أبعاد شخصية الإمام الخميني

أودُّ ان أنقل لكم، وللطليعة الشابة منكم على وجه الخصوص، ما تيسّـر لي إدراكه وما شاهدته ولمسته من هذا الرجل الفذ على امتداد الفترة الزمنية التي عشتها كتلميذ ومريد له. لقد قيل الكثير عن الإمام؛ من قبل أصدقائه ومن قبل أعدائه، ومن الإيرانيين وغير الإيرانيين، ومن المسلمين وغير المسلمين، وأشادوا جميعهم بهذه الشخصية الفذّة. ولا كلام لنا في هذا؛ على اعتبار ان عظمته وعلوّ مكانته محرزة لدى الجميع، بيد ان هذه الحالة ذات طابع اجمالي عام. وأعتقد ان شبابنا ـپالذين يسيرون اليوم قدماً بنشاط وهمّة على الدرب الذي اختطه أمامنا هذا الرجل الكبير ـ راغبون بمعرفة المزيد عن إمامهم. وهآناذا ألقي على أسماعكم ما استطعت ان أتلقّاه وأفهمه وألمسه من هذا الرجل على مدى حوالي ثلاثــين سنة التي أتيــحت لنا فيها معرفته عن كثب؛ حيث كنّا في برهة ندرك شيئاً ومظهراً وبُعداً من أبعاد هذه الشخصية العظيمة. وأشير إلى ان فترة السنوات الاحدى والثلاثين التي مرّت منذ أيّام شبابي وإلى حين رحيل الإمام، مضت منها اربع عشرة سنة قضاها في المنفى، ويبدو على الظاهر اننا كنّا بعيدين عنه، إلاّ اننا في الحقيقة لم نكن في معزلٍ عن جوّ توجهاته الفكرية ومنهجه؛ أي اننا كُنّا في الواقع خلال هذه السنوات الاربع عشرة مع الإمام.

صحيح ان تلاميذ الإمام ومعارفه كانوا يحبونه إلى أقصى حدّ، إلاّ ان ما قيل فيه لم يكن نابعاً من المحبّة، بل كان نابعاً ممّا يتصف به الإمام من خصائص. والشيء الآخر هو انه لم يكن يتكلّف أو يتعجل اظهار ما في شخصيته من محاسن وجوانب مشرقة، وانما كان يتكشّف بُعد من تلك الأبعاد حيثما اضطره التكليف الشرعي إلى اتخاذ موقف ما أو القيام بعملٍ ما.

أبدأ بحديثي منذ عام 1337[هـ ش]، وهي السنة التي ذهبت فيها إلى قم ورأيت الإمام الخميني هنالك عن قرب للمرة الأولى. وكنّا من قبل ذلك قد سمعنا ونحن في مشهد عن وجود أستاذ كبير في قم يحبّ الشباب، ومن الطبيعي ان طالب العلوم الدينية حينما يرد إلى قم يبدأ بالبحث عن أستاذ يدرس على يده؛ ففي الحوزات العلمية ليس ثمة إلزام في اختيار الأستاذ، وإنّما يختار كل طالب الأستاذ الذي يرغب فيه وفقاً لمرامه. وكان الأستاذ الذي يجتذب اليه الطلبة الشباب المتعطشين منذ الوهلة الاولى هو الشخص الذي كان معروفاً بين تلاميذه في تلك الايام باسم “السيد روح اللّه”. وكان الشباب الافاضل المثابرين المتحمّسين مجتمعين في حلقة درسه. وفي مثل هذا الجوّ كان دخولنا إلى قم.

