وثيقة رقم (1)

 

الوثيقة التي بين أيديكم هي إحدى الرسائل التي بعثها قائد الثورة الإسلامية سماحة آية الله العظمى السيد الخامنئي (دام ظله) في شهر فروردين 1357من منفاه في مدينة «ايرانشهر» إلى الشهيد آية الله صدوقي (قده) وتشتمل على تحليل واقعي لقضايا الثورة إبان اندلاعها.

 

بسمه تعالى

 

سماحة آية الله الحاج الشيخ محمد صدوقي اليزدي دامت بركاته

 

بلغني أنّ أعمال العنف التي مارستها الشرطة والأشخاص الذين يعتبرون أنفسهم في خدمة الشعب انتهت في يزد بمقتل وجرح أبناء الشعب المسلم، مما أدى إلى تعميق وتوسيع الجرح العميق والطافح بالدم الذي أصاب جسد الشعب في فاجعتي قم وتبريز عبر الضربة الأخرى التي أصابوه بها في يزد وجهرم وعدد من المدن الأخرى ـ لما تحمله تلك الروح العدوانيةـ.ومن اللازم هنا تقديم التعازي لكم ولجميع العلماء الصالحين الذين يعدّون بمثابة المعلمين للأخلاق وللإنسانية.

 

لا يخفى على جنابكم الشريف ان الحوادث المذكورة التي تقع متتابعة في كل أربعين يوماً، وأخذت تتسع تدريجاً وتسري إلى جميع أرجاء البلد، وتتخذ أبعاداً واسعة، تكشف عن قضيتين أساسيّتين، وتـزيح الستار عن عزمين راسخين.

 

الموضوع الأول هو استياء السلطة الحاكمة في إيران ممّا تراه من وعي جماهير الشعب، وعزمها على قمع الشعب، وخاصة العناصر الفاعلة في إيجاد هذا الوعي.

 

أما الموضوع الثاني فهو سخط الشعب على هذه السلطة الجائرة المستبدّة وعزمه على الاطاحة بها، وقطع الحبل الذي تحكم شدّة على رقبته.

 

وفي هذه المجابهة يقف الحق ـ كما هو الحال في جميع المواجهات بين الحكام والشعوب ـ مع الشعب، وتقف قوّة الحاكم في موقف القهر والباطل، ويكفي إقدام السلطة على قمع شعبها والحقد عليه، لإدانتها والتيقّن من جورها وبطلانها.

 

وبما ان الحكومة الإيرانية تدرك ان عداءها للشعب وعدم ثقتها به يمثل دليلاً واضحاً على بطلانها، فهي تسعى مضطربة وبأساليب مفضوحة وساذجة إلى تـزييف الواقع الموجود أمام الرأي العام العالمي وإظهار علاقة الشعب مع الحكومة في إيران بشكل بعيد عن الواقع. وكثيراً ما يحاول المتحدثون باسم السلطة السعي إلى إظهار الشعب وكأنه يقف إلى جانب السلطة، وان التظاهرات الواسعة والحاشدة المعادية للحكومة يقوم بها عدد محدود من الناس. وبما انهم يسيطرون على جميع وسائل الاعلام في إيران، وبعض وسائل الاعلام خارج إيران، لهذا السبب يتصورون بكل سذاجة انهم قد نجحوا في مهمتهم هذه، غير ملتفتين إلى ان تلك المراحل قد ولت وانتهت، وان صرخة الشعب الغاضبة قد تجاوزت حدود إيران وبلغت الكثير من الآذان الصاغية، والمطلعون على دوافع الشعب الإير اني من وراء هذه التظاهرات غير قليلين في هذا العالم.

 

وهؤلاء يعلمون ان الفرد الإيراني يريد ان يعلن للعالم عن محق الحرية والعدالة الاجتماعية واحترام كرامة الإنسان في هذا البلد،وانه عازم على مجابهة هذا النمط من الجور.

 

هذا الوعي العالمي يُعزي إلى شمولية تظاهرات الشعب، وتلاحمه في معارضة الحكومة. لقد وعى الشعب الإيراني اليوم، واتسع نطاق جهاده وبلغ ذروته في جميع المجالات مقروناً بالولاء للأهداف الإنسانية التي يدعو إليها الإسلام. وهذا ما يؤكد وجود حالة الوعي واليقظة.

 

لقد برزت في أكبر المدن، وفي الكثير من المدن الصغيرة، وحتى في القرى النائية مظاهر السخط والاستياء الذي لم يسبق له مثيل، من أساليب الحكام في إيران، وقد أعلن الناس في أغلب هذه المدن عن سخطهم واستيائهم خلال التجمعات التي أقيمت فيها. وأطلقت جميع الشرائح من الطلبة والمثقفين وطلبة العلوم الدينية والعمال والفلاحين والحرفيين وحتى الموظفين والعاملين في أجهزة الدولة هتافاً واحداً مع هتاف علماء الدين الكبار، مستنكرة فيه الوضع السائد في إيران، وملقية باللوم على النظام الذي قاد إلى حصول وضع كهذا، وأدانت انعدام الحريات الاجتماعية،والرفاه الاقتصادي، والصلاح الأخلاقي، ونهج العلاقة والتعامل غير المنطقي واللإنساني الذي يقوم بين الحكومة والشعب ـ هذه الأمور التي يعتبر المسبب الأساس لها هو الحكومة ـ وعبّرت عن وفائها للعلماء التقدميين والملتـزمين، وصلتها الوثيقة بالإسلام.

