ولد آية الله السيد محمد رضا سعيدي في الحادي والعشرين من نيسان عام 1929م في منطقة يقال لها "نوغان" من مشهد، في أسرة علمية يرجع نسبها إلى الرسول الأكرم (ص). تلقّى دروسه الأولية على يد والده الكريم (السيد أحمد)، وتزيّا بلباس علماء الدين وهو فتىً يافع.

 

قصد آية الله سعيدي مدينة مشهد المقدسة ليواصل دراسته فيها؛ فدرس هناك المنطق والأصول على يد علماء بارزين كالأديب النيسابوري، والشيخ هاشم، والشيخ مجتبى القزويني.  

 

ومنذ دخوله ميدان المجتمع، لم يكتفِ آية الله سعيدي بمجرد الدرس والكتاب، بل كان هذا المحزون الذي فقد أمه وأخته في الطفولة يشهد ما آل إليه الاستبداد وخنق الحريات الذي كان يمارسه رضا خان، والمعاناة التي كان يقاسيها المجتمع، والضغوط التي تفرض على مدارس العلوم الدينية. ولهذا لم يدخر جهداً في نصرة الفقراء والمحرومين والمضطهدين.

 

يتحدث ولد الشهيد سعيدي عن حبّ أبيه للناس قائلاً: "… في أحد الأيام دخل أبي علينا الدار عائداً من مسجده (مسجد موسى بن جعفر "ع") في شارع غياثي في طهران، فرأيته بلا عباءة. فسألته: ماذا جرى؟ قال: رأيت فقيراً على الطريق يرتجف من البرد، فألقيت عباءتي على كتفيه. رأيت أني أرتدي الآن قباءً ولا تلزمني العباءة كثيراً، فلا يصحّ أن يرتجف مسلم من البرد وأنا امتلك عباءة وقباءً فأحدهما يكفي…".

 

لقد بلغ آية الله السيد محمد رضا سعيدي مكانة علمية متميزة في أوساط العلوم الدينية في مشهد خلال فترة وجيزة، وعُرف هناك بالزهد والتقوى.

 

وبعد أن انتهى من دراسة مرحلة السطوح على يد أبرع أساتذة العلوم الدينية في مشهد المقدسة، رحل إلى مدينة قم ليواصل دراسته في مراحل أعلى وينهل العلوم من أكابر الفقهاء والمراجع. وفي أيامه الأولى في قم، أخذ يحضر درس المرجع الكبير آية الله العظمى البروجردي، كما كان ينهل من معين علماء آخرين كآية الله الميرزا هاشم الآملي. وفي هذه الأثناء بلغ سمعه وجود مجتهد كبير يسمى "روح الله"، فأخذ يحضر درسه، وهكذا وجد آية الله سعيدي ضالّته في هذا الاستاذ ودرسه؛ فمن بين مئات الطلبة الذين كانوا يحضرون درس الإمام، أصبح آية الله سعيدي بالتدريج أحد أبرز طلاب الإمام الخميني؛ فقد رشف الإسلام المحمدي الخالص من فم الإمام، ليبدأ من حينها نضاله في عالم السياسة. وقد كان يسعى إلى ربط علماء الدين خارج البلاد بالإمام، لكي يوصل نداء الإمام إلى ذلك الجانب من العالم. كما أخذ في أسفاره إلى محافظات البلاد بشن هجمات مستمرة على نظام الشاه. يقول ولده في هذا الصدد:

 

"في زمن آية الله البروجردي، ذهب أبي إلى مدينة آبادان بدعوة من أهلها؛ في حينها نشرت الصحف صورة لثريا زوجة الشاه؛ لا أدري ماذا فعلت ليضعوا صورتها، ولكن كيفما كان، فهذه القضية اعترض عليها السيد سعيدي وتحدث على المنبر بكلام ضد الشاه وأسرته، فألقوا عليه القبض وأودعوه السجن، فتوسط له أحد علماء الدين المعروفين في آبادان (السيد قائمي)، فاستجاب له الحاكم العسكري بشرط أن يقول السيد سعيدي أني لست سعيدي الذي تحدث ضد الشاه، وإنما هو شخص آخر، وقد ألقي القبض عليّ للتشابه في الاسم. وفي اليوم التالي حينما التقى السيد سعيدي الحاكم العسكري وجهاً لوجه ليسأله أأنت سعيدي الذي تحدث على زوجة الشاه؟ أجاب سعيدي مباشرة: أجل، أنا ذلك سعيدي، وأنا الذي قلت ذلك! ولأجل ذلك بقي سعيدي في السجن أياماً أخرى حتى أطلق سراحه بعد العديد من الوساطات". 

 

آية الله سعيدي في الكويت

 

عندما اعتُقل الإمام الخميني في انتفاضة 5/6/1963م (15 خرداد)، كان آية الله سعيدي قد ذهب للدعوة والتبليغ في الكويت. فسمع بأخبار إيران من المذياع وقام مع غيره من علماء الدين المجاهدين في الكويت ــ حجة الإسلام الدواني، آية الله الخزعلي، حجة الإسلام الوحيدي، آية الله السيد عباس المهري ــ بكتابة رسائل إلى مراجع الدين في النجف يُنبئونهم بالخطر الذي يهدد حياة الإمام في إيران، إلاّ أن سعيدي لم يقف عند هذا الحد، بل على الرغم من علمه بتواجد قوى أمن الشاه في الكويت، صعد المنبر في حسينية "فحيحيل" في الكويت لينقد بشدة أجهزة الشاه إلى حد أثار استغراب الإيرانيين في الكويت، بل وحتى قوى أمن الشاه هناك.

 

بقي آية الله سعيدي من بعد هذه الخطبة أشهراً في الكويت، ليعود بعد انتهاء شهري محرم وصفر متنكراً إلى إيران، ويهرع إلى قم للقاء الإمام. وقبل دخوله على الإمام كتب إليه بهذا المضمون: "سيدي ومولاي! دخلت قم بلباس مشين، وأستأذنك في الدخول". فاستقبله الإمام برحابة واحتضن الحبيب حبيبه من بعد فراق شهور.  

 

الاستعانة بالمراجع

 

الخطاب التاريخي للإمام الخميني في الاعتراض على إقرار لائحة حفظ المصالح الأمريكية في إيران وهجومه العلني على أمريكا وإسرائيل والشاه، انتهى باعتقاله ونفيه إلى تركيا، فبدأ سعيدي ــ بعد نفي الإمام ــ مع غيره من طلاب الإمام بمحاولات جديدة؛ فقد استفتوا اثنين من مراجع التقليد قائلين: "ما هو التكليف في حال ضيّقت علينا الحكومة في قضايا الساعة وفي الأهداف العليا لعلماء الدين وفي تبجيل آية الله العظمى السيد الخميني مد ظله؟ فكان جواب هذين المرجعين دور كبير في حركة العلماء في غياب الإمام، بحيث اضطر رجال الأمن (السافاك) إلى اعتقال الكثير من العلماء والطلاب في إيران بعد انتهاء شهر رمضان.