الإمام (رحمه الله) والتجديد العلمي:

كان الإمام الخميني مظهراً للتجديد العلمي والتبحرّ في الفقه والأصول. وكنت قد شاهدت من قبله أستاذاً بارعاً في مشهد، وهو المرحوم آية اللّه الميلاني، الذي كان من الفقهاء البارزين. وكان زعيم الحوزة العلمية في قم آنذاك هو المرحوم آية اللّه العظمى البروجردي الذي كان أستاذاً للإمام الخميني. وكان هنالك أيضاً أساتذة كبار آخرون. إلاّ ان الوسط الدراسي الذي كان يجتذب اليه القلوب الشابّة المتلهفة الدؤوبة المتحفّزة نحو تفعيل الطاقات، هو درس الفقه والأصول الذي كان يلقيه الإمام. وأخذنا نسمع تدريجاً من الطلبة الأقدم منّا بأنّ هذا الرجل فيلسوف كبير أيضاً، وكانت دروسه الفلسفية أوّل دروس فلسفية في قم، غير أنه يرجح في الوقت الحاضر تدريس الفقه. وسمعنا كذلك ان هذا الرجل كان معلّماً للأخلاق، وكان هنالك اشخاص يحضرون دروسه في الاخلاق، وقد أبدى اهتماماً جادّاً بتقوية الفضائل الاخلاقية لدى الشباب، وهذا ما لمسناه عن كثب أثناء دروسه عبر سنوات طويلة. وإلى هذا الحد كانت شخصية هذا الرجل ـ الذي يزخر باطنه بالخصائص المجهولة ـ معروفة بالنسبة إلى اكثر الناس آنذاك بصفته أستاذاً عالماً ومربياً فاضلاً ومهذّباً لأخلاق الطلبة والتلاميذ.

الإمام (رحمه الله) معلم الاخلاق:

في عام 1340[هـ ش] توفي آية اللّه البروجردي الذي كان مرجع التقليد في عهده، وطرحت أسماء مجتهدين كبار من قبل اصدقائهم للتصدي لأمر المرجعية، وتبيّن في تلك الاثناء ان الدروس الاخلاقية التي كان يلقيها الإمام لم تكن مجرد كلام أو محض معلومات يلقيها على أسماع الآخرين، بل انه أوّل من يعمل بتلك الدروس التي يراد منها تهذيب الأنفس، وثبت للجميع ان هذا الرجل زاهد بالمنصب والرئاسة، حتى وان كانت تلك الرئاسة مرجعية أو زعامة روحية ومعنوية، وانه لا يسعى من أجل المقام والمنصب والجاه، بل ويحاول ما استطاع منع الآخرين من السعي لأجل هذه الغاية.

الإمام (رحمه الله) الواعي الغيور:

بدأت إرهاصات النهضة الإسلامية بعد سنة ونصف من وفاة المرحوم آية اللّه البروجردي. وفي النصف الثاني من عام 1341[هـ ش] تجلّى بعد آخر من أبعاد هذه الشخصية، تجسد في وعيه وشدّة ذكائه وتفطّنه لأمور لم يكن غالباً يُفطن لها، هذا من جهة، وغيرته الدينية من جهة أخرى. فالكثير قد سمعوا حينذاك قرار الحكومة بإلغاء شرط الإسلام والقسم بالقرآن عن النواب المنتخبين لعضوية المجلس الوطني، إلاّ ان الكثيرين لم يلتفتوا إلى مدى خطورة هذا الأمر، لكنه في الواقع كان على جانب كبير من الاهمية والخطورة؛ ففي الوقت الذي كان فيه المجلس الوطني آنذاك مجلساً صورياً، والسلطة هي التي كانت تشكله، ولم يدخله إلاّ المرشّحون من قبلها، وكانت العملية كلها عملية تنصيب وليست عملية انتخابات شعبية، ولكن مع كل ذلك لم يكن النظام ليتجرّأ على طرح القرارات المتعلقة بالنقابات، وقرار اسقاط شرط الإسلام حينما كان المجلس قائماً، لأنه كان يخشى ردود فعل المجلس فعمد إلى حلّه، واتخذ تلك القرارات وراء الكواليس. وهذا ما يدل على ان وراء هذه القضية كلاماً كثيراً وغايات خطيرة. ولم يلتفت أحد حينها إلى هذا الأمر، إلاّ ان الإمام الخميني أدركه وتصدى له، ودفعته غيرته الدينية إلى الأخذ بزمام المبادرة في هذه القضية والشروع بمجابهة هذه المشاريع المناهضة للإسلام، حتّى وان بدت قليلة الأهمية. وهذا ما قام به فعلاً.

