدها بنظم وتعليمات جعلت من مسيرة الإنسان تخطو خطواتها المتئدة، واثقة من سلامة مواطئ أقدامها، ومباهية الأمم برزانة ورصانة المبادئ والمعتقدات والسلوك الذي بَنت عليه بنيانها وكيانها الشامخ.

ولا بدع أن لا تجد في مفاهيم الإسلام وسلوكياته ـ ولو بإشارة عابرة ـ تأييد شيء من قبيل الخرافة(2) والأسطورة أو التنبؤات والتنجيم والسحر والطيرة والبدعة والغلو وغيرها مما يتعارض والأصول العامة للدين.

حول مفهوم الخرافة

تصدى القرآن الكريم لكل أشكال الضلالات والأباطيل في العديد من الآيات الشريفة وفي مناسبات مختلفة؛ قال تعالى: {وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون}(3)، كما حمل على السحر والسحرة ووصف عملهم بالكيد والخديعة، ووعدهم بعدم الفلاح، وكذلك نهى سبحانه وتعالى عن الطيرة والاستقسام بالأزلام.

وكما جاءت الشواهد القرآنية نافية لمثل تلك الممارسات، جاءت السنة النبوية وروايات أهل البيت (ع) داعمة وشارحة ومؤكدة للكتاب العزيز بشأن الابتعاد عن أمثال هذه الأباطيل والجهالات؛ فقد ورد في الخبر عن الرسول (ص) قوله: «ليس منا من تَطيَّر ولا من تُطيَّر له أو تَكهَّن أو تُكهِّنَ له أو سَحَر أو سُحِر له»(4).

وعن الإمام السجاد (ع) قال: «أحبونا حب الإسلام، فما زال حبكم لنا حتى صار شيناً علينا»(5)، وهو إشارة منه (ع) إلى عدم استغراق الناس في حب ذواتهم المقدسة فيخرجهم ذلك الحب إلى الغلو وتجاوز الحد. فهو (ع) إنما أوجد الذي يقتضيه الإسلام.

وعلى منهج الأئمة صلوات الله عليهم أجمعين الذين هو منهج وسيرة الرسول (ص) وامتداد له، سار فقهاؤنا وعلماؤنا رضوان الله تعالى عليهم وواصلوا المسير على منهاج واحد، واقعين بالشبهات والأضاليل ومضحين بالنفس والنفيس من أجل ثبات المبدأ وأصالة العقيدة، والحفاظ على صفاء الدين.

وقد برز في هذا المضمار رجال شهدت لهم سوح العقيدة رسوخ القدم في الشدائد والأهوال، والصبر والمصابرة لدى اشتداد المحنة، فكان الإمام الخميني (قدس سره) رجل القرن العشرين ومن تخرج في مدرسته، وعلى هذا كان مدار البحث.

ولقد واجه علماؤنا المخلصون العاملون وعلى مر السنين كل ما هو دخيل على الإسلام الأصيل، وحاربوا البدعة والخرافة، لما لهما من أثر في حرف أفكار الناس عن المسار الصحيح. من هنا كان لابد من معرفة شيء عن الخرافة ونشوئها.

الخرافة لغة: هي من خَرِفَ وخَرُف خرفاً: فسد عقله من الكِبَر(6).

وأما في الاصطلاح فتعني: الاسطورة أو الأحاديث التي لا واقع لها.

وهي بالتالي لا تعدو كونها أحاديث وأباطيل أُريد منها حرف أذهان الناس وتضليلهم.

وعلى اعتبار أن الخرافة معتقد أو ممارسة لا عقلانية، فهي قد تكون دينية، وقد تكون ثقافية أو اجتماعية، وقد تكون شخصية(7).

سبب نشوء الخرافة

للخرافة ظروف وعوامل عديدة تساعد على شيوعها وتأصيلها بين أفراد المجتمع، من تلك الظروف والعوامل:

أولاً: حالة الفراغ الفكري التي تسود المجتمعات، الأمر الذي يؤدي إلى التقاط ما يطرح ويشاع في هذا الوسط والاعتقاد به لملء الفجوات الناتجة عن تلك الحالة.

ثانياً: تدني المستوى الثقافي بين أفراد المجتمع، مما يهيئ ويساعد على إيجاد أرضية ملائمة لبروز الخرافة ونموها وتفاعلها مع التفكير الإنساني، بل وتطويرها في أغلب الأحايين، لتصبح على شكل عقائد وممارسات تتخذ أشكالاً مختلفة تسيّر الفرد والمجتمع، وتحكم تصرفاته على أنها مبادئ دينية لا يمكن تجاوزها.

ثالثاً: عدم الاتزان العاطفي؛ فبعض الناس يمتازون بوفرة العاطفة وزيادتها عن الحد المطلوب، مما يؤدي بهؤلاء إلى ضعف العقيدة والمغالاة في الحب والبغض، والتمسك بالأُمور المثيرة والأحاديث والأقوال الغريبة.

رابعاً: انحسار دور المُصلح والموجّه للأمة، وهو ما له أثر بالغ في شيوع الخرافة وتفاعلها في الوسط الاجتماعي المهيأ والذي يمتلك العناصر المساعدة لتلقّي الخرافة والاندكاك بها.

فالعالم يجب أن يكون طبيباً دواراً بعلمه في حال وقوع المجتمع في أزمات وأن يكتب الدين وتعاليمه بلغة تلائم العصر ومتطلباته؛ لتعم الفائدة جميع طبقات المجتمع.

خامساً: ضعف الشعور الديني وعدم تأصّل العقيدة في النفوس، مما تُلجئ الإنسان إلى الاعتقاد بأمور قد تكون من وحي تفكيره وخياله المجرد، فيتطير بها أو قد يتخيل الأسطورة من أَناسِيّ توهموا في اعتقاد أمور وأشياء ظنوا بها صلاحهم وخلاصهم، أو من آخرين عمدوا إلى نشر الأضاليل في المجتمع لمصالح خاصة يبغون تحقيقها.