 

وبانتقال الإمام من تركيا إلى النجف، بدأ علماء الدين مرحلة جديدة من الجهاد؛ فقد أفزعوا نظام الشاه بالبيانات التي أصدروها، ومن بين هذه البيانات رسالة اعتراض يلاحظ في ذيلها اسم رجل يدعى "السيد محمد رضا سعيدي" يخاطب فيها ــ مع بقية أنصار الإمام ــ أمير عباس هويدا قائلاً: "لا تذهبنّ بكم الأوهام إلى أنكم تطفئون مشاعر هذه الأمة المتأجّجة بانتقال سماحة آية الله العظمى السيد الخميني من تركيا إلى النجف".  

 

آية الله سعيدي في النجف

 

وعلى الرغم من كل التشديدات الأمنية آنذاك، استطاع آية الله سعيدي أن يتخذ طرقاً خاصة ليعبر من حدود إيران إلى النجف؛ فبذل خلال إقامته هناك جهوداً كبيرة في تعريف شخصية الإمام الخميني لدى العلماء والأساتذة هناك أفضل تعريف.

 

وبعد عودته من النجف، ذهب آية الله سعيدي إلى مدينة "تفرش" بدعوة من أهلها ليلقي فيها خطباً هاجم فيها علناً نظام الشاه وممارساته اللاإسلامية واللاإنسانية.. كانت هذه الخطب على درجة من الثورية بحيث أدخلت الرعب في قلوب بعض من كان هناك، ممّا أدى إلى مغادرته "تفرش" عائداً إلى قم. وفي قم، بينما كان بانتظار منبر ونداء جديد، دعاه أهل جنوب طهران لإقامة صلاة الجماعة والخطابة في مسجد الإمام موسى بن جعفر (ع)، فلبّى آية الله سعيدي هذه الدعوة واستأجر داراً لأسرته في محلّة دولاب (غياثي)، ليصبح هذا المسجد بعد حين معقلاً من معاقل مقارعة نظام الشاه. وبدخول آية الله سعيدي مسجد موسى بن جعفر (ع) في عام 1966م، حدث تطور كبير في منطقة شرق طهران، إذ أخذ هذا المسجد يستقطب اليافعين والشباب في المنطقة. وقد أرسل له الإمام الخميني بتاريخ 3 شباط 1966م رسالة من النجف يبدي فيها ارتياحه لذهابه إلى طهران:

 

"لقد سرني ــ من جهة ــ ذهابك إلى طهران، لأنها أحوج من غيرها إلى علماء الدين. نشكر لك جهودك وسعيك".  

 

مسجد موسى بن جعفر (ع) معقل الجهاد

 

كان آية الله سعيدي يلقي خطباً في المسجد في ليالي الجمعة وينتقد فيها ــ بلا تحفظ ــ الممارسات اللاإسلامية لحكومة الشاه؛ هذا إلى جانب سعيه الحثيث إلى نشر أفكار الإمام الخميني. فجعل من المسجد موقعاً لمجاهدين من قبيل آية الله إمامي كاشاني وحجة الإسلام والمسلمين هاشمي رفسنجاني. فتنبّه السافاك إلى ذلك وأيقنوا أن استمرار مسجد موسى بن جعفر (ع) على هذا الوضع ليس بصالح النظام بأي نحو من الأنحاء؛ ولهذا فقد أخذ النظام يمارس الضغوط على آية الله سعيدي والمصلين في المسجد، إلاّ أن آية الله سعيدي لم يعبأ بتهديدات السافاك.

 

"يجب علينا تشكيل تنظيمات من أجل الجهاد، لكي يمكننا الوقوف بوجه العدو ومقارعة نظام يسجن علماءنا ويقوم بنفيهم. إني سائر على طريق سار عليه الإمام الحسين (ع) وقاوم إلى النفس الأخير، وكذا قائدنا الديني الكبير آية الله الخميني. إني سأقول كلمتي ولن أدع الجهاد في وسط الطريق…".  

 

العدو الرئيس

 

لقد كانت نظرة آية الله سعيدي إلى القضايا السياسية في إيران والعالم من تلك الزاوية التي ينظر منها الإمام الخميني؛ كان يعتقد بأن أمريكا وإسرائيل هما العدوان الرئيسان للإسلام ولإيران، وأن الحل الأساس يكمن في اقتطاع جذور هذين العدوّين من المنطقة وإيران؛ ففي تاريخ 21/7/1966م، ارتقى سعيدي المنبر، ومسجد الإمام موسى بن جعفر (ع) يموج بأهله، فحمل في خطاب عارم على أمريكا وإسرائيل: "أمريكا المستعمرة يديرها اليهود، وجونسون هو نفسه يهودي. انظروا كيف يبيدون الأحرار في فيتنام بحجة إقرار السلام! كيف يرتكبون المجازر بحق الناس. يجب أن نعرف أعداء البشرية هؤلاء… يجب أن تكون لنا تنظيمات لأجل الجهاد، وأن نتعلم دروس النضال والدفاع عن البلاد والدين والعلماء والمراجع…".

 

وإلى جانب إلقاء المواعظ والخطب، كان آية الله سعيدي يعطي دروساً في العلوم الدينية في مسجد الإمام موسى بن جعفر (ع) ويربي مريديه للالتحاق برهط علماء الدين. وكان من مصادر دروسه كتاب تحرير الوسيلة وكتاب ولاية الفقيه للإمام الخميني. وكانت حصيلة هذه الدروس هي ترجمة قسم "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" من الكتاب الذي ألحق فيما بعد بالرسالة العملية للإمام.  

 

رسالة الولاء والوفاء

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته

 

ثم السلام عليك يا غريب الأوطان ويا بعيد المدى سيدنا ومولانا الخميني، عنّي وعن جميع المؤمنين والمؤمنات ورحمة الله وبركاته.

 

كتبت إليك والعبرات تجري              على الخدين رشّاً بعد رش

 

وكنّا فــي اجتماع كالثريا             فصيّرنا الزمان بنات نعش

 