 

وعلى الرغم مما تروّج له أبواق النظام بالبيانات والكلمات من ان المعارضين للحكومة أقلية ضئيلة، وحتى ان بعض المتحدثين زعم بأسلوب صبياني ان المتظاهرين والمنتفضين في تبريز دخلوا إيران من الجانب الآخر للحدود! إلاّ ان الوقائع أثبتت وستُثبت بشكل لا يقبل الشك ان الأمر على العكس تماماً. انّ الموالين للحكومة والمدافعين عنها هم العدة القليلة، ولا يمكن ان يطلق عليهم حتى اسم الأقلية. والمسؤولون عن إقامة التجمعات المؤيدة للحكومة يعلمون علم اليقين بمدى المصاعب التي تكابدها الحكومة عندما تريد ان تحشد جماعة من الناس لصالحها، إلى درجة انها تضطر إلى حشد صغار الموظفين في موضع التجمع باستخدام أساليب التهديد والاغراء.

 

وعند مقارنة هذه التجمعات بالحشود الهائلة التي حصلت في قم وتبريز وطهران وسائر المدن الأخرى، وهم يلاحظون كيف تحتشد مختلف الشرائح في المساجد والساحات بإشارة من الزعماء الدينيين، أو كيف تنطلق المسيرات في الشوارع، أو تغلق المحلات والمعامل وقاعات الدرس و ...، يقتنعون من أعماقهم ان التيار المعارض للحكومة ليس أقليةً ضئيلة مخدوعة، بل انه أكثرية واعية تسير بإرادتها وبمعرفتها بالظرف المناسب، مستغلةً فرصة تـزعزع أركان الحكومة الإيرانية ومكانتها المهزوزة في العالم، لتظهر ما كظمته من الغيظ والسخط على مدى سنوات متمادية.

 

ونشير ـ في مجال ادراك هذه الحقيقة ـ إلى الكلمة التي أدلى بها أحد المتحدثين عن لسان النظام وخاطب فيها الطبقات الفاعلة في التظاهرات الأخيرة، أي العلماء والطلاب والتجار والحرفيين، محاولاً استمالة قلوب هذه العناصر بأسلوب متملّقٍ، وقد اعترف علانية ـ في كلمته ـ بأنَّ جميع الفصائل المذكورة قد شاركت في النشاطات المناهضة للسلطة الحاكمة.

 

على الطغمة الحاكمة في إيران ان تعلم ان أكثرية الشعب الإيراني، بل وجميع المهتمين بقضايا إيران على الصعيد العالمي، يدركون حقيقة ما يجري في هذا البلد، وهم على علم تام بفقدان الحريات المدنية والحقوق الإنسانية فيه.

 

هؤلاء حينما يسمعون تصريح أحد الدبلوماسيين الإيرانيين في النمسا، الذي اشار فيه إلى ان التظاهرات الأخيرة في إيران دليل على وجود الديمقراطية في هذا البلد، وان المتظاهرين مناهضون للديمقراطية، يتساءلون مع أنفسهم عن رد فعل الحكومة الإيرانية تجاه تلك التظاهرات، وهل تصرفت معها كما هو الحال في الدول الديمقراطية بأن سيّرت برفقتها الشرطة لحماية المتظاهرين؟ أم انها قمعتها بأعنف أساليب القمع؟ وحتى انها رفّعت وشجعت الجلاوزة الذين أثبتوا جدارة في قمع المتظاهرين، وحاسبت كل من تواكل وتنكل في أداء تلك المهمة؟

 

شعوب العالم تعتبر التظاهرات الدالة على وجود الديمقراطية، هي تلك التظاهرات التي لا ترد عليها الحكومة بالرصاص وبالرشاشات، ولا تخلّف وراءها عشرات القتلى والجرحى ومئات المعتقلين والمنفيين.

 

التظاهرات الدالة على وجود الحرية ليست هي التظاهرات الناجمة عن الكبت وعن الضغوط الشديدة. فحينما تواجه مسرات سلمية كالتي انطلقت في قم مثل تلك القسوة والوحشية، وعندما تقمع مجالس الفاتحة على شهداء قم وتبريز بمثل ذلك العنف الأهوج، وحينما تؤدي مجالس تخليد شهداء تبريز بمدينة قم وفي يزد وفي جهرم وفي الأهواز و... إلى حصول إعمال عنف كما في السابق، كيف يتجرّأ مسؤول رسمي ويدّعي بكل صلافة ان تلك التظاهرات التي قمعت وقتل خلالها عدد من المدنيين بأسلحة رجال الشرطة، دليل على وجود الحرية؟!

 

ان الفهم الواقعي الذي يحمله الإيرانيون وشعوب العالم الأخرى عن قضايا إيران، جعل من كافة التدابير التي تتخذها الحكومة لتبرير مواقفها أن تبدو في رأي الإيرانيين والأجانب مجرد جهود عابثة لا نصيب لها من النجاح، وانها لا ترمي إلى سوى قلب الحقائق وتضليل الأذهان ومواصلة الظلم القائم.

 

لايشك أحد في إيران بأنَّ المجاميع الجديدة المعادية للشعب والتي شكّلت تحت عنوان «لجنة العمل الوطني» ما هي إلاّ نفس اليد التي ارتكبت مجرزة قم وتبريز ويزد وجهرم والأهواز، وقد امتدت اليوم من كُمّ لجنة تحاول ان تصبغ ذاتها بصبغة وطنية وشعبية. الجميع يعلمون ان التظاهرات المعادية للحكومة إنّما قام بها الشعب وأبناء الوطن، إذن فأي شعب ومَن هؤلاء الوطنيون الذين يريدون الآن محاربة الشعب وخنق الأصوات في الحناجر؟. ليس ثمة أدنى شك في انهم لم يجدوا لدى القوى الموالية للحكومة كالشرطة والجيش أي استعداد لمواجهة الشعب وقتل الابرياء فعمدوا إلى تشكيل جماعة تتألف من أوقح وأصلف العناصر الدموية، ويرمون من ورائها إلى ارتكاب المجازر المحتملة في المستقبل والمذابح الجماعية أو ربّما حتى الاغتيالات الفردية تحت غطاء لجنة العمل الوطني.