ولسنا بصدد إيراد شواهد من التاريخ القريب والسحيق لظاهرة شيوع الأساطير والخرافات في المجتمعات الإنسانية البدائية منها والمتحضرة.

والذي يهمنا من البحث هو بروز بعض أشكال الخرافات في المجتمع الإسلامي عامة، ومجتمعنا الشيعي بشكل خاص، رغم سموّ المبادئ الإسلامية وأصالة المعتقد الشيعي المرتبط ارتباطاً وثيقاً بصاحب الرسالة الكبرى النبي الأكرم محمد (ص) عبر أهل بيته الأطهار، حبل الله المتين، وسفن النجاة، الذين ما فتئوا يصححون الأفكار من الشبهات العالقة بها، ويقوّمون العادات والتقاليد والطقوس مما يُلحق بها من زيادة، ويعتريها من نقصان.

ومبدئياً أنه لا وجود لعنصر الخرافة في المعتقد الشيعي البتة، اللهم إلا بعض الممارسات الخاطئة من بعض الشيعة، والتي لا تمثل بأي حال من الأحوال العقيدة الشيعية. ومن التجني على العقيدة والمبدأ أن يوصم بتصرفات زمرة معينة منتسبة إليه، أساءت في طريقة تفكيرها أو تصرفاتها اللامسؤولة، ولهذا يجب التفريق بين أصالة المذهب وبين سلوك بعض المنتمين إليه.

وهكذا سار سلفنا الصالح على خطى أهل بيت العصمة والطهارة (ع) في مواجهة الضلالات وأهل الأهواء والبدع؛ فكان في كل عصر ومصر عَلَم من أعلام العقيدة المنافحين عن الحق، والداعين إلى النزوع والتمسك بأصالة المبدأ والتخلي عن السفاسف والقشور، ومن أولئك المعاصرين إمامنا الراحل (قده).

ثورة الإمام الخميني مدرسة الأصالة

الإمام الخميني مدرسة للأجيال في صبره ومصابرته، في صموده ومقاومته، في رفضه وإبائه، ولعل أروع ما ورثه عن جده السبط صريع الدمعة الساكبة هو الرفض والإباء، واتخذ من شعارات أبي الأحرار شعاراً لثورته، فصدح بأعلى صوته «هيهات منا الذلة»، فجسدها على أرض الواقع قولاً وفعلاً.

فنراه تتقطع نفسه ألماً وحسرةً على الشعوب الإسلامية السادرة في غيها وغفلتها، إذا يهتف بهم حرصاً منه على كراماتهم المهدورة قائلاً: يا مسلمي العالم، ماذا دهاكم؟! لقد استطعتم في صدر الإسلام بعددكم القليل أن تحطموا القوى الكبرى، وتشيدوا صرح الأمة الإسلامية العظيم، والآن وأنتم تقاربون المليار إنسان وتمتلكون الثروات التي بمقدورها أن تشكل أكبر حربة في مواجهة العدو، أصبحتم أذلاء ضعفاء(8)!

وفي مناسبة أخرى نسمع منه هذا القول: يا رجال الإسلام أنقذوا إسلامكم(9).

ونراه وهو يتحرق ألماً وحزناً في قضية الحصانة الممنوحة للأميركان، فيقول في ذلك: إنا لله وإنا إليه راجعون، أنا لا أستطيع أن أظهر كل ما في قلبي من آلام، لقد غلب عليَّ الهم والسهاد، ويا ليتني مت قبل هذا فلم أُشاهد هذا العار، ليس لإيران بعد اليوم من عيد؛ لقد صيروا العيد مأتماً، إنهم باعونا وباعوا استقلالنا في وقت أوقدوا فيه المشاعل وأقاموا حفلات الرقص العامة، لقد داسوا كرامتنا وأذهبوا عزتنا، لقد صادقوا على قانون الحصانة الذي ألحقنا بمعاهدة فيينا(10).

هذا الإمام الذي ورث الإباء من جده الحسين (ع) لا يستطيع أن يقف موقف المتفرج واللامبالاة لما يرى من سحق للكرامات والمقدسات. نعم، وُلد الإمام ليبقى ما بقي الدهر، ويخلد كخلود الحسين (ع) حينما جاء يلبي نداءه على أرض الطفوف «ألا هل من ناصرٍ ينصرنا». ويعلّم الأجيال كيفية الطاعة والانصياع للقائد على نهج الإسلام الأصيل، فيأتيه جواب أُمة بأسرها (لبيك يا خميني… لبيك يا خميني)، وتخشع له القلوب والأصوات، وتُسْلِم له النفوس قيادها والأرواح؛ لأن الأمة شخصت في قائدها العظيم خلوص النية في التضحية والإيثار والعطاء، وأنه مصدر قوتها وعزتها. يقول السيد الطالقاني (رحمه الله): كلّما أحسست بالضعف وفتور العزيمة ذهبت إلى قم لأستلهم القدرة من قائد الثورة.

نعم، شكلت مرجعية الإمام الرشيدة كما يسميها السيد الشهيد الصدر (قده) مركز استقطاب لكل قطاعات الأمة وبمختلف تياراتها. ولاشك أن المرجعية الدينية هي أحد مراكز القوة والتأثير الفاعل في الإصلاحات الجذرية على الصعيد الديني والسياسي والاجتماعي، لما تمتلك من مؤسسات عديدة فاعلة تستطيع من خلالها إجراء عملية التغيير والإصلاح. ومراكز القوة ـ عادةً ـ تختزل قوة الأمة وإرادتها، وتُركزها في نقطة واحدة، وبذلك يكتسب هذا المركز قوة كبيرة تساوي قوة الأمة، وإرادة قوية تساوي إرادة الأمة(11)، وعندئذٍ يكون قادراً على أداء الدور التغييري الكبير الذي يعجز الناس عن القيام به أفراداً وجماعات. وأكبر مؤسسة تنظيمية تمتلكها المرجعية وتستقطب الأمة هي مؤسسة الشعائر الحسينية.