غارت النجوم وهدأت العيون والناس رقود، وعباد الرحمن قعود، يناجون ربهم ينتظرون رحمته، نعم رحمته الخاصة في ليلة الجمعة، وأنا من بينهم أناجيك كأني جالس بحضرتك أشكو إليك بثي وحزني وما جرى علينا من الزمان وما فعلت بنا الحدثان.. وإنّا مذ فقدناك فقدنا روحنا وعزنا وحياتنا وشرفنا وكل شيء، ووقعنا بين محب خاذل وعدو عنود جاهل، لا يراعي الكبير ولا يرحم الصغير ولا يُبقي ولا يذر؛ فقد أتى علينا من القواعد وأوقع بنا الهوان وفعل بنا الأفاعيل، فقُتل من قُتل وسُبي من سُبي وأقصي من أقصي وسجن من سجن وضرب من ضرب وهتك من هتك وشتم، من شتم وان استغاثوا إلى مراجعهم وأولياء أمورهم أجابوهم بالغلظة والشدة كما يجيب الرجل ربيبه وهو ماقت عليه ساخط! وقد كان أمركَ يا سيدي فتنة للناس ميز الله بها الخبيث من الطيب من جميع الطبقات، فغربلوا في هذه المرة غربالاً وبلبلوا بلبالاً، ولم يبق لك من المراجع أحد، ولا استثني واحداً ولا ممن دونهم من يعتد به، اللّهم إلا معدوداً من الأفاضل وعدة لا يستهان بهم من الطلاب وجميع المؤمنين من غيرهم، وقليل ما هم.. فإنا لله وإنا إليه راجعون. نعم، بقي لك شيء وفيه كل شيء وهو الاستمداد من الساحة المقدسة العلوية وسائر المشاهد المشرفة، فاسأل وأصرّ وألحّ وجد واجتهد كأنك آخذ بثوبه لا ترجع إلاّ مقضي المرام إن شاء الله تعالى، فإن عدوك معاوية الزمان ويزيد الدوران وحجاج الوقت، وليس أنصارك إلاّ كأنصار السبط الأول والإمام الثاني عليه السلام، وإذا كنت في النجف الأشرف فأقمت فيهم فإنّا لا نرى في شروع الدرس وتشكيل الحوزة والقيام بشؤون الرئاسة صلاحاً، وإلاّ عاداك من لا قبل لك به، ولرأيت ألدّ الخصام، اللّهم إلاّ أن يشاء الله ذلك، وإذا أراد شيئاً هيأا أسبابه. ونحن منتظرون لأمرك؛ فإن رأيت الصلاح في الهجرة أتيناك من كل فج عميق، ثم إنّا نرجو أن نكون ممّن يدعو لهم سيدنا الخميني كما نحن لا ننساه، وقد تشرفت بزيارة الإمام الثامن (ع) في أوائل غيبتك الكبرى، متوسّلاً إليه في أمرك، وبعد أيام قلائل زرت الأعتاب المقدسة في العراق بهذه النية، واقترح عليّ الأخ السديد والصديق الوفي "الصادق الطهراني" أن أصعد المنبر أيام الصيام فأديت ما عليّ من أمر التبليغ واجتهدت مع صديقي "الصادقي" في الاختلاف إلى العلماء وملاقاتهم في أمرك وأمر عامّة المؤمنين الإيرانيين، ثم رجعت سالماً وغانماً، ولم أزل اشتغل في ذلك الأمر إلى الآن، لم يردعني أمر المعيشة ولا أمر التحصيل، فقد وقعت بيضة الإسلام في خطر عظيم، وإني على يقين من أن خدماتي ليست إلا كخدمة الضفدعة في اطفاء حريق نمرود لإبراهيم على نبينا وآله السلام ــ على ما قيل ــ أو أقل، ولكنها، المسؤولية. وقد مُنعت عن الخطابة والسفر إلى الكويت، وحال الاعداء بيني وبينها كما حيل بينهم وبين ما يشتهون. وأخيراً دعاني صديقي العطوف الأحمدي إلى (خمين) فأديت ــ والحمد لله ــ ما عليّ وبلّغت رسالات ربي لا أخشى أحداً إلا الله، ورجعت سالماً وغانماً، وقد رزقني الله ولداً ندعوه ــ روح الله ــ فنذكرك صباحاً ومساءً.. ولم يقم للحوزة بعدك قائمة وهي مضطربة اضطراب فصيل ناقة صالح، تطلب أمّها في كل سهل وجبل؛ وأمّا قومك فقد أضلّهم السامريّ، والآن يتيهون في الأرض.. أخرجهم الله من التيه برجوعك من الوادي المقدس إن شاء الله تعالى!

 

وفي الخاتمة اعتذر إليك يا سيدي من إطالة الكتاب، وأبلغ إلى حضرتك تحيات محبيك، ولاسيّما العشاق، وأخص بالذكر من بينهم المنتظري والمشكيني والخزعلي، وكلّهم سالمون ومسلّمون، لا حاجة لهم سوى زيارتك منصوراً ظافراً ملتمسين للدعاء، ولا سيما في مظانّ الإجابة، وأنفاسك القدسية كلّها مظنة الإجابة.

 

والسلام عليك وعلى من حضر لديك ورحمة الله وبركاته.

 

عبدك محمد رضا سعيدي الخراساني

 

ليلة الجمعة لاثنتي عشرة خلون من جمادى الثانية 

 

دروس للنساء

 

كان آية الله سعيدي أول من فكر آنذاك بتعليم وتربية النساء وتعريفهن بأحكام دينهن؛ هذا في وقت كان نظام الشاه يسعى فيه بكل قواه لنشر الثقافة الغربية وجرّ الفتيات إلى الضياع والفساد.

 

"… لقد جاء الشهيد سعيدي لتحقيق أهداف الإمام فأصبح إمام مسجد موسى بن جعفر (ع) في شارع غياثي… كنّا ست عشرة امرأة ندرس عنده، وكان كل من هذه النسوة تنتفع بوجود ودروس هذه الشخصية البارزة على قدر طاقتها ووسعها وإدراكها".  

 

الدعوة والتبليغ في ضواحي طهران

 

لم يقف آية الله سعيدي في دعوته وجهاده عند مسجد الإمام موسى بن جعفر (ع)، بل راح يوسع من إطار حركته إلى ضواحي طهران؛ فاختار لذلك منطقة "بارجين" التي يقول هو عنها: "لم تطأها رجل عالم دين قط"! واستطاع خلال سفراته المعدودة إلى قرى تلك المنطقة أن يأخذ بأسماع أهاليها إلى خطبه الثورية. وقد تحمّل الكثير على هذا الطريق، واستمر عليه رغم كل تهديدات وتضييقات السافاك.

 

يحكي لنا السيد محمد سعيدي الولد الأكبر للشهيد في مذكراته عمّا كان يتحمله آية الله سعيدي في ذهابه إلى "بارجين":

 

"… في إحدى الليالي التي كان يذهب فيها أبي إلى بارجين، لم يجد سيارة تقلّه إلى هناك. كان يصرّ هو على الذهاب إلى بارجين. وكان عندي دراجة نارية صغيرة، فطلب منّي أن آخذه بالدراجة إلى ميدان خراسان ليجد سيارة هناك تأخذه إلى بارجين. بعد ذلك قال لي: اذهب أنت بالدراجة إلى ميدان خراسان، ومن هناك سأركب خلفك لنذهب من مسير "كرمسار" إلى قرية أريد أن ألقي فيها خطبة. فقبلت وذهبت بالدراجة إلى بداية (مسكر آباد)، بالقرب من المقبرة التي دفن فيها الشهيد نواب صفوي ووقفت أنتظره. وبعد مدة وصل أبي وركب خلفي على الدراجة… فسرنا مسافة حتى وصلنا إلى طريق فرعي، في هذه الأثناء حدث خلل في شمعة الإشعال وأخذت الدراجة تتقطع في سيرها حتى انطفأت. لم يكن لدينا شمعة إشعال احتياطية لتغييرها، والطريق إلى القرية طويل، ولم يكن ليلتها القمر طالعاً، بل كانت ليلة مظلمة تماماً.. أخذ أبي عباءته وألقاها على كتفه، وسرت معه مصطحباً الدراجة العاطلة. وبعد مدة من السير، قال لي أبي: محمد! سأصلّي على النبي وآله، وأنت شغّل الدراجة فستشتغل إن شاء الله. ولمّا ذكر أبي الصلوات شغلت الدراجة وإذا بها تعمل! فركب أبي مرة أخرى خلفي على الدراجة وتحركنا إلى القرية. فارتقى أبي في تلك الليلة المنبر وخطب خطبته، وعدنا في اليوم التالي إلى طهران على تلك الدراجة نفسها"!  