توجد هاهنا قضية مهمة، وهي ان الإمام الخميني لم يـكن راغباً بحيازة قصب السبق حتّى في ميدان الجهاد، حيث نقل لنا بنفسه انه كان يتحدث ذات مرّة في دار المرحوم آية اللّه الحائري مع أحد المراجع المعروفين وكان زميلاً له في الدراسة، فقال له: كن في المقدمة ونحن نسير وراءك. وكانت غاية الإمام ان يتمّ أداء التكليف، اذ كان المهم بالنسبة له هو أداء الفريضة التي كان يشعر بأنها ملقاة على عاتقه، ولم تكن قضية التصدّي والتقدّم ذات أهمية بالنسبة له.

من الطبيعي ان الآخرين لم يكن لديهم من الجرأة والإقدام على الدخول في هذا المعترك مثلما كان لدى الإمام، وقد أخذ هو بزمام الأمور في هذا الميدان بشكل تلقائي وبدأ بمجابهة النظام اعتماداً على الجماهير. لم يكن أحد من أكابر الحوزة العلمية والمراجع يظن ان الحركة الدينية سوف تستطيع، سيما في ظروف الكبت الرهيبة تلك، ان تحصل على مثل هذا الدعم الجماهيري، إلاّ ان الإمام صرّح منذ ذلك اليوم بأنّه يتحرك بمساندة الشعب، وانه سيدعو الشعب اذا ما اقتضت الضرورة إلى التحشّد في البراري القريبة من قم، وكان واثقاً انه لو دعا الشعب لاجتمعت له كل إيران، ولحصل اجتماع جماهيري هائل تعجز الحكومة الفاسدة، في ذلك الحين، من معالجته.

الإمام (رحمه الله) القائد الشجاع:

تجلّى وقتئذٍ بُعد جديد من شخصية هذا الرجل على الصعيد العملي تمثّل في مقدرته القيادية، وشجاعته السياسية، ومعرفته بدقائق الاساليب التي يتّبعها العدو، ووعيه بأهداف العدو. وعندما حلَّ عام 1342 [هـ ش]، وهو العام الثاني من أعوام النهضة، واتّسم بالمذابح والقسوة وكثرة الضغوط، أشرق الإمام الخميني كالشمس في سماء آمال الشعب الإيراني، فكان بركاناً من الفداء اجتمعت فيه كل الخصال اللازمة للرجل الوطني وللرجل الإسلامي وللرجل العالمي، وكان يتحلّى بالشجاعة والصراحة والقدرة على تعبئة الجماهير، سواء في بداية عام 1342 حين هجمت القوات الخاصة على المدرسة الفيضية وعلى الحوزة العلمية في قم، أم في الخامس عشر من خرداد عام 1342 حين تجسدت عظمة الإمام، اذ شعر الشعب الإيراني من ساعته ان له سنداً وملاذاً، وان هناك قمّة شامخة يمكنه ان يتطلع اليها ويبني آماله عليها. وعلى هذا النحو ظهر الإمام على الساحة في الخامس عشر من خرداد.

الإمام (رحمه الله) ومعالم الايثار والفداء:

وبعد تلك الاحداث سادت حالة شديدة من الضغط والكبت صاحبتها أحكام بالسجن والنفي على الكثير من الناس. ولم يكن دخول السجن وما يرافقه من مصاعب مشكلة عصيبة بالنسبة لنا نحن الذين كنا حينها في مرحلة شبابنا؛ اذ كان السجن لنا أشبه ما يكون بالتسلية. أمّا بالنسبة للإمام فقد كان حينها في حوالي الثالثة والستين من عمره، ولكن مع ذلك كان قادراً على استنهاض الأمة بمشاعره الجيّاشة، إلاّ ان دخول السجن أو النفي بالنسبة لشخص في مثل هذه السن لم يكن بالأمر الهيّن. ومع كل ذلك تجلّت فيه معالم الايثار والفداء وتحدّي المخاطر. وكان هذا ايضاً بعد آخر من أبعاد شخصيته؛ بمعنى انه لم يكن هنالك مانع يستطيع الحيلولة بينه وبين مُثُله العليا أو سعيه لأداء تكليفه الشرعي. وانتهت أحداث عامي 1342 و 1343 إلى نفي الإمام لمدّة اربع عشرة سنة، في البداية إلى تركيا ثم إلى العراق.