الإمام الخميني وصيانة ثقافة عاشوراء

قلنا إن أكبر مؤسسة تستقطب الأمة حول دوائرها هي مؤسسة الشعائر الحسينية، فيما لو يعي المسلمون أهدافها ومبادئها وأهميتها لتكتيل الأمة ووحدتها. يقول الإمام الخميني (قده) في وصيته معبراً عن هذا الجانب: علينا أن نعلم جميعاً بأن هذه المراسم السياسية (مراسم العزاء الحسيني) هي التي أوجدت الوحدة بين المسلمين وحفظت هويتهم لاسيما شيعة الأئمة الاثني عشر (عليهم صلوات الله وسلامه)(12).

فالإمام يرى في الشعائر الحسينية فضيلة أداء هذا الدور؛ فهي الطاقة التي تبعث الروح في الأمة، وهي مدارس تنظيمية وتنويرية تحقق البُعد الاجتماعي الإصلاحي لثورة الإمام الحسين (ع) وتنزله إلى الواقع العملي والتطبيقي. من هنا أدرك الإمام الراحل (قده) أهمية التنظيم العاشورائي، فعبر عن القيمة الحركية الفاعلة له بقوله:

تخشى القوى الكبرى هذا التنظيم (الحسيني) الذي ينتظم بدون أن يكون لأحد فيه يد، فالناس تتجمع والأمة تتعبأ تلقائياً في مختلف أرجاء بلد واسع؛ ففي أيام عاشوراء وفي شهري محرم وصفر، وفي شهر رمضان، تنهض مجالس العزاء هذه بمهمة جمع الناس بعضهم حول بعض؛ وإذا ما أُريد خدمة الإسلام، وإذا ما أراد أحد أن يشرح موضوعاً يخدم الإسلام يكفي لكي ينتشر هذا الموضوع أن يصل إلى الخطباء وأئمة الجمعة والجماعات، كي يبث مرة واحدة في جميع أنحاء البلاد.

ثم يضيف سماحته مباشرةً مشيراً إلى مرتكز هذا التنظيم الشعبي العظيم بقوله: إن اجتماع الناس تحت ظلال هذا العَلمَ الإلهي؛ هذه الراية الحسينية، هو الذي يوفر أساس هذا التنظيم(13).

إن قضية أبي عبد الله الحسين (ع) في رؤية الإمام (قده) هي سر خلود الإسلام وبقائه في حيوية دائمة، فيقول في ذلك:

إن قضية سيد الشهداء هي السر في حفظ الإسلام والعلة الأساسية لبقائه، ويجب تخليد تلك الثورة التي قام بها ذلك العظيم… ثم يضيف: إن كل ما لدينا هو من الحسين(14).

من هنا نعرف مدى اهتمام الإمام رضوان الله تعالى عليه بالشعائر الحسينية وما يجب أن تكون عليه الممارسات والفعاليات من اتزان وانضباط لهذه الشعيرة المقدسة، باعتبارها معيناً ثراً للإسلام لا ينضب، وزاداً له. وإن إظهار مراسم العزاء الحسيني بالمظهر اللائق الحسن الخالي من العادات الدخيلة والممارسات البهلوانية المثيرة المقززة أحياناً للشعور، إنما يعكس الوجه الناصع والمشرق للإمام الحسين (ع) من خلال إحياء مراسم نهضته، وبالتالي فهي انعكاس لصفحة الإسلام وتعاليمه السامقة التي جاءت لتربي الأجيال وتُحيي الشعوب، وتدفع بها إلى مراتع الخصب والعطاء والتجديد؛ ذلك أن الإمام الحسين (ع) ما أراد الشهادة إلا باعتبارها وسيلة للوصول إلى غايته الأساسية وإن كان له علم بذلك، وكان يخطط لهذه النهاية المأساوية المفجعة، حيث إن جده الرسول الأكرم (ص) قال له: شاء الله أن يراك قتيلاً. كما أن الإمام (ع) ما كان يريد أن يوحي للمؤمنين أن يوطنوا أنفسهم لنيل الشهادة، لأن فيها من الثواب العظيم والأجر الجزيل ما ليس يحرزه أي عمل آخر، بل أراد أن يجعل من الشهادة وبهذا الحجم من المأساة، وسيلة لإصلاح المجتمع؛ لما فيها من كسب المظلومية واختزال عواطف الأمة.

فشراء الضمائر والذمم والإرادات، وانتهاك الحرمات، واستعباد الناس… إنما أراد الإمام الحسين (ع) إرجاعها إلى نصابها الطبيعي بهذه الهزة العنيفة والصدمة الصاعقة. ثم إنه لم يكن هدفه الأساس هو الإطاحة بذلك الطاغوت في عصره فحسب، بل كل طاغوت موجود ويوجد على طول التاريخ من اليوم العاشر إلى يوم القيامة؛ وذلك عن طريق إصلاح هذه الأمة، وإقامة حكم الله في الأرض لكي يسير الإنسان إلى تكامله، وهو الهدف من خلقه.

وعلى غرار الثورة الأم جاءت هذه الثورة الوليدة وفق ما خطط له الإمام الحسين (ع)، لتدك العروش وتُحيي النفوس، وهذا ما لا يروق لأعداء الإسلام وأعداء الحق. وأنهم لما غُلبوا على أن ينالوا من هذه الثورة الصامدة، فما استطاعوا لها نقباً، وما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، شنوا حملاتهم المسعورة على شتى الجوانب والأصعدة العسكرية والإعلامية والثقافية والنفسية، فكانت هذه الأخيرة شديدة الوطأة على هذا الشعب المظلوم، وازداد ترصدهم، بالمسلمين ساعين إلى إثارة الشبهات وترويج المفاهيم الخاطئة، وتأصيل الممارسات الشاذة البعيدة عن روح الإسلام الأصيل، خاصة في الشعائر الحسينية باعتبارها وقود هذه الثورة، ثم النعيق بأبواقهم الدعائية والتباكي على الإسلام، وما أدخل عليه من بدع وضلالات.

