مقدمة:

تطرح هذه المقالة نظرة عميقة ودقيقة لتفاصيل مهمة من حياة الإمام الخميني (رضوان الله عليه)، وتسعى إلى بحث وتحليل طبيعة الشخصية الثورية لهذا النموذج المتعالي من خلال التعريف بمواقف بعض الشخصيات والأساتذة الذين تركوا آثاراً وبصمات مهمة في شخصية الإمام الثورية.

وقد تطرق الكاتب إلى حياة بعض النماذج العلمائية الحقيقية الحريصة على سمو الأمة والإسلام، وهم من الشخصيات التي وصفها المؤلف بأنهم (تغلبوا على أهوائهم النفسية في سبيل الله).

كما تحدث الكاتب عن الظروف التي أحاطت بشهادة والد الإمام ومقارعته للظلم والطغاة؛ وعمد إلى دراسة وتحليل الشخصية الثورية لآية الله الشاه آبادي الفقيه والفيلسوف والعارف بالله وهو أستاذ الإمام في العرفان؛ ليبين المؤلف من خلال دراسته لهاتين الشخصيتين مقدار تأثيرهما على شخصية الإمام الثورية والمعنوية.

وتطرق المؤلف أيضاً في هذا القسم من المقالة إلى الشخصية الثورية الخاصة لآية الله مدرس، فأشار فيها إلى نقاط مهمة تركت تأثيرها في طبيعة الشخصية الثورية للإمام (رضوان الله عليه).

وعلى هذا الأساس، فإن القارئ سيتعرف في هذه المقالة على بعض الشخصيات الثورية البارزة التي كانت تمثل نموذجاً وقدوة حسنة في حياة قائد الثورة الإسلامية الإمام الخميني (رضوان الله عليه) وأنها أثرت أثرها الإيجابي في تركيب شخصيته الثورية.

وأشار الكاتب إلى الدور الأساسي الذي قام به المرحوم الإمام الخميني (قدس سره) في تنامي النهضة الإسلامية للشعب الإيراني المسلم طيلة ستة عشر سنة، ونجاحها في القضاء على النظام الشاهنشاهي الديكتاتوري الذي دام أكثر من ألفين وخمسمائة سنة، ورميه في مزبلة التاريخ.

وهذا الموضوع لا يحتاج إلى البحث والاستدلال، بل لا بد من القول أن: الإمام هو أول من بدأ الثورة الحقيقية للقضاء على هذا النظام، وأثمرت جهوده المستمرة وثباته ورؤيته الإلهية الخاصة، إلى انتصار الثورة.

لم يكن للثورة الإسلامية أن تنتصر، ولم يكن للجمهورية الإسلامية أن تقام على أنقاض النظام الشاهنشاهي، لولا المواقف البطولية التي أبداها الإمام الخميني (رضوان الله عليه)، خاصة بياناته التي أصدرها في أحداث سنة (1962م) حول اتحادات الولايات وأدت دوراً كبيراً في سقوط حكومة أسد الله علم، وكذلك مواقف الإمام في المرحلة الثانية من النهضة الإسلامية, خاصة الموقف السريع والقوي للإمام في مواجهة الاستفتاء الذي أقامه الشاه، وبياناته القوية في يوم عاشوراء سنة (1963م) والتي أدت فيما بعد إلى اعتقاله لمدة عشرة أشهر في طهران.

إضافة إلى مواقف الإمام في المرحلة الثالثة من النهضة الإسلامية وبياناته في إدانة قانون الحصانة القضائية والسياسية للرعايا الأمريكيين (كابيتولاسيون)، والتي أدت إلى نفيه إلى تركية لمدة أحد عشر شهراً، وإقامته الجبرية في النجف الأشرف لمدة ثلاثة عشر سنة، ثم هجرته إلى باريس وإقامته فيها لمدة أربعة أشهر، ثم عودته الظافرة إلى إيران وتحقيقه الانتصار العظيم. وقد دوّن المؤلف جميع هذه الأحداث الشاقة والمواقف البطولية في كتابه (نهضت روحانيون إيران)، والتي أدى الإمام دوراً كبيراً فيها من خلال مواقفه البطولية ومقاومته الشجاعة وثباته على طريق الحق.

الآن ينبغي التعرف على العوامل التي أدت إلى ظهور هذه النهضة بواسطة الإمام (رضوان الله عليه) والتي قل نظيرها في التاريخ, وما هي الدوافع التي أثرت في تركيب شخصيته السياسية والدينية، بحيث جعلته يقدم على مثل هذه المخاطرة الكبيرة، ولم يتوقف حتى حقق ما أراد؟! ورغم المقالات والكتب الكثيرة التي بحثت جميع الأبعاد في حياة الإمام وشخصيته الذاتية، وناقشت الأسباب التي أدت إلى قيام هذه النهضة العظيمة، وكان المؤلف أكثر من كتب, حول هذا الموضوع من خلال مقالاته وأحاديثه ومؤلفاته الكثيرة, إضافة إلى ما كتب في الأحد عشر مجلداً من كتابه الذي أشرنا إليه؛ لكن مع ذلك فإننا نجد أن ما جاء في هذه المقالة يحمل شيئاً جديداً لم يتطرق له أحد بهذا التفصيل من قبل.

وسنعرض الآن على القراء الكرام بعض النقاط المهمة حول هذا الموضوع، نأمل أن تحظى باهتمامهم، والعمل على نقد مواضع الخطأ فيها: 

الصفات التي اختص بها الإمام من الناحية الجسدية والروحية:

تميز الإمام الخميني (رضوان الله عليه) من الناحية الجسدية والروحية بصفات خاصة ميزته عن الآخرين، فكان مصداقاً للقول:

(الله أعطى لكل شخص ما يليق به)، فالله تعالى وهب هذه الصفات الخاصة للإمام (رحمه الله)، فلم تكن بالشيء الذي يمكن أن يكتسبه الآخرون بالتحريف والجهد؛ بل كانت صفات اختص بها الإمام دون غيره. والإمام في خطبته التي ألقاها في يوم من الأيام بعد درسه في المسجد الأعظم في قم ـ وكان الكاتب حاضراً فيها ـ قال أمام الجمع الغفير من الناس مشيراً بيده إليهم ـ وللإمام صورة بهذه الهيئة ـ: >والله لم أخشى أحداً أو شيئاً حتى الآن)!

إنّ هذا القسم عندما يصدر من مرجع تقليد!! إذن تصوروا ما هي سلامة الروح قوة الجسم اللتان يملكها حتى يتمكن من قول هذا الكلام. وخلال الستة عشر سنة من عمر الثورة أثبت الإمام هذا المعنى، وجميع العالم فهموا أن هذه الشخصية العظيمة فعلاً لا تخشى أحداً أو شيئاً غير الله تعالى، وقد ذكر الإمام تمسكه الشديد بالله في كلماته التي كانت تذاع في الراديو قبل أذان الظهر، إذ قال: نحن كلنا لا شيء من دون الله، وهو كل شيء. كان هذا جانباً من شخصية الإمام الذاتية وطبيعته الوجودية، والآن ينبغي التطرق إلى العوامل التي يمكن أن تكون قد أثرت في تكوين الرؤية السياسية والدينية للإمام؟

استشهاد والد الإمام في مواجهة الظلم والظالمين:

لقد لاحظ الإمام منذ سن الطفولة، كيف كان والده ـ باعتباره رجل الدين في المنطقة ـ يقاوم الظالمين والظلمة ويدافع عن المستضعفين، وكيف قدم حياته في سبيل هذا النهج واستشهد في ربيع شبابه على يد جلادي النظام الحاكم آنذاك. فتركت هذه الذكريات تأثيراً إيجابياً كبيراً على تكوين شخصية هذا الطفل الصغير, الذكي, الموهوب، واستمر هذا التأثير على مدى مراحل حياته، خاصة وقد عاش المعاناة والجهد الذي بذلته عمته الكريمة السيدة (صاحبة) وأخواه السيد مرتضى والسيد نور الدين في كشف مؤامرة قتل والده وأخيه، حتى أضطر عين الدولة ـ رئيس الوزراء آنذاك ـ إلى الأمر بإعدام قاتليهما في ساحة الإعدام في طهران، ليلقوا جزاء عملهم المشين. فكان هذا الموضوع كافياً لكي يدرك (السيد روح الله) منذ طفولته أن يصبح مثل والده يقارع الظلم والظالمين، ويدافع عن المستضعفين حتى لو كلفه ذلك حياته. 

ثورة الحاج نور الله الأصفهاني:

في سنة (1927م) وبعد أن عمد رضاخان البهلوي بعد سنتين على تشكيل مجلس المؤسسين وتغيير الدستور لإنهاء السلالة القاجارية وتنصيب نفسه ملكاً لإيران، قدم الحاج نور الله الأصفهاني ـ وكان أحد فقهاء أصفهان العظام ـ إلى قم مع عدد من علماء أصفهان لينضم إلى الحوزة العلمية في قم، وحتى يتمكن من إيصال اعتراضه بسهولة إلى رضاخان والحيلولة دون استمراره في غيّه والتفرد في سلطته، فدعا الحاج نور الله علماء المدن الأخرى أيضاً لينضموا إليه في قم، فتجمع فيها عدد كبير من العلماء. وطيلة شهرين أخذ ممثلوا رضاخان بالتردد بين قم وطهران خاصة وزيره (تيمورتاش)، فأدى ذلك إلى انتشار نهضة الحاج نور الله في كافة أنحاء البلاد، مما دفع رضا خان للتفكير في حل لها خوفاً من استمرارها لفترة طويلة مما قد تؤدي إلى نتائج وخيمة يصعب تجنبها، وبعد شهرين قُتل الحاج نور الله بشكل غريب في قم، فشاع أنه قتل بأمر من رضا خان بحقنة هواء، مما أدى ذلك إلى تفرق العلماء في البلاد، وفشل الثورة.

وكان الإمام في ذلك الوقت في سن الخامسة والعشرين. فشهد تلك النهضة العلمائية وتابع أحداثها وفشلها، حتى إنه تحدث عن أحداثها عندما كان منفياً في النجف الأشرف:

(في زمن حكومة هذا الرجل من سوادكوه ـ كان رضا خان من أهالي مدينة سوادكوه في مازندران ـ انتفض عدد من علماء أصفهان وقدموا إلى قم مع عدد كبير من علماء البلاد ـ وكنت شاهداً على هذه الواقعة ـ لكن رضاخان وأعضاء حكومته واجهوا هذه النهضة وقمعوها في مهدها، وعمدوا إلى خداع رجالاتها أو تفريقهم، على كل حال انتهى الأمر بفشل الثورة). 