وفي فترة النفي ظهرت أبعاد جديدة من شخصية هذا الرجل الفريد، الذي قلّما تجد له نظيراً في عصرنا، وهي أبعاد نادراً ما يلاحظ المرء بعضها في حياة الشخصيات الكبير، وهي:

الإمام (رحمه الله) المنظّر:

أوّلاً: طرح نفسه كمنظّر فكري نهض بمهمّة التخطيط والتنظير لحكومة ولنظام ولإرساء أسس بناء وكيان جديد، دون ان يكون أمام عينيه نموذج سابق ملموس، لكي يخطط على ضوئه. وذلك لأن التخـطيط لبناء إسلامي، يأخذ متطلبات الحياة العصرية والقضايا المطروحة في عالم اليوم بنظـر الاعتبار، يعدّ بحدّ ذاته تنظيراً لنظام جديد.

الإمام (رحمه الله) والبعد القيادي:

ثانياً: على الرغم من عدم وجوده في إيران خلال مدّة أربع عشرة سنة عاشها في المنفى، إلاّ انه كان يقود ويوجّه أحداث الثورة الإسلامية عن بعد. فعلى امتداد فترة الأربع عشرة سنة هذه كان الضغط والكبت على أشدّه، وخاصة في السنوات الاخيرة منها، أي من عامي 1349 و1350 وحتى عامي 1354 و 1355 [هـ ش]، حيث كانت تظهر إلى الوجود أحزاب وجماعات سياسية وغير سياسية، ولكنها كانت تضمحل وتتلاشى تحت وطأة الضغوط التي يمارسها النظام، أو انها كانت تفقد مزاياها وخواصّها، وبعضها الآخر يحظى بدعم سياسي دولي بسبب ارتباطه بالشرق أو بالغرب، وخاصة بالشرق، حيث كان يحصل على الدعم والتوجيه من هناك. أمّا نهضة الامام الخميني فلم تكن تعتمد على تشكيلات حزبية داخل البلاد، بل كان للإمام تلاميذ وأصدقاء ومعارف يحملون أفكاره في أوساط الجماهير. وهو حينما كان يصدر بياناته لم يتوجه بالخطاب إلى أولئك التلاميذ والاصدقاء على وجه الخصوص، إنّما كان يخاطب ويوجّه عموم الجماهير، واستطاع طوال فترة الأربع عشرة سنة تلك ان يزرع في الاذهان بذور النهضة الإسلامية أولاً، وان يوسّع مداها على صعيد الشعب ثانياً، حيث كسب اليها قلوب وأفكار وإيمان الشباب لكي يهيّئ الارضية لقيام تلك الثورة الكبرى. وان الكثيرين قدّموا أعمالاً كبرى وتضحيات جسام، ولكن لولا مركزية الإمام لما تحقق أيّ من هذه الانجازات، ولحبطت جميع الجهود، ولسرى اليأس الى النفوس. والشخص الوحيد الذي لم يصبه الإعياء أو اليأس هو الإمام الخميني الذي كان الآخرون يستقون القوّة والعزم من قوّته وعزمه.

ثمّ تلا ذلك توجيه تلك الحركة الثورية والنهضة الكبرى طوال مدّة أربع عشرة سنة، وبفضل قائدها الكبير تمّ اجتياز كل العراقيل والموانع التي واجهتها، إلى درجة اندحرت معها الافكار المعادية للإسلام ونُحيّت جانباً. وأثبت الفكر الإسلامي يوماً بعد آخر تفوّقه على الأفكار الأخرى، وكان وجود الإمام ملموساً في كل الاحداث المهمّة.