 

نحن على ثقة منذ الآن ان هذا الاجراء محكوم بالفشل، وان هذا النمط من المحاولات المستميتة لن يُعيد المياه إلى مجاريها، ولا يمكن لجهاز، وقف في مواجهة الشعب ولا يعترف بقدرة الشعب، ان يجعل لذاته مكانة وكرامة.

 

وفي الختام، أبجّل ذكر الأخوة الشهداء من أهالي يزد، وأدعو الباري تعالى لكم ولسائر العلماء الملتـزمين الواعين في يزد، باعتباركم الملجأ والملاذ والسند للشعب وقد سعيتم إلى ارشاد وهداية الناس، بالعزة والموفقية؛ إنّه سميع مجيب .

 

والسلام عليكم وعلى عباد الله الصالحين

 

19 فروردين 1357 [هـ ش]

 

(إيرانشهر ـ إيران ربذة)

 

السيد علي الخامنئي

 

وثيقة رقم (2)

 

هذه الوثيقة هي رسالة أخرى بعثها قائد الثورة الإسلامية سماحة آية الله العظمى السيد الخامنئي في شهر خرداد عام 1357 من منفاه في مدينة «إيرانشهر» إلى (الشهيد) آية الله صدوقي. وفي أثناء اندلاع الثورة الإسلامية تم تكثير هذه الرسالة على شكل بيان وزّع في المدن الإيرانية، وأرسلت مديرية شرطة خراسان نسخة منه إلى دائرة الأمن (السافاك) ومن هناك أرسلت نسخة منه إلى مديرية الأمن العامة (السافاك) في العاصمة.

 

تكمن أهمية هذه الوثيقة في انها تعكس كيف ان قادة الثورة الإسلامية أقدموا بوعي تام على جهاد لا نظير له من أجل تحكيم الإسلام المحمدي الأصيل، والوقوف بوجه الانحرافات الفكرية وإجهاض المخططات المعادية.

 

تحمل هذه الوثيقة بين طياتها تحليلاً واقعياً للنهضة الإسلامية وسبل انتصارها، وتتناول في بدايتها مكانة ودور العلماء على مدى التاريخ وتشير إلى ما يعتور هذا الدور من نواقص، ثم تتحدث عن مهمّة العلماء في تلك الحقبة الحاسمة، وتؤكّد صفة الشمولية للثورة الإسلامية التي دفعت جميع الفئات والقطاعات إلى الانطلاق تحت رايتها، وانها اكتسبت بمدّها الشعبي كل أرجاء إيران من أقصاها، إلى أقصاها، وتجيب عن هذا التساؤل، وهو: لماذا اتسمت النهضة ومنذ بداية انطلاقها بالفتور؟ ثم تتطرق إلى مؤامرات نظام الشاه وكيفية سعيه لبثّ الفرقة وإشاعة الذعر والرعب، واعتقال قادة الثورة ، وإرغامهم على اتخاذ المواقف المتذبذبة، وإلهاء الجماهير في قضايا جانبية في سبيل الاجهاز على أساس الثورة.

 

وأخيراً فهي ترى ان طريق افشال هذه المؤامرات يتلخص في استقطاب وتوجيه الجماهير التي يجب ارشادها إلى مطاليبها وإلى ما ينبغي لها فعله.

 

ويبدو من الضروري في ختام المطاف التنبيه إلى نقطتين، وهما:

 

1 ـ ان هذه الرسالة قد كُتبت في ذروة اندلاع الثورة الإسلامية،حيث كانت للوحدة بين العلماء والمراجع أهمية مصيرية، في نفس الوقت الذي يجب أن تكون فيه مبادئ الثورة مصونة من الأفكار الملحدة.

 

2 ـ كانت بعض لكلمات النسخة الموجودة في ملفات السافاك غير مقروءة، وقد تجنّبنا الاجتهاد فيها بآرائنا مراعاة للأمانة.

 

نص الرسالة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

المحضر الشريف لسماحة آية الله الحاج الشيخ محمد صدوقي مدّ ظله العالي

 

بعد التحية والسلام، ان الأخبار السارة التي تصلنا باستمرار من سماحتكم باعتباركم العقل المفكر والقلب النابض واللسان الناطق لمدينة يزد، كانت مدعاة لمزيد من الامتنان والبهجة العميقة والمتأصلة لا البهجة العاطفية العابرة. والحق ان الزعامة العلمية للشيعة قد كابدت على مدى ألف سنة في سبيل الاستقلال عن السلطات السياسية، وهي تفتخر على الدوام بمعارضتها للقوى السياسية الجائرة وتتباهى بوقوفها إلى جانب المحرومين والمستضعفين، وإذا لم تهرع هذه الزعامة في مثل هذه الظروف المتأزمة والحساسة لنجدة أبناء الشعب ولمحاربة طواغيت العصر، فأين ومتى تؤدي مهمتها؟

 

لقد كان من أهم الأسلحة وأسباب القوة التي يلجأ إليه غاصبو الولاية الإلهية على مدى التاريخ هو الحصول على حماية رجال الدين، وهم لا يتورّعون في سبيل بلوغ هذه الغاية عن ممارسة مختلف صنوف الخداع والرياء والقهر والعنف، لأن الشعب المتدين إذا كان يأبى الرضوخ للجبابرة والمتسلطين فهو لا يرى أمامه بداً من الانصياع لرجال الدين وعدم معارضتهم.

