أولى إنتفاضة في تاريخ إيران المعاصر، كانت نهضة التنباك. فقبل مائة عام ونيف، شهد العقد الأخير من القرن الميلادي التاسع عشر في إيران حدثاً مهماً، هو أنّ إنتفاضة عام 1891 الشعبية في إيران التي عرفت بنهضة التنباك قادها رجال الدين الإيرانيون بمن فيهم السيد جمال الدين الأسد آبادي تلك الشخصية السياسية الدينية التي كان لها دور مهم في الإعداد لهذه الحركة وتشجيع رجال الدين وتحريضهم على مواجهة الملك القاجاري ناصر الدين شاه.

 

ففي صيف عام 1889، تم لدى رحلة ناصر الدين شاه الأخيرة لأوروبا وتوقفه في بريطانيا التمهيد لمنح إمتياز التبغ والتنباك من قبل الحكومة الإيرانية لهذا البلد. وقد أناط رئيس الحكومة البريطانية هذه المهمة بالمأجور (جير الد تالبوت).

 

فبادئ ذي بدء، شرع الأخير الذي سبق أن انتخب لعضوية اللجنة المضيفة للشاه القاجاري بغية الإتصال بالمسؤولين الإيرانيين والتمهيد للحصول على الإمتياز المذكور باستمالة اعتماد السلطنة أولاً، وأمين السلطان (صدر أعظم الشاه) ثانياً. أمّا ناصر الدين شاه، فإنه فيما اقر مبدأ منح حصر إمتياز تجارة التنباك للإنجليز، دعا تالبوت لإيران الغرض التوقيع على عقد الإمتياز. وبعودة الشاه لإيران، بادر تالبوت بعد أن حصل على الضمانات اللازمة بخصوص الحصول على امتياز حصر التبغ والتنباك الإيرانيين، لتأسيس شركة لهذا الغرض، هي : شركة (ريجي) برأسمال قدره 650000 جنيه إسترليني.

 

تضمنت مقدمة الإمتياز خمسة عشر فصلاً... وقد ورد فيها على لسان الشاه الذي عقد الإمتياز وصادق عليه، ما يلي:

 

بموجب هذا المرسوم تكرمنا، ووكلنا للماجور تالبوت وشركائه بيع وشراء ما تننجه ممالك إيران الإسلامية المحروسة لغاية خمسين عاماً من تاريخ توقيعه وفق الشروط التالية.

 

واجه منح إمتياز (حصر التبغ والتنباك) للشركة الانجليزية منذ البداية وقبل بدء عمل الشركة في إيران بعض المخالفات والإحتجاجات... كان أولها في شيراز وبرزت في الأفق على شكل مقاومة جادة حيال عملاء الشركة الإنجليزية تلك فمحافظة فارس كانت في حينه أحد المراكز الأساس لإنتاج التبغ والتنباك في إيران، كما كان يتعذر على تجار المحافظة المنتفعون كثيراً من بيع التبغ وشرائه، تسليم منافعهم تلك للشركة الإنجليزية. وكان أولئك التجار يحظون في مسعاهم هذا بدعم العلماء بمن فيهم (الحاج سيد علي اكبر فال أميري) أحد أجلة علماء شيراز ... الذي دعا الناس من على منبر مسجد الوكيل في هذه المدينة للتصدي لهذا الإمتياز وطرد عملاء الشركة الانجليزية.

 

وتحسّباً لاتساع دائرة التشنج، أناط أمين السلطان (صدر أعظم الشاه) بقوام الملك مهمة أمن شيراز ونظم أمورها... فما كان من قوام الملك الذي كان يكن العداء للسيد علي اكبر إلا أن ألقى القبض عليه بصورة موهنة وأرسله لبوشهر... ومن هناك، أي: من بوشهر أبحر الحاج سيد علي اكبر فال أميري إلى البصرة حيث التقى السيد جمال الدين الأسد آبادي.

 

أما الأخير الذي كان قد حظر عليه السفر إلى العتبات المقدسة في العراق والالتقاء بالعلماء، حمّل (فال أميري) رسالة إلى مرجع التقليد الكبير للشيعة (الميرزا حسن الشيرازي).

 

في هذه الرسالة، شرح السيد جمال الدين الأوضاع المتردية في إيران وقال ـ مهاجماً ناصر الدين شاه وصدر أعظمه أمين السّلطان ـ: سماحة المرجع الأكبر أضحى شاه إيران عنصراً ضعيفاً وسّيء السيرة، وضعيف المشاعر، لا يحسن التصرف، عاجز من إدارة شؤون البلد وحفظ مصالحه العامة، وكل زمام الأمور لرجل وضيع، فاسق، سافل، يهجو الأنبياء والرسل جهراً وفي الملأ العام.

 

لا ينصاع لأمر الدين، ولا يراعي حرمة رؤساء الدين وزعمائه، يهجو العلماء، ويتهم الزاهدين وتقاة الناس، يهين السادات الكرام، يعامل الوعاظ بمثل ما يعامل به سفلة القوم... فهو ما إن عاد من أوروبا، حتى انتهج هتك حرمة الحياء والإستبداد، ومعاقرة الخمرة سرّا وعلانيّة وكذا معاشرة الكفار، ومجالتهم والتودّد إليهم.