 

لست غوغائياً

 

إن شجاعة آية الله سعيدي، ولاسيما في خطبه خلال العامين 1966 و1967م ضد التعسف الذي كانت تمارسه حكومة الشاه، أدت إلى بلوغ كل ذلك إلى السلطات العليا من خلال التواجد المستمر لرجال الأمن في المسجد، بل ونفوذهم إلى داره. وفي تاريخ 18/5/1966م جاء أحد رجال الأمن إلى داره ليحذّره ممّا يقول ويفعل، إلا أنه قال في الجواب:

 

"أنا رجل مستقل لا أتبع أحداً ولا أقع تحت الضغوط أيضاً. بالطبع لست غوغائياً يطلب الفوضى، إلاّ أني أعتقد بأن آية الله الخميني عالم دين حقيقي شريف طاهر مستقيم لابد من احترامه وتبجيله في كل مجلس ومناسبة. أنا لا أتحدث عن الحكومة وأجهزتها، إلا أني مضطر لتبجيل علماء الدين".

 

وبعد أن أيقن السافاك أن آية الله سعيدي ليس شخصاً يمكن تغييره بالتهديد والإرعاب، قام بإلقاء القبض عليه عن طريق الشرطة بتاريخ 29/7/1966م بتهمة "الإخلال بأمن البلاد" ليلقى في سجهن (قزل قلعة). وبعد فترة قضاها في السجن، حكمت عليه محكمة عسكرية في محاكمة شكلية بالسجن مدة شهرين. فخرج من السجن بتاريخ 2/10/1966م بعد انقضاء مدة الحكم. وبعد إطلاق سراحه، فإن التحذيرات المتكررة له من قبل السافاك والشرطة لم تُجدهم نفعاً، بل كانت على العكس تزيد من شدة كلامه ومواجهته للنظام، حتى انتهى الأمر إلى أن يرسل الفريق "نصيري" رئيس السافاك رسالة إلى مديرية الشرطة العامة يقول فيها:

 

"… سعيدي المذكور أعلاه لا يزال يمارس سلوكه الخاطئ كما في السابق، بل وبشكل أكثر، ويوجّه باستمرار من على المنابر كلمات مثيرة مضلّة. لذلك، نظراً لاقتراب حلول شهر رمضان المبارك، ولا مصلحة في استمرار هذا الوضع، لذا نرجو إصدار الأوامر اللازمة للحيلولة دون الإثارات المخربة لهذا الشخص وإعلامنا بالنتائج". 

 

منع سعيدي من ارتقاء المنبر

 

استناداً إلى هذه الرسالة منعت مديرية الشرطة العامة آية الله سعيدي من ارتقاء المنبر وهددته بالسجن فيما إذا وضع قدماً عليه.. إلا أنه وجد الحل في أن لا يرتقي المنبر ولكن يلقي خطبه قائماً وجالساً.. يذكر السافاك في أحد تقاريره:

 

"التقى سعيدي جمع من تجار السوق، فقال له أحد الحاضرين ممّن لم تحدد هويته: يا سيد سعيدي، لو كان كل المعممين مثلك لأصبح موقفنا من الحكومة واضحاً، ولم تتمكن الحكومة من إنزال المصائب على رأس هذا الشعب كل يوم".  

 

الأمريكان في إيران

 

نشرت الصحف الإيرانية بتاريخ 26/4/1970م أن (راكفلر وهيليانتال) يزوران طهران لدراسة إمكانات استثمار رؤوس الأموال في إيران مع أبرز المستثمرين الأمريكان. وكانت موارد استثمار الأموال هي: السياحة، الغابات، الزارعة، الصناعة، إيجاد خطوط توزيع، وصناعات من قبيل البتروكيمياويات. وقد حضر المؤتمر خمسة وثلاثون من المستثمرين الأمريكان.

 

ولم يكن هذا أول هجوم للمستثمرين الأجانب على إيران، بل تحكي الإحصائيات التي نشرتها الصحف الإيرانية عن أن نسبة الاستثمار في إيران بلغت نحواً من 2.8 مليار ريال خلال الأعوام 1962 ــ 1967م، وقد بلغت نسبة الاستثمار الأمريكي وحده في عام 69 ــ 70 مقدارا (200) مليون دولار، إلا أن هجوم المستثمرين الأمريكان على إيران في إبريل عام 1970م كان على درجة من السعة والقوة بحيث يعرّض الاستقلال الاقتصادي والسياسي لإيران إلى انهيار كامل. وعلى أثر ذلك، شكّل علماء الدين، ولاسيما في قم، اجتماعاً فوريّاً ليتدارسوا الموقف ويصدروا من قم بياناً تاريخياً يوجّه الشعب الإيراني إلى الخطر الآتي باسم الاستثمار الأجنبي والإعلام المضل الذي رافقه.

 

وقد كان آية الله سعيدي أحد الموقعين على هذا البيان، بالإضافة إلى دوره الكبير في نشره بين مختلف طبقات الشعب. هذا وفي الوقت ذاته، قام بإلقاء كلمة قوية في مسجد الإمام موسى بن جعفر (ع) بمناسبة مجيء المستثمرين الأجانب:

 

"إحدى الحكايات التي ملأت أخبارها البلاد اليوم وحكتها الصحف، هي أن خمسة وثلاثين أمريكياً جاؤوا ليقوموا باستثمار الأموال في إيران. أتعلمون ماذا يخطط المستعمرون وأعوانهم وأيّ ظلم يريدون اقترافه؟! ما هو موقفي أمام هذا الوضع وأنا في هذا الموقع الحساس؟!…".

 

لقد كان سعيدي يرى في مجيء المستثمرين الأمريكان خيانة أكبر من معاهدة حفظ المصالح الأمريكية، وعقداً أكثر استعمارية من عقد حصر بيع التبغ. ولهذا كتب إلى العلماء والمراجع في حينها يقول:

 

"كم هو غريب سكوتكم أنتم قادة الدين أمام هذا الخطر العظيم، وعدم اتخاذكم إجراءً يحول دونه".  