لكن الإمام الخميني (قده) بحنكته وفرط ذكائه استطاع أن يتصدى لهذه الهجمة الاستكبارية، ويقف محذراً لما يخطط له الكفر العالمي بقوله:

هل تعلمون أن قطع سيطرة القوى العظمى من إيران، وإخراج الخبراء الأجانب والانتهازيين منها عمل إعجازي عظيم؟ ومع أنكم كنتم مظلومين أديتم واجبكم، ولكن الأبواق الدعائية العالمية خصوصاً أميركا وإسرائيل تنشر الدعايات ضدكم وتختلق الأكاذيب، وإذ صدر منكم خطأ أو ما يظنونه خطأً فإنهم ينشرونه بأضخم ما يكون(15).

أراد الإمام (قده) من خلال خطابه هذا التأكيد على أمور في غاية الأهمية منها: أن يكونوا في أقصى درجات الحيطة والحذر، والتسلح بالوعي من خطط الشياطين، وأن لا يقعوا في أخطاء واشتباهات في سيرهم وسلوكهم تؤدي إلى إيجاد ثغرات يمكن من خلالها للأعداء النفوذ إلى الساحة الإسلامية وبث سمومهم في صفوفها.

كما أراد القائد العظيم ـ باعتباره الخبير الواعي بما يجري في العالم، وما يحتاج هذا العصر من متطلبات ـ تبينه الأمة الإسلامية عامة والشعب الإيراني خاصة إلى الخطر المحدق بهم والذي يعتبر ـ في نظر الإمام ـ أقوى سلاح تستعمله الدول العظمى ضد كل الثورات والحركات الإصلاحية التي تكافح للتخلص من نير الاستبداد والاستغلال، وهو سلاح الإعلام بوسائله المتعددة؛ فهي ترصد حركاتنا وسكناتنا وأفعالنا وأقوالنا وتختلق الأحاديث والتهم الباطلة فيما لو وجدت ثغرة أو منفذاً تنفذ من خلاله إلى جسم الأمة الإسلامية، بالأخص في هذا العصر الحساس حيث أصبحت إيران محط الأنظار وملجأ المضطهدين، فإذا هي كعبة للمسلمين.. وأُم القرى.. تستلهم منها الثورات جذواتها، وتُحط عندها الرحال.

ثم، ونحن نعيش عصر الذرة والفضاء، والتطور العلمي والتكنولوجي الذي أدى ـ عن طريق الأقمار الصناعية ـ إلى نقل الخبر والمادة الإعلامية من قارة إلى أخرى خلال دقائق، وذلك يعني أن حياتنا اليوم باتت محاطة بشبكة واسعة من أجهزة رصد الصوت والصورة بشكل يقرب من الخيال.

وبناءً على ذلك، وعلى مقتضيات المرحلة الراهنة، يتطلب الأمر منا على صعيد الشعائر الحسينية، استلهام نظرة الإمام (قده) حول عاشوراء الحسين. فرغم تأثره الشديد والبالغ، وما كان يغلب عليه من الحزن العميق في شهر محرم الحرام، كان لا يتمالك نفسه حين يذكر واقعة الطف، تلك الفاجعة المؤلمة التي بكى لها أهل السماء قبل أهل الأرض، فينفجر بكاءً، لكنه حينما يُسأل (قده) ـ وهو الغيور على مقدسات الإسلام والحريص على تراث كربلاء ـ عن نظره حول شج الرؤوس بالسيوف، والتشبيه، وإقامة المآتم والمواكب. كان جوابه جواب العارفين بمتطلبات الأمور ومقتضيات المصالح، وما تحتاج تلك الفترة الزمنية من تغيير وتبديل في الآراء والمواقف التي تعتبر من صلاحية الحاكم الشرعي (16).

وبخصوص منطقة الفراغ، قال: في الوقت الحالي لا تفعلوا ذلك ـ أي التطبير ـ ولكن الشبيه إذا لم يكن مشتملاً على المحرمات ولم يكن موجباً للاستهانة في المذهب فلا بأس به، وإنْ كانت التعزية أفضل، وإقامة المأتم من أفضل القربات(17).

فالظروف الحساسة والحرجة التي أحاطت آنئذٍ كانت تُملي على الإمام (قده) أن يشن حملة لتطهير وتهذيب التظاهرة الحسينية مما لحقها عبر سنين طوال من تفاعلات وإرهاصات تراوحت بين المد والجزر والسلب والإيجاب، الأمر الذي أدى إلى إعطاء انطباعات سيئة على مجمل العقيدة الشيعية، وإلى بروز تيار أخذ بالتشهير والتعريض بالشيعة؛ لذلك ارتأى (رضوان الله تعالى عليه) أن تتسم حملته بطابع الهدوء والمرحلية، محاولاً تهيئة الأذهان والأرضية اللازمة لطرح الحكم القاطع باستئصال تلك الممارسات في مرحلة قادمة، انطلاقاً من التحريم المرحلي لبعض الأمور في القرآن الكريم كتحريم الخمر مثلاً، حيث جاء على مراحل ثلاث:

1 ـ قوله تعالى: {فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما}(18).

2 ـ وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى}(19).

3 ـ ثم قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان}(20).

إلا أن القضاء لم يمهله (رضوان الله تعالى عليه)، فأكمل الشوط الذي ابتدأه من تولى ولاية الأمر من بعده وهو السيد علي الخامنئي (حفظه الله) الذي يعتبر وجوده امتداداً لخط الإمام الراحل ومدرسته.

إذن، فمن الحكمة التدرج في تصحيح بعض ما علق بالشعائر الحسينية من تراكمات غير مستحسنة؛ لأن قضية الحسين (ع) قد ارتبطت بعواطف الناس وتلاحمت معها بشكل كبير، أضف إلى ذلك اعتبارها واحدة من المسائل العقيدية التي لا تقبل التغيير والتبديل.