 

إنه، أي: آية الله ميرزا الشيرازي إتماماً للحجة دعا في رسالة شفهية أولاً وفي أخرى خطية لاحقاً إلى إلغاء الإمتياز ... فلم يكترث ناصر الدين شاه لهذا الإحتجاج وأوعز لممثل إيران بأن يذهب إلى سامراء ويعلمه بفوائد الإمتياز.

 

عند ذاك، وبعد أن وجه ميرزا الشيرازي عدة رسائل خطية لناصر الدين شاه وظل ينتظر طويلاً الردّ على هذه الرسائل وما يلزم ذلك من إيضاحات من الشاه القاجاري، رأى عدم جدوى التريث وكثرة الإنتظار .. لذا، أقدم سماحته ردّا على ما وصله الكثير من الأسئلة والاستفسارات وكذلك العديد من الإستفتاءات بوصفه مرجع الشيعة الأعلى، على إصدار فتواه الشهيرة بخصوص تحريم التدخين.

 

منذ أواخر شهر محرّم من عام 1309 (أواخر أغسطس – آب 1891) إرتفعت وتيرة مقاومة عمليات شركة ريجي في عموم البلاد، فيما عارضها علناً كبار العلماء في مدن طهران وتبريز وأصفهان. في تبريز تميزت هذه المقاومة إذ كانت مسلحة وآلت لطرد عملاء الشركة من المدينة وإزالة مالها من إعلانات وملصقات جدارية واستبدالها بشعارات وملصقات مناوئة لهذه الشركة الانجليزية.

 

أمّا ناصر الدين شاه، الذي أرهبه فتوى آية الله ميرزا الشيرازي، فإنه كلف أمين السلطان (صدر الأعظم) بلقاء العلماء بحثاً عن سبيل لإنهاء هذه الغائلة. لذا إلتقى أمين السلطان الميرزا حسن الآشتياني، قبل أن يجتمع إلى سائر العلماء ويتعهد فيه باتخاذ ما يلزم من خطوات لفسخ إمتياز حصر التبغ والتنباك وإبطاله. وانه بعد استرضاء الشاه ومحاورة الإنكليز، أقنعهم بوجوب العدول عن حق حصر التبغ والتنباك في إيران، ما دفع لأن تتولى شركة ريجي أمر تصدير التبغ والتنباك واستيراد هما فحسب... هذا الأمر لم يرض الميرزا حسن الآشتياني وسائر العلماء الذين طالبوا بإلغاء كامل الإمتياز وإبطاله جملة وتفصيلاً.

 

هذا الفشل أغضب الشاه، لذا كتب الملك القاجاري لولي عهده أن يبلغ الميرزا الآشتياني، بأن يعلن من فوق المنبر إلغاء تحريم التدخين ويدخن النارجيلة في الملأ العام وإمّا أن يغادر طهران.

 

فكتب الميرزا الآشتياني رداً على ولي العهد: أغادر طهران... فتدارك عدّة السفر.

 

عمّت العاصمة الفوضى والإضطرابات للحيلولة دون هجرة الميرزا الشيرازي... ما دفع ناصر الدين شاه لإرسال خاتم ماسي للميرزا الشيرازي استمالة له وللعدول عن ترك طهران على أمل حل القضية واسترضاء العلماء خلال أيام ثلاثة.

 

الميرزا الآشتياني رفض الخاتم وكان قد أرجأ سفره مدة يومين، أي: إلى الخامس من جمادي الثانية سنة 1309 (6 يناير- كانون ثان 1892) الذي فيه فسخ ناصر الدين شاه في رسالة خطية لأمين السلطان إمتياز حصر ما يتعلّق بالتدخين.

 

بعد قرار الفسخ هذا، أعلم أمين السلطان برسالة خطية الميرزا حسن الآشتياني بذلك.

 

المسألة لم تنته عند هذا الحد. فالميرزا الآشتياني وكل إلى المرجع الشيعي الأعلى الميرزا حسن الشيرازي الموافقة على إلغاء تحريم التبغ والتنباك التي وصلت إلى إيران بعد عشرين يوماً. ففي الخامس والعشرين من جمادي الثانية من السنة ذاتها، أي: 1309 هـ. ق. أعلن عن وصول رد الميرزا الشيرازي الذي فيه أجاز سماحته التدخين.

 

واسترضي الانكليز كذلك بعد محادثات مطولة ودفع غرامة نقدية قيمتها خمسمائة ألف جنيه إسترليني، لشركة ريجي، من قبل البنك الشاهي وذلك لعدم قدرة الحكومة على دفعه.

 

البنك الشاهي، بدوره كان إنجليزياً... لذا استلف المبلغ منه فقدم غرامية لشركة ريجي.

 

قضية تحريم التنباك وانصياع ناصر الدين شاه لإرادة علماء الدين، عززّت منزلة الروحانيين وأضعفت منزلة الملك وإن كان يتوق بالذات لإلغاء الريجي... وأنها، أي: القضية تلك التي عرفت بقضية الريجي آلت لهزيمة الشاه القاجاري وقتله بعد نحو سنين أربع.

 

في اسطنبول حيث كان يقيم السيد جمال الدين الأسد آبادي ويحظى بدعم السلطان العثماني، فإنه واصل محاربة الشاه القاجاري الذي قتل عشية الإحتفال باليوبيل الذهبي لاعتلاء العرش على يد المدعو الميرزا رضا الكرماني من فدايي السيد جمال الدين والموالين له... وبقتل ناصر الدين شاه، تم التمهيد لثورة الدستور في إيران.