 

استقبال الشهادة

 

لقد أعد آية الله سعيدي نفسه منذ البداية للشهادة في سبيل الإسلام وأهداف الإمام الخميني. لنستمع في هذا الصدد إلى ما يقوله ابن الشهيد (السيد محمد سعيدي):

 

"بعد أن استشهد أبي، وجدنا كتابة بخط يده خلف كتاب المواعظ العددية؛ وقد شاهد تلك الكتابة آية الله الخزعلي والشهيد المطهري وخالنا السيد الطباطبائي وأنا وإخوتي، ويبدو أن الشيخ الرفسنجاني رآها أيضاً. كتب أبي بخط يده: رأيت في عالم المنام أني أذهب إلى دار السيد الخميني، وفي الطريق رأيت العلاّمة الطباطبائي، فناداني وذهبنا سويّة إلى أن وصلنا أعتاب داره. فقال لي العلاّمة: لقد رأيت البارحة الإمام أبا عبدالله الحسين (ع) في عالم الرؤيا وقال لي قل لسعيدي يأتي إلينا، ليس من شيء يثير القلق، نحن نتكفّل بك… عندما استيقظت من منامي شكرت الله، وكتبت هذه الرؤيا خلف كتاب المواعظ العددية.

 

هذه الرؤيا كانت في وقت يعاني فيه والدي الاعتقال والمشكلات باستمرار بسبب تأييده للإمام الخميني". 

 

التخطيط النهائي لقتله

 

إن الكلمات الصارمة والرسائل والبيانات العلنية لآية الله سعيدي قد أفزعت حكومة الشاه، وكان السافاك على ثقة بأن آية الله سعيدي سيتمكن من إقناع العلماء بإصدار فتوى ضد إجراء عقود استثمارية من هذا القبيل؛ ولهذا أعدّ كل قواه للجريمة، فقام الفريق "مقدم" المدير العام للشعبة الثالثة للسافاك على أثر تقرير عن البيان الذي أصدره آية الله سعيدي، بإصدار الأمر التالي: "أحضروه وحذّروه من إثارة الرأي العام ضد مشاريع الدولة، وإلاّ فإنه ستتخذ ضده إجراءات شديدة…". ولكن كتب في ذيل هذا الكتاب: "نظراً لصدور أمر اعتقال الشخص المذكور، أمر مدير الشعبة الأولى بعدم لزوم إرسال هذه الرسالة. تحفظ في ملف محمد رضا سعيدي". وبهذا تهيّأ رجال السافاك لاعتقاله.

 

في تاريخ 31/5/1970م ذهب سعيدي إلى داره بعد الصلاة، كانت الساعة الواحدة ظهراً وهو يريد تناول طعام الغداء ويستريح، إذ داهم السافاك داره فعاثوا في الدار مقلبين أثاثه وكتبه وأخذوه من بين أسرته. أخذوا سعيدي إلى سجن (قزل قلعة) ليودعوه في سجن انفرادي ضيق مظلم. عذّبوه مدة عشرة أيام أبشع تعذيب، ولكنه لم يستسلم. أوراق التحقيق التي عثر عليها بعد الثورة تحكي عن أنه رغم كل التهديدات التي مارسها المحققون والجلادون، كان سعيدي لا يذكر الإمام الخميني إلا بــ"سماحة آية الله الخميني"، وإذا اضطر إلى ذكر أو كتابة محمد رضا بهلوي كان يكتفي بكلمة "الشاه" من دون أي لقب أو سمة من قبيل "شاهنشاه" أو "آريا مهر". 

 

لابدّ من قتله

 

وأخيراً انتهى السافاك إلى أن إعدام آية الله سعيدي أمر لابد منه لمستقبل النظام.. وكان النظام يريد من قتل هذا العالم المجاهد، توجيه ضربة لغيره من العلماء وطلبة العلوم الدينية، ولاسيما أنصار الإمام الخميني، لكي لا يجرأؤوا على الإعلان بعدها عن دعمهم لقيادة الإمام، بالإضافة إلى تخلّص النظام من الخطر الذي يشكله عليه سعيدي. ولهذا قرروا قتل هذا المجاهد العظيم في ليلة 9/6/1970م ليتوقف بذلك نبض قلب طالما هتف بحب الإسلام والإمام الخميني.

 

ليلة الخميس 9/6/1970م (6 ربيع الثاني 1390هــ) انقطع التيار الكهربائي فجأة في سجن (قزل قلعة) ليغرق السجن في ظلام دامس. وبعد لحظات أسرع بعض الأفراد إلى داخل الزنزانة لتتعالى صيحة منها، ثم خيّم سكوت غريب داخل السجن.

 

السجناء الذين كانوا إلى جانب زنزانة سعيدي لم يفهموا ماذا جرى، ومن هم أولئك الذين دخلوا الزنزانة وماذا فعلوا، وممن كانت تلك الصيحة من داخل الزنزانة! بعد مدة وجيزة عاد التيار الكهربائي إلى السجن، فدفع حب الاستطلاع بعض السجناء إلى أن يمدوا رؤوسهم إلى زنزانة سعيدي ليواجههم منظر مرعب! سعيدي ملقى في زاوية الزنزانة على حال غير طبيعي وعمامته ملتفّة على رقبته، فصاح السجناء، وجاء الحراس ليفتحوا باب الزنزانة ويخرجوه ويضعوا العمامة عن رقبته. إلاّ أنه قد فات الأوان، وسعيدي البطل الذي لم يسكن لحظة عن فضح الشاه، استشهد على يد جلاوزته وعرجت روحه إلى السماء.  

 

وصية آية الله سعيدي

 

كتب الشهيد سعيدي وصيته بخط يده خلف قرآنه الصغير، وقال فيها:

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

وصيتي أنا السيد محمد رضا سعيدي الخراساني.

 

أولادي، كونوا جميعاً من أهل العلم والدعوة إلى الله.

 

بناتي، تزوجن من أهل العلم والدعوة والتبليغ.

 

كونوا في الدنيا متّحدين، لا تختلفوا على الدنيا. راعوا حق والدتكم جميعاً. وادفنوني في قم. ادعوا لي وأبلغوا سلامي الجميع. صوموا عنّي يومين وادفنوني في قم.لا تنسوا الآيات 152ــ157 من سورة الروم.

 

قائمة الكتب التي أخذها الأصدقاء موجودة في كتاب المحجة البيضاء. استرجعوا كتبي وكتاباتي عن طريق السيد الخزعلي، وقولوا له وللشيخ المشكيني أن يبرئوا ذمّتي من طلبهما. أعطوا بقية كتب الشيخ المشكيني. ادفعوا طلب السيد جواد آقا محمدي، ويبدو أنه أكثر من (250) توماناً بقليل. لديّ مبلغ من المال في البنك مكتوب في أسفل الصك. يمكنكم استلامه عن طريق السيد جعفري خانساري، وكذلك التقوا عن طريقه وطريق السيد كثيري بالسيد بهادري بما حدث. كل من يريد إقامة الفاتحة لي، قولوا له ليتعلم مسألة من المسائل الشرعية ويعمل بها بدل ذلك، وكل من أطلبه مالاً فإنه ليس لي قائمة بالطلبات، فإذا لم يستطع دفعه إلى آخر عمره فهو بريء الذمّة.  