 

ومع ان الصفة الغالبة على علماء الشيعة هي معارضة ومقارعة الظالمين لا مهادنتهم والركون إليهم، ولكن مع هذا ينبغي الاعتراف وبكل خجل ان حالات غير قليلة قد وقعت في الماضي غير البعيد من قبل بعض العلماء سواء بسبب عدم استيعاب الأوضاع والظروف السياسية والاجتماعية، أم نتيجة للضعف وفقدان الشجاعة والقدرة والعزم، أم انطلاقاً من توهم وجود المصلحة، حيث تناسوا واجبهم الإلهي والشعبي ووضعوا أنفسهم عمليّاً في موضع وعاظ السلاطين المرتـزقين؛ وفي حقيقة أمرهم يؤازرون الشيطان وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً.

 

وهكذا بات العلم والزهد الذي يحملونه ـ ولا يمكن لأحد إنكاره في حق بعض هؤلاء الأفاضل ـ شأنه شأن الجهل والشقاء، أصبح كلاهما في خدمة مطامع وأغراض الطواغيت، واستُغِلاّ في سبيل إجهاض الشعوب وجلب الشقاء لها وحرمانها من سعادة الدنيا والآخرة. وقد جاء اليوم الذي يجب فيه على الأخيار الفكير عن سقطات أو إهمال أسلافهم، وأداء ما في رقابهم من دين للّه ولخلقه مع غرامة سنوات التأخير.

 

ان ما أذهل وأربك حكام إيران الوقحين اليوم هو وعي وبصيرة العلماء وإدراكهم لحساسية الظروف التي يعيشها العالم والبلدان الإسلامية؛ لأنّ وعي العلماء يعني وعي الشعب وعزمه القاطع وما يستتبع ذلك من عمل وإقدام الشعب.

 

ان تصدّي شريحة اجتماعية واحدة للأنظمة المعادية للشعوب لا يحمل بين طياته مخاطر جادّة على تلك الأنظمة؛ فلا طلبة الجامعات، ولا المثقفون، ولا طلبة العلوم الدينية، ولا حتى العمال والكسبة كل منهم بمفرده خطراً ذا بال على هذه الأنظمة؛ فالأساليب الشائعة في كل زمان وفي كل مكان كفيلة بعزل الشريحة الثائرة عن غيرها من شرائح المجتمع الأخرى، والقضاء عليها أو لجمها بسلاح التهمة والافتراء أو أي سلاح آخر ـ وأمثال هذه الأسلحة متوفرة عادة في متناول أيدي السلطات المقدرة ـ أو حتى القضاء عليها بيد إخوانها من الشرائح الأخرى. أما الذي ينطوي على خطر جاد ومؤثر فهو جهاد الشعب برمّته.

 

فحينما تندفع جميع الشرائح من طلاب الجامعات، وطلبة العلوم الدينية، والعمال، والفلاحين، والعلماء الكبار، والمراجع، والكسبة، والحرفيين، والموظفين، والعاملين في الأجهزة الحكومية، بالاحتجاج والمقاومة بقلب واحد واتجاه واحد، وحينما تتفتح جميع الأعين، ويعلم الكل بما يجري، ويطّلعون على مدى فداحة الخطب المخيّم عليهم وشدّة الظلم الذي يتعرضون له، وحينما تصغي كل الأفئدة لنداء القرآن والإسلام بوجوب الانتفاض على القهر والظلم والتمايز والباطل، وحينما يفهم الجميع ويعزم الكل على القيام بعمل ما، حينها يكون الخطر جاداً على غاصبي ولاية الله، ولا يمكنهم التصدي له.

 

ولكن متى وكيف يُعبّأ الشعب بأجمعه؟ ومن هو الشخص أو الفئة القادرة على انجاز هذه المهمّة؟

 

في الظرف الحالي، واستناداً إلى كيفية النسيج الاجتماعي وأسلوب سيرة الشعب الإيراني فان الفئة الوحيدة القادرة على تعبئة الشعب الإيراني كافة هي فئة العلماء، لا غير. وعلى هذا فانَّ العلماء يمثلون بالقوّة خطراً بالغاً على الجبابرة.

 

كما وان الحكومة الإيرانية وبسبب سعيها المتواصل طيلة نيّف وثلاثين سنة الماضية للإيحاء بالتعاطف مع علماء الدين، وحتّى في الحالات التي كانت تمارس فيها أشد أنواع البطش ضد أفضل وأشرف تلك العناصر، لم تكن تتورع عن استقطاب الأنظار إليها والتظاهر ـ بلا أدنى حياء ـ باحترام رجال الدين ، وقد لوحظ خلال الأحداث الأخيرة كيف انهم لم يتحرزوا من تكرار ذلك الكلام المفضوح على الرغم من الفاجعة الدامية التي ارتكبوها في مدينة قم مركز علماء الشيعة، وحتى في منازل مراجع التقليد الكبار.

 

وفي نفس هذا السياق وعلى الرغم من التظاهر بمناصرة الدين ورجاله، فقد وجّه أصحاب السلطة أشد الضربات للمحافل الدينية ـ العلمية وإلى الطبقة الواعية والمجاهدة فيها.

 

أجل، لقد اتخذت المجابهة اليوم لوناً جديداً وفريداً، وصارت جماهيريتها وشعبيّتها تبثّها حتى الصحافة الأجيرة والذليلة في إيران نقلاً عن المسؤولين المعنيين في هذا الصدد، وهذا طبعاً ينطوي على معنى يوحي من جهة بحرية الصحافة، ويلوّح من جهة أخرى بالعصا الغليظة لإرهاب الشعب. وأما النتيجة التي جاءت بشكل عفوي ولم يقصدوها قطعاً، والتي قد جاءت معبّرة عن واقع يحمل أوضح وأبلغ المضامين عن هذه الأخبار هي عبارة عن اتساع دائرة السخط الشعبي حتى إلى القرى الصغيرة وإلى المناطق النائية.