وفي عام 1347 طرح الامام حينما كان في النجف ـ مركز الفقاهة ـ فكرة ولاية الفقيه استناداً إلى ثوابت فقهية راسخة.

من الطبيعي ان (ولاية الفقيه) من مسلّمات الفقه الشيعي . وأمّا ما يقوله بعض أنصاف المتعلمين من ان الامام الخميني ابتكر فكرة ولاية الفقيه من عنده ولم يقرّها سائر العلماء، فهو ناجم عن الجهل بهذا الموضوع. والمطلع على آراء الفقهاء يدرك ان ولاية الفقيه من الواضحات في الفقه الشيعي، وكل ما فعله الامام هو انه استطاع صياغة هذه الفكرة على أسس رصينة وأدلة متقنة وتقديمها بشكل مقبول ومفهوم لكل صاحب رأي ومطلع على المذاهب السياسية وعلى القضايا السياسية في عالمنا المعاصر.

أعزائي، لم يشعر المجاهدون في إيران بالوحدة خلال فترة الاربع عشرة سنة تلك، وبخاصة السنوات الاخيرة منها، بل كانوا يشعرون على الدوام ان الإمام على اتصال دائم بهم.

الإمام (رحمه الله) والعظمة الروحية:

وتجلّى في حادثة وفاة نجله بعد آخر من أبعاد شخصيته الكبرى؛ هناك بطبيعة الحال علماء وأكابر وشجعان كثيرون، إلاّ ان الاشخاص الذين امتدّت وتجذّرت هذه المثل العظمى في أعماق مشاعرهم وفي سويداء قلوبهم ليسوا كثيرين. وهذا الرجل الذي شارف على الثمانين من عمره في ذلك الوقت، نقل عنه انه قال عند وفاة نجله الفاضل ـپحيث كان نجله في الواقع عالماً ممتازاً ورجلاً بارعاً وأملاً للمستقبل ـ جملة واحدة، وهي “ان وفاة مصطفى من الالطاف الإلهية الخفية”، معتبراً وفاته رحمة إلهية خفية! بمعنى انه نظر إلى تلك الحادثة وكأنها لطف من اللّه به. فالشدائد والمصائب التي نزلت بهذا الرجل في عهد الثورة وتحمّلها كالطود الشامخ تكمن جذورها في هذه العظمة الروحية التي جعلته ينظر إلى وفاة نجله بمثل هذه النظرة.

ثم تلت ذلك هجرته من العراق وسفره إلى الكويت ثمّ إلى فرنسا، اذ قال حينها اذا لم يسمحوا لي بالإقامة في بلد سأظل أتنقّل من مطار إلى مطار وسأوصل صوتي إلى أسماع العالم كلّه. وهناك ايضاً انعكست تلك الشجاعة وذلك الثبات وسعة الصدر وتلك المقدرة القيادية الإلهية التي قلّما تجد لها نظيراً في التاريخ. ثم أعقب ذلك مجيئه إلى إيران وتعامله مع الأحداث وتأسيسه للحكومة الإسلامية.

آفاق شخصية الإمام (رحمه الله) بعد تأسيس الحكومة الإسلامية:

أما ما تجلّى من أبعاد شخصيته من بعد تأسيس الحكومة الإسلامية، فكان أهم وأعظم مما شوهد منها من ذي قبل؛ حيث انعكست شخصيته الفذة على أفقين: الأول أفق القائد والمتصدي لزمام الامور، والثاني أفق الزاهد والعارف؛ لأن مزج هاتين الصفتين مع بعضهما عمل لا يتسنى للإنسان مشاهدته إلاّ لدى الأنبياء مثل داود وسليمان (عليهما السلام) ومثل خاتم الأنبياء (صلى اللّه عليه وآله وسلّم). وهذه حقائق لمسها الشعب الإيراني طوال سنوات متمادية، وشهدناها نحن عن قرب. هكذا تكون التربية الإسلامية والقرآنية، وإلى مثل هذا دعا الإمام الجميع، وأراد نظاماً إسلاميّاً لتربية أناس من هذا القبيل، مثلما كان هو مظهراً بارزاً له.

