الحاج حسان اللقيس

تسابيح شهادة: لغة العشق..الشهيد القائد الحاج حسان اللقيس     

 

الشيخ محمد باقر كجك

إنَّها بوَّابة الغيب التي لا تُفْتَحُ إلا في لحظاتٍ يكون فيها دمُ العشق هو سيِّدَ الأرض. وبوَّابَةُ الغيب هذه، بوَّابةَ أسرار.

"لم أكن لأدفن قلبي في هذا التُّراب.. قلبي غزالةٌ برّيّة".

ثم قبّل وجنتيهِ، ويديهِ، وشمّ بسمةً طيبةً في شفتيهِ، وقال له: "بسمَتُكَ، بُنيّ، لن يمحوها الزمن..". كان الحاج حسّان في تلك اللحظة يعيشُ مشهدَ كشفٍ خالدٍ.

كلُّ من جاء من نسلِ البندقية، وسمعَ تسبيحَ السَّماء في جبل صافي، وسار في أرضِ لبنان وطرقها حتَّى ارتسمت دروبها السرّية خريطةً في شبكة شرايينه، ورأى آخرَ الحكايات في عيني شهيدٍ ينزفُ، يعلم أنّ الوقوفَ في المثوى الأخير للشَّهيد، هو لحظةٌ من

لحظاتِ الغيب.

كان الحاج حسّان، يقف عند جثمان ابنه، يرشحُ مثل الغيم مطراً من الحبّ والحنين، والفخر، والإحساسِ بالقرب من جنَّة المأوى.

هناكَ شمَّ الحاجُّ رائحة القرب، ورأى مشهدَ الأنس، وأيقن أنّ علي الرضا يسمع ويرى، ويحبُّ ويعشق، وينتظر عروسَ الدَّهر.. هناكَ، حبس الحاج دمعةً، ولكنه لمْ يحبسْ شوقَه.. "قلبي غزالةٌ بريّة، والانطلاق في المدى لغتي".. لا بدّ أن يكمل الحاج الطّريقَ، الطريقُ لم تنته، والفرحُ لم يبدأ بعد. للغيب لغةٌ صامتةٌ، يعرفها من تدرَّب على الصَّمت، وهجرَ الضَّجيج.

 

* لم تعرفوه بحق

العينُ التي تراقب العدو، عينٌ لا تغفو. لا يمكن لها أنْ تغفوَ، إلا عندما يأمرُها الغيبُ بأمرٍ لا مردَّ له.

العدوّ منتشرٌ مثل الليل، يتنفسُّ غضباً أحمر، وله أيدٍ تحملُ أسلحةً لا تخطرُ في بال أحدٍ.. إلا الحاج حسان، وآخرين قلّة.

كان مكتبةً متنقلةً من المعرفة، وذهناً متحرِّكاً من الدّراية، يدفعه همُّ التفوّق، ويعشق التّحدّي، ويرى أنَّ المستقبلَ الرَّائع لا يحقِّقُه ضعافُ القلوب، ولا يبنيه من يخشى المعرفة. قالوا إنّ الحاجَّ موسوعةٌ في السِّلاح بأنواعه.. وقالوا إنَّه القلب الذكي لبنية التكنولوجيا

في المقاومة..

وقالوا إنَّه الذّراع الأخرى مع القائد الشَّهيد الحاج رضوان، فكانا ذراعين من غضب أشعلتا النار في هيكل الخبث الإسرائيليّ في تمّوز.. وقالوا وقالوا وقالوا.. وقلت لهم، هكذا رجال، يصحُّ فيهم كلُّ حديثٍ للمجد، وتصدُقُ عليهم كلُّ صورةٍ للحرية.. إلا أنَّكم لم تعرفوه بحق.

 

* ومن يعرفه بحقّ؟

ومن يعرف كم خطوةٍ مشَتْ قدماهُ، وهو يبحث عن أسرار المعرفة لكي يدفع بسلاح المقاوم إلى العلى؟ ومن يعرف كم دعاءً قرأ، وكم دمعةً ذرفَ على كتِفِ الليلْ؟ وكم لَمَسَتْ يداهُ من رؤوس أطفالٍ يتامى؟ وكم وضع خدّه على شال امرأة عجوز؟ وكم ضحك؟ وكم بكى؟

 

*خذ حتى ترضى

"خذ حتى ترضى"، تلك هي الجملة التي تُزيِّنُ صدرَ المنزل. "خُذْ حتى ترضى" طلبٌ ليس له نهايةٌ في عالم العاشقين! هل يمكن أن يكتفي العاشقُ من معشوقه؟ ألم يُستشهد علي الرضا؟ ألم ترحل آية(1)؟ ألم يُستشهد الحاج حسان أيضاً؟

وقلتُ في نفسي: أي سرٍّ يريد أن يبوحَ به الحاج؟ هل هذه الجملة هي ما سمعتْهُ أذناه من بوابة الغيب هناك؟ وقلتُ: العاشقُ لا يسأمُ، والله تعالى لا تأخذُه مع المحبين سنةٌ ولا نومٌ.. الشوقُ بينهم لغةٌ يقِظَةٌ.. وقد ترك لنا الحاج لغته.

 

لغة العاشقين

على مفرقِ العشقِ كنَّا هناكَ، وأخبَرَني عن مسيرٍ طويلٍ طواهُ بلحظةٍ

وقلتُ لهُ: لا تزالُ تسيرُ بغيرِ حذاءٍ

وثوبُكَ لا مَسَّ لهُ

ووجهُكَ لا رَسْمَ لهُ

ونبضُكَ لا حِسَّ لهُ

ألا زلتَ تلثمُ جرحَ الهَوَاءِ هنا؟

ألا زلتَ تَمْسَحُ خدَّكَ في شال بعض العجائزِ؟

وقلت لهُ: ألستَ تعودُ قريباً؟

وتمسحُ رأسي بكفِّكَ يا حُبَّ قلبي

وتغسلُ ما اسودَّ من وجنتيَّ

وما كسبَتْهُ يداي

وتفتحُ وردةَ روحي لأنِّي فقدتُ اللغاتِ طويلاً

وصرتُ إذا ما أردتُ الكلامَ

زرعتُ وروداً

وورْدِيَ لا نُطْقَ لهُ!

فمدّ يديه إليَّ: ألا تشربُ الخمر(2) في حاننا؟

وتُحرِقُ كفَّيكَ في نارنا؟

وتذهبُ في رحلةِ العاشقين؟

ألا إنَّها خطوةٌ واحدةٌ

ألا إنَّها لغةٌ واحدةٌ

ـــــــــــ

1- ابنة الحاج، وقد توفيت بعد سنة من استشهاد ابنه علي الرضا في حرب تموز 2006.

2- الخمر، تعبير رمزي عن الحب الإلهي، الذي يغسل تعلق العشاق ممّا سوى الله تعالى.

المصدر: مجلة بقية الله