فالإمام الخميني (قده) جّسد الدستور الذي سنّه لنا أهل البيت (ع)، فكان يوصي بإقامة مراسم العزاء التقليدية كالمشاركة في المجالس الحسينية، ونعي الإمام الحسين (ع) والبكاء عليه، واللطم على الصدور في مواكب العزاء. ومن خلال تحديده (رضوان الله تعالى عليه) لهذا النوع من الشعائر استهدف التأكيد على استلهام الدروس والمعطيات التي من أجلها ضحى سيد الشهداء، وأكد عليها أئمة أهل البيت (ع)؛ لكي لا تهدر الطاقات والأوقات في قضايا تشكيلية عديمة الفائدة، بل تغضب أصحاب العزاء.

السائرون على خطى الإمام (قده) والتصدي للخرافات

الثورات الأصيلة.. تغّير الواقع، وتبني أُمة.. وتترك بصماتها على الأجيال.. وتصنع العمالقة والأفذاذ، بعد أن صنعها وفجرها عملاق واحد، وهكذا رأينا ثورة الإمام الحسين (ع)، وكذا لمسنا في الثورة الإسلامية الإيرانية هذا الحدث.. فكان الإمام الراحل (قده)؛ ويكفيه أن رحم الحياة عقم عن أن يلد نظيره في هذا القرن.. فاستحق أن يكون أُمة كما كان النبي إبراهيم (ع) أُمة(21).

وثمة عصبة سارت على نهجه القويم فنالت الخلود والحياة باستشهادها على طريق الثورة والإصلاح، وأخرى واصلت المسير مستلهمة من أصالة فكره، وقوة صبره، وشدة حزمه التي ورثها من جده السبط أبي الأحرار وملهم الثوار.

وبفضل المخلصين الواعين من رجال الأمة والمصلحين من العلماء والعاملين بدت تنجلي هذه الغياهب وتتقشع السحب الكثيفة التي تحجب النور الطبيعي من النفاذ إلى القلوب، ومن أولئك المخلصين الذين أفرزتهم مدرسة الإمام ومن سار على خطه ومنهجه، فكان العضد المساعد للإمام الراحل وثورته، نذكر منهم:

آية الله الخامنئي والمسؤولية الكبرى

إن أفضل من مثّل مدرسة الإمام الراحل (قده) وحذا حذوه متخذاً منه أسوة حسنة في إدارة أمور البلاد والعباد، هو ولي أمر المسلمين آية الله السيد علي الخامنئي (حفظه الله) المخلص الوفي لقائده، الذي وظف كل طاقاته وإمكاناته من أجل القائد وأمته، فجاء يتابع خطواته ويكمل المراحل التي بدأها، فكان مَثله عند الإمام الخميني كمثل علي (ع) عند رسول الله (ص).

تطلّع فيه الإمام أهلية القيادة والريادة والولاية على الأمة فلمح بذلك لها مراراً وصرح في بعض الأحايين.

وحسب الشرائط والضوابط والمواصفات استحق وسام الولاية والإشراف على الأمة الإسلامية أجمع.

وبما أن الجماعة البشرية التي تتحمل مسؤوليات الخلافة على الأرض، إنما تمارس هذا الدور بوصفها خليفة عن الله، لذا فهي غير مخولة أن تحكم بهواها أو باجتهادها المنفصل عن توجيه الله سبحانه وتعالى؛ لأن هذا يتنافى مع طبيعة الاستخلاف، وإنما تحكم بالحق وتؤدي إلى الله تعالى أمانته لتطبيق أحكامه على عباده في بلاده(22).

ولكن لو ترك الإنسان ليمارس دوره في الخلافة بدون توجيه وهدىً كان خلقه عبثاً ومجرد تكريس للنزوات والشهوات، وألوان الاستغلال؛ لذلك وضع الله سبحانه وتعالى إلى جانب خط الخلافة ـ خلافة الإنسان على الأرض ـ خط الشهادة الذي يمثل التدخل الرباني من أجل صيانة الإنسان الخليفة من الانحراف وتوجيهه نحو أهداف الخلافة الرشيدة.

فالشهيد ـ نبياً كان أو إماماً أو مرجعاً ـ يجب أن يكون عالماً على مستوى استيعاب الرسالة، وعادلاً على مستوى الالتزام بها والتجرد عن الهوى في مجال حملها، وبصيراً بالواقع المعاصر له، وكفوءً في ملكاته وصفاته النفسية(23).

ومن اجل سلامة المسيرة البشرية، وصيانتها من الانحراف يقتضي بحسب المسؤولية الملقاة على عاتق الولي الفقيه ـ الشهيد ـ التدخل واتخاذ كل التدابير اللازمة الممكنة حسب الظروف والشرائط الزمانية والمكانية، والخطر المحدق بالأُمة.

ومن هذه المنطلقات انبرى السيد الخامنئي (حفظه الله) ليطهر الممارسات الدينية بالأخص الشعائر الحسينية من البدع والخرافات، بدافع من مسؤوليته وغيرته على الإسلام والمسلمين، وحفظهم من خطر الغزو الثقافي والشبهات المثارة لاستقطاب البسطاء والسذج من الناس، وتحريرهم من أسر العادات السخيفة التي اتخذوها سنة بحيث لا يمكنهم تجاوزها والتخلف عنها.

ونعلم جميعاً، بل ونقطع جازمين، أن من تنور بنور السماء، وكان له أدنى درجة من الوعي والفهم لا يعمد إلى تأييد هذا النوع من الشعائر الحسينية، كشج الرؤوس بالسيوف، وغرز الأثقال في الجسد، وإدماء الصدور والظهور والوجوه، فضلاً عن مباشرتها، بالأخص لو عرفنا أن بدايتها كان بوحي من الصدفة، ثم اتخذوها عادة فصارت سُنة ومن ثم عقيدة راسخة لا يمكن تركها لمن اعتادها ومارسها.