البعد القيادي والحكومي:

تجلّت شخصية الإمام الخميني في مقام القيادة والحكومة كرجلٍ واعٍ ومدبّر وشهم وبارع وجريء، وكانت العواصف العاتية ليست ذا بالٍ بالنسبة له، ولم تكن هناك من حادثة قادرة على إلحاق الهزيمة به أو إرغامه على الانحناء لها؛ فكان أكبر من كل الاحداث المريرة والعصيبة التي وقعت على مدى عشر سنوات من زعامته. ولم تتمكن أيّ من وقائع الحرب أو الهجمة الامريكية أو مؤامرات الانقلاب العسكري وحوادث الاغتيالات الرهيبة والحصار الاقتصادي والممارسات العدوانية التي اتخذت أبعاداً وصوراً شتّى، من أن تفتّ عضده أو تشعره بالوهن والضعف، بل خرج منها أصلب عوداً وأشد شكيمة؛ لأنه كان يؤمن بالشعب ويثق برأي الشعب. وكان يحبّ الشعب من أعماق قلبه.

لقد اجتمعت في شخص الإمام أغلب المزايا والمواصفات التي امتاز بها القادة العالميون على حدّ ما تقصّيت وما توصلت إليه؛ فقد كان عاقلاً وبعيد النظر ونبهاً وعارفاً بطبيعة الأعداء وكثير الثقة بأصدقائه، وكانت ضرباته لأعدائه قاصمة، فقد توفرت فيه كافة الصفات الواجب توفّرها لدى الإنسان من أجل ان يكون قادراً على تبوّؤ مثل هذا الموقع الحساس، وإرضاء ربّه وضميره.

الإمام (رحمه الله) والثقة بالشعب:

كان الإمام الخميني شديد الثقة بالشعب؛ فبعدما انتصرت الثورة كان بميسوره الاعلان عن ان نظامنا نظام جمهوري إسلامي، دون الرجوع إلى آراء الشعب، ولم يكن هناك من يعترض على مثل هذا الموقف، إلاّ انه لم يفعل ذلك، وإنّما أجرى استفتاءً حول أصل النظام وكيفيته وأدلى أبناء الشعب بأصواتهم لصالح إقامة نظام جمهوري إسلامي. وفي ما يخص الدستور كان بإمكانه ان يقدّم دستوراً، غير ان الإمام لم يفعل شيئاً من ذلك، وإنّما أمر بإجراء انتخابات مجلس الخبراء وأكد ضرورة إجرائها بأسرع ما يمكن.

من المعروف في الثورات التي تقع في العالم ـ وهي غالباً ما تكون انقلابات عسكرية ولا يصدق عليها اسم الثورة ـ ان الذين يمسكون بزمام الأمور يعطون أنفسهم فرصة سنة أو سنتين ويقولون يجب ان تمضي هذه المدّة حتّى تتوفر الأجواء المناسبة لإجراء الانتخابات، ولكنهم غالباً ما يرجئونها إلى موعد آخر. بينما بادر الإمام الخميني بعد شهرين من انتصار الثورة إلى إجراء أول انتخابات؛ وتلك هي الاستفتاء على دستور الجمهورية الإسلامية، وأجريت من بعدها بشهر أو شهرين انتخابات خبراء الدستور، وبعدها ببضعة أشهر انتخابات رئاسة الجمهورية، ومن بعدها بعدة أشهر أجرى انتخابات مجلس الشورى. ومعنى هذا ان الإمام رجع في عام واحد، هو عام (1358) إلى آراء الشعب أربع مرّات فيما يتعلق بقضايا مختلفة من قضايا البلد وهي: انتخابات النظام الاساسي، ثم انتخابات الدستور ـ التي جرت مرتين: الاولى لانتخاب خبراء تدوين الدستور، والثانية للتصويت على الدستور نفسه ـ، ثم انتخابات رئاسة الجمهورية، وأعقبتها انتخابات مجلس الشورى.