 

كيفية الشهادة

 

يقول مؤلف كتاب "نهضة الإمام الخميني" حول سبب وكيفية كتابة وصية الشهيد سعيدي:

 

"طبقاً لما يقوله بعض السجناء السياسيين في سجن (قزل قلعة)، ممّن كان إلى جانب زنزانة الشهيد سعيدي: في الساعة الثالثة بعد الظهر من يوم 9/6/1970م، قبل ساعات من قتله بتلك الصورة الفظيعة، استدعوا سعيدي للتحقيق، ولم يلبث طويلاً حتى عاد. ويبدو أنهم دفعوه أثناء التحقيق إلى كتابة وصيته للتظاهر بأنه كتبها لأنه ينوي الانتحار! وربّما فهم الشهيد من خلال طريقة تعاملهم أنهم ينوون قتله، فبادر هو بنفسه إلى كتابة وصيته. ومن المحتمل أنهم عندما أخذوه للتحقيق في الساعة الثالثة بعد الظهر من ذلك اليوم، أقاموا له محكمة شكلية، وحكموا عليه بالإعدام، فكتب هو لذلك وصيته".

 

يقول الكاتب محلّلاً:

 

"… لم يكن السافاك يريدون التظاهر بانتحار سعيدي، لأنهم كانوا يستهدفون من قتله إدخال الرعب إلى المجتمع، ولا سيّما علماء الدين، ولهذا نرى أن تقرير الجلسة التي شكّلت حول سبب قتله، يلاحظ عليها التناقض والتضارب؛ ففي أحد التقارير ادعى السافاك أن "الشخص المذكور استغل انقطاع القوة الكهربائية في المنطقة في الساعة 21 [التاسعة ليلاً] من يوم 9/6/1970م لينتحر بإدخال منديل في حلقه". وفي تقرير آخر: "وفاته بسبب نزف في البنكرياس". ويدعي الفريق "مقدم" في كتاب معمّم إلى دوائر السافاك أنه: "توفي على أثر جلطة قلبية في السجن". ورأي رئيس دائرة الطب الجنائي هو: "موت الشخص المذكور بسبب انهيار تسبب عن ضربة في الشبكة العصبية".

 

هذا التناقض في الأقوال يكشف عن أن السافاك كان يريد أن يضفي هالة من الريبة والشك على موت سعيدي ليحقق هدفه في إيجاد حالة من الرعب والخوف على أفضل ما يكون".  

 

البيان العلني

 

لم يعطوا جنازة الشهيد سعيدي إلى أسرته. في صباح 10/6/1970م جاء السافاك إلى دار الشهيد في شارع غياثي وأخذوا ولده الأكبر السيد محمد إلى سجن قزل قلعة. يقول السيد محمد سعيدي: "بعد نشر الصحف لخبر مجيء المستثمرين الأمريكان إلى إيران، كتب أبي بياناً ضد ذلك، كان بيانه حساساً وحاداً جداً، وقبل كتابة هذا البيان، سافر إلى قم والتقى بعض السادة، وكان قراره أن يتم كتابة بيان يوقّع عليه عدة من علماء وطلبة الحوزة. كان الأمر حساساً وصعباً للغاية ممّا جعل بعض السادة يمتنع عن التوقيع. ولآية الله المنتظري حديث حول هذا الموضوع، أذاعه التلفاز في الذكرى السنوية لاستشهاد آية الله سعيدي، وأنا سمعته بنفسي. قال: كان السيد سعيدي أحد الذين قدموا إلى قم واقترحوا كتابة بيان يدين المستثمرين الأمريكان. قلت له: خذ البيان الذي كتبته إلى تسعة أشخاص غيري من العلماء، فإن أمضوه سأكون أنا الشخص العاشر الذي يمضيه، ولكنه ذهب ولم نسمع عنه شيئاً. فعلمت بعد ذلك أنه وحده الذي أمضى ذلك البيان وطبعه وقام بتوزيعه بنفسه.

 

من القضايا الأخرى التي قام بها أبي وكانت سبباً في اعتقاله، هو توزيعه لشريط ولاية الفقيه للإمام الخميني الذي جاءه من النجف. فقد كان إعلام النظام قبل هذا يقول باستمرار إن علماء الدين ليس لهم أي خطة للحكم والحكومة، إلاّ عدة من الغوغائيين. ولكن عندما وصلت أشرطة محاضرة الإمام حول ولاية الفقيه إلى إيران، أفزعت النظام حقاً. بعد ذلك جاء توزيع بيان والدي الذي يدين المستثمرين الأمريكان، فغضب السافاك بشدّة. لأجل ذلك داهم السافاك دارنا في يوم 30/5/1970م وأخذوا كل ما كان من كتب ووثائق، وساقوا والدي إلى سجن قزل قلعة ولم يسمحوا لأحد من أسرته بمواجهته حتى استشهد.

 

كلما كنّا نراجعهم كانوا يقولون: اليوم ليس يوم مواجهة! وفي أحد الأيام ذهبنا لمواجهته، وكان الوقت قريب الظهر. فرأينا سيارة إسعاف بيضاء خرجت من السجن. فتعالت أصوات الحزن والأسى من أسر السجناء السياسيين الذين كانوا يجتمعون كل يوم عند باب السجن وراحوا يضربون على رؤوسهم، إذ كل منهم كان يتصور أن أحد أقربائه قد قتل في السجن. ولم أكن أدري أن جنازة أبي هي التي كانت في سيارة الإسعاف تلك. فبقينا ننتظر خارج السجن ساعات من بعد ظهر يوم 10/6/1970م حتى يئسنا من رؤية أبينا، فرجعنا أدراجنا إلى الدار. وبعد دقائق من وصولنا الدار، جاءتنا سيارة من سيارات السافاك وقال أحد رجالهم: هات جنسية أبيك. وقال لي باعتباري الولد الأكبر: تعال معي للقاء أبيك.. فركبت السيارة، إلا أننا ذهبنا إلى مكان لم أكن أعرفه ولا أدري أنه مركز الطب الجنائي، وهم لم يخبروني أيضاً عن ذلك المكان. عندما وصلنا هناك قال لي أحدهم (ممن عرفت فيما بعد أنه الدكتور جواني الذي أعدم بعد الثورة): أقدم لك التعازي! لم أكن أنا أتصور أبداً أن قد حدث شيء. فوقفت مبهوتاً. في هذه الأثناء، طلبني الدكتور السيد محمود الطباطبائي رئيس الطب الجنائي إلى غرفته وسألني: ما هي قضية والدك؟ فحاولت التهرب من الإجابة ولم أقل شيئاً. فقال لي: اعتمد عليّ يا ولدي، إذا كان من شيء فقل لي. فذكرت له ما أعرف من جهاد أبي واعتقال السافاك له. على أي حال، تحركوا بجنازة أبي إلى وادي السلام في قم وأنا معهم. فأخرجوا الجنازة. كان في بدنه جروح. كان الدكتوران جواني وازغندي اللذان كانا من كبار موظفي السافاك حاضرين هناك. ومع أني كنت أشاهد جنازة أبي، لم أكن أصدق أنهم قد قتلوه. كان هناك شخص باسم محمدي أو محمد زاده وهو رئيس السافاك في قم آنذاك وعدد آخر ممن كان هناك، يترقّبون ردة فعلي. في هذه الأثناء كنت أنا أحدق بجنازة أبي، وكأنّ الله تعالى أجرى هذه الكلمات على لساني:

 

أبتاه! أنت أبيض الوجه أمام رسول الله.