 

ومن جملة تلك الأخطار هي ان رجال الأمن قبضوا في قرى اذربيجان أو خراسان أو ... على أشخاص بحوزتهم أشرطة تسجيل تحمل خطابات لعلماء الدين أو بيانات لمراجع التقليد، أو انهم كانوا يوزعون تلك الأشرطة أو يكثرونها.

 

إنّ ظاهرة احتجاج جماهير الشعب وانتقادهم للسلطة الحاكمة ودخولهم بشكل فاعل في الوقائع العامة والأحداث السياسية، تعد ظاهرة جديدة خلقتها مشاركة العلماء الكبار ودخولهم في معترك المجابهة مع النظام. وقد وقعت خلال نصف القرن الأخير أمثال هذه الأحداث أكثر من مرّة، كان آخرها ما وقع في الخامس عشر من خرداد عام 1342، وهي أيضاً ظاهرة كان بُناتها الأصليون هم العلماء.

 

استخدمت الحكومة في تلك القضية عدة وسائل لقمع الحركة الجماهيرية: فهي من جهة قد حاولت ارعاب قلوب عامّة أبناء الشعب عن طريق القتل وإراقة الدماء، وكذا إلقاء الرعب والذعر في نفوس النخبة بأساليب الضغط والتعذيب في داخل السجون، وإحالة تلك العناصر إلى محاكم عسكرية لتجري محاكماتهم سريّاً على يد قُضاة تابعين للنظام ومنفذين لأوامره وللأحكام الظالمة التي يصدرها لذرائع واهية؛ والنماذج الكثيرة لذلك نعرفها نحن وأنتم.

 

ومن جهة أخرى فقد حاولت إيجاد حالة من التردد والوهن في العزم الراسخ للعلماء الكبار، والتغلغل في الأجواء الفكرية المحيطة بهم عن طريق إشاعة الأفكار المنحرفة وتأكيد قضية ان الحكومة لا تنثني عن رأيها ونهجها، وان أيّ إجراء يُتّخذ لن يؤدي إلاّ إلى إراقة المزيد من الدماء والقضاء على عناصر شريفة أخرى (وهذا ما كان يتناهى إلى الأسماع صراحة في خطابات المرحوم آية الله الميلاني). أو ان أمثال هذه الأجراءات تقود إلى استعداء الحكومة وتدفعها إلى التعجيل في آرائها المناهضة للدين (كما كان يصرح بذلك أحد أكابر الاساتذة في مدينة قم). أو ان الأمر قد فات أوانُه وان الأخطاء التي ارتكبها العلماء بعدم التدخل في شؤون السياسة قد بلغت حدّاً لا يمكن معه التعويض عمّا فات، وهذا ما يوجب الانصياع لكل ما يجري (وهو ما تضمنته تصريحات أحد الأساتذة الكبار بمدينة قم).

 

ومن الواضح ما لهذه المناهج الفكرية من ملازمات وتبعات، فهي كم تلحق النهضة من أضرار أولاً! وثانياً: يمكن من خلال تلك الكلمات معرفة على أساس الفكرة، ومن أين وكيف يمكن النفوذ إلى أذهان السادة العلماء!

 

ومن جهة أخرى فقد حاولت الحكومة شلَّ مراكز المحافل العلمائية بمحاصرة وسجن العقول المفكرة والأيدي الفعالة؛ حيث كانت خيرة العلماء والفضلاء الكبار الذين هم جوهر وخلاصة الحوزات العلمية بين الأعوام1342و 1343 وحتى إلى عام 1350 رهن الاعتقال، والزنـزانات الفردية، والنفي، وسماحتكم على معرفة تامّة بالأمثلة الكثيرة في هذا المجال.

 

كان هذا مثالاً للإجراءات التي اتخذتها الحكومة الإيرانية بعد الخامس عشر من خرداد عام 1342 لقمع انتفاضة الشعب الإيراني المتأججة. وقد استخدمت بطبيعة الحال أساليب وتدابير أخرى لاضرورة لذكرها هنا. ولكن تجدر هنا الاشارة عرضاً إلى ان الحكومة الإيرانية قد سلكت بعد خرداد 1342 جميع السبل المتاحة لإخماد الثورة إلا سبيلاً واحداً، وهو تلبية متطلبات الشعب التي من أجلها ثار، ولا يمكن الاتيان حتّى بمثال واحد يدلل على استجابة السلطة الحاكمة لمطاليب الشعب، أو انها خطت خطوة واحدة باتجاهه. والذين يعتقدون ان النظام الإيراني نظام مستبد ومناهض لإرادة شعبه، يستدلون من جملة ما يستدلون به بهذه الحقائق.

 

ولكن بنفس القدر الذي كانت ولا تـزال فيه مساعي السلطة الحاكمة في إيران لاخماد انتفاضة الشعب مُتوقّعة، فان فشل وبطلان تلك الخطط كان متوقعاً في الرؤية الإسلامية، لأن بطلان هذه السلطة وعدم ارتكازها على ركيزة الحق محكوم عليه بالهزيمة والفناء. ولو تصدت لها قوة ذات صبر وصمود، لكان منهجُها الحق كفيلاً بتحقيق النصر والمستقبل المشرق.