حادثة نفي المرحوم بافقي:

بعد مضي ثلاثة أشهر على فشل ثورة الحاج نور الله، أي في نوروز سنة (1928م)، قدمت إلى قم زوجة رضاخان وبناته للمشاركة في مراسم تحويل السنة الجديدة؛ ونظراً لعدم رعايتهن آداب الحجاب الإسلامي، تعرض لهن المرحوم الشيخ محمد تقي بافقي ـ وكان أحد علماء الحوزة والمسؤول عن توزيع شهرية الطلاب ـ ناهياً لهن عن المنكر، فوصل الخبر سريعاً إلى طهران، مما دفع برضا خان وجلاوزته للقدوم إلى قم، فذهب إلى الحرم[2], وأخذ يضرب المرحوم البافقي ويركل برجله، ثم أمر بسجنه في مركز الشرطة في قم. وبعد عدة أشهر أمر رضاخان بنفيه إلى مدينة (شهرري) ليبقى في هذه المدينة طيلة حكم رضاخان.

وقد أثرت هذه الحادثة كثيراً على طلاب الحوزة العلمية في قم وكان من بينهم الإمام الخميني (رضوان الله عليه)، لكن لعجزهم عن مواجهة هذا النظام لم يكن بيدهم شيء سوى حمل الحقد والكراهية لهذا الطاغية. أمام المرحوم البافقي فقد استمر في نقده لأعمال رضاخان وسلوكه خاصة عندما كان يرتقي المنبر في مرقد السيد عبد العظيم الحسني (عليه السلام) في طهران. 

الأستاذ ووالد الأستاذ:

في سنة (1928م) انتقل آية الله الميرزا محمد علي شاه آبادي من طهران للإقامة في قم وتدريس العرفان الإسلامي فيها، مما دفع الإمام الخميني(رضوان الله عليه) للحضور في درسه لمدة سبع سنوات تقريباً.

وكان آية الله شاه آبادي فقيهاً، وفيلسوفاً، وعارفاً بالله، وأحد الفقهاء العظام، وقد تمكن الإمام خلال هذه الفترة الطويلة من التعرف جيداً على شخصية الأستاذ والتاريخ العلمي والجهادي له ولوالده آية الله الميرزا محمد جواد بيد آبادي الأصفهاني المتوفى سنة (1312هـ.ق).

وقد سمع الإمام من أستاذه أن والده آية الله الميرزا محمد جواد بيد آبادي الأصفهاني، كان من تلامذة الفقيه الأعظم صاحب الجواهر، وكان يهتم كثيراً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لذا كان يقيم الحدود الشرعية في أصفهان، مما أثار حفيظة ناصر الدين شاه القاجاري عندما سمع بالخبر، فامتعض كثيراً ومنعه من إقامة الحدود؛ لكن آية الله بيد آبادي لم يكترث لأمره واستمر بتطبيق أحكام الشريعة الإلهية.

ولما رأى الشاه القاجاري عدم تأثير أوامره المستمرة على الميرزا، أمر بنفيه إلى طهران، حتى يتمكن من منعه في إقامة الحدود الشرعية.

وعلى هذا الأساس، في سنة (1925م) انتقل الميرزا للإقامة في طهران مع ولديه محمد علي (آية الله شاه آبادي) وعلي محمد، وبدأ بإقامة صلاة الجماعة في أحد مساجدها.

وكان في طريقه بين المسجد والمنزل محلاً لبيع المشروبات الكحولية لأحد الأرامنة اسمه (كنت)، حيث كان المحل الرئيس لبيع المشروبات إلى بلاط ناصر الدين شاه. في البداية، ومن باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سعى آية الله بيد آبادي إلى نصيحته بالكف عن بيع الخمور لأنه مخالف للشرع، لكن كنت الأرمني لم يهتم بكلامه واستمر في عمله. في اليوم التالي وبعد انتهاء صلاة الجماعة، سار آية الله بيد آبادي مع ولديه وعدد كبير من المصلين إلى المحل، وقاموا بإفراغ الخمر من جميع الأواني وسكبها في المجاري، لكنه أمر المصلين بعدم كسر أواني الشراب لأن لها قيمة مالية.

بعد أن سمع ناصر الدين شاه بالحادثة، أرسل إلى الميرزا يستفهم منه، ما الذي فعلته؟ فأجاب الميرزا: (إن هذا العمل من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد كنت أتصور أنك ناصر الدين، لكن أتضح لي أنك كاسر الدين)، فما أن سمع الشاه هذا الجواب حتى أمر بمتابعة القضية، ولما رأى آية الله الميرزا محمد أنه عازم على إيذائه، قرر العودة إلى أصفهان.

لكن ظل السلطان بن ناصر الدين شاه ـ وكان حاكم أصفهان آنذاك ـ ما أن سمع بهذا القرار حتى أبلغ والده بضرورة منعه وإبقائه في طهران، لأن في عودته إلى أصفهان خطر على التاج والعرش. عندها قرر رضا قليخان سراج الملك لقاء الميرزا وملاطفته لصرفه عن العودة إلى أصفهان، فقبل الميرزا البقاء في طهران بشرط أن يشتري الحاكم محل كنت الأرمني ويعمل على تحويله إلى مسجد، فأذعن سراج الملك زائد لهذا الشرط وبنى في مكان المحل مسجداً سمي باسم سراج الملك وهو المسجد الموجود حالياً في شارع أمير كبير، وبعد إكمال المسجد أخذ الميرزا بإقامة صلاة الجماعة فيه، ولازال هذا البيت مكتوباً على باب المسجد:

حسن توفيق بين كه مسجد كرد           سطح ميخانه را سراج الملك

أي: انظر إلى حسن التوفيق بأن بدّل سراج الملك محل الخمور إلى مسجد.

نعم، لقد سمع الإمام الخميني (رضوان الله عليه) هذه الحادثة التي تعرض لها والد أستاذه والتي جعلته يقيم في طهران. فتصور كم تركت هذه الحادثة من آثار عظيمة على شخصيته في محاربة الطغاة.

أما ولده آية الله الميرزا محمد علي شاه آبادي أستاذ الإمام في العرفان، فقد أقام لفترة في النجف الأشرف وسامراء، وتتلمذ على يد آية الله الآخوند الخراساني وآية الله الميرزا محمد تقي الشيرازي؛ وبعد عودته إلى إيران أقام صلاة الجماعة في مسجد سراج الملك لفترة طويلة، في حين كان يقيم حلقة درسه في منزله، فكان مشغولاً بالتدريس وتبليغ الدين.

وكان الميرزا محمد علي شاه آبادي كوالده مجاهداً، واعياً، ومراقباً يقف برجولة وبطولة بوجه جميع الانحرافات التي تصدر من أي كان. وقد أدرك منذ بداية الصراع بين آية الله السيد حسن مدرس ورضا خان، السلوك المنحرف والمرائي الذي كان يتبعه رضاخان، وتظاهره بالمشاركة في مجالس العزاء وزيارة بيوت العلماء وتقبيل أيديهم، واعتبر ذلك نوعاً من التملق والمراءاة. خطب آية الله الحائري ـ مرجع التقليد في قم ـ في المجلس في دورته الرابعة، وقال: (رغم صدور بعض الأضرار من رضاخان، لكن منافعه أكثر من مضراته، لذا ينبغي علينا السعي لمعالجة هذه الأضرار، لتستفيد البلاد من منافعه). فردّ عليه آية شاه آبادي، قائلاً: (إنّ هذا الرجل لم يصل حتى الآن إلى السلطة، فيقوم بتقبيل أيدي العلماء والمراجع والتظاهر بالتدين، والكلام عن محبته لأهل البيت (عليهم السلام)؛ لكنه ما أن يصل إلى السلطة حتى يجافي جميع العلماء، وستكون أول من يتعرض لضرباته).

وبعد فترة اتضح صحة حدس المرحوم شاه آبادي، إذ أمر رضا خان بنفي آية الله مدرس، ثم أمر بقتله بالسم، فاستشهد على أثرها رحمة الله عليه. وبدأت بعدها مؤامرات رضاخان وجفائه للعلماء تتضح يوماً بعد يوم حتى أصبح ملك إيران المطلق، ورغم قدرته وسلطته الشديدة إلاّ أن آية الله شاه آبادي ظل يناديه بلقبه السابق (بالاني)[3]. ولمواجهة تزايد قدرة الشاه وسلطته على العلماء، دعا آية الله شاه آبادي العلماء للتجمع في صحن السيد عبد العظيم الحسني (عليه السلام) [4] اعتراضاً على سلوك رضا خان وأعماله المخالفة للشرع. وقد لبى نداء هذا العالم العظيم عدد كبير من علماء طهران (حوالي سبعين عالم)، واستعدوا للتجمع في الصحن للاعتراض على حكومة رضاخان؛ لكن وللأسف لم يحضر أغلب العلماء لخوفهم الشديد من قدرة الشاه مما اضطر آية الله شاه آبادي للذهاب وحده مع اثنين فقط من العلماء، والاعتصام في داخل الصحن الشريف.

وقد بقوا هناك حتى حلّ شهر محرم الحرام وأقيمت مجالس العزاء على سيد الشهداء (عليه السلام)، فاستغل آية الله شاه آبادي هذه الأيام لارتقاء المنبر في تلك المجالس، وأخذ يفضح مؤامرات الشاه وأعماله المخالفة للشريعة، حتى إنه كان يخاطب الشاه بألقاب تقلل من قيمته.

وأثناء فترة الاعتصام كتب آية الله شاه آبادي، رسائلاً إلى علماء إيران في المدن الأخرى وعلماء العراق، يوضح لهم فيها الخطر الذي يهدد الإسلام من قبل رضاخان، وطلب منهم فضح مؤامراته وجرائمه على المنابر. فأرسل أحد علماء النجف رسالة له، يستفسر فيها عن سبب اعتصامه، فأجابه آية الله شاه آبادي:

(... لقد ورثنا ديناً استشهد في سبيله منذ زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحتى الآن، الأئمة (عليهم السلام) والصحابة وأنصارهم والعلماء.. وضحى من أجله آلاف الشهداء. وقد وصلت إلينا ثمرة هذه التضحيات، لذا تقع علينا مسؤولية المحافظة عليها، فإذا ما رأينا هذه الأمانة تتعرض للنهب والإتلاف من قبل هذه الحكومة الظالمة، علينا تقع مسؤولية المحافظة عليها بكل ما نملك لأننا نعتقد أن دماءنا ليست بأفضل من دماء سلفنا الصالح).

