خرجتُ منذ الصباح الباكر أعبر شوارع القرية الحزينة، أحيي الناس الواقفين أمام منازلهم متشحين بالسواد بتحية منكسرة، حتى وصلتُ إلى بيت عمي (الحاج عبد الرسول)... لمحت زوجة عمي تجلسُ على الكرسي وحيدة تمسح بين فينة وأخرى دموعها المنهمرة بغزارة، وإلى جانبها المذياع ينقل وقائع الحدث المفجع ..

 

وصلتُ إليها، ولم أستطع أن أنبس ببنت شفة، فقط ارتميت بين ذراعيها وأجهشتُ بالبكاء ..

 

تهالكت على الكرسي وهي تتمتم: (لا حول ولا قوة إلا باللَّه)، بينما دخلت إلى المنـزل أبحثُ عن عمي، فلم أجد له في البيت من أثر، سألتها عنه، فأخبرتني أنه قضى الليلة في مسجد القرية حيث اجتمع الأهالي للدعاء والابتهال إلى اللَّه لشفاء الإمام الخميني (قده) ..

 

أجل، مرت الليلة ولم يغمض جفن أحد فيها، الكل منشغل بالدعاء، منتظرين آخر الأخبار عن صحة الإمام الخميني، وكان خبر وفاته مفجعاً جداً للجميع .. ولكل واحدٍ منا سببٌ مختلفٌ للفجيعة برحيله، خصوصاً عمي ..

 

وقفتُ أمام صورة الشهيد (علي) ابن عمي عبد الرسول ونظرتُ إلى عينيه وهو يؤدي التحية لصورة الإمام الخميني (قده)، وكان قد تصورها قبل استشهاده بشهر واحد عام 1983.

 

أذكر أنه، ومع بداية انطلاق المقاومة الإسلامية، كان هناك رفض من معظم الأهالي لتفهّم معنى المقاومة، ودعوة الإمام الخميني لأبناء الشعب اللبناني للجهاد ضد (الغدة السرطانية) بحجة أن: (العين لا تقاوم المخرز)، وكان عمي (عبد الرسول) أحدهم، فكلما خرج علي، خرجت العائلة كلها من البيت بحثاً عنه، وكلما قام العدو الإسرائيلي باعتقال شباب، تعب اسفلت القرية من ركضه وهو يسأل عن ولده .. صحيح أن ابن عمي ليس وحيد والديه، لكنه شابٌ شجاع، مؤمنٌ تقيٌ، قبل انتصار الثورة الإسلامية بسنوات، وهو من مقلدي الإمام الخميني ويتابع أخباره، ويشارك في اللجان الإسلامية الداعمة لحركته، ويدعو أبناء جيله إلى دراسة شخصية (الإمام الخميني) بعمق وتفكر .. أما عندما انتصرت الثورة الإسلامية، فكانت فرحته لا توصف، فقد وقف طوال النهار في البرد القارس وتحت المطر الغزير ليوزع الحلوى على المارة ..

 

وعلى الرغم من أنه حمل سلاح الجهاد قبل دعوة الإمام الخميني الصريحة والمباشرة للجهاد، فقد كان الاعلان لذاك، الكلمة الفصل للنقاشات التي كانت تعلو تحت سقف منزل عمي، بين علي ووالده الذي لم يستطع إلا أن يخاف عليه ..

 

قال لي عمي يوماً عندما غاب علي عن المنـزل حوالي الشهرين: (ماذا يريد الخميني أن يحصل لأبنائنا؟! أن يُقتلوا تحت سلاسل الدبابات، أن تتمزق أجسادهم بقذائف المدافع .. كلما فتحتُ فاهي بحديث مع علي أجابني: الإمام الخميني يقول كذا وكذا .. فأجيبه أن يحدثني بالاسلوب الذي أفهمه، يصمت ويبتسم، ويقول لي الإمام الحسين (ع) خط طريق الثورة والاستشهاد وعلينا أن نمشي عليه حتى ننتصر .. انظر كم من شهيد قدموا في إيران وانتصروا في نهاية الأمر .. انتصروا بقيادة الإمام الخميني .. إنه يحب الخميني أكثر مني بحجة أن طاعته والتسليم له يدخله إلى الجنة، أما أنا فواجبه تجاهي هو البر بي)..