وهذه الظواهر إن استندت إلى شيء تستند إلى الفراغ الفكري والضآلة الدينية والثقافية لدى غالبية من يمارس تلك الأعمال، ومن تبقى غلبتهم العاطفة فانجروا وراءها.

وبوجود مثل هذه الثغرات يستطيع الطواغيت استعباد الشعوب وإذلالها ونهب ثرواتها، فالعدو يخطط دوماً إلى استئصال اللب وإبقاء القشور موحياً بأنها هي الأصل والأساس.

لذلك نجد عدم إمكان استعباد الرعية وظلمها مادامت غير حمقاء وغير تائهة في ظلمة الجهل، ولأن العلم نور والله خلق النور للإنارة والحرارة، فالنور ينشر الخير، والإنارة توجد في النفوس الحرارة، وفي الرؤوس الغيرة.. والمستبد يخشى العلوم التي تفتح الذهن وتنشر الوعي بين الناس وتُفهمهم ما هو الإنسان وما هي حقوقه؛ هل هو مغبون؟ كيف يطالب بحقوقه وكيف يمكنه حفظها؟(24).

فالاستكبار العالمي لا يبكي علينا لتخلفنا وتشردنا وجهلنا، ولا يسعى لتحضرنا إلا بالمقدار الذي يحلو له والطريقة التي تعجبه؛ لاستغلالنا واستبعادنا، فيبقى هو السيد ونحن العبيد الأذلاء، فترى البعض منا يضحك ويبكي، ويذم ويمدح، ويتحرك، ولكن لا يعي كثيراً من ذلك. وكما قال أمير المؤمنين (ع): همج رعاع أتباع كل ناعق.

 إشكالية التعبير عن الشعائر

الأعمال لا توزن بكثرتها، بل بكيفيتها ودوافعها، والمؤمن الواعي ليس له عقل قارئ فحسب، بل واعٍ ومدرك، وخالٍ من التحلل والتزمّت، يسأل ويستدل؛ ولهذا فهو بعيد عن مواطن الشبهة والخرافة، على عكس الجاهل الذي ينسيه التطرف والجهل وسوء الفهم أن تحريم الحلال لا يقل ذنباً في أي حال من الأحوال عن تحليل الحرام. ونحن أمس ما نكون في هذه الفترة من الصحوة إلى رجال دين واعين بعيدين عن المصانعة ليضعوا حداً لهذا التطرف.. الذي يؤدي إلى الكفر ومحق وتشويه الرسالة الإسلامية(25).

فالولي الفقيه الخامنئي (حفظه الله) أحد أولئك الواعين، تصدى للخطر المحدق بالأُمة بشدة وصرامة، وبحجم خطورة الموقف؛ فقال في خطاب له: حيث شوهدت ـ وللأسف ـ خلال الأعوام الثلاثة أو الأربعة، أعمال تروجها بعض الأيدي على ما يبدو، أنهم يروجون في مجتمعنا بعض الأعمال التي تثير علامات استفهام في أذهان المشاهدين.. لقد جرت العادة في قديم الأيام بين عوام الناس أن يعلقوا أقفالاً بأجسادهم في مراسم العزاء، فانبرى لها كبار العلماء، واندثرت هذه العادة غير أنها ظهرت مجدداً في الآونة الأخيرة.. إنه عمل خاطئ يقوم به هذا البعض، وكذلك الأمر بالنسبة لشج الرؤوس بالسيوف؛ أي ما يُصطلح عليه بـ«التطبير»، فلو كان الإمام (رضوان الله تعالى عليه) حياً لتصدى لظاهرة شج الرؤوس بالسيوف على الصورة التي روجت بعد انتهاء الحرب، وكيف يمكن اعتبار هذا العمل من مراسم العزاء.. إنها بدعة وليست من الدين، ولاشك في أن الله لا يرضى على ذلك، وأنا أيضاً غير راضٍ بالتطبير من صميم قلبي…

ثم استنكر عدداً من البدع والخرافات الغريبة ووصفها بأنها استهانة بالدين ومن عمل الأعداء(26).

وحينما يُستفتى سماحته عن حكم التطبير، يجيب: إذا كان موجباً للاستهانة بالمذهب في الوقت الحاضر أو مستلزماً لخطر الموت أو الضرر الشديد فغير جائز(27).

فالإمام الخامنئي تنبّه إلى هذه المسألة المهمة باعتباره أحد الواعين الذين يعول عليهم في تصحيح المسار وإعادة الناس إلى الأهداف الحقيقية المعطاء لثورة الإمام الحسين (ع)، فعندما يرفض البدع والخرافات يطرح البديل لتبيان المنهج الصحيح لإقامة مراسم العزاء، فيقول: يجب أن تتميز هذه المجالس بثلاثة أمور:

1 ـ تكريس المودة للحسين بن علي (ع) ولأهل بيت النبوة، وتعزيز العلاقة والارتباط العاطفي بهم.

2 ـ إعطاء صورة واضحة عن واقعة عاشوراء.

3 ـ تكريس المعرفة الدينية ووشائج الإيمان بالله سبحانه وتعالى لدى المستمع(28).

دور علماء الدين

ليس السيد الخامنئي (حفظه الله) أول من انفرد بهذا الرأي وسار على خطى الإمام الراحل (قده)، فهناك مجموعة كبيرة من الفقهاء والعلماء البارزين في إيران وخارجها ممن استوعب أفكار وتوجيهات الإمام الخميني وساروا على هداه، كان لهم نصيب وافر وفي هذا المضمار بالأخص؛ فأدلوا بآرائهم الفتوائية وتصدوا بشكل قاطع لظاهرة البدعة والخرافة التي لحقت بالشعائر الحسينية، فجاءت مواقفهم على غرار نهج الإمام والولي الفقيه السيد الخامنئي في تحريمها؛ لأن هذه الأعمال المنكرة موجبة للاستهانة بالتشيع والثورة الإسلامية التي أضحت محط أنظار العالم.