قبل بدء اعتصام آية الله شاه آبادي، كانت تقام في مرقد السيد حمزة المجاور لمرقد الشاه عبد العظيم (عليه السلام) مجالس عزاء سيد الشهداء (عليه السلام)، فقام آية الله شاه آبادي بتعطيل هذه المجالس واستبدالها بمجالس للوعظ والخطابة، وكان يشترك فيها بنفسه، حتى أنه صعد المنبر في اليوم الأخير وخطب قائلاً: (اللهم إنك شاهد على ما كتبته للعلماء الأعلام في النجف وقم ومشهد وأصفهان وسائر البلاد، فماذا كتبت لهم؟ كتبت لهم رسالة وأتممت فيها عليهم الحجة، وفي هذه الليالي والأيام العشرة إذا ما كررت ذلك في هذه المرة، أكون قد قلتها ثلاثين مرة، وبذلك أتم الحجة على الناس أيضاً، أن هذا الطاغية ليس عدواً لي، بل هو يعادي الإسلام والقرآن، ويعادينا لأننا حماة الإسلام وحفظته، وإذا ما أعطيناه الفرصة، فإنه سيجتث الإسلام والقرآن من جذورهما في هذه البلاد).

وقد سعى الشاه رضاخان خلال فترة اعتصام آية الله شاه آبادي في مرقد الشاه عبد العظيم (عليه السلام)، إلى إرضائه بشتى الوسائل وإنهاء اعتصامه، حتى إنه كان مستعداً للذهاب بنفسه والتفاوض معه، وأرسل إليه عربته الملكية لإحضاره إلى طهران؛ لكن آية الله شاه آبادي رفض كل ذلك.

استمر اعتصام آية الله شاه آبادي مدّة أحد عشر شهراً تقريباً، مما دفع بعض علماء طهران أمثال: آية الله الشهيد سيد حسن مدرس، وآية الله الشيخ عبد النبي النوري وعلماء المدن الأخرى، للحضور إلى مرقد السيد عبد العظيم (عليه السلام) والطلب منه إنهاء الاعتصام. فاستجاب الميرزا لذلك بعد أن رأى عدم فائدة الاعتصام مع تنامي قدرة الشاه وسلطته، فأنهى اعتصامه وعاد إلى طهران، ولم يبق فيها سوى فترة قصيرة، انتقل بعدها للإقامة في قم.

حدثت هذه الحادثة في سنة 1347هـ.ق (1928م)، وهي السنة التي طلب فيها الإمام الخميني (رضوان الله عليه) منه البدء بدرس العرفان، فوافق الميرزا، واستمر حضور الإمام في هذا الدرس لمدة سبع سنوات.[5] وبعد مضي هذه الفترة على إقامته في قم والتدريس فيها، عاد بعدها آية الله شاه آبادي إلى طهران، حيث أقام صلاة الجماعة في مسجد في منطقة شاه آباد، لذلك أطلق عليه الناس لقب (شاه آبادي).

وكان الإمام (رضوان الله عليه) يذكر كثيراً أستاذه بالخير في موارد مختلفة ويطلق عليه (شيخنا).

ومن بين المواقف اللطيفة التي ينقلها عنه، وذكرها في عدة موارد من بينها ما جاء اليوم في (صحيفة الإمام) أو (صحيفة النور)، إذ يقول الإمام: (كان شيخنا يطلق على أدعية الأئمة الأطهار اسم (القرآن الصاعد) في قبال الكتاب السماوي وهو القرآن النازل).

وقد كرر الإمام كثيراً, أمام العديد من الأشخاص قوله: (لم أر في حياتي شخصاً بهذه اللطافة وهذه الأهمية).

ولم تقتصر استفادة الإمام (رضوان الله عليه) طيلة هذه السنوات على استفادته من أنفاس أستاذه آية الله شاه آبادي القدسية فقط؛ بل كان يسمع منه أيضاً مواقفه البطولية في مواجهة رضاخان، وهي حتماً أكثر بكثير مما جاء في هذه المقالة؛ كما كان يتابع حتماً أخبار اعتصام هذا المرحوم لمدة أحد عشر شهراً في مرقد شاه عبد العظيم (عليه السلام)، والتي كانت تصل إلى الحوزة العلمية في قم؛ ولعل هذه المواقف هي التي دعت الإمام (رضوان الله عليه) للإصرار على دراسة العرفان الإسلامي على يده، ولذلك قضى أكثر مدة دراسته عند هذا الأستاذ الكبير. وقد كتب الإمام الخميني (رضوان الله عليه) في بيانه بمناسبة استشهاد حجة الإسلام والمسلمين الشيخ مهدي شاه آبادي ابن أستاذه، وكان في هذا البيان يطلق على ابن أستاذه لقب (ابن أستاذي):

(إنّ هذا الشهيد العزيز.... ابن شيخنا الجليل، الذي كان له عليّ حق الحياة كرجل دين في الحوزة، ولذلك لساني وقلمي يعجزان عن أداء حق شكره).

ويقول في موضع آخر:

(وربما أستطيع الإدعاء أن أحداً لم يعرفه حقاً مثلما عرفته أنا).

وينقل عن آية الله السبحاني التلميذ المقرّب للإمام الخميني (رضوان الله عليه)، أن آية الله شاه آبادي قال: (عندي تلميذ باسم (روح الله) لو تعطيه درساً لبعض دقائق، لن يقول هذا قليل؛ ولو تعطيه درساً لعدة ساعات، فلن يقول هذا كثير). والإمام قال أيضاً: (لو كان آية الله شاه آبادي يدرس لسبعين سنة، لكنت أحرص على حضور درسه؛ لأنه كان يزودنا كل يوم بكلام جديد).

وينقل آية الله الشيخ محمد شاه آبادي الابن الأكبر لأستاذ الإمام، أن آية الله شاه آبادي كان يذكر دائماً تلميذه الملتزم باسم (روح الله).

وفي لقائه عائلة الشهيد الشيخ مهدي شاه آبادي سنة (1985م)، قال الإمام:

(إنّ المرحوم آية الله شاه آبادي، إضافة إلى كونه فقيهاً وعارفاً كاملاً، كان أيضاً مجاهداً بمعنى الكلمة). 

آية الله الشهيد مدرس (قدس سره):

لقد تأثر الإمام الخميني (رضوان الله عليه) بشخصية آية الله الشهيد مدرس الدينية والسياسية القوية أكثر من غيره، وكان على معرفة بتفاصيل حياته؛ بل كان يذهب أحياناً إلى المجلس للاستماع إلى كلام وخطب رجل الدين المجاهد القوي، ومشاهدة تأثير وجوده في المجلس على الأعضاء الآخرين المؤيدين والمخالفين لكلامه. وكان يشارك أيضاً في حلقة درسه في مدرسة (سبهسالار).

وبعد كل هذه المواقف والجهاد ضد رضاخان، أمر الشاه سنة (1928م) بنفي المرحوم مدرس إلى منطقة (خواف) ثم إلى (كاشمر) وبعد مرور عشر سنوات قضاها في المنفى، دس له رجال الشاه السم فاستشهد على أثرها المرحوم مدرس سنة (1938م).

كان الإمام كثيراً ما يمدح في خطبه الشخصية الممتازة لآية الله الشهيد مدرس (قدس سره)، ويثني على مواقفه الايجابية البناءة.

ومن جملة كلامه الذي ألقاه في إحدى خطبه في حسينية جماران[6]، قال الإمام:

(لقد شاهدتم تاريخ المرحوم مدرس، كان سيداً نحيلاً جداً، يرتدي لباساً خشناً، فكيف لمثله أن يواجه قدرة وسلطة الشاه، والتي أدرك فيها الجميع أن زمان رضاخان غير زمان رضاشاه. إذ كان حاكماً متسلطاً لم يشهد التاريخ مثيلاً له، فوقف المرحوم مدرس أمام هذه الطاغية، سواء في المجلس أو خارجه، إلى درجة أن قال له رضاخان: سيد، ماذا تريد مني؟ فأجابه السيد: أريد أن لا تكون موجوداً.

ذهبت يوماً إلى حلقة درسه التي كان يقيمها في مدرسة سبهسالار (حالياً مدرسة الشهيد مطهري), فكان طالباً متواضعاً كأنه لم يكن لديه أي عمل آخر سوى التدريس؛ إذ كان يتمتع بقدرة معنوية كبيرة رغم انشغاله التام في خضم المسائل السياسية آنذاك، بحيث يذهب بعد الدرس الوحيد إلى المجلس ليطرح مداخلاته الاعتراضية. وعندما يذهب إلى المجلس، كان الشخص الذي يحسب له الجميع ألف حساب، وقد رأيت عن قرب جو المجلس في ذلك الوقت، وكأن المجلس كان ينتظر وصوله رغم اختلافهم معه؛ لأن المجلس كان يشعر بوجود نقص فيه عند غياب المدرس، فإذا ما حضر كأن شيئاً جديداً حدث فيه! فلم كل هذا؟ لأنه كان رجلاً لا يهتم أبداً بأي مقام أو ثروة أو أمثالها، ولم يكن المنصب ولا الثروة تؤثران عليه. فحياته كانت بهذا الشكل.

وعندما دخل الوالي إلى منزله، ونحن عندما نقول الوالي فأنكم لن تتصوّرا ماذا كان يعني ذلك؟ فقال له المرحوم المدرس:

حضرة الوالي أنا أسكب ماء النارجيلة، وأنت أعد لنا النار أو بالعكس. فعمل على تحقيره إلى الحد الذي منعه من أن يطمع بشيء آخر، إذ عندما تعامل معه بهذا الشكل وطلب منه أن يعد النار، وهو الحاكم الذي يعظمه الجميع، فإنه قد حقّر شخصيته حتى لا يطمع في شيء منه كأنه يطلب منه موقفاً معيناً في الأمور السياسية.