 

أبتاه! أنت أبيض الوجه أمام الخميني.

 

أبتاه! أنت تعلم أفضل منّا بأن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر.

 

أبتاه! أنت بلغت مرامك.

 

أبتاه! افرح، وأنا أفرح أيضاً، بالسعادة التي بلغتَها.

 

فحملق رجال السافاك إليّ بعيون جاحظة ساكتين كأنهم خرس، لم ينبسوا ببنت شفة، وهم يستمعون لما أقول فقط.  

 

مطاردة ومراقبة

 

"خرجنا من مغسل الموتى ودفنوا جنازة أبي.. فذهبت مباشرة إلى قم، إلى دار آية الله الرباني الشيرازي، فلم أجده في الدار، فأخبرت أهله بشهادة أبي. كان رجال السافاك يلاحقونني في كل مكان، فلم أبقَ في قم، وعدت إلى طهران. وعندما وصلت البيت ورأتني أمي شعرت أنها فهمت الموضوع من خلال مظهري، فقالت لي: محمد! ماذا جرى؟!

 

قلت: لا شيء، لقد ارتاح أبي. اذهبي أنت والبسي السواد، وهات لنا نحن لباساً أسود أيضاً، فقد ازداد حملنا من الآن فصاعداً".

 

وقبل أن نتحدث عن مجالس الفاتحة التي أقيمت للشهيد سعيدي لنستمع إلى حادثة ثانية من ولده السيد محمد سعيدي:

 

"مرّ أربعون يوماً على شهادة أبي؛ فجاءت الأسرة إلى قبره في وادي السلام في قم بمناسبة يوم الأربعين، وكنت أنا معهم.. رحم الله الشهيد محمد المنتظري، كان موجوداً أيضاً، فأرسل امرأة إلى أمّي تقول لها: لأنك في ظروف عاطفية خاصّة ولا يجرؤ أحد على الاعتراض عليك، فاغتنمي الفرصة ونادي: الشاه قتل زوجي، وكرري هذه الجملة لينتبه إليها من جاء إلى مقبرة وادي السلام، كي يعلموا أن زوجك قد قتل بأمر من الشاه"!  

 

فزع السافاك

 

بعد شهادة آية الله سعيدي، أصدر الفريق "مقدم" رئيس الشعبة الثالثة للسافاك أمراً بمنع أيّ تحرك إعلامي أو نشاط بخصوص شهادة آية الله سعيدي؛ ومن يمارس أي نشاط في هذا الصدد يعتقل فوراً ويحكم عليه بالنفي مدة لا تقل عن ثلاث سنوات.

 

ومع أن المدارس الدينية في قم آنذاك كانت في أيام العطلة الصيفية، وكان القليل من العلماء والطلبة يتواجدون فيها، إلا أن عدداً من علماء الدين وأهل المدينة قاموا بتجمع في المدرسة الفيضية.. وفي صبيحة يوم الجمعة 11/9/1970م ذهب سماحة الشيخ مرتضى الحائري اليزدي إلى المدرسة الفيضية يفرش بنفسه البسط في باحة المدرسة، فأسرع بعض الطلبة الساكنين في المدرسة إلى مساعدته وفرشوا باحة المدرسة بكاملها في فترة وجيزة.. وفي هذا التجمع، ألقى السيد أحمد كلانتر خطبة تحدث فيها عن حالة المرحوم سعيدي من حيث كونه دفن ليلاً وسرّاً، وشبّهه بجدته الكريمة السيدة الزهراء (ع)، كما بجّل السيد الإمام الخميني. فذهب المشاركون بعد ذلك إلى وادي السلام، وألقى السيد كلانتر كلمة قوية أخرى هناك قال فيها مخاطباً الشهيد سعيدي: "نم قرير العين، فإن طريقك مستمر ومليء بالسائرين". فجاء رجال السافاك ليفرقوا الناس، إلاّ أن عدداً كبيراً منهم تظاهر في شوارع قم مدينين قتلة هذا العالم المجاهد. ثم ذهب المتظاهرون إلى دار شريعتمداري وأطلقوا شعارات ضدّه وأدانوا تعاونه مع نظام الشاه. كما اعتقل السيد كلانتري.  

 

موقف الحوزة العلمية في قم

 

وأصدرت الحوزة العلمية في قم بياناً بمناسبة شهادة آية الله سعيدي بدأ بهذه العبارة: "قتل آية الله السيد محمد رضا سعيدي الخراساني في السجن". وجاء في آخر البيان: "استشهاد آية الله سعيدي تحت التعذيب وتوقيف ونفي وتعذيب كبار علماء الدين في الحوزة العلمية في قم وطهران، لن يحول بيننا وبين السير على طريق توفير عيش كريم للشعب الإيراني المسلم ومواجهة المؤامرات الاستعمارية العالمية".

 

فقد كان لخبر شهادة آية الله سعيدي صدىً كبير في طهران أيضاً، فقد غضب الناس لسماع هذا الخبر وازداد استنكارهم لنظام الشاه إلى حد جاء في أحد تقارير السافاك:

 

"لقد انتشر خبر موت سعيدي في كل مكان، وشاع أن رجال الأمن هم الذين قتلوه تحت التعذيب؛ ولكي يخفوا آثار الجراح التي على بدنه، قاموا بدفنه بأنفسهم في قم"‍.  

 

آية الله الطالقاني في مسجد موسى بن جعفر (ع)

 

جاء في كتاب نهضة الإمام الخميني:

 

"في الساعة 9.15 جاء المجاهد الفقيد الطالقاني إلى دار المرحوم سعيدي، وبعد دقائق جاء الدكتور عباس الشيباني، وتجمع عدد من أقرباء وأصدقاء الشهيد.. في هذه الأثناء، بدأ أحد الحضور بتلاوة القرآن، فقال له الدكتور الشيباني: لماذا تقرأ القرآن هنا، تعالوا نذهب إلى المسجد ونقرأ القرآن هناك. فقيل: المسجد مغلق، ولا يسمحون لأحد بدخوله. فقال الدكتور الشيباني: لنقرأ القرآن عند ظهر المسجد في الشارع، أيقتلونه ويغلقون مسجده أيضاً؟! فأيّد المحروم الطالقاني قوله، وقام الجميع وتوجهوا إلى مسجد الإمام موسى بن جعفر (ع). ولمّا رأى الشرطة السيد الطالقاني ومن معه من الناس، تراجعوا أمامهم وتخلّوا عن محاصرة المسجد.. وفي الساعة العاشرة تقريباً وقف السيد الطالقاني والدكتور الشيباني مع عدد كبير من الناس أمام المسجد يطلبون من الحارس فتح الباب، إلاّ أن الحارس لم يجرؤ على فتح الباب لتهديد السافاك والشرطة له. عندئذٍ طلب السيد الطالقاني من المجتمعين أن يجلسوا في الشوارع التي حول المسجد ويقيموا له الفاتحة. فجلس الناس في الشارع على الأرض قبال المسجد وبدأ بعضهم بتلاوة القرآن. في هذه الأثناء قام شخصان بتسوّر جدار المسجد من الفرع الجانبي ودخلا المسجد وفتحا بابه، فدخل الناس المسجد، وأقام السيد الطالقاني الفاتحة هناك.