كان الإمام يؤمن إيماناً حقيقياً برأي الشعب، أي ما يريده الشعب وما يستقرّ عليه رأيه، ولم يفوّض زمام الأمور قطّ في مثل هذه الشؤون إلى أصحاب الألاعيب السياسية؛ فالشعب غير ذوي الألاعيب، وغير مدّعي السياسية، وغير مدّعي مناصرة الشعب. فالإمام كان يثق بالشعب. كانت هناك الكثير من الاحزاب والفئات السياسية والمدّعين لنصرة الشعب وأصحاب الألاعيب السياسية، إلاّ ان الإمام لم يعوّل على أيٍّ منها، ولم يفسح لها المجال للمطالبة بمزيد من الامتيازات والتحدث باسم الشعب واتخاذ القرارات نيابة عن أبناء الشعب، غير انه في الوقت ذاته كان يحترم آراء الشعب.

وبعدما اندلعت الحرب ظهر بدور القائد العام للقوات المسلّحة. وحينما فُرض علينا الحصار الاقتصادي كان الإمام الخميني بمثابة سند روحي كامل للأجهزة الحكومية. وفي بداية الثورة أصدر الإمام قرارات كثيرة بشأن الكثير من القضايا ومن أجل حماية المستضعفين والمحرومين، واتُّخذت اجراءات لا يستهان بها في هذا المجال وتم تشكيل مؤسسات من قبيل مؤسسة جهاد البناء، ومؤسسة الإسكان، ولجنة الاغاثة، ومؤسسة المستضعفين والمعوّقين، ومؤسسة الخامس عشر من خرداد، لتقديم العون لأبناء الشعب. وهذه هي القضايا التي كانت تحظى باهتمام الإمام في مجال إدارة شؤون البلاد. هذا البعد القيادي والحكومي في شخصية الإمام تجسد فيه بكونه انساناً مقتدراً وذا إرادة؛ إنساناً قادراً على اتخاذ القرار الصائب في حـالة الحرب، واتخــاذ القرار الصائب في حالة السلم، واتّخاذ القرار المناسب في إدارة دفة شؤون البلاد ومجابهة الأعداء.

الإمام (رحمه الله) الزاهد العارف:

هذا الإنسان نفسه حينما ينظر اليه المرء في اطار حياته الخاصّة، يراه شخصاً زاهداً عارفاً منقطعاً عن الدنيا، والمراد طبعاً من الدنيا هي الدنيا الذميمة التي وصفها بقوله ان الدنيا القبيحة هي ما في ذات الإنسان، وإلاّ فانّ ظواهر الطبيعة من أرض وأشجار وسماء واختراعات وما شابه ذلك ليست قبيحة، وإنّما هي نعم إلهية يجب الاهتمام بها. الدنيا القبيحة هي المشاعر الأنانية والطمع والأهواء الموجودة في ذات الإنسان. وهذه هي الدنيا التي كان الإمام منقطعاً عنها كلّياً.

لم يكن الإمام يريد شيئاً لذاته، وحتّى إنه لم يشترِ أثناء وجوده على رأس السلطة ولو داراً لنجله الوحيد المرحوم الحاج السيد أحمد الذي كان أعزّ إنسان إلى قلبه، وهذا ما سمعناه منه مرّات عديدة حيث أكد ان أعز الناس بالنسبة له هو السيد أحمد. وقد ذهبنا مرّات عديدة ورأينا أعزّ إنسان على قلب الإمام يعيش في غرفتين أو ثلاث في الحديقة الواقعة خلف الحسينية التي كان فيها بيت الإمام.