فلماذا إذن التحريم والمنع لهذا النوع من الممارسات الدخيلة على الشعائر؟

وقبل الإجابة لابد أن نلم بشكل إجمالي وسريع بشيء عن مفهوم البدعة وموجبات تحريمها.

البدعة لغة: بَدَعَ بَدعاً الشيء: اخترعه وصنعه لا على مثال. والبِدْع من الرجال: الجاهل ومن لا يعرف الأمور(29).

والبدعة في الشرع: إدخال ما ليس من الدين في الدين، استناداً إلى ما روي عنه (ص): «ما أُحدث في أمرنا هذا ما ليس منه؟»(30).

وعرف علماء الجمهور البدعة بتعريفات عديدة وقسموها إلى الأحكام الخمسة، وذلك كله لا يستند إلى أساس صحيح، ولا يثبت أمام الدليل.

والبدعة في التشريع لا تقبل القسمة إلى الحسن والقبح، بل هي من غير صاحب الشرع قبيحة مطلقاً. وأما الابتكار والابداع في العادات والتقاليد وأُمور المعاش والحياة، فهو الذي يقبل القسمة إلى الحسن والقبيح، ويكون موضوعاً للأحكام الخمسة: الوجوب، والحرمة، والاستحباب، والكراهة، والإباحة.. وعليه فالأُمور العادية والحياتية ونحوها، مما لم يرد من الشارع حكم متعلق بها، بخصوصها أو بعموم يكون كل منها أحد أفراده ومصاديقه، إنْ عملها المكلف وقام بها، أو تركها بعنوان أنها من الدين، فإن لم تكن منه، فإنه يكون قد أبدع في الدين، وأدخل فيه ما ليس منه(31).

ولا يحتاج تحريمها ـ البدعة ـ إلى دليل خاص، بحكم العقل بعدم جواز الزيادة على أحكام الله تعالى، ولا التنقيص منها؛ لاختصاص ذلك به تعالى وبأنبيائه، الذين لا يصدرون إلا عن أمره(32).

فالممارسات الدخيلة على الشعائر الحسينية، هل يصدق عليها عنوان البدعة؟ سيتبين لنا من خلال هذه اللحمة السريعة أنها مرفوضة شرعاً وعقلاً؛ فمن الناحية الشرعية ومن حيث الأدلة الأولية محرمة ممنوعة؛ لقول الرسول الأكرم (ص): «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام»(33). وعن الإمام الصادق (ع) قال: «إن الله عز وجل فوّض إلى المؤمن أُموره كلها ولم يفوض إليه أن يذل نفسه»(34).

ومن حيث العناوين الثانوية فإنها من الناحية السياسية تشوه سمعة الإسلام والمسلمين، وهو ما لا يريده الشارع المقدس، وينهى عنه.

ولما كانت تنتسب بشكل وآخر إلى الدين، وتترك انطباعاً في الأذهان كونها طقوساً دينية معترفاً بها، فإن عنوان البدعة يصدق عليها؛ لأنها تعني إدخال ما ليس من الدين فيه، وربما شكلت لدى بعض الجهلة أهم المراسم الدينية! فكيف يمكن نفي الابتداع فيها؟!(35)

وأما من الناحية العقلية، فمن البديهة أن العقلاء لا يرتضون مثل هذه الممارسات المقززة للنفوس، ويحكمون قطعاً بعدم جدوى فائدتها، فضلاً عن كونها مهدرة للأموال والطاقات، وهي بالتالي لا تحقق الأهداف الحقيقية المتوخاة من ثورة الإمام الحسين (ع) لا من قريب ولا من بعيد.

وهكذا يتضح أن كل ما يصدر من الإنسان مما يسبب له الاضرار أو الخذلان لنفسه أو لغيره، وليس له هدف عقلائي، مرفوض عقلاً وشرعاً، وعلى هذا جاء النهي الولائي التالي:

في مقابل كل هذا، هناك رموز تؤيد وتدعم هذا النوع من الممارسات الشاذة، متوسلة بأدلة واهية لا تصمد أمام الأدلة العلمية والمنطقية، وأهم أدلتهم هو أصل الإباحة، وقد عرفت من الأدلة الشرعية بعناوينها الأولية والثانوية حرمة هذه الأعمال. وأما جواز الإدماء لصدوره عن أهل البيت (ع)، فهو أولاً غير ثابت بالقطع لا متناً ولا سنداً، وحتى لو سلمنا بصحة الرواية، فما بالنا لا نجد ـ وعلى مر التاريخ ـ أحداً من العلماء والفضلاء قام بمثل هذه الأعمال فيما لو كانت مستحبة، وفيها من المواساة لأهل البيت؟ حيث إنهم أَولى من غيرهم في التسابق بذلك. وما قيل من جواز خمش الوجوه في مصيبة الإمام الحسين (ع)، فقد ورد عن الإمام الحسين (ع) قوله لأهل بيته قبل وداعهم الأخير: «ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص من قدركم»(36)، فإذا كان الحسين (ع) لا يرضى بالقول الموهن، فكيف يرضى بخمش الوجوه والإدماء؟ وهو الذي أوصى نساءه وأهل بيته بقوله: «إذا أنا قُتلت لا تشققن عليَّ جيباً ولا تخمشن وجهاً ولا تقلن هجراً»(37).

ثم إنهم يستدلون على جواز الادماء بقول الإمام المنتظر (ع) في زيارة الناحية: «ولأبكين عليك بدل الدموع دماً». وهذا من أوضح الواضحات أنه جاء في باب المجاز لا من حيث الحقيقة.