كنت موجوداً هناك عندما كتب أحد الأفراد رسالة إلى رضاشاه في زمان حكومته، وحينها لم يكن حاكماً فقط بل كان طاغية غبياً يسعى لإفناء كل شيء. فجاء الشخص وقال: لقد كتبت شيئاً إلى العدلية، فخذه وأعطه لأحد يوصله إلى حضرة السلطان؛ فأجاب المرحوم مدرس: إنّ رضاخان لا يعرف أصلاً كيف تكتب (عدلية) بالألف أم بالعين! سآخذها لأعطيها له؟! ولم يكن يقول هذا الكلام في غيابه فقط، بل كان يقوله حتى في حضوره أيضاً. فهكذا كانت مواقف المرحوم مدرس؛ لأنه كان رجلاً صالحاً، بعيداً عن أهوائه النفسية، ولم يكن مثل من {اتخذ إلهه هواه}[7]، فكان يعمل لله وفي سبيل الله، وحياة مثله تكون حتماً بهذا الشكل، إذ لا يمكن أن تكون أسوأ من ذلك، فماذا يفعل ؟ وهو لا يخشى أحداً أبداً.

وعندما دخل رضاخان إلى المجلس، وهتف مؤيدوه: عاش رضاخان، عاش القائد، وقف المدرس قائلاً: يسقط القائد، يسقط رضاخان ـ عشت أنا! فتصوروا ماذا يعني الوقوف بوجه رضاخان؟! ولم يكن ذلك إلاّ لكونه كان حراً من أهوائه النفسية).

في مسجد الشيخ الأنصاري وأثناء حلقة الدرس سنة (1971م)، قال الإمام:

(... لقد رأيت المرحوم المدرس (قدس سره) عن قرب، كان من الأفراد الذين وقفوا ضد الظلم، وواجهوا ظلم ذلك الطاغية من سياهكوه، أي وقف بوجه الطاغية رضاخان، وقد أرسلوه إلى طهران باعتباره أحد العلماء الكبار، فحضر من أصفهان بعربة يجرها الحصان. وقد نقل أحد الأفراد الثقة، أنه اشترى عربة وكان يقود حصانها أحياناً حتى وصل إلى طهران، فاستأجر فيها بيتاً متواضعاً.

فكنت أتردد كثيراً على منزله للقائه وقد حضر (رضوان الله عليه) في طهران باعتباره من العلماء البارزين، البروز الذي انتفى موضوعه من البداية، إذ انتخب عضواً في المجلس ممثلاً عن طهران. فكان يقف وحيداً بوجه الظلم، وبالطبع كان يؤيده بعض أعضاء المجلس ـ وهم أقلية ـ ـ مثل ملك الشعراء بهار ـ لكنه الوحيد الذي كان يصرح بالاعتراض ضد ظلم رضاخان وتجاوزاته.

وفي تلك الفترة أرسلت الحكومة الروسية تهديداً إلى إيران، بحيث أرسلت بعده جنودها وجيشها حتى وصلوا إلى قزوين، وكانوا يريدون تكبيل إيران بمعاهدة (تخرجها من موقف الحياد في الحرب العالمية الأولى سنة 1914م)، فطلبوا تمرير هذه المعاهدة من المجلس، وبقي جميع أعضاء المجلس في حيرة من أمرهم لا يعلمون ماذا يفعلون.

ونقلت إحدى الصحف الأجنبية هذا الموقف، فذكرت: قام أحد رجال الدين ويديه ترتعشان ليقف خلف منصة المجلس وقال: إذا كان المفروض أن نموت، فلماذا نقتل أنفسنا بأيدينا؟!

قال هذا الكلام، وصوت ضد القرار، فتجرأ بقية الأعضاء وصوتوا ضد هذا القرار، فرد المجلس هذه المعاهدة، ولم تجرء بعدها الحكومة الروسية على فعل شيء.

إنّ سلوك السياسيين بهذا الشكل أيضاً، فهم يزجرون الشخص أولاً، ويلاحظون رد فعله؛ فإذا وقف ثابتاً تراجعوا، وإن تراجع هذا المسكين، تقدموا إليه.

وهذا شبيه بسلوك الحيوانات، إذ ينظر الحيوان أولاً إلى الشخص، فإذا وقف رافعاً يده عليه يهرب منه، أما إذا هرب من أمامه يركض خلفه! فهذه خصلة الحيوان، ألا ينبغي لكم أن تعرفوا قدر رجال الدين؟!).

وفي بياناته سنة (1980م) في حسينية جماران، قال الإمام:

(كانوا يحتقرون الناس ولا يحسبون لهم أي قيمة، وقد شاهدت هذه الأوضاع عندما كنت طفلاً في مدينة خمين، حيث أحضروا رجلاً متديناً محترماً وكان رئيس التجار في السوق، فربطوا قدميه وبدؤا بضربه بالعصا أمام الملأ بأمر من حاكم المدينة الفاسد، ومثلاً إذا ذهب أحد العلماء للقائهم، كانوا يجلبون مسكيناً بحضور العالم ويضربونه بالعصا، حتى يفهموا العالم أن عليك الطاعة.

لقد كانت الأوضاع بهذا الشكل في تلك الفترة، وأسوأ من هذا العمل الذي كان يقوم به سفراء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، كان عملاً بسيطاً وعظيماً، إذ كانوا يحطمون شخصية ذلك الفرعون أولاً. وكان للمرحوم المدرس هذه الصفة أيضاً. إذ كان يجلس في ساحة البيت على فراش بسيط، وإذا ما أراد تهيئة النارجيلة كان يفعل ذلك بنفسه، فإذا ما دخل عليه في هذه الأثناء الوالي مثلاً ـ ولعلكم لا تدركون ماذا كان يعنيه الوالي في تلك الفترة؛ لكن المرحوم كان يعطيه النارجيلة ويقول له أنت اسكب الماء فيها، وأنا أشعل النار ـ أو بالعكس ـ ولعله كان يتصرف بهذا الشكل لأن مثل هذه العقول الفاسدة تحتاج لمثل هذا التصرف حتى لا يطمعوا بالشخص؛ إذا لو يتعامل معهم الإنسان بالخضوع والتذلل كما كان متعارفاً في تلك الفترة، لطمعوا فيه، وفرضوا عليه القيام بعمل معين، لكن إذا ما تعامل معهم الإنسان بشكل بسيط لكنه قوي وصارم، حينها لا يستطيعون فرض أي عمل عليه.

لقد كان رضاخان يخشى المدرس، لأنه كان إنساناً حقيقياً. وينقلوا أن المرحوم المدرس، قد قال في تلك الفترة: (في مجلسنا مسلم واحد وهو سيد كيخسروا (الزرادشتي)!)، فقد كان رضاخان يرى أن المدرس رقيباً له، ولم يكن يهتم بالآخرين.

فالمدرس كان يزلزل الجميع إذا ما تحدث، وكانت حياته بهذا الشكل أيضاً، فقد سمعتم بذلك، وشاهدت أنا حياته، حيث كان منزله متواضعاً جداً، ومعيشته أقل من المتوسط، ولباسه كان من الحبقاص المصنوع في إيران).

وفي كلامه الذي ألقاه في (نوفل لوشاتو) سنة (1978م)، قال الإمام:

(لقد وقعت في تلك الفترة أيضاً مثل هذه الاشتباهات، أن الناس أو من عليهم مسؤولية توعية الناس، لم يدعموا المرحوم مدرس. إذ كان الرجل الوحيد الذي وقف بوجه رضاخان وعارض أعماله المشينة، وكان بعض الأعضاء في المجلس يؤيدون المدرس، لكن البعض الآخر كان يعارض مواقفه بشدة، مع وجود بعض التيارات التي كان يمكن لها أن تدعم مواقف المدرس في تلك الفترة، ولو دعمت مواقفه لكان من الممكن له أن يزيل شر هذه العائلة من جذورها، لما تمتع به المدرس من رجولة ومنطق قوي ومعلومات جيدة وشجاعة كبيرة وغيرها من الصفات).

وفي وصيته التاريخية سنة (1981م)، تحدث الإمام أيضاً عن وصايا آية الله الشهيد مدرس ومواقفه، فقال:

(... وصيتي للتيارات الإسلامية التي تتمايل اشتباهاً بين الحين والآخر إلى الغرب والشرق.. أن لا يصروا على اشتباهاتهم ويعترفوا بشهامتهم الإسلامية بخطأهم، ويسيروا في ركب الحكومة والمجلس وهذا الشعب المظلوم ليكسبوا رضا الله، وينقذوا هؤلاء المستضعفين من شر المستكبرين، وعليهم أن يتذكروا كلام المرحوم المدرس رجل الدين الملتزم, حسن السيرة والفكر، عندما قال في ذلك المجلس السقيم: إذا كان علينا أن نموت الآن، فلماذا نقتل أنفسنا بأيدينا).

(وأنا اليوم أيضاً أقول لكم أيها الأخوة المؤمنون في ذكرى هذا الشهيد في سبيل الله، وإذا كان مصيرنا أن نموت على أيدي القوى المجرمة أمريكا وروسيا ونلاقي ربنا بشرف مضرجون بدمائنا الحمراء، فهو أفضل لنا من العيش مرفهين في ظل سلطة الجيش الأحمر في الشرق والأسود في الغرب).

وفي بداية خطابه إلى الشيخ الهاشمي الرفسنجاني بعد محاولة اغتياله الفاشلة، كتب الإمام:

(عندما حاول رضاخان اغتيال المرحوم المدرس، خاطبه المرحوم من المستشفى قائلاً: (أبلغوا رضاخان أني مازلت حياً) ولا زال مدرس حياً حتى الآن، فرجال التاريخ يظلون أحياءاً إلى الأبد).

ومن مجموع ما نقلناه من خطب وكلام الإمام حول آية الله الشهيد مدرس، يتضح جلياً المكانة العظيمة التي كانت له عند الإمام، ومقدار التأثير الذي تركه في شخصية الإمام حتى أصبح قدوة له يحتذي به في مسيرته الجهادية. ومن المناسب أن نعرف أن الإمام (رضوان الله عليه) قد أمر بعد قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية بإعادة بناء وترميم مرقد الشهيد آية الله المدرس، ليصبح مزاراً للقريب والبعيد. وأشكر الله على توفيقه لي بأن مكنني وعائلتي من زيارة مرقد هذا الشهيد في (كاشمر)، ونعلن في مرقده رضاخان الذي كان السبب في نفيه واستشهاده. 