 

فقام الدكتور الشيباني إلى جانب المنبر وألقى كلمته تحدث فيها عن الشخصية الرفيعة للشهيد سعيدي وعن كيفية استشهاده مستنكراً ذلك بشدة. انتهى مجلس الفاتحة في الساعة 11.20 بأمر السيد الطالقاني وخرج الحاضرون من المسجد وهم يحيطون بالسيد الطالقاني والدكتور الشيباني. وكان أحد ضباط مركز شرطة رقم 14 قد أمر بإلقاء القبض على الدكتور الشيباني، إلا أن ازدحام الناس حال دون ذلك، ولكنه اعتقل بعد أيام ليقضي سنوات طويلة في السجن. أما السيد الطالقاني فإنه اعتقل في اليوم التالي، إلاّ أنه أفرج عنه فوراً خوفاً من ردة فعل عنيفة لأهالي طهران.

 

انتشر خبر شهادة آية الله سعيدي في إيران وأثار غضب الجماهير، فتوسل الفريق "مقدم" المدير العام للشعبة الثالثة للسافاك (الأمن الداخلي)، بالسيد كاظم شريعتمداري ليحاول من خلال مواساة أسرة الشهيد سعيدي أن يمنعهم من التحرك الإعلامي ضد النظام، فأرسل السيد شريعتمداري بطلب من السافاك شخصاً بمبلغ عشرة آلاف ريال إلى دار الشهيد سعيدي ليوصيهم من طرفه بألاّ يقولوا أبداً أن سعيدي استشهد في السجن، لأن ذلك قد يسبب لهم بعض المضايقات! إلا أن أسرة الشهيد سعيدي رفضت المبلغ وطردت رسول شريعتمداري بغضب واعتراض، لتفشل بذلك محاولة خبيثة أخرى للسافاك.

 

ومن ناحية أخرى، كان لشهادة سعيدي والمهندس نيك داوري في السجن، وقع كبير لدى الإيرانيين المقيمين خارج البلاد؛ ففي أوربا أقام الطلبة المسلمون وغيرهم من الأحرار الإيرانيين احتفالات تأبين وأصدروا بيانات ووزعوا بوسترات تكريماً للشهيدين سعيدي ونيك داوري.

 

كما أقامت الحوزة العلمية في النجف الأشرف احتفالات تأبين للشهيد سعيدي، وعلقت لافتات في شوارع النجف تحكي عن استشهاد سعيدي في سجن الشاه. وفي كربلاء وبغداد علقت صور الشهيد سعيدي على الجدران والمحلاّت، وكتب تحتها بالعربية: "عالم الدين الكبير الذي استشهد في زنزانته بيد جلاوزة الشاه". كما أقام العلماء وطلاب العلوم الدينية الإيرانيون في النجف حفلاً تأبينياً للشهيد سعيدي، وألقى بعض العلماء كلمات هاجموا فيها نظام الشاه.

 

أمّا الإمام الخميني، فقد تأخّر في إصدار بيان عن شهادة سعيدي، وقال في تبرير هذا التأخير: "لم يكن من نيتي السكوت على هذه الحادثة المؤلمة، إلاّ أن ظروفي تختلف عن ظروفكم (علماء وطلبة الدين). أنا في موقع المرجعية لا يمكنني قبول أي خبر والعمل في ضوئه قبل أن أتحقق من صحّته. ولما لم يصلني بعدُ خبر موثق عن طبيعة وفاته، لا يمكنني أن أعطي رأياً في ذلك. إني أنتظر وصول خبر صحيح من أفراد أعتمد عليهم في إيران لكي أرى ماذا يجب فعله".

 

وبعد مدة، ذهب آية الله السيد جلال الدين الطاهري الأصفهاني من قبل علماء الدين الملتزمين في إيران إلى النجف وقدّم للإمام التقارير اللازمة عن شهادة سعيدي والوضع في إيران، وأخبره أن آية الله المطهري بحث عن كيفية وفاة سعيدي وطالع عن قرب الأقوال المتضاربة للسافاك في ذلك.

 

وبعد أن اتّضح للإمام أن سعيدي استشهد في السجن على أيدي السافاك، استدعى أحد علماء الدين المعتمدين لديه وقال له: "ان قتل سعيدي في السجن أصبح واضحاً تقريباً، ولكني مع ذلك لا أدري هل أبادر إلى موقف مباشر بنفسي، اكتبوا أنتم رسالة تعزية وأتوني بها لأجيب عنها".

 

فأعدّ جمع من علماء الدين رسالة تعزية باسم "الفضلاء والطلاب في الحوزة العلمية" وقدموها إلى الإمام؛ فأصدر الإمام بياناً أبدى فيه أسفه لما يحدث في إيران كالحادثة المؤسفة لقتل شخصية كسعيدي، وقال مؤكداً:

 

"ليس ذاك سعيدي وحده الذي يقضي نحبه في زوايا السجن بهذا الشكل المؤسف، بل لعلّ الكثير من المظلومين والأبرياء يعذبون في الدهاليز وتنتهك إنسانيتهم بسبب قولهم الحق".

 

وكان الإمام يشير بعبارة "المظلومين والأبرياء" إلى شهادة المهندس نيك داوري تحت تعذيب جلاوزة السافاك.

 

ويذكر الإمام في بيانه: "… لقد نبّهت الشعب مراراً إلى الخطر الذي تشكله إسرائيل وعملاؤها ووجوب اتخاذ موقف سلبي تجاهها وعدم التعامل معها. والآن فتحوا باباً لمصيبة أعظم ويريدون وضع الشعب في قبضة المستثمرين…".

 

ويقول الإمام في آخر البيان:

 

"إني أعزّي المسلمين عموماً والشعب الإيراني خصوصاً بالحادثة المؤلمة لقتل هذا السيد الكبير والعالم المضحّي الذي قدّم حياته حفظاً لمصالح المسلمين وخدمةً للإسلام، واسأل الله تعالى دفع شر أجهزة الطاغوت وعملاء الاستعمار القذرين".

 

وبعد حين أجاز الإمام في رسالة سكنة محلّة مسجد الإمام موسى بن جعفر (ع) في دفع سهم السادات وسهم الإمام من الخمس إلى أولاد الشهيد سعيدي.