هذا ما أردنا بيانه حول البدعة والممارسات المبتدعة في مراسم العزاء الحسيني، ومن المناسب ونحن على أعتاب الختام، أن نذكر أن أول من كتب في تنزيه وتهذيب الشعائر الحسينية مما علق بها من بدع وأُمور خاطئة هو العلامة المجتهد الأكبر السيد محسن الأمين (رحمه الله) والذي يعتبر أول من سن هذه السنة الحسنة، فله أجرها وأجر من سار عليها من بعده، إذ شن حملته الاصلاحية منصرفاً بكل طاقاته وهمته التي لا تعرف الكلل والملل بكتابة رسالته المعروفة بالتنزيه عام 1346هـ (1927م).

وعلى إثر ذلك فقد اتهم بأبشع الاتهامات ظلماً وعدواناً حتى جعلوه أجنبياً وخارجاً عن المذهب، وكثير من الاتهامات الباطلة، ولكنه خاض غمار معركة قاسية ضد الجهل والتخلف والبدع.

فيقول في رسالته: ومن أعظم المنكرات اتخاذ البدعة سنّة والسنّة بدعة… فمن ذلك إقامة شعائر الحزن على سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين بن علي… التي ادخل فيها أُمور أجمع المسلمون على تحريم أكثرها، وأنها من المنكرات وبعضها من الكبائر التي هدد الله فاعلها وذمه في كتابه العزيز(38).

وهذا دأب الأحرار على طول التاريخ في الاصلاح والتوجيه، وفي تشخيص الخطر المحدق بالأُمة، ومعرفة الوظيفة الأساسية الواجب تقديمها على غيرها من الوظائف الأهم فالأهم. كما سار أبو الأحرار الحسين بن علي (ع) على الطريق الحمراء لا تأخذه في الله لومة لائم، وهو الطريق نفسه الذي انتهجه إمامنا الراحل (قده) وأسس مدرسة الأصالة فكانت امتداداً للمدرسة الحسينية الكبرى.

والحمد لله أولاً وآخراً وهو حسبي.

_____________________________

 

(1) البقرة: 111.

(2) جاء في تاج العروس للزبيدي: 23، 193 مادة خرف: أن خُرافة رجل من عُذرة أو جهينة استهدته الجن واختطفته، ثم رجع إلى قومه، فكان يُحدث بما رأى أحاديث يعجب منها الناس فكذبوه. فجرى على ألسن الناس وقالوا: حديث خُرافة.

وفي الأثر عن عائشة قالت: قال رسول الله (ص) حدثيني، قلت: ما أُحدثك حديث خُرافة؟ قال: أما إنه قد كان.

(3) آل عمران: 78.

(4) كنز العمال: 28565.

(5) الإرشاد، المفيد، 2: 141.

(6) المنجد في اللغة: 175.

(7) موسوعة المورد، منير البعلبكي، 9: 143.

(8) الإمام الخميني تجسيد الخلق الإسلامي، السيد فاضل النوري: 66.

(9) المصدر نفسه: 14.

(10) المصدر نفسه: 63.

(11) حول المرجعية الدينية وخصائص العالم الديني، الشيخ الآصفي، مجلة التوحيد، 76: 52.

(12) وصية الإمام الخميني ـ الترجمة العربية: ص 15 (انتشارات أسوة).

(13) راجع مقال الشعائر الحسينية، خالد توفيق ـ مجلة الفكر الإسلامي: 10: 182.

(14) الإمام الخميني، السيد فاضل النوري: ص 104.

(15) مختارات من أقوال الإمام الخميني، إعداد وزارة الإرشاد، 4: 133.

(16) الإمام الخميني (رحمه الله) كتب رسالة إلى العلماء جاء فيها: فالمسألة التي كان لها حكم سابق قد تأخذ حكماً جديداً في إطار علاقة الحاكم بالسياسة والمجتمع والاقتصاد.. وقد يحتاج الموضوع الجديد إلى حكم جديد. وإن جميع الفقهاء يتفقون على أن حكم الحاكم الشرعي الولي الفقيه نافذ على الجميع حتى على الفقهاء.

(17) نقلاً عن 380 استفتاءً جديداً: 92.

(18) البقرة: 219.

(19) النساء: 43.

(20) المائدة: 90.

(21) النحل: 120.

(22) خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء، الشهيد الصدر، ص 12 ـ 13.

(23) المصدر نفسه، ص 20، 21، 27.

(24) طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، عبد الرحمن الكواكبي، ص 72، عن مجلة التوحيد 77: 133.

(25) من كتاب حوار مع السيد محمد حسين فضل الله: ص 23.

(26) سلسلة في رحاب الولاية، إصدار دار الولاية للثقافة والإعلام، 46: 20.

(27) بيرامون عزاداري عاشوراء، اعداد مكتب الإعلام الإسلامي ـ قم، ص 34 (فارسي).

(28) سلسلة في رحاب الولاية، 46: 18.

(29) المنجد في اللغة: مادة بدع، ص 29.

(30) سنن أبي داود، 4: 200.

(31) المواسم والمراسم، السيد جعفر مرتضى العاملي: 64.

(32) كشف الارتياب، السيد محسن الأمين، ص98.

(33) وسائل الشيعة، الحر العاملي، 17: 376.

(34) المصدر نفسه: ج2 ـ باب 12 من أبواب الأمر والنهي.

(35) الشعائر الحسينية بين الوعي والخرافة، إعداد السيد محمود الغريفي، ص134.

(36) جلاء العيون، المجلسي (بالفارسية) عن مقتل الحسين للمقرم، ص 276.

(37) الإرشاد، المفيد، 2: 94.

(38) التنزيه، السيد الأمين: ص7، نقلاً عن مجلة الثقافة الإسلامية، 12: 136.

مواضيع ذات صلة

■ مشاهد الولاء في زيارة وارِث

■ الإمام الخميني والخطاب الكربلائي

■ نظرة الإمام الخميني(قدس سره) لنهضة عاشوراء

■ عاشوراء الإمام الحسين من وجهة نظر الإمام الخامنئي

■ المنبر الحسيني، دوره وأهدافه، قراءة في خطاب القائد

■ حقيقة عاشوراء وأهداف الثورة الحسينية في كلمات الإمام الخميني