نفي مراجع وفقهاء النجف إلى إيران:

في سنة 1341هـ.ق، مارس الاحتلال الإنجليزي في العراق ضغوطاً سياسية وعسكرية على الشعب العراقي، وفرض عليهم القبول بحكومة الملك فيصل، مما أثار حفيظة المراجع والعلماء في النجف الأشرف وكربلاء والكاظمين، وقرروا جميعاً كاعتراض على هذه الممارسات, ترك العراق والعودة إلى إيران، وفي الواقع كان ذلك نفياً لهم. وهؤلاء العلماء هم: الآيات العظام، السيد أبو الحسن الأصفهاني، الميرزا محمد حسين النائيني، الشيخ محمد حسين الأصفهاني، الميرزا علي الشهرستاني، السيد عبد الحسين حجت، السيد علي التبريزي، وأخيراً آية الله الشيخ مهدي الخالصي وكان عربياً من قادة الثورة ضد الاحتلال الإنجليزي، وقد أقام جميعهم في قم.

وينقل صديقي العلام والمتتبع الفقيد المرحوم الشيخ محمد الرازي، هذه الحادثة على نحو الإجمال نقلاً عما جاء في كتب ريحانة الأدب، والعلماء المعاصرون، وأحسن الوديعة للكاظميني، فيذكر:

(..ما أن دخلوا كربلاء، حتى أقدمت الحكومة العراقية مرة أخرى وبأمر من أسيادها المستعمرين، على إرعاب الناس وتخويفهم، فأمرت بنفي هؤلاء المراجع العظام سنة (1341هـ.ق). وعندما وصل خبر نفيهم إلى ملك إيران المرحوم أحمد شاه والشعب الإيراني، حزنوا وتأثروا كثيراً من جهة، وفرحوا جداً من جهة أخرى؛ لأن قدومهم سيزيد إيران الإسلامية عزاً ونوراً، ورحب الجميع بقدومهم من وزراء البلاط والتجار والكسبة ومختلف شرائح المجتمع، وخاصة العلماء ورجال الدين في تلك الفترة، وذهبوا جميعاً لاستقبالهم حتى وصلوا إلى حدود إيران في خسروي. وقصر شيرين، ورافقوهم بحفاوة واحترام كبيرَين على طول مسيرهم بين مدن قصر شيرين وكرمانشاه وهمدان وملاير وآراك حتى وصلوا إلى قم. وقد تم تعطيل جميع مرافق مدينة قم أثناء قدومهم، كما خرج إلى استقبالهم آية الله الحائري وسائر العلماء والطلاب ومختلف شرائح المجتمع إضافة إلى بعض أهالي طهران، حتى أنهم خرجوا لعدة فراسخ خارج قم احتراماً وتقديراً لهم.

وفي يوم آخر حضر أحمد شاه بنفسه لزيارتهم وتقبيل أياديهم مصطحباً بعدد من الوزراء والوكلاء وأعضاء الحكومة، مرحبين بهم وأظهروا كل التقدير والاحترام والانقياد لتوجيهاتهم. وطيلة الثمانية أشهر التي قضوها في قم، كانوا يستقبلون باستمرار العديد من الزائرين القادمين من مختلف مناطق البلاد للترحيب بهم.

وقد أقدم آية الله الحائري على تعطيل مباحثته وتدريسه, احتراماً لهؤلاء العظام، وأوكل إليهم مهمة البحث والدرس في قم، وطبقاً لعادتهم الكريمة بدؤا التدريس والبحث واستمروا على ذلك طيلة فترة بقائهم في قم، فاستفاد من فيوضاتهم العلمية العديد من الفضلاء والعلماء... إلى أن عاد المرحوم آية الله الحاج الشيخ محمد حسين الأصفهاني الغروي بعد عدة أشهر إلى النجف الأشرف، ثم جاء إلى قم مع الحاج الميرزا مهدي الكفائي الابن الأكبر للمرحوم الآخوند الخراساني والشيخ جوادي علاوي الجواهري وكان من مشاهير شيوخ النجف وأشرافها، وأقنعوهم بالعودة إلى النجف، فعادوا إلى العراق باحترام وتجليل، فاستقبلهم العلماء والناس استقبالاً عظيماً قل نظيره حتى وصلوا إلى النجف الأشرف عاصمة التشيع والحوزة العلمية بتاريخها الطويل الذي استمر لتسعمائة سنة).

في تلك الفترة التي وقعت فيها هذه الحادثة، وطيلة الثمانية أشهر التي قضاها هؤلاء العلماء العظام في قم، كان روح الله الخميني (رضوان الله عليه) طالباً شاباً في الحادية والعشرين من عمره، وقد شهد عن قرب هذه الأحداث. فكان ذلك من المواضيع المهمة التي تركت تأثيراً مهماً على شخصية هذا الطالب الشاب، وبينت له أكثر, الواقع الصعب الذي يمر به الإسلام والتشيع والعلماء. وقد منحته هذه الحادثة فرصة التعرف على هؤلاء العلماء العظام، خاصة المرحوم آية الله النائيني صاحب كتاب (تنبيه الأمة) الذي طرح فيه آراءه ونظرياته المعاصرة.

ويذكر الإمام هذه الحادثة، بالكلمات التالية:

(لقد أنقذ الميرزا الشيرازي الثاني (الميرزا محمد تقي) العراق من سلطة المستعمرين، إذ أصدرت هذه الشخصية العظيمة وهذا الرجل العظيم ذو المقام الشامخ في العلم والعمل، حكم الجهاد ضد المستعمرين الإنجليز، فأيده العلماء وأطاعهم الناس وجميع العشائر، فجاهدوا وقتلوا وقتلوا، وتحققت جميع هذه المفاخر بفضل مواقف علماء العراق. وقد تم نفي علماء العراق إلى إيران بسبب مخالفتهم ومعارضتهم للأنظمة الحاكمة. حيث تم نفي المرحوم السيد أبو الحسن، والمرحوم النائيني، والمرحوم الشهرستاني، والمرحوم الخالصي، إلى إيران بسبب مواقفهم المعارضة للنظام الحاكم.... وقد شاهدنا بأنفسنا هذه الحادثة). 

آية الله السيد محمد تقي الخوانساري:

بعد الحرب العالمية الأولى تعرض العراق لغزو الاستعمار الإنجليزي، فتصدى لهم العديد من علماء العراق وإيران بقيادة المرحوم آية الله السيد مصطفى الكاشاني والد آية الله السيد أبو القاسم الكاشاني قائد الثورة في العراق، وخرجوا للدفاع عن هذه البلاد، مما اضطر الإنجليز للاستفادة من الطائرات الحربية وتعرضوا للعديد من الهزائم، فأقدموا على مطاردة العلماء المهمين الذين اشتركوا في قتالهم، ونفي الكثير منهم خارج العراق.

ومن بين العلماء الذين تم نفيهم من قبل الاستعمار الإنجليزي، المرحوم آية الله السيد محمد تقي الخوانساري، حيث تم نفيه إلى جزيرة (هنگام) في الخليج الفارسي بالقرب من جزيرة قشم، وبعد قضائه مدة النفي عاد آية الله الخوانساي إلى البلاد وأقام في مدينة قم، وانشغل فيها بالتدريس، كما استفاد أيضاً من درس خارج الفقه والأصول لرئيس الحوزة آنذاك المرحوم آية الله الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري.

وقد درس الإمام الخميني (رضوان الله عليه) قسماً من دروس السطوح على يده، فتعلق به كثيراً لما تمتع به آية الله الخوانساري من سياسة وقدسية وروح خاصة. وبعد وفاة آية الله الحائري سنة (1936م)، تولى مع آية الله حجت وآية الله الصدر (وكانوا يعرفون بالآيات الثلاث) مهمة إدارة الحوزة العلمية في قم، حتى قدم إليها آية الله البروجردي سنة (1945م).

كان الإمام في معظم الأوقات يصلي الجماعة في المدرسة الفيضية خلف آية الله الخوانساري، وكان يلتزم بأداء صلاة الجمعة خلفه أيضاً لأنه كان الوحيد الذي يقيم هذه الصلاة ويعتقد بوجوبها خلافاً لمعظم المراجع الآخرين؛ لذا كان الإمام مقيداً بحضورها والسير في كل يوم جمعة من منزله الموجود في بداية المدينة إلى مكان إقامة الصلاة وسط المدينة. وقد كان الاحترام والتقدير الذي يكنه الإمام لأستاذه الفقيه المجاهد العظيم الشأن، مثيراً للاهتمام والتأمل!.

يذكر الإمام الخميني (رضوان الله عليه) الظروف التي مرّ بها آية الله الخوانساري من الجهاد والأسر والنفي، فيقول:

(أما في أحداث العراق، فما الذي كان ليحدث في هذا البلد لولا جهاد علماء العراق الذي راح ضحيته ابن السيد كاظم؟ فقد حمل علماء العراق البنادق على أكتافهم، وخرجوا لجهاد المستعمرين الإنجليز، وتعرض فيها السيد محمد تقي الخوانساري (قدس سره) للسجن، أي ألقوا القبض عليه مع عدد من العلماء الآخرين فأسروه وأرسلوهم خارج البلاد؛ أي تم نفيه إلى جزيرة (هنگام).

لقد كان يقول: كانوا يعدوننا واحداً بعد الآخر هكذا (واحد، اثنان، ثلاثة) ثم يسلمونا بعدها إلى شخص، كانوا يصفونه، أنه يأكل الإنسان، ويقولون لنا؛ نحن نعدكم حتى لا يجرؤ على أكلكم. 

آية الله الحاج حسين القمي:

كان المرحوم آية الله الحاج حسين الطباطبائي القمي أحد المراجع العظام والفقهاء الكبار في مدينة مشهد المقدسة. وكان أبرز المعارضين لمسألة اتحاد الشكل التي طرحها رضاخان كمقدمة لخلع حجاب النساء في إيران، وعندما أرادوا تطبيق هذه السياسة في مشهد المقدسة، سافر آية الله القمي للقاء رضاخان ليستثني عن فكرة خلع حجاب النساء. وقد كان رضاخان خلال زياراته السابقة إلى مشهد، يحرص باستمرار على لقاء آية الله القمي، وهو بذلك على علم كامل بشخصيته القوية وشهامته وشجاعته.

فعندما حضر الشيخ في طهران واستقر في حديقة سراج الملك الكائنة في شهرري بجوار مرقد حضرة عبد العظيم الحسني، سعى رضاخان إلى تجاهل الشيخ ولم يرفض لقاءه فحسب؛ بل أمر بعد عدة أيام بمحاصرة مكان إقامته، ومنع تردد الناس عليه.