 

ولهذا كان من نتائج السُّنّة الإلهية في بقاء واستمرار حالة المجابهة الشاملة وجود شخصية صلبة مثل آية الله العظمى الخميني الذي التـزم بموقف مبدئي لا يقبل التساوم، وكان نفيه إلى تركيا ومن ثم إلى العراق سبباً في تضييق الخناق على السلطة الحاكمة، وعوّضت بياناته عن فترة الصمت والفتور. وجاء فضلاء الحوزة ومعهم من كل سجن ومعتقل عطاء وغنيمة معنوية جديدة. وبرزت من خضمّ الصراع وجوه حَسَنة وكوادر جديدة. وان لهيب المواجهة الذي خفَّ أواره لهبوب العاصفة المحكوم عليها بالزوال للسلطة الحاكمة، أجّج نيراناً كثيرة ودائمة، وحدثت منعطفات جديدة نتجت عنها فصول جديدة في جهاد الشعب الإيراني المسلم، وخاب على أثر ذلك كيد السطة ومكرها، وتواصل جهاد الشعب في مجراه الطبيعي.

 

وعلى الرغم من كل هذا، لا يُشكّ في أنّ تدابير السلطة المعادية للشعب كان لها تأثيرها الفاعل في إضعاف وتيرة النهضة الشعبية. ومن المؤكد لو ان خطط وأحابيل السلطة لم توقف انطلاقة تلك النهضة لكُنّا اليوم في مرحلة أخرى، ولكان للأحداث طابع آخر يختلف عمّا هو عليه اليوم.

 

لقد اختلف الموقف اليوم كُلّياً، فالشعب وبعد خمس عشرة سنة من التجربة دخل ثانيةً معترك النهضة الشعبية الشاملة، ومن الطبيعي ان خطر انهيار هذه النهضة رغم كثرة معطياتها الثورية لازال قائماً بسبب وجود المؤامرات والأساليب المحسوبة والمُعَدّة من قبل العقول الأجيرة وبعماضدة المختصّين الأجانب، إلاّ انّ هذا الخطر قد ضعف اليوم بفضل الوعي النسبي للجماهير وقادتها، لكنه في كل الأحوال لازال قائماً. إذن، ما دامت هذه المؤامرات خفية، فلا يتاح التصدي لها.

 

إنّ أولى وأعمق المؤامرات التي تحوكها السلطة الحاكمة ـ السلطة التي تعتبر حالياً الطرف الأصلي في القضية ـ تدار بأساليب متداولة ومألوفة وإلى جانبها أيضاً أساليب أخرى جديدة، منها:

 

1 ـ بث الاختلاف والفرقة بين القادة عن طريق تضخيم الاختلافات الجانبية، من قبيل ما هو قائم اليوم بين أحد مراجع التقليد وسماحة آية الله الخميني؛ آية الله الخميني يعارض أساس الحكومة، بينما يعترض ذلك المرجع على نقض الدستور فقط. هذان الرأيان لا يعبّران عن اختلاف مبدئي، بل إذا أخذت الجوانب الأخرى للقضية بعين الاعتبار، اضافة إلى التشكيلة الحالية للحكومة التي لا ترغب ولا تستطيع الالتـزام بالدستور، يمكن القول حينها ان الرأيين المذكورين متطابقان، ولكن لا حظتم كيف ضخّمت الأيدي المغرضة المباشرة وغير المباشرة ذلك الموضوع وأبرزته إلى الوجود متبجّحة به أمام الجميع.

 

وأيضاً من خلال شحذ أسباب التباغض واليأس بين العلماء وسائر الشخصيات المتصدية عبر إبراز أحد الشخصيات على أساس انه يميل إلى المهادنة والتساوم، ودفع الآخرين لإساءة الظن و... الخ . وكذلك التشدد مع أحد الأشخاص أو التيارات، والتغاضي وقتياً عن الآخرين بغية عزل ذلك الفرد وذلك التيار وإيجاد فاصل بينه وبين الآخرين. وأيضاً من خلال بث الاشاعات لصالح أو ضد البعض وبواسطة خلق حالة من ا لغموض والإحجام في أذهان بعض الزعماء من خلال قطع الوعود لهم، فيخرجون بهذا الاسلوب من بين صفوف الشعب و ...الخ.

 

2 ـ بواسطة إشاعة الرعب وانتهاج أسلوب الشدّة والقسوة، كالقتل، والسجن لمدة طويلة، والمحاكمة في محاكم عسكرية، والتهديد عبر الأحاديث والتصريحات وما شابه ذلك.

 

3 ـ بواسطة القضاء على العناصر الفاعلة والمبدعة، أو عزلها عن الآخرين، أو زجّها في السجون، أو نفيها.

 

4 ـ عن طريق تلفيق التهم وبذر أسباب الغموض والتردد في أذهان الناس، والتشكيك في اعتقادهم الراسخ.

 

5 ـ إلهاء الشعب بقضايا ومواضيع مصطنعة، وتوجيه الأذهان نحو أمور جانبية تنشغل بها اعتقادهم الراسخ.

 

6 ـ التظاهر بمسايرة الزعماء ومقابلتهم بالبشر وزرع الأمل في نفوسهم بأن القضية يمكن حلّها عن طريق الحوار والاتفاق أكثر من أي طريق آخر.

 

7 ـ عن طريق أساليب أخرى مختلفة.

 

وإلى جانب مؤامرات السلطة الحاكمة ينبغي أيضاً ترقّب الضربات من الأعداء الآخرين أيضاً. وهؤلاء وان كانوا لا يملكون قوّة تضاهي قوة الحكومة، إلاّ أن هذا لا يدعو إلى الاستهانة بهم. وهذه الضربات التي تستهدف عموماً القضاء على الصفة الجماهيرية وعلى اتساع نطاق هذه النهضة تتظافر من أجلها تيارات متضادة تريد سحق الثورة على الفور أو حرف مسارها. وأحد هذه التيارات هو تجمع الفئات التي تنتمي إلى الفكر الالحادي، والتي يطلق عليها تجاوزاً اسم «التجمع» وإلاّ فهي تسودها مئات الاخلافات وأسباب الشقاق والنفاق.