لم يكن ذلك الإمام العظيم راغباً في كل زخارف الدنيا وزبرجها وأطماعها؛ لقد كانت تصله هدايا كثيرة، إلاّ انّه كان يقدّمها في سبيل اللّه، حتى انه كان يدفع أمواله الخاصة إلى بيت المال. هذا الشخص الذي لم يكن على استعداد لشراء دار مناسبة لنجله ولو بقيمة عشرة ملايين أو خمسة عشر مليون تومان من أمواله الخاصّة، كان ينفق مئات الملايين من تلك الأمواله على شؤون الإعمار وإعانة الفقراء ومساعدة المتضررين بالسيول في نقاط مختلفة من البلاد. كنّا على اطلاع بأنه كان يعطي من أمواله الخاصّة التي تقدم له كهدايا من محبّيه وأنصاره وأصدقائه، إلى بعض الاشخاص لإنفاقها في مظانّها.

الإمام (رحمه الله).. الانسان الرقيق الرؤوف:

كان الإمام الخميني من أهل الخلوة وأهل العبادة والتضرع والدعاء والبكاء في منتصف الليل، وكان من أهل الشعر والقيم والمعاني الروحية والعرفان والتعلّق باللّه. هذا الشخص الذي بثّ الرعب في أوصال أعداء الشعب الإيراني وهذا السدّ المنيع والجبل الشامخ، حينما تعرض له مواقف عاطفية وإنسانية تراه انساناً رقيقاً ورؤوفاً. وسبق لي ان نقلت موقفاً عرض لي في إحدى جولاتي، وهو ان امرأة تقدمت إليّ وقالت أبلغ الإمام نيابة عنّي ان ابني أسر في الحرب وقد وصلني في الآونة الاخيرة خبر مقتله، إلاّ ان مقتل ابني ليس مهمّاً عندي وإنّما المهم هو سلامتكم. لقد تحدثت إليّ تلك المرأة بمشاعر جيّاشة. وعندما جئت إلى الإمام ودخلت عليه وجدته واقفاً، ونقلت له ذلك الموقف، فرأيت ذلك الجبل الراسخ انحنى بغتةً كشجرة باسقة هوت بها الريح، وغاص مستغرقاً في ذاته، متأثراً روحياً وجسدياً بما نقلته له من كلام أمّ الشهيد، واغرورقت عيناه بالدموع.

وفي أحد اللقاءات الخاصّة كنّا جالسين ليلاً مع بعض الاصدقاء في دار المرحوم السيد أحمد الخميني، وكان سماحة الإمام موجوداً أيضاً. فبادر أحدنا بالقول: سيّدنا، ان لكم مكانة معنوية وعرفانية رفيعة، فياحبّذا لو قدّمتم لنا بعض النصائح والارشادات. لقد كان لهذا الثناء المقتضب من ذلك التلميذ إزاء أستاذه ـ حيث كنّا جميعاً نتصرف ازاءه كتلاميذ أمام أستاذهم وكأبناء إزاء أبيهم ـ وقعاً مؤثراً انعكس على شكل حياء وتواضع ظهر على محيّاه وعلى سلوكه وعلى كيفية جلسته.

شعرنا بالإحراج من هذا الكلام الذي تسبب في استحياء الإمام. كان لهذا الرجل الشجاع، وبما يملكه من طاقة هائلة، مثل هذا التواضع والحياء في مثل هذه المواقف العاطفية والمعنوية.

الإمام (رحمه الله) والذوبان في الارادة الإلهية:

النقطة الأخرى التي أودّ الاشارة اليها هي ان الإمام اكتسب كل هذه الصفات من جرّاء التقوى والتمسك بالدين والامتثال لأمر اللّه، وقد بيّن شخصياً هذا المعنى بين طيّات كلامه، ملوّحاً إلى ان كل ما موجود إنّما هو من اللّه، وكنتيــجة للذوبان في الإرادة الإلهية، وان اللّه هو الذي نصر الثورة، وهو الذي حرر خرمشهر، وهو الذي ألّف بين قلوب أبناء الشعب. فكان ينظر إلى كل شـيء من وجهة نظر إلهــية، وفي مقابل ذلك فتح اللّه أمامه أبواب رحمته.