وعندما سمع أهالي مشهد بهذا الخبر، انتفضوا جميعاً فوقعت أحداث مسجد گوهرشاد، وراح ضحيتها العديد من الشهداء والجرحى بعد أن أطلقوا النار على المعترضين. بعد هذه الحادثة، أقدموا على نفي آية الله القمي إلى العتبات المقدسة، فافشلوا ثورته وحركته، وقد جرت هذه الحادثة في سنة (1935م). إنّ ما جرى في حادثة مسجد گوهرشاد، ونفي آية الله القمي بأمر رضا شاه، كان مراً وصعباً على الجميع ومنهم الإمام الخميني (رضوان الله عليه) الذي كان موجوداً في طهران في تلك الفترة. وقد ذكر في إحدى بياناته هذه الحادثة، فقال:

(في تلك الفترة حضر المرحوم القمي في طهران، وكنت موجوداً فيها آنذاك. فجاء إلى مرقد حضرة عبد العظيم وذهبت للقائه، بعدها قام بثورته، لكنهم ألقوه في السجن ثم نفوه بعدها).[8]

فتصوروا مدى الألم الذي سببته هذه الحادثة على الإمام روح الله الخميني ذي الثمان والثلاثين سنة باعتباره أحد الفضلاء والمدرسين في حوزة قم العلمية. 

آية الله السيد شرف الدين العاملي:

هو آية الله المجاهد والكاتب النابغة المرحوم السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي، كان العالم الأول في زمانه في لبنان، وكان فقيهاً متكلماً، عالماً، ومجاهداً لا يكل، ألف العديد من الكتب القيمة خاصة(الفصول المهمة) و(المراجعات) و(النص والاجتهاد) الذي كان آخر كتبه التي ألفها، وقد قمت بترجمته إلى الفارسية, طبع منه حتى الآن سبع مرات تحت عنوان(اجتهاد در مقابل نص)، وكانت جميع هذه الكتب نتاج فكره الجديد والعميق وتعبيراً عن شهامته وشجاعته في الدفاع عن أصول التشيع ومذهب أهل بيت العصمة والطهارة، وكانت رداً قوياً على جميع المتحرصين الذين شوهوا اسم الإسلام المحمدي الأصيل منذ صدر الإسلام وحتى الآن.

إضافة إلى ذلك، فإن آية الله شرف الدين قد استمر في جهاده العلمي حتى آخر لحظات حياته. ففي سنة (1920م) وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وقع وطنه (لبنان وسوريا) تحت الاحتلال الفرنسي، مما دفعه للتصدي للجهاد العملي لإنقاذ بلاده من سلطة المحتل، فتعرض في هذا الطريق للكثير من المصائب والصعاب.

وقد ذكرنا سيرة حياته الشخصية في جهاديه العلمي والعملي في مقدمة كتاب (اجتهاد در مقابل نص)، ونكتفي هنا بالإشارة إلى جهاده ضد الاستعمار الفرنسي، ومواقفه البطولية في وطنه، ونوكل تفصيل سيرته إلى تلك المقدمة، وإلى ما جاء من عرض كامل لسيرته الشخصية وأفراد عائلته ودورهم العلمي والديني، في كتاب (بغتة الراغبين) في مجلدين.

عندما احتل الاستعمار الفرنسي سوريا ولبنان، نشر الفساد في البلاد، وعطلّ الأحكام الإسلامية، وأنزل المصائب والويلات على الشعب حتى ضاقوا به ذرعاً، مما دفع السيد إلى رفع راية الجهاد والنضال ضد القوات المحتلة. فبث روح الثورة ضد العدو وفي نفوس الناس خاصة رجال الدين، ونشر الوعي بين أفراد الشعب بضرورة الثورة ضد المستعمرين. فعمل على تشكيل اتحاد ضم رجال الدين وزعماء القوم، وأصدر فيه فتوى الجهاد ضد المستعمرين، فأيدها جميع الحاضرين، مما دفع الفرنسيين إلى إحراق بيته في صور ثم بيته في مدينة (شحور) الذي اختفى فيه لفترة، ودمروا محتويات مكتبته التي كانت تضم العديد من الكتب النفيسة الخطية والمطبوعة، خاصة مؤلفاته الخطية.

كان آية الله شرف الدين ونتيجة لمطاردة الفرنسيين، يغير مكانه باستمرار، فرحل إلى الشام، ثم إلى فلسطين ومنها انتقل إلى مصر، التي تركها سنة (1338هـ.ق) عائداً إلى فلسطين التي كانت ترزح تحت الاحتلال الانجليزي آنذاك. فاستمر السيد فيها بالجهاد، حتى توسط له ابن خاله السيد محمد الصدر عند الفرنسيين، إذ كانوا يحترمونه لكونه مطارداً من قبل الإنجليز، فعاد بعدها إلى وطنه. وفي ظل تلك الأجواء والظروف، وعندما كان السيد في أوج شهرته، قصد في سنة (1350 هـ.ق) زيارة حضرة الإمام الرضا(عليه السلام) فسافر إلى إيران، ثم زار قم فكان محل تكريم المرحوم آية الله الحائري رئيس الحوزة العلمية ومورد ترحيب العلماء والفضلاء والطلاب. وأوكل آية الله النجفي المرعشي إمامة صلاة الجماعة في صحن السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام)، حيث استمر في إقامة صلاة الجماعة طيلة فترة إقامته في قم.

وكان الحاج روح الله الخميني (رضوان الله عليه)، آنذاك في سن الثلاثين، ويعد من الشخصيات البارزة في الحوزة العلمية، فكان يزوره ويشارك في صلاة الجماعة، فوقع بشدة تحت تأثير شخصية هذا المجاهد العظيم. وعندما وصل خبر وفاة هذا العالم والمجاهد العظيم إلى قم في سنة (1957م)، مدح الإمام الخميني (رضوان الله عليه) شخصيته العلمية والجهادية، وأبّنهُ بكلمات بعد درس خارج الأصول والذي كنت حاضراً فيه آنذاك، لكن هذه الكلمات لم تدون للأسف حتى ننقلها هنا بعينها. 

آية الله الحاج الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء:

المرحوم آية الله الحاج الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء هو أحد العلماء المجاهدين والمدافعين عن الدين الإسلامي المبين وعن مذهب التشيع، ويعتبر أيضاً من الفقهاء المعروفين في النجف الأشرف، له مؤلفات قيمة كثيرة.

وقد اشترك آية الله كاشف الغطاء في الكثير من المؤتمرات الداعية لوحدة المسلمين، أو للدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني، وكان من أبرز الشخصيات المدعوة إلى هذه المؤتمرات التي كانت تعقد في مصر وفلسطين وسوريا والأردن، ومن أبرز المتحدثين فيها. كما أشهرت بياناته ومقالاته وكتبه في الدفاع عن الإسلام والتشيع وإحقاق حقوق الشعب الفلسطيني المظلوم والجهاد ضد التسلط المسيحي.

ومن بين مواقفه الشجاعة التي حصلت أثناء وجودي في النجف الأشرف للدراسة، أن هيئة أمريكية دعته مع مجموعة من العلماء المسلمين والمسيح للحضور في مدينة (بحمدون) في لبنان، لمناقشة كيفية الحيلولة دون تزايد المد الشيوعي في المنطقة. فرفض المرحوم كاشف الغطاء حضور هذا المؤتمر، وألف كتاباً للرد على دعوة الأمريكيين تحت عنوان (المثل العليا في الإسلام لا في بحمدون) كتب فيه، أننا نرى تزايد المد الشيوعي في أعينكم حتى في النجف الأشرف، والآن تريدون التصدي له بالمؤتمرات والسينما؟! فكان لهذا الكتاب انتشار واسع جداً في العالم الإسلامي، حيث بيّن لهم الفكر العظيم الذي يحمله هذا العلامة، الذي كانوا يعرفونه سابقاً من مواقفه الجهادية العلمية ومؤلفاته القيمة.

ومن كتب الشيخ الأخرى كتاب (أصل الشيعة وأصولها) الذي طبع لأكثر من ثلاثين طبعة، واشتهر في مختلف بلاد العالم. فقد كان المرحوم كاشف الغطاء كاتباً ومؤلفاً فذاً ذو منطق قوي، وشاعراً قديراً، يتمتع بمعلومات واسعة عن مختلف قضايا العالم خاصة ما يتعلق بالإسلام والتشيع.

وزار إيران عدة مرات، كان أولها في زمان آية الله الحائري، حيث كان فيها مورد تجليل وتكريم من كافة المراجع وفضلاء الحوزة وعامة أهالي قم.

يذكر المرحوم الرازي: (سماحة آية الله في الورى، الحاج الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء، من المراجع المعاصرين في النجف الأشرف وأحد العلماء الأعلام البارزين في علم الكلام والمناظرة، ومن المؤلفين الأفذاذ ممن له تصانيف وكتب كثيرة جداً. زار قم في سنة (1350هـ.ق)، وأقام في منزل آية الله الحائري، فكان موضع احترام وتجليل كبيرين، وألقى محاضرات قيمة في الصحن المقدس، ثم عاد بعد فترة إلى النجف الأشرف، وهو على قيد الحياة حتى الآن؛ أي في سنة (1373هـ.ق)، وهو يهتم بالتدريس والتأليف والتصدي للمرجعية في النجف).

وفي كتاب (گنجينة دانشمندان) الصفحة 251، يذكر المؤلف نقلاً عن (العلماء المعاصرين) الصفحة 196: (بعد عودته من إيران، سافر إلى البيت المقدس بناءاً على دعوة وجهتها له فرق أهل السنة الأربعة لمناقشة اتحاد المذاهب الإسلامية، وقد أقام صلاة الجماعة في المسجد الأقصى حيث اقتدى به المسلمون من جميع الفرق الإسلامية الجعفرية والحنفية والشافعية والمالكية والحنبلية، والقى في يوم الاثنين الرابع من شعبان سنة (1350)، خطبة تاريخية في القدس الشريف.. وقد ذكروا تاريخ وفاته خطأ سنة (1382) والأصح سنة (1373هـ.ق).

إنّ زيارة هذه الشخصية العلمية والجهادية البارزة إلى قم، والتي صادفت في السنة التي زارها السيد آية الله شرف الدين، كان لها تأثيراً كبيراً في شخصية الحاج روح الله الخميني (رضوان الله عليه) خاصة بعد لقائه هذه الشخصية العظيمة واستفادته من كلامه وخطبه المهمة. 