 

ضحكتُ يومها طويلاً، وطلبت إلى عمي بصدق أن يتفهم وجهة نظر علي، وأن يناقشه بأي شي‏ء خلا حبه المستميت للإمام الخميني، فأنا كنت أعرف أن الإمام يمثل له (منهج حياة)..

 

بكى عمي وقال: إن حجة هذا الرجل قاطعة، وأقسم أني في داخل نفسي لا ألوم علي على حبه الشديد له، فأنا كلما ذهبت لصلاة الجمعة في جبشيت سمعت الشيخ راغب حرب يتغنى به أكثر من علي، ولكن ماذا أفعل إذا كنتُ أخشى على ولدي ..

 

عندما استشهد السيد مصطفى ابن الإمام، اعتبر الإمام شهادة ابنه من الالطاف الإلهية الخفية ..

 

 أنا أعلم أن الخميني رجل لن يتكرر مرتين، صلب العزيمة، شديد اليقين ..

 

أجبته يومها: وتلوم علي على حبه .. لن تستطيع أن تفعل شيئاً يا عماه، سوى التسليم لقضاء اللَّه ..

 

بعد اسبوع واحد من هذا الحديث اعتقل الجيش الإسرائيلي عمي وزجّه في معتقل أنصار مدة اسبوعين، ذاق خلالهما شتى أنواع العذاب والاهانة ..

 

بعد الاعتقال، تغير الحاج (عبد الرسول) كثيراً، سكن الصمت شفتيه، وسافرت مقلتاه بشرودٍ لا ينتهي إلا وقد أقبل علي من بعيد تحت جنح الليل ليسأل عنه، أما نهاره يقضي معظمه بالقرب من الشيخ راغب حرب ..

 

وفي ليلٍ مدلهم عاصف، جاء علي إلى المنزل بعد غياب اسبوع، ركع على ركبته وراح يقبل كفي والده وهو يطلب منه المسامحة عن كل أذى سببه له، فحضنه عمي قائلاً: بل سامحني أنت على كل مضايقاتي لك وملاحقتي إياك خوفاً عليك .. لم أكن أدري أنك إن عشت حياً ذليلاً فقد فقدتك .. لقد كان الإمام الخميني (قده) والداً باراً لك؛ منحك كل ما تحتاجه روحك، وأنا لم أعُطِك سوى حب الوالد لابنه ..

 

 وأنت؟! ماذا منحك الإمام الخميني يا والدي؟

 

 لقد منحني ولداً أفخر أني ولدته .. منحني الحياة ..

 

مذ تلك الليلة لم يعد علي إلى المنزل، سألنا عنه كثيراً وانتظرناه طويلاً، وكلما سمعنا عمي نتحدث بحسرة عن غيابه، أجابنا بحزم: سيعود متى أحب، وكيفما أحب..

 

وفعلاً، عاد علي بطلاً مضرجاً بدماه، بعد أن كبد العدو الإسرائيلي عدة قتلى وجرحى في مواجهة مباشرة معه..

 

شيع علي، ودفن، ولم يذرف عمي دمعة واحدة عليه.. وكلما حدثه أحد عن ابنه، صوب نظراته نحو صورة علي وهو يؤدي التحية  لصورة الإمام ..

 

لم أستطع أن أجلس لأواسي زوجة عمي فالذكريات التي ضجت في داخلي ونظراتي ترسم حدود الصورة أفقدتني شعوري بالزمان والمكان .. فاستأذنت منها، وهي توصيني أن ابحث عن عمي وآتي به إلى المنـزل ..

 

لم أكن بحاجة للبحث عنه .. وحدي أقرأ سكوته، وأعرف ما في سريرته .. فتوجهتُ مباشرة إلى مدفن القرية، ومن بعيد رأيته يجلس تحت شجرة الزنزلخت عند حافة قبر علي ..

 

سمعتُ أنينه من بعيد، اقتربتُ منه، وكانت عيناه قد غارتا بين تجاعيد وجهه من شدة البكاء ..

 

 مرت سنوات على استشهاد علي يا حاج عبد الرسول ولم تذرف دمعة؟!

 

سنوات لم أشعر بها إلى الآن .. كان ذكر اسمه يواسيني .. آن لي أن أبكي .. أن أبكي على الرجل الذي منحني  حياة الأحرار .. وجعل من ولدي شهيداً مع الأبرار .. الآن ولدي غادرني .. وصرتُ احتاج إلى عمر جديدٍ أبكي فيه على نفسي بعد الإمام ..