 

هؤلاء يعتقدون بعدم امكانية تقدّم عملهم وبلوغ أهدافهم السياسية في بسط ونشر آرائهم مع وجود الأرضية الصالحة لنشر الدين والمذهب، و من الطبيعي جداً ان تدفعهم هذه الحالة إلى الحقد على الدين، وانكار دور الدين والنظام الإسلامي في تحقيق الأهداف الإنسانية، فهبّوا بكل ما لديهم من قوّة لمجابهة النهضة التي انطلقت باسم الإسلام وهي تحمل الشعارات الدينية ويشارك فيها الزعماء الدينيون. وما التعابير والتفسيرات المهينة التي تلاحظ في تصريحاتهم إزاء الأحداث الأخيرة إلا جزءاً من رد فعلهم المناوئ لهذه النهضة، وكان وصفها بصفة «الاصلاحية»، وهو الاصطلاح الذي يُسمع أحياناً حتى من ألسنة بعض شبابنا، صادراً عن أولئك أنفسهم.

 

ان البلاء الكبير الذي يخيم على آذهان هولاء هو ذلك البلاء المعهود المتمثل في الجمود على قوالب معينة في التفكير والكلام.

 

إنّ أي انسان منصف لو نظر إلى ماهية وجوهر هذه النهضة وإلى شعاراتها لأدرك بكل يُسر أنها ليست إلا حركة ثورية ولا تعني المطالبة بإقامة الحكومة الإسلامية أو تطبيق أحكام الإسلام إلاّ المطالبة بالتغيير الجذري، وإقامة نظام الإنسانية والعدالة الإسلامية بدل النظام الطاغوتي المشرك.

 

أما التيار الآخر: فهو تيار المسلمين التقدميين، الذين يتصفون بسطحية المعلومات وقلة الصبر. وهؤلاء مع ما لهم من دوافع.

 

ويبدو ان أكبر أهداف واهتمامات هذا الفصيل هو قمع العلماء. ولم يكن وجود شريحة العلماء المجاهدين التقدميين والعون الصريح الذي قدّمه ولازال يقدّمه الكثير منهم على شتّى الأصعدة في سبيل بلورة أسس الثورة في إيران، مدعاة لأن يبدي هؤلاء بعض النضج والتأني في موقفهم إزاء العلماء، أو ان لا يتحدثوا على أدنى الاحتمالات بهذه الشمولية التي لا استثناء فيها، فإن كلامهم اليوم لا يقرّ به أي مراقب منصف، حتى لوحظ وسُمع ان الصورة التي يحملونها عن بعض ممّن هو من أخلص العلماء وأكثرهم تضحية لم تكن صورة منصفة وكذا كلامهم في هذا الشأن.

 

هؤلاء يستنكرون الثورة الحالية للشعب الإيراني لأن لعلماء الدين والزعماء الإسلاميين فيها دوراً مشهوداً، ولهذا السبب تراهم يضعون العراقيل أمامها ما استطاعوا.

 

وعلى الرغم من عدم وجود ضرورة حالياً لتحليل سلوكية هذه الفئة اللقيطة؛ إلاّ انني أشير فقط إلى ان البعض يرى ان السبب الاساس لمخالفتهم لشريحة العلماء المجاهدة والواعية، هو شعورهم بعدم امكانية عرض أفكارهم الليقطة الساذجة الواهية التي لا اساس لها أو الدفاع عنها أمام هذه الشريحة، وهي الأفكار التي أحياناً في السوق الحالية المضطربة على انها عصارة الأفكار الإسلامية، وان الألفاظ شبه الثورية والتلاعب بالكلمات والعبارات قادرة على إخفاء حقيقتها الخاوية والمزيفة عنهم.

 

أما الجناح الآخر فهو جناح العناصر الجامدة والمتحجرة المسمّاة بالعناصر الدينية التي لازلنا لسنوات طويلة نسمع أقوالها ومؤخذاتها، ولا داعي هنا لتكرار تلك الكلمات والبحث في عللها وأسبابها.

 

وفي مقابل هذه التيارات والمؤامرات والضربات الفتاكة، نشكّل نحن وعقيدتنا الإسلامية وشعبنا التواّق والمتأهب لسماع الأوامر، وهذا الموجود القيم ـ الذي يفتقر إليه خصومنا وأعداؤنا ـ نشكل كتلة لا يُستهان بها؛ وهذا ما ينبغي معرفة أهميته وطرق الانتفاع منه.

 

إنّ من أهم الاجراءات القادرة في مثل هذه الظروف على الوصول بعلماء الدين إلى أهدافهم، هو السعي لإنشاء تنظيم أو حزب وطني وشامل. هذا العمل، يجب على العلماء عدم الانطواء على الذات وتجاهل دور الطاقات الفاعلة والمؤثرة والشخصيات البارزة أو الإعراض عن السواعد المقتدرة والمخلصة المستعدة للتعاون معهم، أو إعطائها أهمية أدنى مما تستحقّها، وعليهم ان لا يفوّضوا الأمور كما هو الحال في الظروف الأخرى إلى الأفكار المعتمدة والموثوقة!! ويخرجوا هم عن الساحة.

 

هذان الأسلوبان اللذان يمثلان طرفي الافراط والتفريط تسببا في الماضي بإيقاع خسائر كبرى، ولابدّ من تجنّب تكرارهما. ويبدو ان أعقل الأساليب وأعدلها يتلخص في إسهام العلماء الفعال والمباشر إلى جانب العناصر الصالحة الأخرى كإسهام الشركات المتساوي الحقوق في مثل هذا التنظيم الحزبي.