آية الله الكاشاني:

هو المرحوم آية الله السيد أبو القاسم الكاشاني، الفقيه والمجاهد البارز، كان من الشخصيات التي أثرت كثيراً في الإمام الخميني (رضوان الله عليه). شارك آية الله الكاشاني في سن الخامسة والعشرين مع والده آية الله السيد مصطفى الكاشاني في الجهاد ضد الإنجليز، حيث كان والده قائد الثورة في العراق ضد المستعمرين، ومنذ ذلك الحين أصبح المرحوم أحد العلماء والشخصيات الجهادية البارزة في العراق. وبعد فشل الثورة واحتلال العراق من قبل الإنجليز، سعى المستعمرون إلى إلقاء القبض عليه لإعدامه بعيد ذلك، مما اضطره للهروب والدخول إلى قم سراً، فحظي باستقبال العلماء وطلاب الحوزة العلمية، وبعد فترة غادر قم إلى طهران للإقامة فيها.

وبعد احتلال إيران من قبل قوات الحلفاء المتفقين بعد الحرب العالمية الثانية، تم إلقاء القبض على آية الله الكاشاني بتهمة التعاون مع الألمان ضد الحلفاء، وبقي في السجن مدة 28 شهراً قضاها في سجن اراك وكرمانشاه ورشت، وألقي القبض عليه مرة أخرى سنة (1945م)، نفي على إثرها مدة 22 شهراً إلى بهجت آباد في قزوين، ثم ألقي القبض عليه أيضاً في سنة (1948م) نفي في البداية إلى قلعة فلك الأفلاك في خرم آباد، ثم نفي بعد عدة أيام إلى لبنان.

كان آية الله الكاشاني في المنفى عندما قتل هجير ـ وزير بلاط محمد رضا البهلوي ـ بواسطة منظمة فدائي الإسلام، حيث انتخب بعدها ممثلاً عن طهران في مجلس الشورى الوطني، فعاد إلى الوطن بعد 16 شهراً من النفي، فجرى له استقبال منقطع النظير، وقد شارك كاتب هذه المقالة فيه.

وكان لبيانات آية الله الكاشاني وخطبه ومواقفه الإيجابية، دوراً كبيراً في تأميم الصناعة النفطية الإيرانية، وإنهاء سيطرة الشركات الإنجليزية الغاصبة؛ بل لولا وجوده ووجود منظمة فدائي الإسلام لما تم تأميم النفط الإيراني، وإنهاء سيطرة الإنجليز عليه. لكن للأسف الشديد، ورغم كل هذه المواقف الجهادية ضد الاستعمار التي قام بها هذا العالم الجليل، تمكن المستعمرون وعملائهم من الإيقاع بينه وبين الدكتور مصدق رئيس الحكومة والجبهة الوطنية، فعمدوا في الصحف إلى تشويه سمعة هذا القائد والعالم الكبير، وبالتالي تمكنوا من الانتقام منه.

لقد التقى الإمام الخميني (رضوان الله عليه) المجتهد المناضل ضد الاستعمار والمجاهد الثوري الشاب، منذ بداية وصوله إلى قم بآية الله الكاشاني وكان يذهب للقائه في طهران أيضاً فتعرّف عليه من قرب، حتى أن آية الله الكاشاني حضر مراسم عقد الإمام الخميني (رضوان الله عليه) في طهران، وبعد كلامه مع والد زوجة الإمام المرحوم آية الله الميرزا محمد الثقفي، يقول له: (أين وجدت هذه الأعجوبة!). ونظراً لكون منزل آية الله الثقفي يقع في منطقة بامنار في طهران قريباً من منزل آية الله الكاشاني، كان الإمام (رحمه الله) يزوره كلما جاء إلى طهران، فتعمقت العلاقة وتبادل الزيارات بينهما.

وفي سنة (1961م) عندما كان الإمام الخميني(رحمه الله) فقيهاً معروفاً ومن المدرسين الأكفاء في حوزة قم، كتب إلى آية الله الكاشاني رسالة يسأل فيها عن صحته بعد مرضه وإصابته بوعكة صحية، فقال فيها:

بسم الله الرحمن الرحيم

أود أن أبلغ حضرتكم؛ إني أسأل الله دائماً أن يمن عليكم بالسلامة، ويرفع عنكم هذه الوعكة الصحية، ألتمس دعاء وجودكم المحترم، وإني استفسر عن صحتكم من الأشخاص الذين يزوروننا. وأنا أيضاً منذ عودتي من طهران، تعرضت لحمى مالطا وغيرها عدة مرات، ومازلت أشعر بوعكة صحية، فالتمس دعاءكم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

روح الله الموسوي

عُرف المرحوم آية الله الكاشاني بصراحته وطبعه المرح، حتى أنه كان أحياناً يسخر من المسؤولين في الحكومة؛ بل كان يتكلم بهذه الصراحة مع مؤيديه أيضاً ويخاطبهم بالجهلة. وفي إحدى خطبه سنة (1980م) في حسينية جماران، قال الإمام الخميني (رضوان الله عليه):

(... لقد قاموا بقضية كشف الحجاب بكل تلك الفظاعة والشناعة. الله وحده يعلم الجريمة التي ارتكبوها في كشف الحجاب، حتى أنهم كانوا يطلبون من بعض العلماء العظام إقامة المجالس واصطحاب نسائهم معهم، لأن ذلك حسب قولهم: أمر.

ونقلوا أن أحدهم ذهب إلى المرحوم الكاشاني فقال له: لقد قالوا أن عليكم الاشتراك في ذلك المجلس المختلط، فأجابه المرحوم الكاشاني بشتم من قال ذلك!

فقال ذلك الشخص. إن الأمر من المقامات العليا، فرد عليه: وأنا أشتم هذه المقامات العليا).

وفي سنة (1980م) أيضاً، أشاد الإمام الخميني (رضوان الله عليه) بآية الله الكاشاني ضمن كلامه الذي ألقاه في حسينية جماران، فقال: (نقل لي المرحوم روح الله خرم آبادي[9]، أنه قال:

عندما تم نفي المرحوم الكاشاني (قدس سره) إلى خرم آباد، وسجن في قلعة فلك الأفلاك، رجوت قائد الجيش (قائد فيلق خرم آباد) أن يسمح لي برؤية المرحوم الكاشاني، فوافق على ذلك واصطحبني لرؤيته، فكنا ثلاثة قائد الجيش وأنا والمرحوم الكاشاني. فبدأ هذا القائد بالحديث، ووجه كلامه إلى المرحوم الكاشاني، فقال له ما يقارب هذا المعنى: لماذا يا شيخ أوقعت أنفسك بهذا المأزق؟ لماذا تتدخل في السياسة؟ السياسة لا تليق بكم، فلماذا تتدخلون فيها؟ وهكذا تكلم بما يشبه هذا الكلام، فأجابه المرحوم الكاشاني: أنت حمار جداً!

وأنتم لا تتصورون أن هذه الجملة كانت تعادل القتل في تلك الفترة؛ أي إذا لم أتدخل في السياسة، فمن يتدخل فيها؟ وسأذكر لكم قصة أخرى أيضاً:

عندما كنا في السجن، حضر رئيس جهاز الأمن آنذاك ـ اللواء باكروان المدير العام لجهاز السافاك الذي أعدم بقرار من محكمة الثورة ـ فأخذونا إليه، فتحدث إلينا بكلام، من ضمنه:

السياسة هي الكذب، وهي الخديعة، والاحتيال، واللعنة على الوالدين، فاتركوها لنا، فأجبته: هذه السياسة لكم! فلاحظوا كيف كان الإمام يأنس بالمرحوم آية الله الكاشاني، بحيث يتذكر هذه الحادثة الطريفة، وينقلها بشكل آخر.

لقد تأذى الإمام وحزن كثيراً على ما آلت إليه أوضاع آية الله الكاشاني، بعد كل هذا الجهاد والمصائب التي تعرض إليها. وقد كنا في حوزة قم نلاحظ تأثير ذلك عليه بوضوح.

وفي سنة (1983م)، وضمن كلامه حول دور العلماء في قيام الحركة الدستورية، والذي ألقاه أمام أعضاء المؤسسات المرتبطة بمكتب رئيس الوزراء في حسينية جماران؛ تحدث الإمام عن الدور الكبير لآية الله الشيخ فضل الله النوري، وما آلت إليه أوضاعه فيما بعد، فقال:

(اليوم، اغتنم هذه الفرصة لأتحدث للسادة عن موضوع، يهم الجميع، المسؤولين في الحكومة وعموم الشعب أيضاً).

وأريد الآن أن أتحدث عن موضوع استفدناه من التجارب التي نقلت إلينا، أو تلك التي شاهدناه بأنفسنا، فما حدث في فترة الحركة الدستورية والتي يعلم بأحداثها الجميع، كان البعض يرفض حكومة الإسلام في البلاد، ويسعى إلى جر البلاد نحو المعسكر الأوروبي. فكانوا يثيرون الفوضى والإشاعات، بحيث تمكنوا من إعدام شخصية بارزة مثل المرحوم الشيخ فضل الله النوري وضربوه على قدميه أمام الملأ. فكانت هذه أحدى مؤامراتهم لعزل الإسلام، وتمكنوا من تنفيذ مبتغاهم بحيث أفشلوا الحركة الدستورية (كما أراد علماء النجف)، حتى أنهم قاموا بتحريف قضية المرحوم الشيخ فضل الله، وأثاروا الناس ضده في إيران وبقية البلدان، مما أدى إلى إعدام الشيخ فضل الله النوري شنقاً بيد بعض رجال الدين الذين وقفوا حوله يصفقون، فاستطاعوا في تلك اللحظة من هزيمة الإسلام، والناس في غفلة من أمرهم، حتى العلماء ممن كانوا موجودين في تلك الحادثة، كانوا في غفلة من أمرهم.[10]

وبعد ذلك، يتحدث الإمام عما آل إليه مصير آية الله الكاشاني بعد كل هذا الجهاد الطويل، فقال: (لقد التقيت عن قرب بالسيد الكاشاني في تلك الفترة، وعرفته رجل دين مجاهد منذ كان شاباً في النجف، حيث كان يجاهد في ذلك الوقت ضد الاستعمار الإنجليزي، وعندما قدم إلى إيران قضى معظم حياته على هذا الطريق أيضاً.

وقد عرفته عن قرب، حيث كان وضعه مهماً جداً بحيث إذا ما أراد الذهاب إلى مكان معين، افترضوا أراد الذهاب إلى مسجد الشاه مثلاً؛ كان المسجد يعلن عن قدومه. كان هذا وضعه في البداية، فأدرك الأعداء أن وجود رجل دين بارز في الساحة سيؤدي حتماً إلى حكومة الإسلام، وهذا ما حصل فعلاً. لذلك بدؤا بإثارة الأجواء والمشاعر ضده، إلى درجة أنهم ألبسوا كلباً عوينات أطلقوا عليه أسم آية الله وأخذوا يدورون به في أطراف المجلس.

كنت موجوداً آنذاك عندما دخل المرحوم الكاشاني إلى مجلس عزاء، فلم ينهض له أحد، إلاّ أنا وأحد علماء طهران الموجودين حتى الآن[11]، ففسحت له مكاناً للجلوس).

فتعاملوا مع المرحوم الكاشاني بهذا الشكل حتى أجبروه على عدم الخروج من منزله، وبالتالي تمكنوا من هزيمة الإسلام بهذا العمل.

ولهذا حذر الإمام من مؤامرات الاستعمار وعملائه ضد الجمهورية الإسلامية التي بدأت منذ ذلك الوقت أي منذ سنة (1983م)، فأوصى بضرورة أن يتعظ المسؤولين والشعب ويحذروا جيداً من هذه المؤامرات:

أريد الآن أن أحذر السادة المسؤولين، مما يجري حولهم هذه الأيام من إثارة الأعداء للفوضى، وسعيهم تدريجياً لتنفيذ مؤامراتهم التي تهدف إلى إبعاد الناس عن الإسلام.. وإذا ما نجحوا هذه المرة في السيطرة على الأوضاع فلن يبقوا لنا شيئاً أبداً، فقد أدركوا أن تقدم الجمهورية الإسلامية سيضر بمصالحهم ويمنعهم من تحقيق مآربهم. واعلموا أن الإسلام إذا ما تعرض الآن إلى صفعة قوية، فلن يتمكن بعدها من العودة إلى السلطة أبداً..). 

الحركات الثورية للعلماء الآخرين:

إضافة إلى ما ذكرناه، فإن الإمام قد شاهد كيف حاكموا آية الله الميرزا محمد آقازاده، الابن الأكبر لآية الله الآخوند الخراساني في طهران بعد أحداث مسجد (گوهرشاد)، وكيف خلعوا منه لباسه الديني، حتى سقط من الأنظار بحيث كان يجلس في زاوية الشارع دون أن يهتم لأمره أحد.

كما شاهد الإمام ما جرى لآية الله الميرزا صادق آقا التبريزي وآية الله السيد أبو الحسن الأبطحي من علماء آذربايجان، وكيف تم نفيهم أولاً إلى كردستان ثم إلى قم، بسبب مقاومتهم ورفضهم للضغوط التي كان يمارسها رضاخان. حيث بقي بعدها آية الله الميرزا صادق آقا في قم، حتى توفي فيها. وقد ألتقى الإمام بهذين العالمين في قم أثناء مدة نفيهم، وتحدث معهم عن قرب حول أسباب حركتهم ونفيهم إلى قم.

وضمن كلامه الذي ألقاه في النجف الأشرف سنة (1977م)، والذي نقلنا قسماً منه سابقاً، تحدث الإمام عن الحركات الثورية التي قام بها العلماء الآخرون، فقال:

(النهضة الأخرى، هي نهضة علماء خراسان وحادثة مسجد گوهرشاد، حيث ألقوا القبض على المرحوم آقازاده والمرحوم آقاسيد يونس الأردبيلي وسائر العلماء الآخرين في تلك الفترة. وسجنوهم في سجن طهران، وقد شاهدت بنفسي المرحوم الميرزا أحمد آقازاده (قدس سره) جالساً بدون عمامة، رغم أنه كان تحت المراقبة ولا يحق لأحد التقرب منه، حتى أنهم كانوا ينقلونه بدون عمامة في الشارع عند إرساله إلى المحكمة لمحاكمته.

ولم يكن في ذلك الوقت وجود للأحزاب حتى يقوموا بمثل هذه الاعتراضات، فقد حدثت جميع الثورات التي قام بها العلماء بدون وجود الأحزاب، وحتى البعض القليل منها كان عديم التأثير.

النهضة الأخرى حدثت في آذربايجان، حيث انتفض المرحوم الميرزا صادق آقا والمرحوم أنگجي، فالقي القبض عليهما، وبعدها لم يتمكن المرحوم الميرزا العودة بحرية إلى آذربايجان، رغم الاحترام والتقدير الذي كان يكنه له أهل آذربايجان، فبقي في قم حتى آخر لحظات حياته، وقد تمكنت من زيارته فيها).

كما شاهد الإمام أستاذه الكبير آية الله الحائري ـ مؤسس الحوزة العلمية في قم ـ ورغم سلوكه المحتاط في التعامل مع رضاخان، قد اضطر بسبب إصرار الكثير من علماء الحوزة لإرسال برقية إلى رضاخان بأن يستثني عن قرار إتحاد الشكل، وشاهد كيف أن هذا الطاغية الذي كان سابقاً يظهر التذلل والخضوع لآية الله الحائري ويتظاهر بتقليده، يرد بجفاء وتكبر على هذه البرقية، ويلقي القبض على الحاج الميرزا (خليل كمره اى) ـ أحد رفقاء الدراسة مع الإمام ـ لكونه نقل إليه البرقية، وسجنوه في طهران.

نعم، إنّ الإمام كان يتذكر كيف كان يخرج مع رفقائه في الدراسة إلى البساتين خارج قم للدرس والمباحثة فيها، لتجنب التعرض لأذى الشرطة ورجال الأمن.

ورأى الإمام الكثير الكثير من هذا القبيل..

وهذا الشعر الرباعي للإمام، يصور تلك المرحلة المظلمة والسوداء من تاريخ حياته!

از جور رضاشاه كجا داد كنيم             زين ديو، بركه ناله بنياد كنيم

آن دم كه نفس بود، ره ناله ببست        اكنون نفسي نيست كه فرياد كنيم[*]

الهدف من المقالة:

إنّ الكاتب كان يهدف من كتابته, هذه المقالة بهذا التفصيل، أن تكون قاعدة يستفيد منها الباحثون والمحققون حول تكوين وتركيب شخصية الإمام الخميني الثورية.[12]

لقد شاهد الإمام منذ مرحلة شبابه وسنين حياته الأولى، جميع هذه الأحداث المؤلمة، وكان يحللها بدقة كأنه كان يعد نفسه لاغتنام الفرصة المناسبة حتى يثأر لجميع العلماء والمراجع الذين تعرضوا لكل هذه الآلام والمصائب من قبل عائلة البهلوي وعملائهم، ويلقن أسيادهم درساً لن ينسوه أبداً، حتى يظل منهجاً يسير عليه كافة الثوريين في العالم.

ومن اللطيف أن الكاتب يتذكر جيداً، بداية قدومه إلى قم، أي في سنوات تأميم الصناعة النفطية، حيث كانت جميع أنظار العالم تتجه نحو إيران، ونحو الشخصية الدينية البارزة لآية الله الكاشاني، وجهاده الشديد ضد الاستعمار. لكن الإمام كان يحضر يومياً قبل الغروب بقليل، إلى مقبرة آية الله الشهيد الحاج الشيخ فضل الله النوري ـ الواقعة في الصحن الكبير للسيدة المعصومة (عليها السلام) ـ ويجتمع فيها مع بعض رفاقه لمدة ربع ساعة تقريباً، يتحدثون فيها عن الأوضاع والحوادث اليومية، ثم يؤدون صلاتهم هناك، وبعد ساعة يتفرقون جميعاً. ولم ير أحد الإمام يجلس أو يصلي في مكان آخر غير مرقد الحاج الشيخ فضل الله، فإذا لم يكن هذا الأمر صدفة، يمكن أن يدل بوضوح أن قائد المستقبل للثورة الإسلامية كان يتذكر دائماً قادة النهضات الدينية والعلمائية، بحيث أصبح فيما بعد خلفاً صالحاً ولائقاً لهم، وتمكن بثورته الإسلامية بأخذ الثأر لهم من الاستعمار وعملائهم.

وإذا ما دقق القراء في خطب الإمام ولقاءاته الشفوية وبياناته السياسية وقراراته الحكومية سواء في الداخل أو الخارج، للاحظوا جيداً أن الإمام قد أشار إلى جميع المصائب والويلات التي تعرض لها العلماء الذين سبقوه في النهضة ضد الظلم والطغاة، ولم يهمل حتى الصغيرة منها. وبهذا الشكل، تمثل هذه الخلاصة الهدف الذي كان يبتغيه الكاتب من هذه المقالة، على أمل أن تنال رضا القراء.

ـــــــــــــــــ

[1] كاتب ومحقق في العلوم الإسلامية.

[2] حرم السيدة (فاطمة المعصومة بنت الإمام موسى الكاظم (عليهما السلام)).

[3] اتخذ رضاخان فيما بعد لقب (البهلوي) بدلاً من (بالاني)، وهو اسم عائلة الميرزا محمود خان عضو وزارة البريد، ولعنوان البريد للمصرف الملكي الإنجليزي، فأصبح اسمه فيما بعد رضاخان البهلوي.

[4] من أحفاد الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) (مرقده في شهر ري في طهران).

[5] تم الاستفادة من كتاب (شاه آبادي بزرگ ـ آسمان عرفان) في ذكر السيرة الشخصية لآية الله الشاه آبادي  ووالده.

[6] في سنة 1981م.

[7] سورة الفرقان، الآية: 63.

[8] نقلاً عن صحيفة نور، ج8، ص 31.

[9] الصديق الحميم للإمام في قم، الذي كان يدرس الفلسفة في قم، بموازاة درس الإمام في الفلسفة، ثم انتقل بعدها إلى مدينته خرم آباد وأدار فيها حوزة علمية، وكان يطلق عليه في حوزة قم (الحاج روح الله).

[10] الشيخ إبراهيم الزنجاني والمسؤول عن الشكاوى في دار العدالة، والمؤرخ المعروف.

[11] الظاهر أن المرحوم السيد محمد صادق اللواساني كان صديقاً قديماً للإمام.

[*] المعنى: أين نصرخ من جور رضاشاه حتى ننفس عن آلمنا من هذا الطاغية، فقد حرمنا حتى من النفس الذي كان يخفف عنا شدة الألم والعذاب. (المترجم).

[12] وقد ذكر ولدي محمد حسين الرجبي (الدواني) إجمالاً عن هذا الموضوع وبحثه باختصار في كتابه (زندكيانمه سياسى امام خمينى (قدس سره)).