 

ومن البديهي ان الامكانات الأكثر في أي عمل مشترك تتيح مزيداً من العمل والنجاح، وهذا ما يوجب بدوره منح المزيد من الصلاحيات والحقوق. وإذا استطاع العلماء الملتـزمون استثمار الامكانات الهائلة مع انتهاج أسلوب الابداع والاخلاص والتضحية والمجاهدة والسعي الحثيث،فمن الطبيعي ان زمام القيادة الشاملة سيكون بأيديهم.

 

ثمة نقطة في غاية الأهمية، وهي ان النجاح في هذه المرحلة يتوقف عل تشكيل محور آخر في وسط طلاب وفضلاء وعلماء الحوزات العلمية، يلتف حوله العلماء والحوزات العلمية، والعلماء التقدميون والمثقفون في المحافظات.

 

وفي الظرف الحالي الذي يفتقر إلى مثل ذلك التنظيم الحزبي ولا يمكن ايجاده بهذه السهولة يبدو من اليسير إلى حدّ ما ملء هذا الفراغ بواسطة الأسلوب الثاني. ومن أيسر وأبلغ هذه السبل هي الاجتماعات والمجالس التي تقام لحسن الحظ على الدوام في كل مكان في الظروف الحساسة والمتأزمة حالياً بشكل خاص في الكثير من المدن، وبصورة استثنائية تقريباً في مدينتكم بارك الله فيها وفيكم وفي أهلها.

 

لهذه المجالس ـ التي لا يشك أحد في ما هيتها الإسلامية ـ صفة المجتمع الإسلامي العام الذي يتألف من مختلف أبناء الشعب وشتى شرائحه، ولا يعرف أيّة حدود ولا يختص بفئة دون أخرى ولا يرفض أيّة جماعة من الناس، بل المجال فيها مفتوح للجميع للتعلم واتخاذ القرارات والاجراءات وعرض الآراء. وليس بمقدور حكام إيران سلبنا هذه الفرصة رغم المضايقات والضغوط التي يمارسونها.

 

وان اغلاق أحد المساجد يحمل من الخطورة على السلطة كخطورة استمرار وجوده؛ فإذا كان الناس اليوم يتعلمون فيه، فانهم سيهبوّن حينذاك عاصفة من الغضب، ومثل هذا الأجراء ينطوي ـ ولو لفترة قصيرة ـ على مخاطر كبيرة على السلطة الحاكمة التي ليس لديها أيّة ذكرى طيبة عن إغلاق المراكز العلمية والتبليغية في أرجاء إيران، ولم تكن تجربتها في هذا المجال سارّة لها.

 

هذه الفرصة الثمينة الناتجة عن ضعف وزعزعة النظام الحاكم ـ والذي يعزي إلى السنن الحتمية ـ يجب على العلماء ودعاة الدين استثمارها بأقصى ما يمكن؛ فالمجالس الدينية ينبغي تحويلها إلى قاعة دراسية كبرى، تُدَرّسُ فيها بالدرجة الأولى مواضيع في شرح مفاهيم الإسلام والأسس التي تقوم عليها هذه الشريعة الخالدة، والنظام العادل الذي جاء به من أجل سعادة الإنسان وفلاحه وصالح، والمبادئ الأساسية التي رسمها لإقامة وديمومة هذا النظام، والطريق الذي اختطه للمؤمنين وللمعتقدين بهذا الدين في سبيل وإقامة هذا النظام. ثم شرح وضع المجتمع الحالي الذي يعيشه الناس، وبيان الحقائق المؤلمة التي تجري فيه، والظلم والحرمان والهوان الذي يجابهه الإنسان ويراه بنفسه.

 

ثم بيان مدى التفاوت بين هذا وبين النظام الذي نادى به الإسلام لأتباعه. وشرح الاختلافات الفكرية والسياسية السائدة في عالم اليوم، مع الكشف عن العداء الذي يحمله زعماء العالم اليوم والخطر الذي يستشعرونه، أو قل باختصار: رفع مستوى الوعي السياسي للشعب.

 

ثم ان عليهم الافصاح عن الواجب المفروض على المسلمين تجاه الإسلام والإنسان والتاريخ والمستقبل،وخاصة في هذه اللحظة التاريخية، والخسارة الرهيبة التي ستحل بهم فيما لو خسروا هذه المرحلة التي لا يمكن التعويض عنها بهذه السهولة. وكذلك دراسة العلل والاسباب التي تدعو بعض الناس إلى الوقوف موقف المتفرج إزاء بعض الأحداث الجارية في إيران والعالم، والسعي لازالة تلك العلل التي بعضها وناتجة عن عدم الاطلاع على الإسلام وعلى العالم، وبعضها الآخر غير مقبول وناتج عن خصال سلبية مقيتة تجذرت في نفوس الناس على أثر الانعكاسات التربوية السلبية والمغلوطة.

 

ومن المناسب جداً في إدارة وتنظيم وديمومية صورتها المطلوبة، أو من الأفضل القول ادارة هذه الصفوف الدراسية العامة، الاستعانة بفضلاء وخطباء الحوزات العلمية والحوزات المحلية، وعرض المواضيع الضرورية على أسماع الناس، تحت إشراف عناصر ذات منـزلة جليلة كسماحتكم، من خلال الكلمات المناسبة التي يجري إعداها وتنظيمها وفق منهج معين.

 

إنّ مثل هذه التدابير إذا تمّت بجد ومثابرة في مدينة صغيرة أو كبيرة، نبتت ساعتها شجرة العلماء الباسقة المعطاء في تلك الأرض.

 

أسأل الله لكم التوفيق والرحمة والرعاية الإلهية في كل حين لتكونوا مصدر مثابرة وحركة وجهاد على نطاق الواسع، والمدن المجاورة .

 

أنهي كلامي هنا بالسلام والإعراب مرّة أخرى عن إخلاصي لكم.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

إيرانشهر 2 رجب 1398 (خرداد ماه 1357)